الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فلا بد أن يكون من خلق طالب القرآن.
أولاً: الحرص عليه وتعظيمه وإجلاله، فهذا القرآن هو أشرف ما على وجه الأرض الآن؛ لأنه كلام الملك الديان جل جلاله، فلا بد من توقيره وإجلاله وتعظيمه، وهذا التعظيم يقتضي من الإنسان أن يكون وقافاً عنده، كما كان عمر رضي الله عنه في صحيح البخاري من حديث ابن عباس : أن عيينة بن حصن الفزاري وكان سيداً مطاعاً في قومه ولكنه أحمق، جاء إلى ابن أخيه الحر بن قيس ، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر ، وكان أهل القرآن أهل مجلس عمر ، حفظة القرآن، والمتدبرون له، والعالمون بتفسيره هم أهل مجلس عمر الذين يدنيهم، كباراً كانوا أو صغاراً، فجاء إلى ابن أخيه فقال: اشفع لي عند هذا الرجل حتى أخلو به، فذهب به الحر بن قيس إلى عمر فأدخله عليه وحده، فقال فيه: يا ابن الخطاب ! فو الله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل. فغضب عمر لذلك، فرفع الدرة، والدرة هي العصا الصغيرة التي يرفعها عمر لتأديب الناس إذا سمع منهم الكذب أو مخالفة الشرع، فقال له الحر بن قيس : يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى يقول: خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، وإن هذا من الجاهلين، فسقطت يد عمر ، وكان عمر وقافاً عند كتاب الله، إذا سمع أي حد من حدود القرآن وقف عنده، فهذا خلق من أخلاق حملة القرآن، لا بد أن يتحلوا به، وقد ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن ) وقافاً عند كتاب الله إذا سمع أية آية وعليه أنزل أثرت فيه تأثيراً بالغاً، انظروا إلى إجلاله وتعظيمه للقرآن.
في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( اقرأ علي القرآن، قلت: يا رسول الله! كيف أقرؤه عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال: فقرأت سورة النساء حتى بلغت قول الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، قال: حسبك، فنظرت فإذا عيناه تهملان )، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، انظروا إلى إجلاله في القرآن!
وكذلك ( فإنه خرج ليلةً في المدينة في آخر الليل، فمر أمام دار عجوز من الأنصار، فسمعها تقرأ سورة الغاشية، فقالت: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1]، فقال: نعم أتاني، نعم أتاني، وجلس يبكي على بابها )، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نحن الآن نسمع هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] فلا يؤثر هذا فينا، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رفعه الله فوق السموات السبع حتى بلغ مكاناً يسمع فيه صريف القلم، وكلمه الله، واصطفاه خليلاً من خلقه، وأنزل إليه هذا الكتاب المبين مع ذلك إذا سمع هذه الجملة بكى لها بكاءً شديداً، وجلس يستمع إليها من امرأة عجوز وهي تقرؤها، ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] قال: نعم أتاني، نعم أتاني )، (الغاشية): القيامة، وأسماؤها في القرآن كبيرة: الغاشية، الآزفة، الطامة، الصاخة، أسماء كبيرة مروعة مرعبة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة وقوفه عند كتاب الله، في بعض الأحيان يقوم الليل بآية واحدة يكررها ويبكي، يقول: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]، يكرر هذه الآية وهي خطاب من الله جل جلاله خاطب به من قبل عيسى ابن مريم عليه السلام فأنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم به الليل يتدبره، ونحن الآن نقرأ بسرعة هائلة كالبرق الخاطف، وهو يكرر آيةً واحدةً في ليلة كاملة يقوم بها الليل: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118].
وقد ربى أصحابه على هذا الخلق من أخلاق حملة القرآن فكانوا جميعاً يقفون عند كتاب الله ويحترمونه احتراماً شديداً، حتى إن امرأةً من الأنصار وهي فتاة صغيرة لم تكن من أهل العلم ولا من أهل الثقافة، وقد تزوجها عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، فرأته يعاشر جاريةً له فغارت وغضبت، فسألته فأنكر أن يكون قد أتى تلك الجارية، فقالت: قد علمت أنك لم تكن لتقرأ القرآن وأنت جنب، فإن كنت صادقاً فاقرأ علي من القرآن، فوقع في موقف حرج لا يستطيع أن يقرأ القرآن وهو جنب، وهو يجوز له الكذب لإرضاء زوجته، فأنشأ أبياتاً فيها توحيد لله جل جلاله فقال:
شهدت شهادةً لا ريب فيها بأن الله ليس له شريك
وأن محمداً عبد رسول إلى الثقلين أرسله المليك
فقالت: صدقت الله وكذبت عيني، رضيت؛ لأنهم تربوا على أن هذا القرآن عظيم، وأنه لا يمكن أن يقرأه جنب، ولا يمكن أن تقع فيه مغامرة من أي أحد.
وهذا الخلق من أخلاق حملة كتاب الله نجده أيضاً مع أئمتنا الأعلام من أمثال مالك بن أنس رحمه الله، فقد كان مالك رحمه الله لا يرى ندب صلاة ركعتين قبل المغرب، لأنه يتأول الحديث الوارد في ذلك وهو ما أخرجه البخاري في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلوا قبل المغرب ركعتين، صلوا قبل المغرب ركعتين، صلوا قبل المغرب ركعتين، ثم قال في الثالثة: لمن شاء )، و مالك رحمه الله رأى أن قوله: ( صلوا قبل المغرب ركعتين ) لم يكن للوجوب وإنما كان للندب، فلما قال: ( لمن شاء ) نزل عن الندب، وإذا نزل عن الندب لم يصل إلا إلى الكراهة؛ لأن أحكام التكليف عند مالك خمسة فقط هي: الوجوب، والندب، والإباحة، والكراهة، والتحريم.
والإباحة المستوية الطرفين لا يمكن أن تنزل بها العبادة، فالعبادة إما واجبة، وإما مندوبة، وإما حرام، وإما مكروهة، لكن لا يمكن أن تكون مباحةً مستوية الطرفين؛ لأن المباح لا ثواب فيه، ولا عقاب في تركه، والعبادة لا بد أن يثاب صاحبها أو يعاقب، ففهم مالك هذا الفهم ورأى أن أحكام التكليف مقصورة على الخمس.
وبعض أهل العلم يرى أن أحكام التكليف أكثر من ذلك، فيرى أن المأمور به أمراً غير جازم ينقسم إلى أقسام: فمنه السنة، ومنه المندوب، ومنه المستحب، ومنه التطوع، ومنه النافلة.
والنفل والسنة والتطوع والمستحب البعض قد نوعوا
والخلف لفظي ..
كما قال السيوطي في الكوكب، فلذلك رأى غير مالك أن الأمر نزل من أعلى درجات الندب، ولم يتجاوز أدناها، فبقي في إطار المندوب لكن لم يبق في أعلى درجات المندوب، و مالك يرى أنه نزل عن الندب فلم يكن ليصل إلا إلى الكراهة، فكان يرى أن الصلاة ركعتين قبل المغرب فيهما كراهة، فجاء إلى المسجد وتأخر المؤذن لم يقم، فوقف مالك ، فأتاه صبي صغير فقال: يا أبا عبد الله ! ألا تركع؟ قال: الله أكبر، وصلى ركعتين، فنظر إليه أهل المدينة يستغربون، فقد رأوه يفعل فعلاً مخالفاً لمذهبه المعروف من علمه، فلما سلم سألوه قالوا: رأيناك فعلت شيئاً لم تكن تفعله، ولا رأينا أحداً من أهل العلم في بلدك يفعله، فقال: إن هذا الطفل قال لي: ألا تركع؟ فخشيت أن أكون من الذين وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ [المرسلات:48]؛ لأنه وقاف عند كتاب الله، حتى لو كان مخالفاً للمذهب، مخالفاً لما لديه من الفقه جاءت آية من كتاب الله فلا بد من المبادرة إليها، وكثير من الناس اليوم تركوا هذا الخلق، فإذا قيل لأحدهم: قال الله تعالى كذا، يقول: قرأت في كتاب كذا، فيعدل عن القرآن إلى أي كتاب آخر، وهذا مخالف لهذا الخلق والهدي.
ثم بعد ذلك لا بد من أخلاق حملة كتاب الله: أن يكونوا غير غالين فيه، فالغلو مذموم، والغلو معناه: مجاوزة الحد، فالإنسان المتعصب المتصلب المحتكر للحق، الذي يرى أن الحق هو ما لديه وأن كل ما سواه باطل، وأن الأمور كلها قسمان فقط أبيض وأسود، فالأبيض ما لديه هو، والأسود ما لدى خصمه أو ما لدى غيره فهذا غال في القرآن، والعكس الجافي عنه الذي يهمله، ولا يتدبره، ولا يهتم به، ولا يلازمه فهذا جاف عنه، والحد الأوسط هو لزوم المحجة، لا إفراط ولا تفريط، فهذا خلق من أخلاق حملة كتاب الله، وهو الاعتدال فيه كما بين النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بد من الاعتدال في الأخذ به، وأن يأخذه الإنسان بقوة، وأن يوغل فيه بلطف، وأن يعلم ( أن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى )، وأن النبي صلى الله عليه وسلم استنكر على الغالين، فقال لـعبد الله بن عمرو بن العاص وكان يقوم الليل كله: ( إن لعينك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، فآت كل ذي حق حقه )، وبين له: ( أن أفضل القيام قيام داود ، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه )، فهذا أفضل القيام.
وكذلك ( دخل على عائشة وعندها الحولاء بنت تويت وهي امرأة من بني تيم بن مرة قريبة لـعائشة بالنسب، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: من هذه؟ فقالت: فلانة، تذكر من صلاتها وصيامها، فقال: مه! اكلفوا من العمل ما تطيقون، إن الله لا يمل حتى تملوا ).
وكذلك ( جاء نفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوا عن قيامه وصيامه فكأنهم تقالوا ذلك، فقال أحدهم: أما أنا فأقوم ولا أرقد، وقال الآخر: وأما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأما أنا فلا أتزوج النساء، فسمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب وقال: أما أنا فأقوم وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني )، ونهى عن هذه المبالغة فقال: ( إن أعلمكم بالله وأخشاكم لله أنا )، وبين اعتداله في منهجه صلى الله عليه وسلم، وعمله بالقرآن يعطي كل ذي حق حقه.
وفي المقابل كذلك نجد في حديث حفصة رضي الله عنها في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عبد الله بن عمر فقال: ( نعم العبد عبد الله لو كان يقوم من الليل، فما ترك عبد الله قيام الليل بعد ).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( يا عبد الله ! لا تكن مثل فلان؛ كان يقوم من الليل فترك قيام الليل )، فمن ليس له حظ من قيام الليل، ولا من صيام النفل، ولا من الذكر، ولا من العبادة، فهذا جاف عن القرآن، وليس من أهله أصلاً، ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر من هذا الحال، ( لا تكن مثل فلان؛ كان يقوم من الليل فترك قيام الليل )، وقد رأيتم هذا الخلق المعتدل الذي ليس فيه إفراط ولا تفريط، ليس فيه مبالغة ولا تقصير، وإنما هو معتدل متوسط.
كذلك فإن من أخلاق حملة القرآن: حرصهم على الناس جميعاً فهم حملة هذه الرسالة الشريفة، وهم وراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وصف الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، فمن كان سالكاً لطريقه، وكان متخلقاً بأخلاقه لا بد أن يحرص على هداية الناس، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً حتى إذا أضاءت ما حوله جعل الفراش يتساقط فيها وهذه الدواب، فجعل ينفيهن بيده وهن يقتحمن فيقعن فيها، ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار).
الفراش هو الذي يجتمع على الضوء ليس بينه وبين الإنسان نسب ولا صلة، لكن لرحمته به يخاف عليه أن يقع في النار، فيحاول أن يرده، (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً حتى إذا أضاءت ما حوله جعل الفراش يتساقط فيها وهذه الدواب، فجعل ينفيهن بيده وهن يقتحمن فيقعن فيها، ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار)، فكذلك حامل القرآن لا بد أن يحرص على أن يكون إسوةً صالحةً ومثلاً يحتذى به ويقتدى، وذلك يقتضي منه حرصاً على هداية الناس، ويبدأ بنفسه أولاً، ثم بعد ذلك يسعى لهداية الآخرين، وليبدأ بأهل بيته كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، ثم بعد ذلك بالجيران والأقربين كما قال الله تعالى: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214].
من أخلاق حملة القرآن كذلك: أنهم يراجعونه في كل الأوقات، فهم معه ويعيشون في ظلاله آناء الليل وأطراف النهار، يفرحون به فرحاً شديداً، إذا ازدادوا علماً منه، أو جاءتهم بشارة فيه أخذوها، إذا فهموا آيةً منه فرحوا بها فبادروا إلى تطبيقها، وهكذا فهم يعيشون معه وتحت ظلاله في كل أوقاتهم، ولذلك قال الله تعالى في المنافقين وإعراضهم عنه: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:124-125].
وقال تعالى في فرح المؤمنين به: قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، (( قُلْ بِفَضْلِ اللهِ )) وهو القرآن، (( وَبِرَحْمَتِهِ )) وهي السنة، (( فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ )) أي: من حطام الحياة الدنيا، ففرحهم بفهم آية من كتاب الله شيء كبير، وقد كانوا يعيشون في ظلاله في كل الأوقات، فـعمر بن الخطاب رضي الله عنه ختم البقرة -أي: تدبراً وفهماً واستيعاباً لكل معانيها- في ثمان سنوات، و عبد الله بن عمر ختمها في اثنتي عشرة سنة، وكلاهما نحرا جزوراً لما أكملها فرحاً بفهمه للبقرة بكاملها، وكانوا يفرحون بما فهموه منه، وبما فهموا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لو كان شيئاً يسيراً، فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مجلس من أصحابه، فأتي بجمار نخل، فقال: إن من الشجر شجرةً لا يتحات ورقها، وإنها مثل المؤمن فأخبروني ما هي؟ فضرب الناس في شجر البوادي، قال ابن عمر : فوقع في وهلي أنها النخلة، فلما طال ذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هي النخلة، فلما خرجت قلت لـعمر : لقد وقع في وهلي أنها النخلة، قال: لو كنت قلتها لكان أحب إلي من ملء الأرض )، وفي رواية: ( لكان أحب إلي من حمر النعم )، فـعمر يفرح كثيراً أن يفهم عبد الله مراد النبي صلى الله عليه وسلم. وقد فرح عمر كثيراً بفهم ابن عباس وموافقته له في تفسير سورة النصر، فـابن عباس كان فتىً صغيراً توفي رسول صلى الله عليه وسلم وهو في الثالثة عشرة من عمره، ولكنه كان من ذوي الهمم العالية، قال: ( لما توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم ذهبت إلى لدة لي من الأنصار فقلت: إن الله توفى رسوله، وإن علمه في أصحابه، فتعال بنا نجمع علم رسول صلى الله عليه وسلم؛ لعلنا تحتاج إلينا الأمة؛ لعلنا نسد لأمته مسداً تحتاج إليه، قال: ومتى يحتاج إلينا؟ دعنا نلعب، فذهبت وتركته )، فلم تمض سنوات قليلة حتى أصبح ابن عباس ترجمان القرآن، وأصبح عمر يلقبه: فتى الكهول، ويدنيه ويدخله بين مشيخة أهل بدر وهم أعلى طبقات الصحابة، فكلمه بعضهم في ذلك فقالوا: ( إن لنا أولاداً هم أكبر منه صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه فلا تدنيهم كما تدنيه، فدعاه عمر بحضرة شيوخ أهل بدر، فسألهم عن تفسير قول الله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3]، فقالوا: أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستغفار والتوبة إذا فتحت الأمصار وفتحت مكة، وجاءت الأفواج، ودخل الناس في الدين، فقال: لم تفهموها، فسأل ابن عباس عن تفسيرها، فقال: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر:3]، هذا نعي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:3]، فقال: لهذا أدنيته؟ ) ترجيح بلا مرجح من المستحيلات و عمر يدني ابن عباس لهذه الحكمة؛ لأنه يفهم القرآن. وهذا الفرح بالقرآن وبفهمه نجده عند عدد من سلفنا الصالح في تراجمهم، ونرى كيف يؤثر عليهم، وكيف يعيشون في ظلاله.
وكذلك في السنة، فهذا البخاري رحمه الله أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه كان يضطجع للنوم، وعنده الدواة والقلم، وحوله المصباح، فيطفئه ويشرع في أذكار النوم، فتظهر له فائدة من تدبره، فيقوم فيوقد السراج ويكتبها، ثم يطفئ السراج ويضطجع لينام حتى يتكرر ذلك عليه اثنتي عشرة مرةً قبل النوم، اثنتا عشرة مرة وهو يقوم إلى السراج يوقده ويكتب ثم يطفئه وينام، يعيشون في ظلال القرآن ومعهم في كل أوقاتهم، فهم يتدبرونه.
وقد أدركنا عدداً من أهل القرآن الذين لديهم باع عجيب جداً في التدبر، فيأخذون المسائل من قرب.
فهذا عبد الله البحر بن محمد علي بن عبدود رحمة الله عليهم أجمعين، دعاني يوماً فسألني فقال: من أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ فذكرت قلت: تعرف الخلاف في هذه المسألة: هل خديجة ، أو أبو بكر الصديق ، أو علي بن أبي طالب ، أو زيد بن حارثة ، فقال: كل هذه الأقوال باطلة، قلت: سبحان الله! ذكرها أهل العلم جميعاً في كتبهم وهي منقولة، قال: لكن الله يقول: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ [البقرة:285]، فهو أول من آمن بنفسه، فقد ادخر الله له هذا التدبر الذي لم نجده لدى غيره من أهل العلم، قال: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ [البقرة:285]، فهو أول من آمن بعد ذلك وَالْمُؤْمِنُونَ [البقرة:285]، ويحدث بنكات عجيبة في القرآن يقول: الإيثار قيمة من قيم الإنسانية الكبرى، والناس في عرفنا يسمونها ... الداخل، الإيثار عندهم باللهجة الحسانية يسمونها ... الداخل، دعاني يوماً فقال: ما رأيت أحداً أبلغ إيثاراً من موسى بن عمران ، دعاه الله لكلامه ورسالاته، فقال: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي [القصص:34]، هذا غاية الإيثار، فهم يعيشون مع القرآن يتدبرونه، ويستنبطون منه أشياء لم تخطر على بال أحد؛ ولذلك يفتح لهم فيه الفتوح العجيبة، فينظرون إلى كثير من الغيوب النسبية من وراء ستر رقيق؛ لأن البصائر صافية، فهم يعيشون مع هذا القرآن، فيدلهم ويسددهم ويوفقهم.
والذين يعيشون مع القرآن ينالون كثيراً من الفوائد:
أول هذه الفوائد: حياة القلوب، فمن كان يعيش في ظلال القرآن فقلبه حي دائماً متصل بالله ليس من أهل الغفلة، ولا من أهل موت القلب؛ ولذلك تجده يبكي عند سماعه ويقشعر جلده كما قال الله تعالى: اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23].
والفائدة الثانية: العلم، فهم يرزقون علماً لدنياً من عند الله، فيفتح لهم فتوحاً لم ينلها من قبلهم، كما قال ابن مالك رحمه الله في مقدمة التسهيل: وإذا كانت العلوم منحاً إلهية، ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين، وقد قال العلامة ابن فال المتالي رحمة الله عليهما:
وقسمة الحظوظ فيها يدخل فهم المسائل التي تنعقل
فيحرم الذكي من فهم الجلي إن لم يكن من حظه في الأزل
وتعرفون أن الله شرف سليمان على داود في فهم المسألة: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:79]، مع أن داود أكبر من سليمان وهو أبوه، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:79]. وقد حصلت قصة مثل هذه لأحد علماء هذه البلاد وهو الشيخ سليمان بن أحمد سالم رحمة الله عليه، فقد كان ابنه الشيخ أحمد بن سليمان في سفر إلى الشيخ سدية ولم يكن يدرس إذ ذاك علماً، وكان سليمان مشغولاً بالكتب والتدريس وكل وقته مع العلم، وكان أحمد إذ ذاك يحمل قرب الماء في الشتاء، فجاء إلى أبيه وقد جاءت مسألة عويصة، والشيخ الكبير مشغول بالكتب، فلم يعتن بقدوم ولده، فسأله عن المسألة فإذا حلها جاهز لدى الولد الصغير، ذكر له موضعها من الكتب، ومكانها وتفاصيلها، فكثير من الصغار قد يرزقون ما لم يرزقه الكبار، فالذين يتدبرون يرزقون رزقاً عجيباً في هذا الباب. والذي يعيش في ظلال القرآن يجد من الفوائد الأخرى فيه أشياء رهيبة كالتثبيت عند المشكلات؛ لأنه يعيش معه، فلا يحزن إذا حزن الناس، ولا يفزع إذا فزعوا، ولا يفزع إذا جاءت المصيبة والكارثة، ولا يحزن إذا حصل له أي مؤسف من أمور الدنيا؛ لأنه مشغول بالقرآن، فلذلك إذا قرأ الإنسان قصة سليمان في سورة النمل، وقرأ قوله فيما حكى الله عنه: فَمَا آتَانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [النمل:36]، إذا قرأ هذا أحدكم، وقد اختاركم الله لتكونوا حملة كتابه، فإنه لن يمد عينيه إلى ما يتنافس فيه أهل الدنيا من المناصب، والوظائف، والمال، والجاه، ولا يبالي بهذه الأمور ؛ لأنه آتاه الله خيراً منها، فَمَا آتَانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [النمل:36].
للعيش مع القرآن آثار عظيمة.
إذا كان الإنسان يعيش في ظلاله ويتدبره، فخلوته جلوة، إذا كان وحده لا يحس أبداً بوحشة؛ لأنه مع القرآن، إذا كان سارياً في الليل فهو معه يتدبره، وإذا كان سجيناً بين أربعة جدران فهو معه، إذا كان في أي مكان فهو مع القرآن، وهنا يجد فيه تثبيتاً عجيباً كما قال عبد الله بن المبارك : قصص الصالحين جند من جنود الله يثبت الله بها قلوب عباده، ومصداق ذلك من القرآن قول الله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود:120]، فلن تجد أي أمر إلا وقد ناله من قبلك عدد كبير من الذين تحدث عنهم في القرآن، إذا أصابتك مصيبة ستقرأ قصة أيوب عليه السلام، وقصة يعقوب عليه السلام، وقصة يوسف عليه السلام، فتتسلى عن مصيبتك؛ لأن هذه المصائب أصابت من هو خير منك؛ ولذلك نجد لفتةً عجيبةً في قصة أيوب حيث جاءت في موضعين في القرآن، وجاء التعبير بينهما مختلفاً، ففي سورة الأنبياء يقول الله تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:83-84]، وفي سورة (ص) يقول: وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ [ص:43]، انظروا إلى التعبير في الآية الأولى: رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:84]، والثانية: رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [ص:43].
وقد انتبه الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثير في تفسيره لهذا الفرق في التعبير بين الآيتين فذكر وجهاً عجيباً، قال: وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:84] أي: لئلا يظن العابدون أننا إنما نبتليهم لهوانهم علينا، فهذا أيوب نبي الله ابتلاه الله ثماني عشرة سنة، حتى مر عليه رجلان من بني إسرائيل فقالا: لقد أذنب أيوب ذنباً لم يذنبه أحد من خلق الله، يدعو الله ثمان عشرة سنةً ولم يرفع عنه البلاء، وأيوب لم يستطع حياءً من الله أن يدعوه لرفع البلاء عنه ولا لحظةً طيلة ثمان عشرة سنة، حتى ذهبت امرأته وتركته في مكان قريب من القمامة وعلى القمامة كلاب، فلما رجعت وجدت أيوب قد رفع عنه البلاء، وقيل له: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص:42]، فركض برجله فنبع الماء فاغتسل منه، فزال ما بجسمه وشرب، وأنزلت عليه الملابس الجدد من السماء، فرأت إنساناً آخر شكله لم يعد كالشكل الذي تعرفه، فقالت: أين رجل كان هنا؟ لعله أكلته الكلاب، لعله اختطفته الكلاب، فقال: أنا أيوب ، قد رفع الله عنه البلاء، وكان من شدة أدبه مع الله أنه لم يدعه تصريحاً بل قال: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، دعاه بالتعريض فقط ولم يدعه بالتصريح؛ لشدة حيائه منه.
فكل مبتلىً من أهل الدين إذا أدرك حال الأنبياء عليهم السلام هان عليه بلاؤه وما يجده، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقسم مالاً، فأتاه رجل من المتطرفين فوقف عليه، فقال: ( إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله، اعدل )، وهو رجل مشمر الثياب، غائر العينين، حليق الرأس، ثائر الشعر، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ابتسم وقال: ( ويلك! ومن يعدل إن لم يعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ثم قال: رحم الله أخي موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر )، فعاد إلى العيش في ظلال القرآن فتذكر قصة موسى .
وكذلك ثبت في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ آية في سورة يوسف: فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ [يوسف:50]، قال: رحم الله أخي يوسف لو مكثت في السجن ما مكث ثم أتاني الداعي لأجبته )، فهو يعيش في ظلال القرآن، ومع قصصه في كل لحظة.
إن المفروض فينا نحن أن يؤثر فينا هذا القرآن تأثيراً بليغاً، وهذا ما يفقده كثير من حملة القرآن الآن، كثير من القراء تسمعهم يقرءون، ويسردون سرداً، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يهذ القرآن هذاً، بل كان يقف عند رأس كل آية كما في حديث أم سلمة ، وهذا الهذ السريع الذي تجدونه يمنع التدبر، ويمنع فهم الإنسان لكتاب الله، ويمنع تأثره به، وقد رأينا الأعاجم الذين لا يفهمون كلمةً من العربية، ولو خاطبت أحدهم بالسلام لم يحسن الرد، فكيف بما سواه؟ إذا سمعوا هذا القرآن يبكون بكاءً مؤثراً عجيباً، وقد رأيتهم، فهذا التأثر البليغ جداً بقراءة القرآن وبكائهم الشديد عند سماعه مؤذن بأن نوره قد وصل إلى القلوب، فهو نور كما قال الله تعالى: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، وقال: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49]، فمن لم يخالط بشاشة قلبه لم يتأثر به، ومن خالط بشاشة قلبه تأثر به تأثراً شديداً.
ولذلك نجد غير المسلمين أيضاً يتأثرون به هذا التأثر، فيكون سبباً لإسلامهم، وقد كان راهب من الرهبان الأولين في نجران وهو نصراني، فكان يتعبد في دير له ليلةً من الليالي وهو منقطع عن الدنيا، فمر حوله راكب فسمعه يقرأ سورة النساء، فاستمع الراهب إليه حتى وصل إلى قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا [النساء:47]، فنزل الراهب يبكي وهو يضع يده على وجهه يخاف أن يقلب على قفاه، وأدرك ذلك الراكب وجاء إلى المدينة وأسلم.
وقد بين الله حال المهديين منهم عند سماع القرآن، فقال تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ المُحْسِنِينَ [المائدة:82-85]، فأؤلئك يسمعون القرآن فيتأثرون به تأثراً بالغاً.
وقد شاهدنا بعض المعاصرين منهم يتأثرون تأثراً بليغاً به، فذات مرة حان علي وقت صلاة المغرب وأنا في مجموعة من الشباب عند قوس النصر في باريس، فأذنا وأقمنا وأحرمنا للصلاة، وضجيج السواح والمتفرجين من حولنا كثير، فقرأت الفاتحة فالتموا علينا واجتمعوا، فألهمت أن أقرأ سورة الرعد، وبدأت بقراءة أول سورة الرعد، وعجائب الكون وآيات الله العجيبة فيها، فلما سلمنا إذا عدد من كبارهم يبكون، وهم يصورون، وبروق التصوير لا تنقطع. وعندما سألهم الشباب: هل تعرفون ماذا نصنع؟ قالوا: لا، لكن أعجبتنا رياضتكم وعبادتكم، وهذا الصوت مؤثر جداً الذي سمعناه.
وحصل لأحد الأطباء الأمريكان وهو من الذين يعالجون ضغط الدم، فكان يسعى للعلاج النفسي لمرضى القلب، فكان يسجل الأصوات والنغمات سواءً كانت موسيقيةً أو أصوات الطيور، أو خرير الماء أو غير ذلك يعرضه على مرضاه، حتى أخذ شريطاً فيه قراءة من أئمة الحرم، فعرضه فوجد تأثيراً بليغاً على المرضى عند بلوغ هذا الشريط إلى مقطع في سورة الرعد، وهو قول الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، فلاحظ أن هذا المقطع بالخصوص تتأثر قلوب المرضى عنده تأثراً بليغاً، فاهتم بهذا المقطع وذهب يبحث عن ترجمته حتى فهم معناه فأسلم، فهم معنى هذا المقطع الذي تتأثر له قلوب البشر حتى غير المسلمين هذا التأثر البليغ، فأسلم بسبب ذلك.
والغريب أن البهائم أيضاً تتأثر له، فقد كان الفضيل بن عياض إذا جيء بفرس شموس تنفر يقول: أمسكوها، فيكب عليها ويقرأ في أذنها قول الله تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83]، فلا تنفر بعد ذلك، ولذلك يؤثرون برقاهم وقراءتهم.
لقد كان الإمام سحنون سعيد بن عبد السلام التنوخي شيخ المالكية بتونس لا يؤتى بمريض أياً كان مرضه إلا قرأ عليه الفاتحة فقام كأنما نشط من عقال، فتعجب الناس لذلك، فجاء رجل من البله فحضر مجلساً لــسحنون وهو يقرأ على مرضاه فقاموا وبرئوا، فقال: الأمر سهل ما دام الأمر قراءة الفاتحة فأنا أحفظها، فرجع إلى قومه فأتاهم فقال: لقد أتيتكم بشفاء كل داء، قالوا: ما هو؟ قال: قراءة الفاتحة، حضرت سحنون قرأها على مبتلين هذا مريض بمرض كذا، وهذا مريض بكذا، وهذا مصاب بالسم، وهذا مصاب بكذا، فقاموا جميعاً كأنما نشطوا من عقال، قالوا: هذا الفاتحة، فأين قلب سحنون ؟ قلب سحنون هي القضية، قضية التأثر بالقرآن.
وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله أنه كان يؤتى بأصحاب الرعاف كثيراً، وكان الرعاف إذ ذاك منتشراً في وقت الطاعون، فكان لا يجاء بصاحب الرعاف إلا قرأ عليه آيةً من سورة هود وهي قول الله تعالى: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود:44]، فيرقى الرعاف حالاً نفس اللحظة، لا يقرؤها على أحد إلا رقى الرعاف في نفس اللحظة؛ لأنهم يعيشون في ظلال هذا القرآن فيتأثرون به.
وقد ألفت في هذا الموضوع الكتب الكثيرة منها: كتاب التبيان لآداب حملة القرآن، وهو للإمام محيي السنة أبي زكريا شرف الدين يحيى بن شرف النووي ، وكذلك (كتاب آداب حملة القرآن) للآجري ، وغيرهما من الكتب النافعة التي يحسن بطلاب العلم وبحملة القرآن مراجعتها، فأقتصر على هذا الحد، وأسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل ما نقوله ونسمعه حجةً لنا لا علينا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وأن يزيدنا إيماناً ويقيناً وصدقاً وإخلاصاً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
السؤال: ما حكم المشاركة في الديمقراطية؟ وما حكم الحياد عنها بحثاً عن السلامة؟ وهل حان وقت العزلة؟ وهل هي أفضل من الخلطة؟
الجواب: الديمقراطية هذه كلمة مترجمة جاءت من لغة اليونان في الأصل، ومعناها: حكم الناس لأنفسهم، أي: مشاركتهم في حكمهم، وقد نقلت الآن، فأصبحت أديولوجيةً متكاملةً وأسلوباً من أساليب الحكم، وهي نظام من أنظمة البشر غير منزل، ولكن لها فهم آخر وهو معناها الآلي، أي: آلتها التي استعملتها هذه الأديولوجية، فإذا عزلت الديمقراطية عن معناه وأخذت آليتها وهدفها فطبقت في الإسلام فلا حرج في ذلك بل هو مطلوب شرعاً؛ لأن الله أمرنا بالشورى فقال: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38]، وقال: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159]، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاستبداد والظلم والأثرة، فهذه الآيات والأحاديث صريحة، ولم تبين آلةً لأخذ رأي الناس ومشورتهم في أمرهم العام، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرتب للناس سادةً، ويرجع إلى رأيهم في ذلك، فقد سأل بني سلمة فقال: ( من سيدكم؟ فقالوا: سيدنا الجد بن قيس على بخل فيه، فقال: وأي داء أدوى من البخل؟ بل سيدكم الجعد الأبيض عمرو بن الجموح
وفي صحيح البخاري : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه هوازن سألوه أن يرد عليهم السبي والغنائم، فخيرهم بين السبي والغنائم، فاختاروا السبي، فقال: ما كان لي ولبني هاشم فهو لكم، وما كان للناس فدعوني حتى أسألهم، فسأل الناس فكثر عليه اللغط، فقال: أخرجوا إلي عرفاءكم )، وهذا الحديث صريح في أن للناس نواباً وممثلين ينوبون عنهم، ويعبرون عن رأيهم، وأن الناس لا يمكن أن يكون قولهم قولاً مشتركاً؛ لأن هذا يكثر فيه اللغط، ولا يدل على نتيجة ولا فائدة، فلذلك قال: ( أخرجوا إلي عرفاءكم ).
وأخرج أبو داود بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( العرافة حق، ولا يستقيم الناس إلا بعرفاء )، و(حق) بمعنى: واجب، ( ولا يستقيم الناس إلا بعرفاء ) معناه: لا يصلح أمر الناس وأمر الرعية إلا بعرفاء وهم الممثلون للجهات والأطراف والمدن والناس، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه، ولا يتهمه أحد لأنه معصوم، ويعدل عن رأيه هو لرأي أصحابه إذا رأى كثرةً فيهم إلى وجه من الوجوه، وكان الأمر إذ ذاك مبنياً على الوحي المنزل، فالله سبحانه وتعالى ينزل عليه الوحي صباحاً ومساءً فيرشدهم إلى ما هو الأمثل والأكمل، وبين ظهرانيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المعصوم، فهم لا يخافون الضلالة وهم معصومون بذلك، فلما توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي من السماء، فكانت أول مشكلة واجهها الناس قضية الحكم والشورى فيه، فوفقهم الله لاختيار أبي بكر الصديق ، فبايعه اثنان من المهجرين وعدد كبير من الأنصار في سقيفة بني ساعدة، ثم بايعه الناس بيعةً جماعيةً في المسجد، فانعقدت بيعته على كل المسلمين، وإن كانت في البداية فلتةً ولكنها كانت نافعةً، فقد حمدوا غبها، ورضوا بها جميعاً، ومن لم يرض بها ولم يبايع لم يعترض على تصرفات أبي بكر وأفعاله، ولم ير فيها ظلماً ولا حيفاً، بل انساق في جيوشه وذهب وراء تصرفاته.
فلما مرض أبو بكر أوصى بأن يقدم للناس عمر بن الخطاب ـ فأوصى إليه بالإمامة طيلة مرضه، وأن يصلي عليه، وقدمه للناس اقتراحاً، وهذه آلية لفض النزاع وهي اقتراح الخليفة القائد، فاختار لهم عمر ، فبايعوه أيضاً ورضوا به، وحمدوا غبه، ولم يتنازعوا في إمامته.
فلما طعن عمر ترك الأمر في ستة توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فتنازل ثلاثة لثلاثة، وتنازل واحد لاثنين بشرط أن يختار هو السابق منهما، ولكن كانت الآلية إذ ذاك غير واضحة لنا، كانت آلية المشورة التي طبقها عبد الرحمن بن عوف مقصورةً على المدينة، فلم يكن لديه وسائل اتصال لا هاتف ولا غيره من وسائل الاتصال، ولم يتصل على أهل الشام، ولا أهل العراق، ولا أهل مكة، ولا الأعراب، ولا أهل اليمن، إنما شاور أهل المدينة، ومكث ثلاث ليال حتى كان يدخل على العذراء في خدرها ولم يدع أحداً إلا سأله، وذهب إلى أمراء الأجناد وهم في عسكرهم خارج المدينة فاستشارهم، ثم جاء في صبيحة نهاية المدة فأعلن للناس أن أكثر المسلمين لم يعدلوا بـعثمان ، فدعاه فبايعه وبايعه علي ، وكانت البيعة لـعلي من بعده، لم يتهم أحد إذ ذاك عبد الرحمن بالميل إلى عثمان ، ولم يتهم أحد أنه لم يستشر الناس، ولم يطعنوا في النتيجة التي قدمها، والسبب: أن عبد الرحمن كان ثقةً لدى الجميع وثقه الله ووثقه رسوله صلى الله عليه وسلم، فالله تعالى يقول: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100]، لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، فمن رضي الله عنه لا بد أن يرضى عنه الناس، وعبد الرحمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة بالتعيين، وقال فيه كما في صحيح مسلم : ( ما كان لنبي أن يموت حتى يصلي خلف رجل صالح من أمته، فكان عبد الرحمن بن عوف ).
نحن اليوم ليس لدينا شخص مثل عبد الرحمن بن عوف ، لو كان لدينا شخص الآن مثل عبد الرحمن بن عوف محل رضاً عند الجميع، ولا يختلف فيه اثنان لوكلنا إليه هذا الأمر وانتهت المشكلة؛ لأننا لم نحتج إلى تصويت، ولا إلى صناديق اقتراع، ولا إلى أي شيء يختاره يستشير الناس، ويبين وجه اختيارهم، لكن لو اخترنا.
أي شيخ الآن مكان عبد الرحمن بن عوف فهل سترضون بحكمه؟ أبداً لم يرض الناس بحكمه، بل يقولون: ما آلياته؟ وهل لديه إحصاء؟ وهل لديه لوائح؟ لن يرضوا ولن يصدقوه أبداً، فهذه مشكلة وهي الآلية، ولما كانت هذه المشكلة غير محلولة بالكتاب ولا بالسنة بالنص لم يبق لها إلا الاستنباط، والاستنباط وجد فيه أهل الاستنباط أنه لا مانع من استغلال أي وسيلة من حضارات الأمم الأخرى ما دامت غير مخالفة للشرع، وقد وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم استورد فكرة الخندق من حضارة فارس، وفكرة المنبر من حضارة الحبشة، وفكرة الخاتم من حضارة الروم، فعرفنا أن حضارات الأمم الأخرى حتى لو كانت كافرة يمكن أن يؤخذ منها النافع الذي فيه بناء حضاري، وضبط لأحوال الناس، فلذلك لا مانع أن تؤخذ آلة الديمقراطية وهي صناديق الاقتراع لمشاركة الناس في الرأي وفي تسيير شئونهم وأملاكهم العمومية، وفي اختيار من يتولى أمرهم، وفي مراقبة تصرفاته، وفي التداول السلمي للسلطة؛ لأن الأمر الآن ليس تابعاً، ليس لدينا نبي معصوم يحكمنا، لدينا ناس غير معصومين، وإذا تولى أي أحد منهم الحكم فيمكن أن يجور، ويمكن أن يظلم، حتى لو كان أعلم الناس وأصلحهم، وإذا كان هو الذي بيده القوة، وبيده المال، وبيده الجيش، وبيده السلاح، فمن يرده عن ظلمه؟ لا يستطيع أحد مراقبته حينئذ، فاحتيج إلى آلية تجمع وتؤدي هذا الغرض، وصناديق الاقتراع قطعاً جربت وهي كفيلة بذلك، فلذلك الأخذ بها ليس أخذاً بالديمقراطية بمعناها الأديولوجي، ولكنه أخذ بها بمعناها الآلي، فهي آلة تحقق هدفاً شرعياً وأمراً أمر الله به وهو الشورى، ولا يمكن أن تحقق الشورى في عصرنا إلا بآلة وهذه الآلة قابلة للاجتهاد.
وأحسن آلة وجدناها هي: أن يدلي الناس بآرائهم، ونحن نعلم أن الناس ليسوا سواء، فيهم الصالحون والطالحون، لكن الجميع شركاء فيما في هذه الأرض من الخيرات، فالفاسق له حظ في خيرات هذه الأرض، وهو لم يفوتك أنت أيها الصالح في اتخاذ القرار باسمه، فلذلك لا بد أن يكون له صوت ورأي ومشاركة، فالذين ينتقدون الديمقراطية ويرون أنها مخالفة لأمر الله؛ لأن الله يقول: أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35-36]، ويقول: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ [السجدة:18]. الجواب: أن هذا إنما هو في أمر القيامة، أما في أمر الدنيا فالفاسق والصالح كلاهما جعل الله له ملكاً وتصرفاً وهو يتصرف في ملكه، الفاسق لا يحجر عليه الصالح، ولا يمنعه من التصرف في داره وماله، وكذلك الصالح أيضاً، فإذا كان الحال كذلك فأهل موريتانيا جميعاً شركاء فيما جعل الله لهم فيها من الخيرات، وهم شركاء كذلك في أرضهم وبحرهم وجوهم وما يتصل بذلك، هذا ملك مشترك بينهم، وتسيير هذا الملك هم شركاء فيه جميعاً صالحهم وطالحهم، عالمهم وجاهلهم، ذكرهم وأنثاهم، شركاء في هذا الأمر العام، وليس لأحد أن يحجر على أحد منهم إلا السفيه -الولد الصغير- يحجر عليه أبوه ما دام قبل السن القانونية، فالإنسان المحجور عليه خارج عن نطاق التصويت، لكن من ليس محجوراً عليه فلا بد أن يكون له رأيه ومشاركته، ومن هنا لا إقصاء، ولا أثرة، ولا ظلم بهذا الطريق؛ لأنه تحقيق لما أمر الله به من الشورى.
أما ما يتعلق بالحياد فالإنسان له حق في اختيار من يحكمه في أسلوب حكمه، وعليه حق في إقامة القسط والعدل في الأرض، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ [النساء:135]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ [المائدة:8].
فأنت يجب عليك السعي لإقامة القسط والعدل في الأرض، وإذا كنت عاجزاً ليس لديك سلاح، وليس لديك قرار، لكن لديك صوت تشارك به بإقامة القسط والعدل في الأرض فيجب عليك أن تفعل ما قدرت عليه؛ لأنك لست مكلفاً بما لا تطيق، لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، والمقدور عليه لا يسقط ما دام الإنسان قادراً عليه، ومن لم يقدر إلا على نية أو مع إيماء بطرف الصلاة يجب عليه أن يفعل، فلذلك يجب على الإنسان المشاركة، وأن يختار الأفضل والأعدل، وقد أخرج الحاكم في المستدرك أن البني صلى الله عليه وسلم قال: ( من ولى على عصابة رجلاً وفيهم من هو خير منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ).
وليس هذا زمان العزلة، بل زمان العزلة والخويصة هو الزمان الذي لا يطاع فيه الإنسان إذا أمر، ولا يتأثر به أي أحد، فالإنسان ما دام يستمع لقوله لا يعتزل، فالعزلة والخويصة إنما تقع عندما يعم الفساد، فلا يجد الإنسان من يساعده على أمر بمعروف أو نهي عن منكر، ولا يستطيع نصحاً ولا إبداء رأي، فحينئذ يعتزل، كما أخرج البخاري في الصحيح قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة قال: أخبرنا مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن )، وكذلك ( لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل منازل أهل الإيمان؟ فقال: رجل ممسك بعنان فرسه كلما سمع هيعةً طار إليها، قيل: ثم من؟ قال: ثم مسلم في شعب من الشعاب يعبد الله، ويذر الناس من شره )، وذلك عند فشو الفساد بحيث لا يستطيع الإنسان نصحاً، ولا إرشاداً، ولا أمراً بمعروف، ولا نهياً عن منكر.
و ( المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ) كما في الحديث.
السؤال: هل يتقيد الناخب بأمر قبيلته أو حزبه أو يبحث عن قناعته شرعاً؟
الجواب: يجب عليه أن يبحث عن قناعته شرعاً، وأن يتذكر أن الجميع سيحشرون فرادى إلى الله، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:95]، والإنسان مسئول عن نفسه وحده، فما أوصلته إليه قناعته، ورآه أعدل وأحكم وأصوب فهو الذي يجب عليه أن يفعله، وما رأى أن فيه ظلماً أو حيفاً أو جوراً أو سعياً لذلك فهو مسئول عنه؛ لأن الإنسان إذا ولى مفلساً يعيش على أموال الفقراء واليتامى والغُيَّب فهو شريك له في إثمه.
السؤال: هل الضرائب من المكوس؟
الجواب: نعم، فقد ذكر العز بن عبد السلام الإجماع على أن أخذ مال المسلم من غير رضاه حرام قطعاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا )، وقال العز بن عبد السلام : فالضرائب التي تؤخذ من غير رضا الناس حرام، وذكر أنها من المعلوم من الدين بالضرورة، وأن من أنكر حرمتها فهو كافر، ووافقه القرافي على ذلك، والضرائب لم تكن معروفةً في الإسلام، وأول ما عرفت في سنة (310ه) في أيام المتقي العباسي ، فرضت المكوس على أسواق العراق، وقد تذمر الناس بذلك حتى قال أحد الشعراء:
على كل أسواق العراق ضريبة وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم
وقد كان الملوك في الجاهلية يأخذون المكوس على الناس، ويأخذون الأعشار، كما أخذ زنباع بن روح على عمر بن الخطاب عشر الذهب الذي كان أبلعه ناقته، فقال عمر في ذلك:
متى ألقى زنباع بن روح ببلدة لي النصف فيها يقرع السن من ندم
وهذا من شأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والمسلمون لم يعرفوا ذلك في العهد النبوي، فلم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم أية ضريبة من المسلمين، ولا أحد من خلفائه الراشدين، ولا أحد من ملوك بني أمية، ولا بني العباس إلى سنة (310ه) عندما أخذها المتقي العباسي فاستنكر الناس ذلك، ومع ذلك فإذا أفلس بيت المال فلم يوجد فيه ما يؤدي حقوق الأمة، وكانت أحوال الرعية ستختل، فاحتاج الناس إلى مدارس للتعليم، واحتاجوا إلى مستشفيات، واحتاجوا إلى تعبيد طرق، واحتاجوا إلى وسائل إعلام، واحتاجوا إلى استغلال خيراتهم، واحتاجوا إلى إزالة القمامات والنفايات، فحاجة الناس إلى ذلك إذا لم يسددها بيت المال، ولم توجد في الخزينة العامة كفاية لها فإن والي المسلمين يسألهم التطوع والتبرع، فإذا لم يفعل ولم يجد ما يكفي فإنه يبدأ أولاً بالطبقة الغنية من الناس، والمستفيدين الأوائل من هذه الخدمات، فيضع عليهم ذلك الحد الذي يسد قدر الضرورة فقط ولا يتعداه.
والضرائب اليوم في بلاد الغرب في كثير من الدول تؤخذ في مقابل هذه الخدمات، وقد شاهدت رجلاً إنجليزياً امتنع من أداء الضرائب بسبب وجود حفرة في الشارع أمام بيته، فالضرائب الإنجليزية يعرف الموظف فيها كل باوند في أي شيء يصرف، يعرف أن في نصف باوند للتعليم، ونصف باوند للصحة، ونصف باوند للطرق، ونصف باوند للاتصالات.. إلى آخره، فحفرة في الطريق امتنع من أداء الضريبة حتى تسد تلك الحفرة، فرفعت عليه قضية في المحكمة، وحضرت محاكمته فحكمت له المحكمة بتعويض وبإصلاح تلك الحفرة؛ لأنه لم يكن ليسدد الضريبة حتى ينال المصلحة التي دفع الضريبة من أجلها، وهذا ما نحتاج إليه نحن، أما في بلدان العالم الثالث فالضرائب تؤخذ ولا يدرى أين تذهب، فكثيراً ما تذهب إلى جيوب المسئولين عليها، وتكون تلك الجيوب مخروقة فتذهب منها إلى غير طائل؛ فلذلك ليست هي مثل الضرائب الموجودة في العالم المتحضر، ولا هي أيضاً المأخوذة على الوجه الشرعي بعد دراسة متأنية لقدر الحاجة والعجز في بيت المال، فالضرائب لا يمكن أن تستباح إلا بعد دراسة متأنية للعجز الحاصل في بيت المال، وقدر الضرورة منه، وعرض ذلك على الناس للتطوع، فإذا عجزوا أو لم يتطوعوا فحينئذ يمكن أن تستباح.
السؤال: هل حد الشرع عدد وصفة أهل الشورى؟ وهل الاقتراع العام والمباشر ينافيها؟
الجواب: لا، لم يحدد الشرع ذلك، بل قد قال الله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38]، وهذان ضميران للجمع، وهما يشملان الذكور والإناث، والكبار والصغار في الأصل، لكن الشارع جعل قيوداً للأهلية، وهذه القيود قيود للتصرفات الشخصية، فمثلاً الصبي الصغير الذي لا يحسن التصرف جعل الشارع عليه الحجر، وكذلك السفيه الذي لا يحسن التصرف في ماله جعل الشارع عليه الحجر.. وهكذا، فهؤلاء محجور عليهم.
والأهلية قسمان: في أهلية إنشاء، وأهلية حيازة، وكلاهما له مؤثرات هي التي تؤثر في الأهلية، وهي منصوصة في الشرع مدروسة، فلذلك كل ما ليس قيداً شرعياً لهذه الأهلية فالأصل أن الناس ولدتهم أمهاتهم أحراراً، وأن لهم حق التصرف في أموالهم وممتلكاتهم وحقوقهم واختصاصاتهم، وأنه لا يحجر أحد منهم على أحد إلا من حجر عليه الشرع بالنص، فكل ما لم يرد فيه نص من حجر فهو مناف لهذا القيد، وهذه حرية عامة حولها الله للبشر في الأرض، فقد خلق لهم ما في الأرض جميعاً، وجعلهم خلفاء في الأرض، فهذه حرية هي منحة من الله للبشر، ولا تقيد إلا لصالح البشر، فكل قيد من قيود الحرية هو لصالح البشر، كالقيود التي ضربها الشارع على المحجور عليهم فيما ذكرنا.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر