بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى خلق آدم بيمينه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وجعله خليفته في الأرض، وكرم ذريته بأنواع التكريم، فقال: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا[الإسراء:70]، وقد جعل الله آدم أصلاً لهذا الجنس البشري، الذي شرفه الله بهذا التشريف كله، وكان قادراً على أن يجعل البشر كل واحد منهم ليس له أصل من البشر، كما خلق آدم من غير أبٍ وأم، كان قادراً على أن يخلق الناس جميعاً كذلك من غير آباء وأمهات، ولكنه لحكمته البالغة جعل بعضهم مسئولاً عن بعض، وخلق الإنسان يمر بأطوار في خلقه، ويتردد في منازل في حياته، يكون فيها متنقلاً بين الضعف والقوة، إلى الضعف والشيبة، ويمر في خلال هذه الحياة بكثير من المضايق والأزمات، وبكثير من البسط والاتساع أيضاً، كل ذلك بتدبير الحكيم الخبير.
فعندما أراد الله سبحانه وتعالى أن يخلق البشر أطواراً، وأن تكون حياتهم متطورة بهذا النوع من التطور، أراد أن يجعل بعضهم ولياً على بعض، وأراد أن يحتاج بعضهم إلى بعض، وأن يقع بينهم الترابط.
وقد جعل الله نعمة النسل من أعظم النعم على عباده، وبيّن قسمة الناس في ذلك عند الله سبحانه وتعالى، فقال: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ[الشورى:49-50]، وهذه القسمة حاصرة، فالناس من ناحية النسل على هذه الأقسام الأربعة، إما أن يرزق الله الإنسان ذرية إناثاً فقط، أو ذريةً ذكوراً فقط، أو يجمع له بين الذكور والإناث، أو أن يجعله عقيماً ليس له ذرية أصلاً، وكل ذلك بتدبير الحكيم الخبير، فمن يعلم أنه عاجز عن الولاية، أو لديه نقص في التربية لا يأتمنه حتى لا يكون مقصراً مفرطاً، ومن يصلح له الإناث دون الذكور يعطيه الإناث دون الذكور، ومن يصلح له الذكران دون الإناث يعطيه الذكران، ومن يصلح له الجميع يجمع له بين ذلك.
لكن لا بد أن ندرك أن الولد في أصل خلقته نعمة عظيمة؛ لأنه امتداد في العمر، فعمر الإنسان محدود محصور، وفائدة هذا العمر ما يقدمه فيه لآخرته من الأعمال الصالحة، ومن عبادة الله سبحانه وتعالى، وهذه العبادة لا يمكن أن يفيها الإنسان حقها، فلا يستطيع أحد ولو كان جبريل ، ولو كان غيره من الملائكة المقربين، أن يفي بحق عبادة الله التي يستحقها، لكن إذا ازداد عمره ازداد أداؤه في العبادة، وقد كانت الأمم السابقة تعمر طويلاً فتعبده كثيراً، يعبد الصالحون منها الله عز وجل كثيراً. وكذلك يزداد فجور أهل الفجور والفساد فيها لطول أعمارهم.
وعندما بلغت البشرية إلى نضجها وخابت كل تجاربها أخرج الله لها هذه الأمة، التي هي خير أمة أخرجت للناس، فجعل أعمارها محدودة قصيرة، فعمر نبيها -وهو أفضلها، وخيرها، وخير البشرية جميعاً- لم يتجاوز في عمره التكليف ثلاثاً وعشرين سنة؛ لأنه عاش بعد البعثة ثلاثاً وعشرين سنة، ولم يتجاوز في عمره مطلقاً ثلاثاً وستين سنة، فدل هذا على أن أعمار هذه الأمة في هذه الحدود، فهذا أفضل شيء لهذه الأمة أن يعيش الإنسان حياة القوة، فإذا بدأ العد التنازلي إلى الضعف والشيبة انتقل إلى الدار الآخرة غير مضيع، كما سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يلحقه بالرفيق الأعلى، وكما سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ربه أن ينقله إلى الدار الآخرة غير مضيع حين كسعت رعيته، وقد بلغ من العمر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين سنة.
فحاجة الإنسان إلى الزيادة في العمر لا يمكن أن تكون في عمره الشخصي؛ لأنه سيصل إلى الضعف والشيبة، ويكون حينئذٍ عاجزاً عن العبادة والتصرف، بل قد قال السابق: فما تشتهي غير أن تشتهي. أي: أنه يعدم الشهية لكل شيء حتى يشتهي أن يشتهي، ويكون عاجزاً عن القيام بتصرفاته التي يحتاج إليها، ومحتاجاً لمن يخدمه في كل شئونه، وهذا هو أرذل العمر؛ لأن الإنسان فيه ينقص عقله بعد أن كان وافراً، ويخف حلمه بعد أن كان حليماً، ويزدريه الناس بعد أن كان محبوباً، كما قال أمية بن الأسكر رضي الله عنه:
ذهب الزمان فلا زمان جمانا وكأنما قد كان لم يكن كانا
يا من لشيخٍ قد تطاول عمره أفنى ثلاث عمائم ألوانا
سوداء حالكة وسحق مفوذٍ وأجد لوناً بعد ذاك هجانا
والموت يأتي بعد ذلك كله وكأنما يعنى بذاك سوانا
وكما قال أيضاً:
يا أم هيثم ماذا قلت أبلاني ريب المنون وهذان الجديدان
إما تري حجري قد رك جانبه فقد يسرك صلباً غير كذان
أو ما تريني لا أمضي إلى سفر إلا معي واحد منكم أو اثنان
ولست أدي بلاداً كنت أسكنها قد كنت أهدي بها نفسي وصحبان
أمسيت هزءً لراعي الضأن أعجبه ماذا يريبك مني راعي الضأن
انعق بضأنك في نجم تحفره من البواضع واحسبها بجلدان
إن ترع ضأناً فإني قد رعيتهم بيض الوجوه بني عمي وإخواني
حينئذٍ يتمنى الإنسان أن ينتقل من هذه الدار، لا عن كدر يعرض له من الآخرين، لكن عن كدر من نفسه لطول عمره، لكن إذا ازداد عمره بشباب، وبقوة مكررة، وكان الذين يطيلون هذا العمر ويزيدون فيه من أولاده وأحفاده على المستوى الذي تقر به عينه، فهذا أبلغ النعم، ولذلك فإن الولد امتداد في عمر والده، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة في صحيح مسلم : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له)، فجعل الولد الصالح من عمل الإنسان الذي لا ينقطع بعد موته، قال أهل العلم: يشرط ذلك بالنية، أي: بأن يقصد الإنسان عند طلبه للذرية أن يكون له ولد صالح يكون امتداداً في عمره، وزيادةً في عمله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى )، لكن من فاتته هذه النية عند طلب الولد، يمكن أن يجددها عند تدريبه وتربيته وتعليمه، وعند نصحه له وإرشاده، فكل ذلك من العمل الذي يحتاج إلى النية فينوي فيه الإنسان امتداد عمره بعد موته.
ومن الألطاف العجيبة أن العمل الصالح الذي يعمله الأولاد يكتب في موازين حسانات آبائهم، وأمهاتهم إلى نهاية الإسلام، دون أن ينقص ذلك من أعمالهم شيء، وأن العمل السيئ الذي يعمله الأولاد والأحفاد لا يصل إلى آبائهم وأمهاتهم منه شيء، فهذا من لطف الله سبحانه وتعالى وفضله، ولهذا قال العلامة حبيب بن الزايد التندغي رحمه الله:
وجود الابن نعمة عظيمة من ربنا ليس لها من قيمة
إذا ما من الطاعات الابن يعمل لوالديه أجره قد يحصل
بدلالة حديث أبي هريرة السابق.
من غير أن ينقص أجر الابن إذا إذ هو من كسبهما فحبذا
وهكذا أولاد الاولاد إلى أن ينتهوا فطالعن المدخل
وهذا الذي ذكره قامت عليه الأدلة الصحيحة الصريحة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم إن الله ركب في الإنسان محبةً لوجود الأولاد، ولهدايتهم بعد ذلك فما من أحدٍ يريد من آخر أن يكون خيراً منه ويرضى بذلك إلا أولاده، فأبوك لا يمكن أن ترضى أن يكون خيراً منك، وأخوك الشقيق لا ترضى أن يكون خيراً منك، وابن عمك المحبوب لديك لا ترضى أن يكون خيراً منك، لكن ولدك تطلب له أن يكون خيراً منك؛ لأنك تريد أن تكون بدايته نهايتك، وهذا من حكمة الله ولطفه، وهو دليل على أنه امتداد في العمر.
كذلك فطر الله الآباء والأمهات على محبة الأولاد، وجعل ذلك أثراً من آثار رحمته التي قسمها على أهل الأرض، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما أنه قال: ( إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فادخر عنده تسعاً وتسعين رحمة لعباده المؤمنين في الجنة، وأنزل رحمة واحدة في الدنيا، فبها يتراحم الخلائق فيما بينهم حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها )، فرعاية الأولاد في وقت صغرهم وبكائهم وصراخهم وأذاهم كله أثر من آثار هذه الرحمة العظيمة التي منها الليل والنهار: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ[القصص:73]، ومنها المطر، فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[الروم:50]، لكن هذه الرحمة إذا تجاوزت حدها فأصبح الوالد يرحم ولده عن المضايقة الدنيوية، ولا يرحمه من عذاب الله كان ذلك ضياعاً، وتعدياً للحق الشرعي، فالأولى بك أيها الوالد أن ترحم ولدك من عذاب الله عز وجل، فلا ترضى له أن يكون عدواً لله، ولا ترضى له أن يعذبه زبانية النار، كما لا ترضى له أن يسجن في أي سجن من سجون الدنيا، إذا كنت ترحمه على أن تصيبه شوكة، أو أن يمرض بمرض، أو أن يبيت ساهراً متألما، أو أن ينال صغاراً ومذلةً، وهواناً في الدنيا، فارحمه من عذاب الله يوم القيامة، من زبانية النار، وذلك مقتضٍ أن تقوم بالحق الذي افترض الله عليك في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ[التحريم:6].
فارحمه من أولئك الملائكة الغلاظ الشداد، قم بالحق الذي له قبل أن يخاصمك، فإنه سيخاصمك بين يدي الحكم العدل الذي لا يظلم عنده أحد، فيقول: يا رب! وليت علي عبدك هذا فلم يؤدّ الحق الذي عليه لي، والنسب سينقطع بمجرد النفخ في الصور، فما كان بينكما من العلائق الدنيوية ينتهي كله عند النفخ في الصور، فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ[المؤمنون:101]، يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ[عبس:34-37]، يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ[المعارج:11-14]، فتنقطع الأنساب حينئذٍ والأسباب والعلائق كلها، فكل إنسانٍ يريد حقه ولا يتوقع منه أن يسامح فيه؛ لأنه في أمس الحاجة إليه، فكل الناس يحشرون حفاةً عراةً غرلاً، ليس مع أحد منهم إلا عمله، ولا يرى إلا النار أمامه يمر بها الصراط الذي سيمر عليه الجميع، فلا يرجى منه أن يسامح في حقوقه يومئذٍ.
فلهذا كما نحض على برور الأولاد لآبائهم وأمهاتهم، نحض كذلك على إحسان تربية الأولاد. وإحسان تربية الأولاد سبب لانتشار البرور؛ لأن البرور من الأمور الوراثية، فإذا كان الإنسان براً بأبيه وأمه، فإنما هو قرض يقرضه الله فسيبره أبناؤه بعد ذلك، ولذلك جاء في الحديث: ( بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم )، فإذا كان الإنسان عفيفاً عن نساء الناس، وكان براً بوالديه، فسيصلح الله أهله وأولاده، حتى يكونوا على ما يريده من ذلك.
ولهذا عرف في الجاهلية توارث العقوق، نسأل الله السلامة والعافية، فقد كان من الأسر الجاهلية من يتوارثون العقوق، وقد رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاباً ملوي اليد اليمنى هكذا، فعرف أن ذلك آية من آيات الله، فسأله عن السبب، فقال: دعوة أبي، فقال: ولمَ؟ قال: ضربته بعصاً، ورميته خارج البيت، وقد كان كبيراً ضعيفاً، فأنشأ يقول:
وربيته حتى إذا ما تركته أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه
وبالمحض حتى آض نهداً عنطنطاً إذا قام ساوى غارب الفحل غاربه
فأخرجني منها لقىً ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه
فاستجاب الله دعاءه ويبست يده ملوية، حتى لقي الله على ذلك، وكانت هذه الأسرة قبله تتوارث العقوق، نسأل الله السلامة والعافية، كما قال أبوه هو -أبو المضروب هذا-:
وكيف أرجي النفع منه وأمه حرامية ما غرني بحرام
فقد كانوا يتوارثون العقوق، نسأل الله السلامة والعافية.
فلذلك نحض الآباء والأمهات على إحسان تربية الأولاد، وأن يعلموا أن التربية تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: التربية العقلية، وهي بزيادة العلم، بزيادة المعلومات وانتقائها، فلا يمكن أن يزداد عقل الإنسان الفطري إلا إذا ازدادت معلوماته، فبقدر ما يسمع بأذنه، ويرى ببصره، ويصل إلى فؤاده من المعلومات يزداد عقله، وتتوسع دائرة هذا العقل، والإدراك؛ لأن الإنسان إذا مر من الطريق المرة الأولى قد لا يتذكرها تماماً، فإذا مر منها مرة ثانية ازدادت معرفته بها، فإذا مر بها ثالثة تذكرها تماماً، وهكذا، فكذلك زيادة العقل إنما تتم بزيادة المعلومات.
القسم الثاني من أنواع التربية: هو التربية الروحية، وهذه التربية الروحية تقتضي أن يدرك الإنسان أن هذه الروح ليست من هذا العالم الذي نحن فيه، بل هي من أمر الله الغيبي: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[الإسراء:85]، وهذه الروح تحتاج إلى عناية وتزكية، وتحتاج إلى مراقبة لسلوكها، ومتابعة لتصرفاتها، فإنها بمثابة طفل صغير إذا ترك على الرضاع استمر عليه، وعلى الخصال الذميمة فإذا أُدب استجاب، وهكذا الروح فهي قابلة للتنمية والتطوير، فكلما تشدد الإنسان معها في إكسابها صفات المؤمنين، وتجنيبها صفات المنافقين، كلما استجابت له وانقادت لأمره، وكلما أهملها ودساها كان ذلك زيادةً في فجورها وطغيانها، وما من أحدٍ إلا وله قابلية الطغيان في الأصل، وتزداد هذه القابلية بإحساسه بالغنى، أو غفلته عن الله، أو إعراضه عن الدار الآخرة، أو إحساسه بنشوة الانتصار، فكل ذلك يؤدي إلى زيادة منسوب الطغيان في النفس؛ كما قال الله تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى[العلق:6-7]، فإذا رأى نفسه استغنى -وهذا يشمل أنواع الغنى كلها- أدى به ذلك إلى زيادة الطغيان، وهنا تدركون الإعجاز الفظي العجيب في القرآن، فلم يقل: (إن الإنسان ليطغى، أن استغنى)، بل قال: أن رآه استغنى؛ لأن الإنسان لا يستغني في الواقع، لكن يرى نفسه أنه استغنى فقط، ولكنه هو لا يستغني، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ[فاطر:15].
فهذا الطغيان لا بد من علاجه، ولا يستطيع الإنسان معالجته بنفسه، وبالأخص في أوقات النشوة وزيادة الشهوة والشبهة، فإن الإنسان حينئذٍ محتاج لمن يراقبه، ولمن يمسكه عند حده، ولهذا فإن أشرف الخلائق نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم عند فترة الوحي بعد نزول سورة: (اقرأ) عليه، وكل إلى إسرافيل ثلاث سنوات يعلمه الآداب والأخلاق، ولذلك قال: ( أدبني ربي فأحسن تأديبي ).
ثم إن هذه التنمية الروحية يحتاج فيها الإنسان إلى ناصحٍ، لا يذكره في وقت طغيانه وشدته، بل يلتمس له الأوقات المؤثرة؛ لأن الإنسان ربما أخذته العزة بالإثم، فإذا رأيته في وقت اندفاعه وإقباله، فحاول تهدئته دون أن تحاول رده بالكلية عما يريد، لكن إذا رأيته في وقت تراجعه وانكساره فاعلم أنها الفرصة لهدايته، حاول حينئذٍ إرشاده ونصحه، وتلمس الوقت المناسب لدعوته، ولهذا قال أهل العلم في تفسير قول الله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل:125]، قالوا: ما من شيءٍ أحوج إلى الحكمة من الدعوة، وما من شيء إلا يحتاج إلى الحكمة.
فلا تستطيع التعامل مع راحلتك، أو مع سيارتك إلا بالحكمة، ولا تستطيع التعامل مع أي أحدٍ تخاله أو تخالطه إلى بالحكمة، لكن أحوج ما تكون إلى الحكمة في وقت تأثيرك الدعوي، فالناس لهم إقبال وإدبار، ولهم وقت يمكن التأثير فيهم فيه، ولهم وقت إعراض يتغلب الشيطان على رءوسهم ويركبها، فلا وصول إليهم في ذلك الوقت.
فلذلك لا بد أن يكون الذي يدعو ويربي حكيماً، حتى لا يضرب الحديد بارداً، فالضرب في حديد باردٍ لا يؤثر، وحتى لا يكسر الضلع عندما يريد تقويمه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن المرأة خلقت من ضلع أعوج، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمها انكسرت، وإن استمتعت بها استمتعت بها على عوج )، فلذلك يحتاج الإنسان في تربيته لأولاده أن يكون حكيماً، وبالأخص في التربية الروحية، التي فيها تعويد على الخلق الكريم بالأدب مع الله، والأدب مع رسوله، والأدب مع شرعه، والأدب مع ملائكته، والأدب مع بقية عباده، وبالتحلي بصفات المؤمنين، والتخلي عن صفات المنافقين، وأن يملك نفسه، ويلجمها بلجام التقوى، فكلما أراد جماحاً ردها.
والإنسان في هذه التربية الروحية، كما ذكرنا يحتاج إلى المراقبة، والمتابعة، فالمراقبة إنما تتم من خلال نفسه؛ لأنه الذي يعلم ما يدور لديه من الخواطر، ولا يمكن أن يكون مربيه مطلعاً عليها، فلذلك يخطر في نفسه كثير من الخطرات، ويعرض له كثير من الشهوات والشبهات، التي لا يخرجها للآخرين، فهو محتاج من هنا للمراقبة على هذا الخط، وعلى الصراط، الذي يسير عليه لئلا يميل مع بنيات الطريق يميناً أو شمالاً.
ثم المتابعة للعزمات التي يعزم عليها، فما منا أحد إلا وتأتيه نوبات التوبة، وهي الوقت الذي يسميه أهل التربية الروحية بوقت اليقظة، وهذا وقت اليقظة يدرك فيه الإنسان ما فرط فيه في جنب الله، وأنه كان حتى بالأمس القريب معرضاً عن الله، سيئاً في التعامل معه، بخيلاً مع الله سبحانه وتعالى، لئيماً في التعامل معه، -والبخيل اللئيم من جمع هاتين الصفتين كان كنوداً- والله تعالى أخبر أن الإنسان في أصل تعامله مع الله كنود، وأنه يشهد بذلك على نفسه، فيحتاج الإنسان إلى متابعة عزماته عندما تأتيه وقت اليقظة، فيحس بلؤمه مع الله، وببخله على الله في وقت اليقظة يعزم على كثير من الصالحات، فلا بد من متابعة تلك العزمات؛ لئلا تذهب هباءً منثوراً، كأعمال الكفرة.
إن كثيراً من الناس في رمضان عندما يدركه وهو يتذكر أن أفواجاً من الناس قد سبقوا إلى الدار الآخرة ولم يصوموا رمضان الماضي، وأن الذين صاموه هذا العام كثير منهم لن يدركوه في العام القابل، فيا رب صائمه لن يصومه، ويا رب قائمه لن يقومه.
سيعزم على كثير من الأعمال الصالحة فيما بقي من عمره، وسيحاول الاستمرار على طريق الهداية، ويضع لنفسه مشاريع مهمةً جداً في طلب العلم النافع وفي أداء العمل الصالح، في قيام الليل، وصيام النفل، والدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، وفي إكرام المؤمنين، وفي أداء الحقوق التي عليه، وأن يكون من المستجيبين لداعي الله إذا سمع النداء أن يكون من أول المستجيبين، إذا سمع: حي على الصلاة كان متطهراً على باب المسجد، هذا الذي نعزم عليه في أوقات اليقظة، لكنه محتاج إلى المتابعة؛ لأننا إذا لم نتابع هذه العزمات فستذهب هباءً منثوراً، وتكون عقدة متخلخلة، والحبل إذا تعود الإنسان على ربطه بالربط المتخلخل، لم يستطع بعد ذلك أن يحكم ربطته أبداً؛ لأنه تعود على التسيب، فلذلك يحتاج الإنسان إلى تقوية عزماته ومتابعةٍ لها في تربيته الروحية، ونظير هذا في تربيته لأولاده، فالأولاد الصغار يحتاجون إلى التربية الروحية بأبلغ وأقوى مما يحتاج إليه الكبار.
القسم الثالث من أقسام التربية: التربية البدنية، وما أحوج الأولاد الصغار فيها بالعناية بصحتهم ونظافتهم، وبتغذيتهم مما أن كان حلالاً طيباً، فإن التغذية إذا كانت من حرام كان العمل حراما، و (كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به )، ولذلك جاء في الأثر: كل ما شئت فمثله تعمل، واصحب من شئت فإنك على دينه، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ[البقرة:172]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا[المؤمنون:51]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك).
فلهذا تحتاج التربية البدنية إلى العناية بأصلها، وأن يكون من حلال، وأن يكون موافقاً للشرع، فلا إسراف ولا تقتير، كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا[الفرقان:67]، وهذا القوام هو الذي يحتاج إليه الإنسان، في كل أحيانه وأوقاته، فهو داخل في إطار الاعتدال والتوازن، الذي هو ميزان حياة المسلم كلها.
إن هذه التربية بأنواعها الثلاثة تمر بثلاث مراحل أيضاً:
المرحلة الأولى: يكون الولد فيها غير مشارك فيها أصلاً، فهو غير مخطط ولا منفذ، بل يخطط له والداه وينفذان عليه، أو من يربيه مطلقاً، وحينئذٍ يتلقى تربيته من ثلاث مؤسسات، هي البيت، والشارع، والمدرسة. البيت الذي يعيش فيه بين أبويه، والشارع أي من يخالطهم من المجتمع، والمدرسة التي يتلقى فيها تعليمه، فهذه ثلاث وسائل للتربية في المرحلة الأولى التي الإنسان فيها غير مشارك في تربية نفسه لا مخططاً ولا منفذاً، وهذه المؤسسات إذا لم يكن لها هدف واحد، ولم تكن منساقة بقصد تربيته ونفعه كان ذلك غايةً في الضرر.
إن ما ينتشر في مجتمعاتنا من الأمراض النفسية، ومن انفصام الشخصية، ومن الفجور والفسوق؛ أكثر أسبابه عدم الانسجام بين المؤسسات الثلاث في تربية الإنسان، فيسمع في البيت شيئاً، ويسمع في الشارع ما يخالفه، ويسمع في المدرسة رأياً ثالثاً، فيكون كما قال الشاعر:
تكاثرت الظباء على خراش فلا يدري خراش ما يصيد
مع أن الأصل وحدة المرجع الذي يتلقى منه الإنسان معلوماته، والمسلمون لا ينبغي أن تتشتت بهم الآراء، فقد وحد الله مرجعهم وهو هذا الوحي المنزل من عند الله، فلا خير فيما لم يأتِ به الرسول صلى الله عليه وسلم، والخير كله محصور فيما جاء به، فما كان مما تجده في البيت موافقاً لشرع الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فأنعم به وأكرم وخذه، وما تجده في الشارع موافقاً لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كذلك، وما في المدرسة مما يوافق ما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كذلك، وما خالفه فلا بد أن يرمى به عرض الحائط إذ لا خير فيه. لكن المشكلة أن الأولاد الصغار لا يحسنون الانتقاء ولا الاختيار، فلا بد أن يختار لهم الإنسان كل شيء، كما تختار لهم ألوان ملابسهم، وأنواع مطاعمهم، وأوقات نومهم، واستيقاظهم، لا بد أن تختار لهم كذلك وسائل علمهم، وأصحابهم الذين يخالونهم ويخالطونهم، وأن تختار لهم من يحاذيهم، ومن يعايشهم من الناس.
إن مسئولية الآباء والأمهات في هذه المرحلة عظيمة جداً، فالبيت هو المحضن الأول، وليس كل الناس يتلقون شيئاً في المدارس، ولا نقصد هنا المدارس النظامية وحدها، بل نقصد من المدارس مكان التعليم مطلقاً، فالبيت هو أخطر هذه المؤسسات الثلاث؛ لأن الإنسان يركن إليه ويستقر فيه أكثر مما يسقر في الأماكن الأخرى، ويتلقى منه أصوله التي عليها يبني كل تصوراته؛ فلهذا لا بد أن يكون البيت مسلماً حتى يخرج ثمرةً طيبة.
فإذا كان البيت مخالفاً للإسلام؛ تعامل الأب مع الأم غير شرعي، تعامل الأم مع الأب غير شرعي، ينتشر في البيت الكذب، وأكل الغيبة، وأكل الحرام؛ فلا يستقيم أهله على حال، كل أوقاتهم خصام ولعان وسباب، كيف يكون الولد ثمرة طيبة، وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا[الأعراف:58].
فلذلك إذا أردت أن تصلح أولادك فأحسن تعاملك مع أهل بيتك أولاً، فإن الأولاد إذا رأوا منك أنك لا تكذب، وأنك لا تدخن، وأنك لا تتعامل بالربا، وأنك لا تأكل الغيبة ولا تؤكل في بيتك، وأنك لا يدخل بيتك إلا الصالحون، ولا تخالط وتصاحب إلا من فيه خير، وأنك تعامل أهلك باحترام، وتؤدي إليهم الحق الذي لهم، وأنك تتغاضى عن بعض حقوقك وتحلم، فإنهم سيتعودون على هذه الأخلاق، وإذا رأوا منك خلاف ذلك، فرأى منك الأولاد الصغار أفعالاً مخالفة للشرع؛ فلا شك أنها ستنطبع فيهم، وسيحاكونها محاكاة الببغاء.
ولذلك إذا رأيتم من يدخن وهو كبير، وهو يعلم أن هذا التدخين مضرة ببدنه، وبدينه، وبالآخرين، وأنه خلق ذميم مزدري في حق الكبار، فاعلموا أن ذلك كان في وقت ضعفٍ منه، أخذ تقليداً هذه العادة الذميمة، فلا يمكن أن يأخذ الإنسان عادةً ذميمة في وقت قوته؛ لأنه الذي يقتدي به الآخرون في وقت القوة، أما في وقت الضعف فينساق وراء كل أحد، ويعطي زمامه كل أحد، كالجمل الضخم الكبير الذي يقوده الصغير، وَذَلَّلْنَاهَا لَهمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ[يس:72].
إن انسياق الإنسان وراء العادات التي هي خطر عليه وضرر به، إنما يكون في وقت ضعفه، والولد الصغير ينساق وراء كل عادة، فيتكلم بالكلمات النابية إذا تكررت على سمعه، ولذلك قال أهل العلم:
الأذن كالوردة مفتوحة فلا تمرن عليها الخنا
فإنه أن تروي جيفة فاحذر على الوردة أن تنتنا
فالأذن إذا مر بها الكلام القبيح، وهي وردة مفتوحة من صنع الله وفضله ورحمته، فتكرر عليها الكلام القبيح انتنت، كالورد إذا تعفن.
وكذلك الجوارح كلها إذا كانت العين لا ترى إلا ما هو طيب موافق للشرع فستتعود على ذلك، وإذا رأت ما يخالف اشمأزت منه ونفرت، وهكذا في كل الجوارح.
إن مما تعود عليه سلف هذه الأمة الصالح أن الولد إذا ولد يسمعونه الأذان، فيكبرون في أذنيه، ويرفعون الشهادتين؛ ليكون أول ما يسمع طيباً، فالأذن تسمع الكلام الطيب أول ما يوضع الجنين، وأول ما ينفتح سمعه يسمع: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، وهذا الرمز ينبغي أن يسير عليه الإنسان في مدة حياته كلها، ثم يعود من صباه ومن بدايته على أن لا يرتضع إلا لبناً نشأ عن حلال، فإذا كانت الأم تأكل الحرام، أو كانت لها شلة من الزميلات الفاسدات، اللواتي لا يُطمأن إليهن في الدين ولا في الخلق؛ فإن ذلك لا بد أن يسري إلى ولدها.
ولهذا فإن أبا محمد الجويني رحمه الله فكر أن يترك ولداً صالحاً يدعو له ويكون وعاءً من أوعية العلم، فعمل بنفسه في كسب الحلال، حتى أحرز نقوداً ثم أرسل بها إلى بلاد الشراكسة، فاشترى بها أمةً من تلك الديار التي هي أحدث بلد فتح إذ ذاك، فلم تتداولها الأملاك، ولم تتعلق بها أية شبهة حرية، فأتى بها فعلمها حتى أحسنت أمور دينها، ثم أعتقها، ثم تزوجها، ثم أغلق عليها غرفةً خاصة بها، وكان لا ينفقها إلا من كسب يده من حلال، ثم أنجبت منه ولده أبا المعالي الجويني ، وكان ذات يوم في الصلاة وكان يمنعها أن تخالط النساء طيلة الإرضاع مدة إرضاعه، فكان في أثناء الصلاة فرأى امرأةً دخلت البيت، فلما سلم خرج مسرعاً فوجد المرأة قد ألقمته ثديها ترضعه، فانتزعه منها ورفع رجليه، وعصره حتى أذهب ما في بطنه، حتى تقيأ ما في بطنه، وكان أبو المعالي بعد ذلك يقول: تأخذني نبوة أو كبوة عند المناظرة لا أراها إلا من تلك المصة؛ لأن تغذيته الأخرى كانت من حلال، فكانت من تلك المصة التي لا يعرف من أين أتت.
كذلك فإن تربية الأولاد في هذه المرحلة في المجال الروحي: بإحسان الأدب مع الله، وبتمام توحيده، والتوكل عليه، وبالتعود على الثناء عليه، وعلى دعائه يقتضي منهم أن لا يتعلقوا بالمخلوقين، فالتعلق بالمخلوقين نقطة ضعف لدى الإنسان، عندما يضعف الإنسان وتضعف شخصيته يبحث عند الآخرين، يلتمس الرزق من المخلوقين، يريد منهم وسائط ووسائل من دون الله، لكن إذا قوي إيمانه بالله، وتعود من صباه على أنه عبد لله الواحد القهار، وأنه لا أحد يملك له نفعاً ولا ضراً إلا الله فإنه لا يمكن أن يلتمس من غير الله شيئاً، وسيتعود أيضاً على عدم الخوف من غير الله، وعدم الخنوع والمذلة لغير الله، وعدم الاستجابة للضغوط التي يوجهها، إذا كانت في خلاف مرضاة الله.
الذين يملكون الدول والأسلحة والجيوش، ومع ذلك يذلون ويكونون في أخنع المواقع، ويستجيبون لأقل الضغوط، وينساقون وراء الكفرة في كل المواقف، ينشأ لهم ذلك عن سوء تربيتهم، وعدم صلتهم بالله سبحانه وتعالى وعدم توكلهم عليه، فهم يملكون الجيوش، ويملكون الأموال الطائلة، والناس تتسارع في خدمتهم، والاستجابة لأمرهم، وهم مع ذلك أسفل السافلين، وأذل الأذلين، يتواضعون للكفرة أعداء الله من اليهود والنصارى الذين لا خير فيهم، لا لأنفسهم ولا لمن سواهم، وهم أذل الناس، وأشدهم مهانة، وهم أخس عند الله من دود العذرة، ومن فيروس السيداء، وغير ذلك من سائر الخلائق، فلا أحد أذل ولا أخنع ممن يذل للكفرة أعداء الله، من يتذلل لليهود والنصارى، هو أذل وأخنع الخلائق عند الله عز وجل؛ لأن هؤلاء هم الذين كتب الله عليهم الذلة والمسكنة، ولهذا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَهمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ[المائدة:51-52].
إن تربية الإنسان على صلته بالله في صباه مقتضية منه لتمام التوكل عليه، وإذا جاءه أي أمر رفعه إلى الله، ولم يتعلق قلبه بالمخلوق، كما قال المكودي رحمه الله:
إذا عرضت لي في زماني حاجة وقد أشكلت فيها علي المقاصد
وقفت في باب الله وقفة ضارع وقلت إلهي إني لك قاصد
ولست تراني واقفاً عند باب من يقول فتاه سيدي اليوم راقد
وكما قال الشيخ محمد علي بن عبد الودود رحمه الله:
إني وإن كنت محتاجاً لمحتاج لخير من ترتجى من عنده الحاج
فمنه أطلب حاجي دون واسطة تكون مثلي كما أحتاج تحتاج
ويقول رحمه الله:
لا آمل الناس في سر ولا علن في حالتي ثروة مني وإفلاس
ولا أرى الرزق إلا عند خالقه ولا أضيف أمور الله للناس
فإذا تعود الإنسان على هذا من صباه ونشأته، فلا يمكن أن يستجيب للضغوط، ولا يمكن أن يحس بالمهانة والمذلة، وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا[النساء:45].
يحدثنا الشيخ أحمد زروق رحمه الله عن تربية جدته له، فقد ماتت أمه عند ميلاده، ومات أبوه وهو حمل، فأخذته جدته لأبيه وربته، فيقول: إنها عودته على دعاء الله من صباه، فكان يتعود على إكثار الثناء على الله ودعائه من صغره، يحدث أنها كانت إذا طبخت طعاماً، أو أعدت خبزاً جعلته تحت طرف الفراش، فإذا جاع قالت له: نحن لا نملك شيئاً وإنما يملكه مالك السموات والأرض، فتعال بنا نتوضأ ونحسن الوضوء، ونصلي لله ونسأله طعاماً، فتعلمه الصلاة فيصلي معها النفل، ثم تمد يديها إلى الله وتلهج بالدعاء وتبكي، ويتعود الولد على ذلك، ثم تقول: تعال نرفع الفراش لعل الله قد استجاب لنا، فيرفعون الفراش فإذا تحته الطعام، وهكذا في الملابس والدنانير، والدراهم، عودته على هذا حتى كان بعد ذلك إذا عرضت له أية حاجة تذكر أن يرفعها إلى الله عز وجل.
ولذلك كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم يسألون الله حوائجهم كلها في الصلاة، فكان عروة بن الزبير يقول: أسأل الله كل شيء في صلاتي حتى الملح للطعام، فيقول: أنا لا أكتم الله شيئاً من أمري، وأعلم أن كل شيء لديه، فلذلك أسأله كل حوائجي حتى الملح للطعام إذا نقص، فهذا من تمام إحسان التعامل مع الله سبحانه وتعالى أن ترفع إليه الحوائج كلها، ولذلك يقول الحكيم:
لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
فالله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
فإذا كان الإنسان متعوداً على هذا من صباه وصغره، فإنه سيستصحب هذا الحال في كبره، لا يزداد في كبره إلا المحافظة على فطرته؛ لأنها فطرة راسخة في النفس، ثم ساعدها التربية، ثم شهدت لها شواهد النقل والعقل فاستمر الحال عليها.
وكذلك تعويده في التربية الروحية أيضاً في الصبا على الكرم والجود، فلذلك كان كثير من السلف إذا أرادوا أن يتصدقوا على بعض الفقراء، أخذوا أولادهم فأعطوهم الصدقة، وأمروهم أن يذهبوا وأن يعطوها لمن يجدون من الفقراء، فيعودوهم على أن يكونوا من ذوي اليد العليا، التي هي خير من اليد السفلى، وأن يكونوا من الذين يمدون أيديهم بالخير، ولا يمدون أيديهم لاستقبال ما لدى الناس، فتعويد الأولاد على هذا من الأمور النافعة لهم، ولذلك فأعرف في بعض المجتمعات الإسلامية اليوم في بعض الأسر المسلمة المحافظة، في كل يوم من الأيام يعطى كل ولد من الأولاد مصروفاً من النقود، وهذا المصروف قد عود الولد على أن يتصدق به وأن يوثر به، ليتعود الإثار فيقال له: هذه النقود يحتاج إليها الطلاب في المدرسة، فإذا رأيت أحد الطلاب ليس له نقود فآثره على نفسك بها، وإن لم تجده فضعها في صندوق الصدقات، الذي تجده عند باب المدرسة، فيتعود الولد على الإيثار، ويعيش هذه الحياة الكريمة لا يجد نفسه مائلةً إلى الدنيا، ولا طامعةً في أحدٍ من أهلها.
كذلك فإنه محتاج أيضاً إلى العناية بأخلاقه، حتى لا يكتسب خلق ذميماً، سواءً تعلق الأمر بالإفراط أو بالتفريط، فالأخلاق الذميمة منها ما يكون إفراطاً، كالإفراط في مخالطة الناس جميعاً، فمن الناس من يكون مفتوحاً في تعامله مع كل البشر، وهذا لا شك خلق ذميم؛ لأنه يؤدي منه إلى وجود التناقضات، وهو لم تتكون شخصيته بعد، فيقتضي ذلك منه تناقضاً وميوعة. وكذلك في مقابل التفريط في مخالطة الناس والانطوائية والإنزواء، خلق ذميم أيضاً فالإنسان الذي لا يتعود على الجلوس مع الرجال مع الناس ومخالطتهم، وإنما يتعود على آل بيته فقط، ضعيف الشخصية، ناقص التكوين تربيته ناقصه، فلهذا لا بد من تعويد الأولاد وتربيتهم في بداية نشأتهم على الاعتدال في المخالطة، في مخالطة الناس، بعدم الانزواء المطلق، وبعدم الانفتاح في المخالطة.
وكذلك في التربية الروحية أيضاً: لا بد من تعويدهم على التعبد في صباهم، وأذكر رجلاً حدثني أنه جاء إلى هذه المدينة، وقد كان من أهل البادية، قال: أتيت مدينة باشوك، وأنا إذا نمت عن قيام الليل استيقظت خائفاً وجلاً كأن الشمس قد طلعت من مغربها، لما تعودت عليه، وما هي إلا سنوات قليلة في باشوك حتى أصبحت أنا أنام عن الوتر، فهذا الحال ينبغي أن يتعود عليه الأولاد، أن يتعودوا على أن الإنسان إذا نام عن قيام الليل فقد أصيب برزية، وإذا فاتته ركعة من الصلاة فقد أصيب ببلية عظيمة، وهذا الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعود عليه أصحابه، فقد أخرج مالك في الموطأ، عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله )، وفي رواية ( كأنما وتر أهله وماله ).
فلا بد أن يعلم الإنسان أن فوات صلاة من الصلوات رزية ومصيبة ما مثلها رزية.
كذلك من ناحية التربية العقلية: لا بد من البداية بتحبيب الأولاد لمن يعلمهم، وتحبيب العلم لديهم، فإذا كان الأولاد لا يعرفون العلم إلا من تلقاء من يلوي آذانهم ويضربهم بالعصي، ويربطهم بالحبالة، ويعاقبهم بأشد العقوبة، ولا يسمعون منه إلا كلاماً نابياً، كيف يحبون العلم، وهذه طريقة لا بد أن يتعود عليها الناس وهي أن الأولاد لا بد أن يحبب إليهم العلم، وأن يزين في نفوسهم، وأن يكون ذلك بالحوافز الكثيرة، سواءً كانت تلك الحوافز مادية أو معنوية، فلا بد أن يشكر من عمل صالحاً منهم، من أحرز علماً، من حفظ قرآناً، لا بد أن يشجع بالثناء عليه والدعاء له، وبالإهداء له، يهدي له والداه ويثنيان عليه ويقدمانه، فهذا من الحوافز النبوية التي كانت معروفة في الصدر الأول، فقد حدثنا عمر بن سلمة رضي الله عنه أنه كان طفلاً في أهله، وكانوا أهل بادية، فكان لا يأتي راكب ولا أحد من المدينة إلا استقبله فسأله عما أنزل من القرآن فيحفظه، فلما جاء وفدهم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يرتبوا للإمامة أحفظهم لكتاب الله، فكان هذا الولد الصغير أحفظهم لكتاب الله فقدموه، وهذا تحفيز عجيب لهذا الولد الصغير حين علت همته أعطي هذا التشجيع بالإمامة للناس جميعاً، يصلي خلفه أبوه، وأعمامه، وأخواله، والناس جميعاً، ليكون ذلك تشجيعاً له على الازدياد من الخير، فقالت امرأة من نسائنا: ( غطوا عنا سوأة إمامكم. فاشتروا لي ثوباً، فما فرحت بشيءٍ بعد الإسلام فرحي بذلك الثوب )، اشتروا له ثوباً تشجيعاً له أيضاً على حفظه للقرآن وإمامته للمسلمين.
وهكذا تشجيع رسول الله صلى الله عليه وسلم لـابن عباس على العلم، فقد كان يدعو له بالدعوات المستجابات، وقال له ذات ليلة: ( اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل )، حين أعجبه أدبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أمسك بمنكبه وبأذنه يريد أن يساويه في الصف، فتأخر ابن عباس ، فلما سلم قال: ( ما لي أقدمك فتتأخر؟ قال: كيف أساوي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال: اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل، قال: فضمني ضمة )، هذه الضمة، تكفي وحدها بركة وتشجيعاً ضمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ثم دعا له بعد ذلك بأن يفقهه الله في الدين، وأن يعلمه التأويل، وقد كان عمر بن الخطاب أيضاً يشجعه بعد هذا، فقد عينه عضواً في مجلس شورى الأمة الإسلامية، وعمره ثلاث عشرة سنة، تشجيعاً له على همته العالية، ولذلك يحدثنا عن نفسه، قال: ( لما قبض الله رسوله صلى الله عليه وسلم كنت إذ ذاك ابن عشر سنين، فذهبت إلى لدة لي من الأنصار، فقلت: إن الله قد قبض رسوله صلى الله عليه وسلم وإن علمه في أصحابه، فتعال بنا نجمع علم رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلنا نسد مسداً لأمته تحتاج إليه، فقال: ومتى يحتاج إلينا دعنا نلعب، فذهبت وتركته )، فكان ابن عباس يتعلم من كبار الصحابة حتى حفظ العلم الشرعي، وأصبح مبرزاً فيه مقدماً على غيره، ولذلك يقول فيه أحد الصحابة:
بلغت لعشر مضت من سنيك ما يبلغ السيد الأشيب
فهمك فيها جسام الأمور وهم لداتك أن يلعبوا
ويقول فيه حسان بن ثابت رضي الله عنه:
إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه رأيت له في كل محمدة فضلا
إذا قال لم يترك مقالاً لقائل بمنتظمات لا ترى بينها فصلا
كفى وشفا ما بالنفوس فلم يدع لذي إربة ذي القول جداً ولا هزلا
كذلك فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شجع ابنه عبد الله بن عمر في طلب العلم تشجيعاً عجيباً، فقد أخرج البخاري و مسلم في الصحيحين، من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في مجلسٍ، فجيء بجمار نخلة، فقال: ( إن من الشجر شجرةً لا يتحات ورقها، وإنها مثل المؤمن، فأخبروني ما هي، وفي رواية: فحدثوني ما هي، فوقع في وهلي أنها النخلة، ولكني رأيت الكبار فسكت فضرب الناس في شجر البوادي، ثم قالوا: يا رسول الله! ما هي؟ فقال: هي النخلة. فلما خرجنا قلت لـعمر : لقد وقع في وهلي أنها النخلة، فقال: لو قلتها لكان أحب إلي مما على الأرض من حمر النعم )، فـعمر يشجع ولده على المبادرة بالعلم، وأن ينجح في امتحان رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس في العلم.
وقد عقد البخاري رحمه الله باباً لهذا الحديث، وهو باب سؤال العالم في العلم، أي امتحانه لطلابه في العلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الناس هنا عن هذه الشجرة، وعقد له باباً آخر وهو باب حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا واحد؛ لأن الحديث فيه رواية: ( فحدثوني ما هي )، وفي رواية: ( فأخبروني ما هي )، فاستدل البخاري بهذا على أن: حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا بمعنى واحد، وأهل الحديث يفرقون بينها في الاصطلاح.
و البخاري رحمه الله لم يذكر الرواية التي فيها: ( فأنبئوني ما هي )، وإنما قال: ( فأخبروني ما هي )؛ ليمتحن أيضاً طلاب الحديث إذا قرءوا الصحيح كيف يجدون وجه الاستدلال من هذا الحديث؛ لأنه وجه خفي لا يطلع عليه إلا من يعرف روايات هذا الحديث.
كذلك فإن تعويد الأولاد على الحفظ في هذه السن من أهم ما يربون به بالتربية العقلية، فالحفظ في الصغر لا يزداد إلا نقصاً، كلما ازدادت بالإنسان السن وتقدمت به، كلما نقصت ملكته في الحفظ، فإذا حفظ القرآن صغيراً، وحفظ الحديث صغيراً، وحفظ الفقه صغيراً، وحفظ اللغة صغيراً، كان بعد ذلك مستطيعاً للتفهم والتدبر، وأصبح في كبره قد ملك مفاتيح العلوم، واستطاع حينئذٍ بمجرد التدبر القليل، والتذكر اليسير، أن يستوعب ما حفظه من النصوص، فالحرص على الحفظ في الصبا أولى من الحرص على الفهم دون حفظ.
كذلك فإن من أسس التربية العقلية للصغار: أن يعودوا أيضاً على تنمية الملكات بأن يشركوا في المسابقات المختلفة، وقد كان الناس في هذه البلاد في كل ليلة يمنعون الصبيان من النوم قبل العشاء، فيقيمون لهم المسابقات في إعراب القرآن، وإعراب الشعر، وغير ذلك، وتعرفون الطريقة التي ابتكرها الشيخ محمد ولد المامي رحمه الله لتعليم الأولاد على التمييز والإعراب، وهي التي تسمى بتمييز المامي، وهي طريقة جيدة جداً يتعود بها الأولاد الصغار على فهم العربية وأسسها، فمثلاً إذا قرأت الأم على أولادها: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ[الإخلاص:1]، هذه آية من كتاب الله، فتقول: ميزوها، فيقول الولد: (قل) فعل، فتقول: أي أنواع الفعل، فيقول: فعل أمر، فتقول: هل هو معرب أو مبني؟ فيقول: مبني، فتقول: على حركة أم على سكون فيقول: بل على سكون؟ فتقول: كم هي من سؤال؟ فيقول: لا سؤال فيه؛ لأنه مبني على الأصل، والسكون هو الأصل في البناء، فتقول: وأين فاعله؟ فيقول: ضمير مستتر، فتقول: وما تقديره؟ فيقول: أنت.
ثم بعد هذا: (هو)، فتقول: ما تمييزها؟ فيقول: اسم، فتقول: أي أنواع الاسم؟ فيقول: ضمير، فتقول: للمتكلم، أو للمخاطب، أو للغائب؟ فيقول: للغائب، فتقول: هل هو معرب أو مبني؟ فيقول: مبني، فتقول: على الحركة أم على السكون؟ فيقول: على الحركة، فتقول: كم فيه من سؤال؟ فيقول: ثلاثة، لمَ بني، ولمَ حرك، ولمَ كانت حركته فتحة؟ فتقول: أجب عن الأسئلة الثلاثة، فيقول: بني؛ لشبهه بالحرف، الشبه الوضعي، وهو سبب بناء الضمائر كلها، وحرك من أجل التخفيف، وكانت الحركة فتحة، تخفيفاً أيضاً؛ لأن آخره حرف علة، يصعب النطق به.
ثم بعد ذلك تتجاوز هذا الضمير فتصل إلى ما بعده، فتقول: ما إعرابه؟ فيقول: إعرابه الرفع، فتقول: هل هو لفظي، أو تقديري، أو محلي؟ فيقول: بل محلي، فالإعراب اللفظي: هو ما كانت علامته ظاهراً، والتقديري: هو ما إذا كان اللفظ معرباً، ولكن آخره حرف علة لا تظهر عليه حركات الإعراب، والإعراب المحلي: هو ما إذا كان الاسم مبنياً، أو كان الفعل مبنياً، ولكنه في محلٍ لو حله معرب لظهر عليه ذلك الإعراب، فيقول: هذا إعراب محلي، فتقول: أي محل هنا؟ أي محل محله؟ فيقول: هو مبتدأ.. وهكذا حتى يأتي على الآية كلها.
فهذا النوع يسمى تمييز المامي، وهو يشمل النحو، والتصريف، وقواعد مفردات اللغة، والاشتقاق، وغير ذلك من العلوم، وقد تعود به الأولاد في صباهم وصغرهم على إتقان اللغة العربية والتعود على فهم كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا من العادات الحميدة التي كانت سائدة في هذا المجتمع، ولا بد من إحيائها والرجوع إليها، وإعادتها من جديد.
ثم بعد هذا لا بد أيضاً في تربيتهم العقلية: من تعويدهم على ملكة التلقي، أي التأدب مع من يأخذون منه، وأن يعودوا الجلوس مع أهل العلم، سواء ًكانوا أحياءً أو كانوا في كتبهم قد ماتوا، فالتعود على احترام الكتب، واحترام قراطيسها، وأوراقها، وكيف يفتحها الإنسان، وكيف يحافظ عليها، كيف يحترمها، والتعود على التعامل مع الألواح، وعلى التعامل مع العلماء كل ذلك من الدين الذي علمه جبريل ؛ لأنه عندما قدم دخل فسلم، ثم تجاوز حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقد كان يلبس لباساً أبيض، وقد كان مغتسلاً لا يرى عليه أثر السفر، فدل هذا على أن الأدب مع أهل العلم أن يكون الإنسان هكذا، أن يجلس حيث ينتهي به المجلس، وأن يجلس متمكناً متربعاً، وأن يضع يديه على ركبتيه، تواضعاً لمن يأخذ منه، وأن تكون هيئته حسنة بحسن ملابسه ونظافته؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى على أشج عبد القيس فقال: ( إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله )، فإن أشج بن عبد القيس عندما جاء وفده من المدينة، وقد جاءوا من شقة بعيدة وسفر شاق، لم يتمالكوا أن يذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم شوقاً إليه للسلام عليه، إلا الأشج وحده، فقد بقي في رحالهم حتى اغتسل ولبس ملابس جدداً، وتطيب، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسلم عليه، فسأله عن سر تأخره، فإذا هو لم يشأ أن يقدم عليه بملابس السفر، فقال: ( إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم، والأناة )، فهذا الحلم والتأني ينبغي أن يعود عليه الصغار في التعامل مع أهل العلم.
وحتى مع الكتب كما ذكرنا فما هي إلا ألسنة لأهل العلم تتحدث، ولذلك قال المحدثون: من كان في بيته ككتاب الترمذي فكأنما في بيته نبي يتكلم؛ لأن سنن الترمذي فيه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مبوبة تبويباً حسناً، مذكورة العلل، مبينة الشواهد، فكأنما في بيته نبي يتكلم، ويقول ابن هلال رحمه الله:
لنا جلساء ما يمل حديثهم ألباء مأمونون غيباً ومشهدا
يفيدوننا من علمهم علم من مضى وعقلاً وتأديباً ورأياً مسددا
فلا فتنة تخشى ولا سوء عشرة ولا نتقي منهم لساناً ولا يدا
فإن قلت أحياء فلست بكاذبٍ وإن قلت أمواتا فلست مفندا
ولذلك فقد كان أهل هذه البلاد أيضاً يعودون طلاب العلم على الحفاظ على ألواحهم ومحبتها، وعلى الحفاظ على دفاترهم، وطردهم ومحبتها حباً شديداً، وقد مثل ذلك الشيخ محمد بن حنبل رحمه الله، فهو الذي يخاطب لوحه بقصيدته المشهورة، ويجعل له منه صديقاً وصاحباً، وزميلاً يغنيه عن كل الأصحاب ويلهيه عن كل الملاهي، فهذا الحال ليس حال ابن حنبل وحده، بل كان حال زملائه ونظرائه في هذه البلاد إذ ذاك.
وهذا من العوائد الحميدة، فالناس اليوم في المدارس النظامية يدرسون ثم إذا خرجوا من امتحان رموا دفاترهم، وتجد الكتب التي فيها آيات القرآن، وأحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مرمية في الشوارع، وتجد الدفاتر ممزقة بفعل أيدي الذين كتبوها، فهم لا يحترمونها أصلاً. وهذا النقص الأدبي مانع من الاستفادة من العلم، فما لم يكن الإنسان محترماً للعلم الذي يتلقى لا يمكن أن يدرك قيمته، ولا أن يحترمه ويقدره، فلذلك لا بد من تعويد الأولاد على احترام الكتب، واحترام أهل العلم، وتقديرهم، والحرص على أن يكونوا مثلهم.
كذلك فإن من قواعد التربية العقلية: أن يتعود الأولاد أيضاً على التنافس فيما بينهم في العلم، فإذا كان الأولاد يشجعون كما ذكرنا سابقاً على حفظ القرآن وعلى حفظ السنة، وعلى انتقاء المتون، وعلى حفظها، فينبغي أن تقام بينهم المسابقات، وأن يشجع من تفوق منهم فيعطى جائزة مرضية أمام الناس، واستضافة الناس لأن يدعو له ولأن يقرأ أمامهم، كل ذلك مشجع له، فكثير من الناس يعلمون أولادهم ضعف الشخصية، بعدم التعود على القراءة أمام الناس، فبعض حفظة كتاب الله لا يستطيع أحد منهم أن يجلس هنا، أو يقوم على المنبر فيقرأ أمام الناس؛ لأنه لم يتعود على قوة الشخصية، فإذا بدأ يقرأ ارتبك وتصبب منه العرق، واختلط عليه ما يريد قراءته، وسبب ذلك راجع إلى تربية بضعف شخصيته، أما إذا كان عندما جزءً من القرآن تدعى له مجموع كبيرة من الناس ويقام له حفل؛ ليقرأ أمامهم ويتعود على قوة الشخصية، ويعطى جائزة في الملإ ويدعون له، فهذا هو الذي يقوي شخصيته.
ولذلك فإن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله أقاما حفلين عندما ختما سورة البقرة، فنحرا جزوراً، كل واحد منهما نحر جزوراً وتصدق بها، و الحافظ ابن حجر رحمه الله عندما أكمل فتح الباري جمع طلبة العلم في مصر، ومعلميهم وأقام لهم مأدبة طعام أنفق فيها أربعين ألفاً في ذلك الوقت، وهذا مال كثير، لكن هذا الحفل مشهود لأهل العلم ويتدارسون فيه العلم النافع، ويطلعون فيه على قيمة هذا الكتاب، ولذلك انتشر هذا الكتاب، وبعد صيته، حتى قال الإمام الشوكاني عندما طلب منه أن يشرح صحيح البخاري قال: لا هجرة بعد الفتح، يقصد فتح الباري، فالعناية بالأولاد بتقوية شخصياتهم العلمية، واستفتائهم في المسائل التي درسوها ومناقشتها معهم، كل ذلك يقوي شخصياتهم، وكذلك تعويدهم على أن يسألوا عن كل ما استشكلوه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( هلا سألوا إذ جهلوا، فإنما دواء العي السؤال )، فالذي إذا تردد في نفسه أمر لم يستطع أن يسأل عنه، هذا هو العيي العي بعينه، والذي إذا تردد في نفسه أي سؤال، أحسن السؤال فجاء فسأل عنه ولم تضعف شخصيته على أن يسأل، هذا هو الذي يستفيد وينتفع، فإذا عود الأولاد على أن يقدموا أسئلتهم وألا يخافوا فيها، وأن يقدموها بأحسن أسلوب، وأحسن ألفاظ؛ فهذا مما يعين على تمام استفادتهم من العلم.
كذلك في مجال التربية العقلية: لا بد من تعويد الأولاد أيضاً على زيارة محلات العلم، وأوقات الدروس، ورؤية العلماء يشتغلون بالكتب والتدريس، ومزاحمتهم بالركب، ولو لزيارات متقطعة، وقد كان أهل العلم يحملون أولادهم الصغار فيحضرونهم مجالس التحديث، وقد حدث الذهبي رحمه الله: أن أباه حمله على رقبته، فأحضره مجالس الحديث وهو ابن أربع سنين، وذكر كذلك أن عدداً من المحدثين حصل لهم شرف الإجازة، بالحديث قبل أن يدركوا، قبل أن يعقلوا وهم صغار، و السيوطي رحمه الله أحضره والده مجلس الحافظ ابن حجر وهو رضيع، فكان يعد من طلابه؛ لأنه أجازه إذ ذاك بثبته وأسانيده، فتعويد الأولاد على هذا مما يحفز هممهم ويزيدها حرصاً على الحديث، وعلى العلم.
كذلك من أسس تربيتهم التربية الروحية: أن لا تثقل كواهلهم بكثرة الفنون في وقت واحد، بل يؤخذ للولد فنان فقط، فن نهاري، وفن ليلي مثلاً، فيحفظ هذا المتن في النهار وهذا في الليل، أو يتدارس هذا مع من يتدارسه بالنهار وهذا في الليل، ويمكن أن يؤخذ متن ثالث في وقت الإجازات كالخميس والجمعة، أو كإجازات الأعياد، فقد كان الناس في هذا البلد يعطلون للطلاب عن الدرس في شهر رمضان، فيدرسون فيه كتاباً غير الكتب التي هم في درسها، قد كان الناس يقرءون فيه صحيح البخاري وما زال ذلك قائماً في بعض المناطق كمدينة ولاته، فالناس يقرءون في شهر رمضان صحيح البخاري ويختمونه، في المسجد على الملأ، وكذلك في بعض البلدان كتاب الشفاء للقاضي عياض في التعريف بحقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفي إجازات الأعياد كذلك كانوا يحفظون دواوين الشعراء الستة الجاهليين أو المعلقات، فهذه لا تأخذ وقتاً كثيراً، فيحفظها الولد في أوقات الأعياد عندما يعطل، ويأخذ إجازته.
وكذلك فيما يتعلق بالتربية البدنية، لا بد من العناية بنظافة الأولاد، فإذا تعود الأولاد على أن البيت الذي يعيشون فيه ممتلئ ببناء العناكب، وممتلئ بالأوساخ، والمخاط والنخامة على جدرانه، وفراشه غير نظيف تنبعث منه الرائحة الكريهة، وليست فيه أية عناية فإنهم يظنون أن هذا الأمر لا يضر، وأنه المحمود المطلوب، ويتعودون على ذلك، وهذا خلاف الشرع، فإن الشرع حض على النظافة، ونهى عن هذه القاذورات والأوساخ، وكذلك في الملابس إذا عود الأولاد على أن لا يلبسوا إلا اللباس النظيف، وأن لا يلبسوا الثياب المتنجسة بحال من الأحوال، وأن لا يلبسوا الثياب المتسخة بحال من الأحوال، سيتعودون عليها، أما إذا أهملوا كحال الناس اليوم، وهو حال من أحوال البادية التي لا بد من تجاوزها، فإن الرجل يشتري الثوب الجميل فيلبسه أسابيع حتى يشتد وسخه، ولا يفكر في وقت من الأوقات أن من حق هذا الثوب عليه أن يغسله، ولذلك قال العلامة محمد ولد بابا رحمه الله: إنه لا يلوم من لا يملك جملاً، لكنه يلوم من لا يملك نعلاً؛ لأن الحصول على النعل أمر ميسور، ولا يلوم من لا يملك ثوباً جديداً، لكن يلوم من يملك ثوباً متسخاً؛ لأنه بالإمكان أن يغسله، ولا يلوم من لا يملك كتاباً؛ لأنه محتاج إلا نقود، لكن يلوم من لا يملك لوحاً يكتب فيه من الكتاب ويحفظ. فهذه أمور ميسورة بالإمكان أن يمتلكها الإنسان، وأن يوظفها فيصل بها إلى المستوى المطلوب، فإذا أحسن الإنسان تملك ثيابه وكان لا يلبسها نجسة مطلقاً، فهذا الخلق الذميم الذي ترونه، يلبس الإنسان ثوباً نجساً ويأتي به إلى المسجد ثم يخلعه في وقت الصلاة، فيؤذي به المصلين، ويجعله في المكان المشرف العظيم، هذا ليس من خلق الإسلام ولا له صلة به، وهو من الأوصاف الكريهة، والصفات الذميمة التي ينبغي أن تترك بالكلية، وأن تطوى ولا تروى.
وكذلك ما ترونه من الدروشة، ولبس الملابس المتسخة، وبعض الناس يظن ذلك قربة، كله مخالف للشرع، مخالف لدين الله، بل على الإنسان أن يكون نظيفاً، وأن يحافظ على نظافة ملابسه، ونظافة بدنه كذلك.
ومن ذلك السواك والعناية به، فلا بد أن يعود الأولاد الصغار على العناية بالسواك، فهو مرضاة للرب، مطهرة للفم، وهو أبلغ الطيب، فإن أبلغ الطيب أمران: السواك، والاغتسال. ولذلك كان الأقدمون يعدون الماء من الطيب، كما قال الزهير بن أبي سلمى :
ومسك تعل به جلودهم وماء
فعد الماء مثل المسك من الطيب، فلا بد من العناية بالسواك، وتعويد الأولاد عليه، فإذا لم يتعودا على السواك كان أمراً ثانوياً في حياتهم، فأدى هذا إلى انتشار التسوس في أسنانهم، وإلى انبعاث الروائح الكريهة من أفواههم، وإلى عدم عنايتهم بشئونهم الخاصة، أما إذا تعودوا على السواك فإن ذلك مقتضٍ للعناية بمظاهرهم كلها، وهذا أمر ميسور جداً، تعويد الأولاد على السواك إذا استيقظوا من نومهم، وأن يتعودوا على السواك عند كل وضوء، أو عند كل صلاة، كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، هذا مما يعينهم على تربيتهم، ويعينهم على النظافة، ويقتضي منهم عناية بشئونهم الخاصة.
كذلك من تربيتهم البدنية: العناية بأمور صحتهم، فلا بد من تنظيم أوقاتهم لهم، أن يجعل وقت للراحة، ووقت للنوم، ووقت للمذاكرة، ووقت للحفظ، وتكون هذه الأوقات مرسومة، فبالإمكان أن ترسم الأم جدول الولد اليومي، فيحترم هذا الجدول تماماً، يعرف أوقات الصلاة ليس فيها إلا الصلاة، أوقات العلم ليس فيها إلا العلم، أوقات النوم ليس فيها إلا النوم، أوقات الأكل ليس فيها إلا الأكل، وهكذا حتى يتعود على برمجة الأوقات، وعدم ضياع شيء منها.
وكذلك لا بد من تعويد الأولاد على العناية بالصحة، وعدم التعرض للمخاطر التي لا نفع في التعرض لها، ومع ذلك لا بد أيضاً من تعويدهم على الشجاعة والقوة، وعلى عدم الخضوع والمذلة، فقد كانت صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تضرب ابنها الزبير بن العوام ، حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتيم عندها، فكان أعمامه يرون أنها إنما تضربه بغضاً له، فقالت:
من خالني أبغضه فقد كذب
وإنما أضربه لكي يلب
ويهزم الجيش ويأتي بالسلب
فحقق الله لها ذلك وكان الزبير يوزن بألف، وهو حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعويد الأولاد على الشجاعة في صباهم وتعويدهم على الصبر والتحمل، من أهم ما يحتاجون إليه في أبدانهم، وقد كان الناس في هذه البلاد يمتحنون الأولاد بحل عقد الحبال، فالحبل إذا عقد عقدة ومضى عليها سنة، يصعب حلها، فيعودون أولادهم يمتحنونهم بحل الحبال، وكذلك ببعض ما فقدناه من شأن البادية من السقي والرعي، وغير ذلك من الأمور الشاقة، فقد كانوا يمتحنون أولادهم بذلك ويعودونهم عليه، ولذلك ذكر أن الشيخ سدي سلم عليه ولده سدي محمد -وهو ولده الوحيد، ليس له ولد ولا ملك سواه- فلما صافحه، إذا يده لينة ناعمة، فذكره الشيخ سدي أن اللين الناعم من الحطب تسرع فيه النار، ففهم الولد هذه الإشارة، وخرج إلى واد، فاشتغل فيه بيده قطع الشجر، وفلح الأرض، وزرعها، ورعى الزرع حتى استخرج ما فيه من الحبوب، ثم تصدق بهم في سبيل الله، ثم جاءه وقد تقشرت يداه من العمل، فسلم عليه فإذا يده قد قويت وتقشرت من شدة العمل، فقال: هذه الآن أيدي الرجال.
فهذا التعويد ينبغي أن يتعود عليه الناس أن يعودوا أولادهم على عدم الرفاهية، وأن يكونوا من أهل العمل والإنتاج، وأن لا يكونوا من أهل الاتكالية.
كذلك فيما يتعلق بتربيتهم البدنية، ينبغي أيضاً أن يعودوا ما يحتاجون إليه من الحرف، والناس اليوم يعلمون أولادهم تشغيل الكمبيوتر للألعاب، والأولى بهم أن يعلموهم تشغيله للبحث العلمي، كتخريج الأحاديث، والبحث عن الوسائل الفقهية، فكل ذلك يزيد مهارتهم واكتشافاتهم، وأيضاً بدل الألعاب التي لا تفيد ينبغي أن يلعب على الألعاب النافعة، كركوب الخيل، والإبل، ونحو ذلك، وقد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رسالته إلى أهل أذريبجان: انزوا على الخيل نزواً، ولا تتخذوا الركب التي تتخذها الأعاجم، والبسوا الأزر، ولا تلبسوا السراويلات، والبسوا النعال، ولا تلبسوا الخفاف، وتقلدوا السيوف، وتنكبوا القسي، واتخذوا العصي، فإنها سنة أبيكم إبراهيم .. إلى غير ذلك مما كتبه عمر رضي الله عنه.
فهذا من أوصاف الرجولة، والشهامة والقوة، وإذا عود عليه الأولاد الصغار، وتعودوا على الخشونة، فإن ذلك يقتضي منهم زيادةً في الصبر والتحمل، وهذا ما يحتاجون إليه في كل شئون حياتهم.
مع كل هذا الذي ذكرناه في التربية، لا بد أن توضع خطة لتصعيد الولد وترقيته، ولا يتم ذلك من خلال إنسان عادي، فالأم العادية الغير المتعلمة، أو الأب غير متعلم لا يمكن أن يضع خطةً لتصعيد ولده، وتنميته وتربيته، فلا بد أن يستشار في هذا أهل الاختصاص، وقد كان السلف يعتنون بطائفة من المعلمين كانوا يسمون بالمؤدبين، وكانت حرفة ومهنة في أيام بني أمية، وأيام بني العباس، فلان مؤدب وفلان مؤدب في تراجمهم، وفي وظائفهم المعروفة، وقد كان يختار للتأديب ذوو النباهة والأمانة، والزهد والعفة.
وذُكر عن هارون الرشيد أنه أراد أن يختار مؤدباً لأولاده، فعرض عليه عدد من المعلمين، فاختار من بينهم معلماً لحسن سمته، وكثرة صمته، فكان يعلم أولاده، لكنه لم يكن يكلمهم حتى يسألونه، لكثرة صمته، فتعودوا منه على هذا الخلق الحميد، وخرج مع هارون وأولاده إلى الحج، فلما نزلوا المدينة المشرفة خرج معهم في رحلة استطلاعية في المدينة، فكانوا إذا مروا ببيت سألوه بيت من هذا؟ فيقول: هذا بيت الصحابي الفلاني، وشهد المشهد الفلاني، والبيت دخله النبي صلى الله عليه وسلم يوم كذا، وورد فيه حديث كذا، فمروا ببيت فلم يسألوه عنه، فقال: هذا بيت عاتكة الذي يقول فيه الأحوص :
يا بيت عاتكة الذي أتعزل حذر العدى وبه الفؤاد موكل
فانتبه المأمون إلى أن المؤدب فاتحهم بالأمر وفاجأهم به دون أن يسألوه، وقد عودهم على أن لا يجيب إلا طبق سؤال، وهذه المرة جاء بالجواب قبل أن يسأل، ففهم أن لذلك سبباً، فطلب ديوان الأحوص فقرأ فيه هذه القصيدة، فإذا فيها:
ولا أنت تفعل ما تقول وبعضهم مذق الحديث يقول ما لا يفعل
فأتى أباء الخليفة فسأله: هل وعدت ابن المؤدب بعطية ولم تنجز وعدك؟ فقال: نعم، هل قال لك شيئاً؟ قال: لا، قال: كيف عرفت ذلك، قال: لم يكن يبدأنا بتعليم حتى نسأله، واليوم مررنا على بيت فقال: هذا بيت عاتكة الذي يقول فيه الأحوص :
يا بيت عاتكة الذي أتعزل حذر العدى وبه الفؤاد موكل
ففهمت أن ذلك لأمر، فطلبت ديوان الأحوص فقرأت هذه القصيدة، فإذا فيها:
ولا أنت تفعل ما تقول وبعضهم مذق الحديث يقول ما لا يفعل
فعرفت أنه أراد هذا البيت، فأكرم الخليفة هذا المؤدب، وأجاز ولده جائزة كبيرة، وقدم الولد الجائزة لمؤدبه أيضاً، ونظير هذا ما حصل للمعري بين يدي سيف الدولة الحمداني ، فقد كان سيف الدولة في مجلسه، في وقت خصومته مع أبي الطيب المتنبي ، ومفارقته له، فطعن أهل المجلس في المتنبي ، ونقدوا شعره ووافق سيف الدولة على ذلك، فلما وصل الكلام إلى المعري ، قال: ما تقول أنت يا أحمد ؟! فقال: لو لم يكن لـأبي الطيب من الشعر إلا قوله:
لك يا منازل في المراد منازل أقويت أنت وهن منك أوائل
لكفاه ذلك، ففكر سيف الدولة قليلاً وهو واجم، ثم قال: جروا هذا الأعمى فأخرجوه من المجلس، فقالوا: علام؟ فقال: لم يذكر قصيدة من عيوب شعر أبي الطيب ، وإنما ذكر هذه القصيدة يشير إلى بيت في آخرها وهو:
إذا أتتك مذمتي من ناقصٍ فهي الشهادة لي بأني كامل
لكن سيف الدولة كان فطناً، ففهم أن المعري يريد هذا البيت الذي في آخر القصيدة.
فيحتاج اليوم إلى مربين مدربين، مؤدبين للأولاد يضعون خطةً واضحة للتعلم، والازدياد من التربية في كل مجالاتها.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن ييسر ذلك، وأن يعيد لهذه الأمة مجدها، وأن يعلي كلمته، وأن يعز دينه، وأن يظهر كتابه على الدين كله ولو كره المشركون، وصلى الله، وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
السؤال: صناع في بلدتنا أكثر أهلها مسلمون، يأتيهم الرجل منهم يريد صياغة سوار ليلبسه هو، فما حكم صناعة هذا السوار له؟ وما حكم الأجرة عليه؟ وهل إذا كان من عادة بعض المجتمعات لبس رجالها الأسورة يظل لبسها بالنسبة لهم تشبهاً؟
الجواب: لا يحل له أن يصنع لرجل سواراً يلبسه؛ لأن ذلك من المحرمات، وقد قال الله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ[المائدة:2]، ولا يغني في ذلك جريان العادة على خلاف الشرع، والأسورة مثل هذه القلف، الذي يوضع في اليد، أو مثله أيضاً ما يوضع في العنق من أنواع الحلي للرجال.
السؤال: امرأة أجرت فحصاً طبياً خرج بسببه دم استمر يومين وأكثر، ما حكم هذا الدم، هل تعتبر فيه تمييز بين دم الحيض وغيره؟
الجواب: لا، فإن هذا الدم خرج لسبب، والحيض هو الدم الخارج من غير سبب، فهذا الدم ليس دم حيض، وإنما هو بمثابة الاستحاضة، فلا يلزمها الغسل منه، وإنما تتوضأ، لا تترك الصلاة، تتوضأ لكل صلاة.
السؤال: أسئلة الاختبارات أو المسابقات إذا كانت متعلقة بأحكام شرعية، فهل محل الكلام فيها بناءً على ما علمه الإنسان، علمه شخص من القواعد العامة أو الأحكام المشابهة لعين المسألة، هل يحل الكلام فيها؟
الجواب: إن الإنسان إذا امتحن بالسؤال عن بعض المسائل العلمية، فعليه أن يجيب بمقتضى ما وصل إليه من علمه، ثم بعد ذلك يعيد العلم إلى الله فيقول: والله تعالى أعلم، ويقول: هذا الذي أراه والله تعالى أعلم، ويبين ذلك، وقد كان مالك يقول في مثل هذه الأسئلة: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ[الجاثية:32]، في الأمور التي يجتهد فيها الإنسان.
السؤال: هل يجب برور الوالدين فيما ترجع فيه المصلحة إلى الولد مما لا ضرر فيه عليهما، فيكون رأي أحدهما فيه مخالفاً لرأي الولد، وقد يكون الأمر مما لا يدركانه إدراكاً تاماً، بسبب السن أو غير ذلك؟
الجواب: الله عز وجل أمر بالإحسان إلى الوالدين، قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ [النساء:36]، وقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا[الإسراء:23]، وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا[العنكبوت:8]، فلا بد من الإحسان إليهما.
أما ما يتعلق بالطاعة في جزئيات الأمور، فلم يرد فيه نص صريح بالأمر بطاعتهما في جزئيات الأمر، إلا مفهوم مخالفة لقوله تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا[لقمان:15]، ومفهوم المخالفة ليس قوي الدلالة، فإذا نصحاه بأمر يتعلق به هو، ولا صلة لهما به، فإن كان يتعلق بالإحسان إليهما كاتخاذ أهل، أو نحو ذلك فليبرهما فيه، أما إذا كان يتعلق بتقديم بعض أموره التي لا يطلعان عليها، فلا يجب طاعتهما في ذلك، لكن يجب أن يمره بوجه لا يغضبهما.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك، ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر