إسلام ويب

أهمية العلم والتعليمللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من مهمات الإنسان في هذه الحياة أن يخصص جزءاً كبيراً من وقته لتعلم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله، وقد نص أهل العلم على سبعة شروط لطلب العلم منها: التغرب في طلبه، والتواضع لمن يأخذ الإنسان عنه، والورع، والجوع في وقت الطلب، والمخاطرة، ومعصية الإنسان هواه في طلب العلم، والعمل به. وأفضل الأوقات للطلب هي أوقات الفراغ والراحة، وبالأخص الأوقات المباركة من كل يوم.

    1.   

    منزلة أهل العلم

    بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بُعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:

    فقد سبق أن ذكرنا أن مهمات المسلم في عمره في الحياة الدنيا محصورة في أربع:

    المهمة الأولى: تعلم ما أمر الله بتعلمه.

    والمهمة الثانية: العمل بما تعلمه.

    والمهمة الثالثة: الدعوة إلى ما تعلمه وعمل به.

    والمهمة الرابعة: الصبر على طريق الحق حتى يلقى الله.

    منزلة أهل العلم في كتاب الله

    والمهمة الأولى من هذه المهمات هي تعلم ما أمر الله به، وهي مهمة نبيلة شريفة، جاء في أهميتها عدد كثير من النصوص الصحيحة، وذلك أن الله سبحانه وتعالى عظم منزلة أهل العلم، وأشهدهم على أعظم شهادة بعد أن شهد بها، وأشهد بها ملائكته، فقال تعالى: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ [آل عمران:18]، وأخبر أنهم وحدهم الذين يخشونه حق خشيته، فقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر:28]، وأخبر أنهم وحدهم المؤهلون لفهم كلامه، فقال: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، وحكم لصالحهم على من سواهم في قوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9]، وأخبر أنه يرفع درجاتهم في الدنيا والآخرة، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي المَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].

    ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالازدياد من شيء إلا من العلم، فقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114].

    منزلة أهل العلم في السنة النبوية

    وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كذلك منزلة أهل العلم في عددٍ كثيرٍ من الأحاديث الصحيحة، فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، وأخرج البخاري في الصحيح كذلك من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يُفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله معطي، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)، وأخرج البخاري في الصحيح كذلك من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وأصاب منها طائفة أخرى أمسكت الماء على الناس، فسقوا ورعوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تُمسك ماءً ولا تُنبت عشباً، فذلك مثل من نفعه الله بما جئت به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم ينفعه هدى الله الذي أُرسلت به).

    وأخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الطويل: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده، ومن أبطأ به عمله لم يُسرع به نسبه)، وأخرج أصحاب السنن وأحمد في المسند وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا ملعونة؛ ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وإلا عالماً أو متعلماً، وإن العالم ليستغفر له كل شيءٍ حتى الحيتان في الماء، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب علمٍ رضاً بما يصنع).

    وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل الاشتغال بهذا العلم ودرجة المشتغلين به، فإنه كان يُقدمهم في الصف وفي أمور الدين كلها، فقد أخرج مسلم في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)، وأخرج الشيخان في الصحيحين كذلك من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم سلماً)، وفي رواية: (سناً).

    وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كذلك تفاضل أصحابه في تحمل العلم، فقال: (أقضاكم علي، وأقرؤكم أبي، وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل)، وقد أخرج ذلك الحاكم في المستدرك بإسنادٍ حسن، وأخرج الترمذي بعضه في السنن كذلك.

    وبين صلى الله عليه وسلم أن الذين يتحملون هذا العلم هم شهداء الله في كل عصر وهم عدول ذلك العصر، فقد أخرج الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث وأبو عمر بن عبد البر في مقدمة التمهيد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)، وهذا الحديث صريح في أن الذين يتحملون هذا العلم ويحملونه ويؤدونه إلى الناس هم أمناء الله على وحيه، وهو خير ما في الأرض، ولا يمكن أن يجعله الله بدار هوان، ولا أن يأتمن عليه المفلسين، فالله يختار له من يشاء من كل عصر، والذين يأتمنهم عليه، فذلك دليل على أن الله قد اختارهم لذلك، وقد قال تعالى: يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهمْ الْخِيَرَةُ [القصص:68]، وقال: وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُدًا [الكهف:51]، فهذا يدلنا على أهمية الاشتغال بالعلم والعناية به.

    1.   

    خطورة الإعراض عن طلب العلم

    ومن مهمات الإنسان في هذه الحياة أن يخصص جزءاً كبيراً من وقته لتعلم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله، فإن الإعراض عنه كفر أو مؤدٍ إلى الكفر، فالله تعالى يقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:124-127].

    وقد نص أهل العلم على أن الإعراض عن تعلم ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم رد على الله عز وجل، فمعناه أن الإنسان قد أرسل الله إليه الهداية فامتنع من قبولها وردها على الله، وهذا ما نعاه الله على ثمود إذ قال: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17]، وهذا سبب لتعجيل عذاب الله، فلا يمكن أن يُقبل من المجتمع المسلم أن يكون فيه بعض الشرائح وبعض الفئات التي لا يعنيها هذا العلم، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم غير مرسل إليها، بل لابد أن يُقبل الجميع على تعلم ما أمر الله به، وأن يأخذوا حظهم مما أرسل الله لهم به أفضل الرسل، وأنزل به إليهم أفضل الكتب، ولا يمكن أن يترك أحد نصيبه من هدى غيره، فهو ميراث الأنبياء، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة)، وقال: (إنما ورثنا هذا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظٍ وافر)، و(العلماء ورثة الأنبياء) كما صح عنه صلى الله عليه وسلم في عددٍ من الأحاديث الصحيحة.

    فهذا العلم إذاً هو ميراث الأنبياء، ولا يمكن أن يترك أحد نصيبه منه لغيره، فلابد أن يأخذ بحظه منه.

    1.   

    شروط طلب العلم

    وإذا عرفنا أهميته ولزومه ووجوبه على كل إنسان كان لزاماً علينا بعد ذلك أن نتعرف إلى شروط طلبه وأركان طلبه ثم إلى طرق الحصول عليه وإلى أقسامه وأنواعه.

    أما شروط طلب العلم فقد نص أهل العلم على سبعة منها.

    التغرب في طلب العلم

    الشرط الأول: التغرب في طلبه، أي: أن يخرج الإنسان من بيئته ووطنه لطلب العلم، ودليل ذلك أن الله سبحانه وتعالى لم ينزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم حتى حُبب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك، وأن موسى عليه السلام كذلك ما نال هذا العلم حتى قال: حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف:60].

    وقد عُرف في تاريخ هذه الأمة ما سُمي بالرحلة في طلب العلم، فقد ابتدأه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد رحل أنس بن مالك من البصرة إلى المدينة في طلب حديثٍ واحد، ورحل عبد الله بن أنيس من المدينة إلى الشام في طلب حديثٍ واحد، ورحل أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى مصر في طلب حديثٍ واحد.

    وجاء بعدهم التابعون، وقد اشتهرت رحلاتهم في طلب الحديث وفي طلب العلم، وكذلك أتباعهم من بعدهم، والذين رحلوا هم الذين جمعوا علم هذه الأمة وأحرزوه ودونوه، ولذلك فإن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قالا: "ما بقيت قرية من قرى الدنيا يُذكر فيها الحديث إلا دخلناها"، وكثير من رحلتهما كانا فيه يمشيان على أرجلهما، وليس لهما ما يركبانه، وكذلك مكي بن إبراهيم شيخ البخاري يقول: (كتبت بإصبعي هاتين عن ستين من التابعين، ولو علمت أني يُحتاج إليّ لكتبت عن أكثر).

    وكذلك البخاري نفسه؛ فقد تربى يتيماً فقيراً وعمي بصره وهو في الرابعة من عمره، لكن أمه كانت ذات همة عالية فكانت تجتهد في الدعاء أن يرد الله إليه بصره، فأجاب الله دعوتها فاستيقظ من نومه في صباح يومٍ فإذا هو مبصر، فنذرته لله عز وجل لما رد الله عليه بصره أن يتخصص في طلب العلم، وألا تأخذ شيئاً من وقته على علم الحديث، ومن ذلك الوقت من الخامسة من عمره وهو مشتغل بطلب الحديث إلى أن لقي الله، بعد أن طاف الدنيا كلها في طلب الحديث، وحفظ سبعمائة ألف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عن عددٍ كبير من الشيوخ من مختلف الأمصار.

    ومن عجائب صبره في الطلب أن خرج من العراق على رجليه مسافراً يقصد عبد الرزاق بن همام الصنعاني باليمن، فلما بلغ مكة قيل له: مات عبد الرزاق، فقطع رحلته وكر راجعاً، فلما وصل إلى العراق إلى البصرة قيل له: إن عبد الرزاق حي يرزق، فكر راجعاً أيضاً حتى وصل إلى مكة، فأتاه من نعى له عبد الرزاق، مع أن أحاديث عبد الرزاق كلها عند البخاري بنزول، أي: أخذها من تلامذته، وأحمد بن حنبل وغيرهم من تلامذة عبد الرزاق، لكن علو رتبة الإسناد مطلوب، ولذلك فإنه رحمه الله ليلة موته وهي ليلة عيد الفطر سأل الله سبحانه وتعالى أن يقبضه غير مضيعٍ، فقد ضاقت عليه الدنيا بما رحبت بعد أن طاف آفاق الدنيا في طلب الحديث وجمعه.

    وكذلك كان عدد كبير من الأئمة الذين يُذكرون في هذا الشأن، فإنهم تبعوا في رحلاتهم العلمية التي جابوا فيها أمصار العالم وجمعوا فيها أطراف هذا العلم، وتبوأوا بذلك منازلهم العالية في هذه الأمة، والإنسان ما دام بين أهله وذويه لابد أن يشتغل بأمور دنياه، ولابد أن يضيع كثير من وقته دون أن يحس له بطعمٍ للانشغال بالروتين المعتاد.

    ولا شك أن من كانوا في السجون في مدرسة الشرطة، قد أحسوا أن الوقت فيه امتداد وطول، والأوقات التي كانت تضيع استطاعوا استغلالها، فأحسوا بطول النهار وطول الليل، وهذا ما يحس به الغريب إذا خرج من بيئته ووطنه ولا يحس به الإنسان ما دام بين أهله، ولذلك قال الشاعر:

    الأهل والجهل ساكنان في بلدٍ فاصبر عن الأهل أو فاصبر على الثاني

    تواضع طالب العلم لمن يأخذ عنه

    الشرط الثاني من شروط طلب العلم: التواضع لمن يأخذ الإنسان عنه، فالذي يؤخذ عنه هذا العلم لم ينله إلا بعد عناء وجهد، ولا يمكن أن يضيعه فيعطيه لمن لا يحترمه، ولذلك فإن موسى عليه السلام قال للخضر عليه السلام: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66]؟ فأتى بصيغة الاستفهام: هل أتبعك؟ ولم يأت بصيغة القرار: سأتبعك، ثم قال: (على أن تعلمنِ) وهنا جعل نفسه طالباً مع أنه أفضل من الخضر، (مما علمت رشدا) أي: بعض ما علمت، ومن تبعيضية.

    وكذلك فإن جبريل عليه السلام لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليعلم الناس أمور الدين جاء في هيئة حسنةٍ مرضية، فجاء نظيف الجسم نظيف الثياب كما في حديث عمر في وصفه: (بينما نحن جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ دخل علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه).

    ومن آداب طلب العلم في تواضع الطالب مع شيخه ألا يخاطبه من بعيد، فجبريل اقترب من النبي صلى الله عليه وسلم ليسمع منه عن كثب، وليكون وعاء لكل ما يصدر منه، ولذلك جلس مقابل وجهه واقترب إليه ليسمع كل ذلك بتلهف، وهذا تشريع لنا نحنُ في حال الطلب أن يتعود الإنسان على الاقتراب، وقد كان الناس يزدحمون على الشيوخ في الزمان الأول، فكان لـمالك ثلاثة مستملين يزدحم الناس حوله ليسمعوا منه، والقارئ يقرأ بين يديه، وعند منتهى صوت القارئ مستملٍ يرفع صوته بما يسمع، وعند منقطع صوت ذلك مستملٍ آخر، فإذا انقطع آخر الصوت يسمعه هو الآخر فيصيح به.

    ولذلك جاء جبريل بهذه الصورة الأنيقة وجلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه تأليفاً وانتفاعاً ليصل إليه كل ما قاله، ولئلا يفوته شيء مما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من مقاصد أهل العلم في الطلب، وقديماً يذكره أهل الأدب كما قال الشاعر:

    وإن نطقت ليلى فكلي مسامع

    وكما قال العلامة عبد الله بن محمد بن محمد سالم لما أرسل ولده إلى الشيخ معي ليتعلم منه النحو يقول فيه:

    لمع الهمام اللوذعي الألمعي سر واجمعن علومه في مجمعِ

    وكن الوعاء لما يفوه به معي لا تُفلتنك كلمة من في معي

    ولقد بعثت إليكم ريحانة لي في تشممها المنى ولمن معي

    فالتواضع لمن يأخذ الإنسان عنه معين لاستخراج ما عنده، فالشيخ لم يكن ليرحل إليه في طلب العلم، وليؤخذ منه العلم إلا بعد أن ينصب هو ويتعب، وكما قال الشخصبي رحمه الله:

    ما ابيض وجه باكتساب كريمةٍ حتى يسوده شحوب المطلبِ

    ورع طالب العلم

    والشرط الثالث من هذه الشروط: الورع، وهو اتقاء المحرمات والمكروهات والشبهات، فالمعصية لها ظُلمة في القلب، وبغض في الناس، فصاحب المعصية مظلم القلب يصعب عليه الفهم، ولذلك كان كثير من أهل العلم يستعينون على فهم العويصات بالذكر، وكثير من أهل العلم كانوا إذا استغلقت عليهم مسألة يجلس أحدهم فيكثر ذكر الله ويقول: يا معلم داود علمني، ويا مفهم سليمان فهمني، فيفهمونها بذلك، والله سبحانه وتعالى أرشد إلى هذا فقال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ[الكهف:24].

    ولذلك لابد أن يتورع الطالب عن المحرمات والمكروهات والمشتبهات ليكون وعاءً لهذا العلم الشريف، ويروى عن الشافعي رحمه الله أنه قال: (أتيت مالكاً وقد حفظت الموطأ بمكة، فجلست في طرف الحلقة، فلما انفضت الحلقة بقيت في مجلسه، فنظر إليّ ودعاني فتعرف إليّ وقال: يا بني! إني أرى أن الله قد قذف في قلبك شيئاً من نوره فلا تطفئه بظلمة المعصية).

    وكذلك يروى عنه أنه قال:

    شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي

    وأخبرني أن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي

    وكثيراً ما تكون المعصية سبباً لذهاب نور العلم، وسبباً لذهاب المحفوظات التي يحفظها الإنسان، فكثير من المحفوظات تذهب بها المعاصي، وقد ثبت أن رجلاً أسلم في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فحفظ القرآن كاملاً وكان يقرأ به في المدينة، ثم تنصر، فهرب إلى الروم، فلقيه رجل من المسلمين هنالك، فسأله عما معه من القرآن، قال: ما بقي معي منه إلا هذه الآية: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر:2]، آية واحدة بقيت حُجة عليه من القرآن الذي حفظه بكامله، فطُمس من صدره، ولم يبق منه إلا هذه الآية: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر:2]، ولذلك لابد لطلاب العلم من التورع الزائد حتى لا ينفر هذا العلم من صدورهم.

    الجوع والتقلل من المباحات في وقت الطلب

    الشرط الرابع من هذه الشروط: الجوع في وقت الطلب، والمقصود بذلك التقلل من المباحات، فالإنسان إذا كان مشغولاً بالشهوات المباحة وتتبعها، كل ما اشتهاه اشتراه، فسينشغل بما ينشغل فيه الناس، ولا يمكن أن يأتي بأمرٍ خارق غير معتاد.

    ولذلك يقول أهل الإرادة في تعريف القادة: من ولد ميلاداً عادياً وعاش حياة عادية سيموت موتاً عادياً، ومعناه أنه في المقابل من عاش معاشاً غير معتاد لدى الناس، وأتعب نفسه وغير الروتين السائد، فسيكون موته غير عادي بالنسبة لمن هم في مستواه، فلابد أن يترك أثراً، ولابد أن يكون له ذكر، وقديماً قالوا: البطنة تذهب الفطنة، فإذا اشتغلت أجهزة البدن بالمآكل والمشارب فسيؤثر ذلك على فهم الإنسان وعلى حفظه، ويؤدي به إلى الإخلاد إلى الرائحة وإلى النعاس والنوم، وقد قال الشافعي رحمه الله: ما رأيت سميناً عاقلاً إلا محمد بن الحسن الشيباني، فأكثر العقلاء والعلماء كانوا من أهل النحافة إذ لم يكونوا يشتغلون كثيراً بالمآكل والمشارب.

    المخاطرة في طلب العلم

    والشرط الخامس من هذه الشروط: المخاطرة، أي: أن تهون على الإنسان نفسه في طلب العلم حتى يخاطر في سبيل الوصول إليه، ودليل ذلك أن موسى عليه السلام ما نال العلم حتى ركب البحر في سفينة مخروقة، وهذه المخاطرة تدل على قيمة المطلوب عند الإنسان، فالذي يدرك قيمة اللؤلؤ يغوص في أعماق البحر من أجل الوصول إليه، والذي يدرك قيمة العلم هو الذي يخاطر من أجل الوصول إليه، أما من لا يدرك قيمة هذا العلم فإنه لا يساوي عنده هذه البضائع النفيسة الثمينة، ومن أجل ذلك لا يخاطر في طلبه.

    مخالفة الهوى في طلب العلم

    الشرط السادس: أن يعصي الإنسان هواه في طلب العلم، فالهوى يدعو الإنسان دائماً إلى الإخلاد إلى الرائحة وإلى مخالطة الناس وإلى الإكثار من القال والقيل الذي يشتغل به الناس، وكل هذه الأمور منافية لحفظ العلم وجمعه، ولذلك قال الشاعر:

    قالت مسائل سحنون لقارئها لن تدرك العلم حتى تلعق الصبرا

    لا يدرك العلم بطال ولا كسل ولا ملول ولا من يألف البشرا

    فالذي يخالط الناس لابد أن يذهب الكثير من وقته، ولابد أن ينشغل بما هم مشغولون به، فاهتماماته وأولوياته هي ما يغرق فيه الناس، ومن هنا لابد لطالب العلم من التجرد في الطلب، وقد قال ابن عيينة رحمه الله: إن العلم لن يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك.

    العمل بالعلم

    الشرط السابع من هذه الشروط: العمل به، أي: أن يعمل الإنسان به، فالعلم بمثابة الشجرة، والعمل بمثابة الثمرة، ولا ثمرة إلا بشجرة، ولا خير في شجرة لا ثمرة لها، يقول العلامة محمد علي رحمه الله:

    العلم من دون العبادة هبا لا يستقر فحري أن يذهبا

    والعلم في التمثيل مثل الشجرة أما العبادة فمثل الثمرة

    ففضله من جهة وفضلها من جهة ثمرة وأصلها

    وإذا لم يعمل الإنسان بعمله كان حُجة عليه، فهو سلاح ذو حدين.

    1.   

    تعارض شروط طلب العلم مع شؤون الحياة

    وهذه الشروط إذا تحققت في الإنسان كان طالباً للعلم في حياته كلها من المهد إلى اللحد، ولو اشتغل بغيره من الأمور فيكون طالباً للعلم في أثناء اشتغاله وذهابه وإيابه في كل شؤون حياته يكون طالباً للعلم.

    ومن هنا فلا تنافي هذه الشروط الأعمال الوظيفية ولا الأعمال الدعوية ولا والواجبات الشخصية العينية، ولا القيام بحقوق الوالدين والأهل وغير ذلك، فالإنسان السائر في الدعوة أعون شيء له على دعوته أن يزداد من العلم كلما طلعت شمس يومٍ من الأيام، وقد جاء في الحديث: (أي يوم لا أزداد فيه علماً فلا بورك في طلوع شمس ذلك اليوم).

    وكذلك المشتغل بروتين العمل أو بدرهم المعاش إذا خصص جزءاً من وقته يومياً للطلب، فإن ذلك كافٍ؛ لأنه قد سلك طريق العلم وهو طريق إلى الجنة، والعلم يدعو بعضه إلى بعض.

    1.   

    أفضل الأوقات لطلب العلم

    وأفضل الأوقات التي ينبغي أن يخصصها الإنسان للطلب هي أوقات الفراغ والراحة، وبالأخص الأوقات المباركة من كل يوم.

    طلب العلم في وقت البكور

    فأول النهار وقت بركة، وقد جاء فيه في الحديث الذي أخرجه أحمد في المسند والطبراني في الكبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم بارك لأمتي في بكورها)، فوقت البكور من الأوقات العجيبة جداً، وإذا قارن الإنسان عمله فيه بعمله في المساء أو في الليل أو في أي وقتٍ آخر وجد بوناً شاسعاً بينهما، وهذا الوقت الذي ينام فيه الناس ولا يدركون قيمته، هو في الواقع وقت البركة من العمر، ولذلك فإن الإنجليز الآن يعتمدونه وقتاً مقدساً عندهم يقولون: (السفن SEVEN) أي: السابعة صباحاً هذا وقت مقدس، لابد أن يكون الناس جميعاً قد خرجوا إلى أعمالهم، ممنوع أن يكون الإنسان في ذلك الوقت نائماً أو غير مشغول بشيءٍ جاد، فهذا الوقت من أوقات الطلب.

    طلب العلم في آخر الليل

    ومثله آخر الليل، فالثلث الأخير من الليل كله وقت مبارك، ينزل فيه الله سبحانه وتعالى إلى سماء الدنيا وهو وقت استجابة الدعاء، ووقت ينشغل فيه مشغولون عن الله سبحانه وتعالى بما هم فيه، فحينئذٍ أهل الله سبحانه وتعالى يهبون للقائه، فيلقونه في صلواتهم وابتهالاتهم ودعائهم وذكرهم وقراءتهم، وبما يتقربون إليه به، وقد وصف حالهم عبد الحق الإشبيلي رحمه الله في كتاب التهجد إذ قال: الحمد لله الذي اصطفى عباده لطاعته، فخروا بين يديه متذللين ولوجهه معظمين، لم يغلق بينه وبينهم باباً، ولا أسدل دونهم حجاباً، ولا خفض أودية ولا رفع شعاباً.

    فهؤلاء جاءوا بكل طمأنينة حين أدركوا أن الآخرين حُجبوا، فمنهم من حُجب بالكفر، ومنهم من حُجب بالمعصية والفجور، ومنهم من حُجب بالغفلة، ومنهم من حُجب بالنوم، ومنهم من حُجب بالمرض، ومنهم من حُجب بالجهل، وقد أُذن في طرق باب الملك الديان وفي تقديم الحوائج بين يديه في ذلك الوقت والعبادات المخصوصة التي تشاغل عنها الناس، ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم صلاتي العشاء والفجر بصلاتي المنافقين، فالمنافقون ينشغلون عن هاتين الصلاتين، فوقت العشاء ينشغلون بأمور دنياهم، ووقت الفجر ينامون عنها، وقرآن الفجر مشهود كما قال الله تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78].

    وهذه الأوقات معينة على الحفظ كذلك، فيستطيع الإنسان أن يحفظ فيها ما لم يكن ليحفظه لو أطال قراءته في أوقات انشغاله وأوقات الضجيج والانشغالات العامة في حركة الناس وأصواتهم.

    1.   

    أركان طلب العلم

    ثم بعد هذا أركان الطلب، وهي سبعة أيضاً:

    الإخلاص في طلب العلم

    فالركن الأول من هذه الأركان: الإخلاص، ولابد أن يخلص الإنسان في الطلب لله سبحانه وتعالى، فهذا العلم مما يُبتغى به وجه الله، ومن طلبه لغير ذلك فلا يمكن أن ينال منه المطلوب، وقد جاء في ذلك عدد من الأحاديث الصحيحة: (من طلب علماً مما يبتغى به وجه الله لا يطلبه إلا لينال به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة)، فلذلك لابد أن يكون الإنسان مخلصاً فيه لوجه الله عز وجل ومخلصاً في الطلب لوجه الله، فلا يطلبه لعرضٍ من أعراض الدنيا، إنما يطلبه ابتغاء مرضات الله، وهو من أفضل ما يتقرب به إلى الله عز وجل؛ لأنه سابق على القول والعمل وعلى كل الأمور، ولهذا قال الله تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36]، فلابد أن يسبق العلم القول والعمل، ولذلك قال البخاري في الصحيح: باب العلم قبل القول والعمل؛ لقول الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19]، فقدم العلم على الاستغفار على العمل.

    والإخلاص لله سبحانه وتعالى يقتضي بركةً أيضاً ونماءً، والله سبحانه وتعالى تعهد لمن اتقاه للفرقان الذي يميز به بين الحق والباطل، ومن أوتي هذا الفرقان لم يشك في أمرٍ من أمور العلم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [الأنفال:29].

    حفظ العلم في الصدور

    الركن الثاني من هذه الأركان: الحفظ، فالعلم إنما هو المحفوظ في الصدور، وأما ما كان في الكتب فليس علماً للإنسان بل هو مطالعة، وقد لا يتوافر للإنسان الدواعي في قراءة الكتب والاطلاع على ما فيها، وقد لا يدرك أيضاً موضع المطلوب منها، ولهذا قال الحكيم:

    ليس بعلمٍ ما حوى القمطر ما العلم إلا ما حواه الصدرُ

    والقمطر وعاء الكتب، وقد قال الشافعي رحمه الله:

    علمي معي حيثما يممت يتبعني قلبي وعاء له لا جوف صندوقِ

    إن كنت في البيت كان العلم فيه معي أو كنت في السوق كان العلم في السوقِ

    وكذلك قال ابن حزم رحمه الله:

    فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي تضمنه القرطاسُ بل هو في صدري

    يسير معي حيث استقلت ركائبي ويمكث إن أمكث ويدفن في قبري

    وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن لهم كتب يدونون فيها ما يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كانوا يروون عنه بالسماع فيحفظون ما سمعوا، ولذلك دعا لهم على هذا الأساس فقال: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فرُب حامل فقه ليس بفقيه، ورُب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).

    وكذلك التابعون من بعدهم كانوا يعتنون بالحفظ عناية بالغة، فهذا محمد بن مسلم بن شهاب الزهري لما أتى المدينة، وكان يأتيها في كل فترةً، فيقضي الديون عن العلماء وطلابهم، ويأتي بمالٍ كثيرٍ من الشام فيقضي به ديون حملة العلم وطلابه في المدينة، وكان الناس يتحملون الديون إلى مقدم الزهري من الشام، فكانوا إذا اجتمعوا حوله حدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما طلبوا من الحديث، وذات يومٍ اجتمع حوله أهل المدينة، فحدثهم ستين حديثاً بإسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كف، فطلبوا منه أن يزيد، فقال: لا أزيدكم حتى تحفظوا ما حدثتكم به، فقال له ربيعة بن فروخ الملقب بربيعة الرأي: إن في مجلسك من قد حفظ ما قلت به اليوم، قال: من هو؟ قال: ابن أبي عامر، يريد مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر، والإمام مالك بن أنس أبوه أنس بن مالك ابن أبي عامر بن عمرو بن حارث بن غيمان بن خذيل بن عمرو بن الحارث، وهو ذو أصلحة الأصلحي، فكان شاباً صغيراً، فسأله الزهري أن يعيد عليه ما قال، فأعاده عليه كما هو، وكان الزهري بعد ذلك يقدمه على غيره من أهل العلم في المدينة.

    وهذا الحفظ الذي كان لدى صدر هذه الأمة به تميز علماؤها، وفاقوا من سواهم، ولذلك لم يكونوا يحتاجون إلى حمل الكتب، بل (أناجيلهم في صدورهم ) كما جاء في وصف هذه الأمة، أناجيلها -أي كتبها- في صدورها.

    ولذلك فإن أبا بكر محمد بن الطيب الباقلاني لما أرسله خليفة المسلمين لمناظرة الروم، وقد كان من عادة الروم إذا دخل داخل على ملكهم أن يركع بين يديه إجلالاً له، وعرفوا أن رسول أمير المؤمنين وهو عالم كبير من علماء المسلمين لم يكن ليفعل، فأعملوا الحيلة ليركع بين يديه، فجلعوا في الباب سلماً لم يتركوا فيه من طول الباب إلا قدر ما يدخل منه الرجل راكعاً، فلما جاء الباقلاني ورأى السلم عرف الحيلة، فزحف على قفاه وجاء وقد ولاهم دبره احتقاراً لهم، فجعلوا أيديهم على وجوههم حياءً من هذا المنظر، فلما جلس عن يمين ملكهم جاء بالبابا وبالكربنالات ورجال الكنيسة، فعرفه على البابا، فالتفت إليه بحفاوة وسلم عليه وقال: كيف حالك وكيف حال الزوجة والأولاد؟ فجعل الناس أيديهم على رءوسهم، وقال له الملك: إنا لنعظم هذا عما تسأله عنه؛ نعظمه عن الزوجة والأولاد، قال: سبحان الله! تعظمون هذا المخلوق الذي هو مثلكم عن الزوجة والأولاد، ولا تعظمون من خلقكم وخلقه عن ذلك! فأسكتهم بهذا، وأعجب ملك الروم لحفظه وقال: إن الفرق بين علماء المسلمين ومن سواهم أن رجال الدين من النصارى إنما يحفظون الصحف، ورجال العلم من المسلمين علومهم في صدورهم، كهذا الرجل الذي جاء لا يحمل كتاباً وقد أسكت كل علماء النصارى.

    ولذلك ما تسمعونه اليوم من التزهيد في حفظ العلم ما هو إلا دعاية مغرضة؛ يُقصد بها محاربة هذا العلم وإزالته، وسيزول لا محالة، فقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يقبض هذا العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بموت أهله حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فاستفتوا فأفتوا بغير علمٍ فضلوا وأضلوا)، وذلك لابد من العناية بحفظه.

    الهمة في طلب العلم

    والركن الثالث من هذه الأركان: الهمة في طلبه، فلابد أن يكون المسلم الطالب للعلم ذو همة عالية فيه لا يرضى باليسير، فالرضا بالقليل دائماً يسعى بالإنسان إلى التقصير، والذي لا يرضى بالقليل دائماً يسعى لأعلى الدرجات، والهمة العالية هي التي أوصلت أقواماً إلى المنازل العالية، ولذلك وصفت الخنساء تماضر بنت عمرو بن الشريد السلمية رضي الله عنها أخاها صخر بن عمرو بن الشريد لقصيدته المشهورة التي تقول فيها:

    أعيني جودا ولا تجمدا ألا تبكيان لصخر الندى

    ألا تبكيان الحميد النبيل ألا تبكيان الفتى السيدا

    رفيع العماد طويل النجاد ساد عشيرته أمردا

    إذا القوم مدوا بأيديهم إلى المجد مد إليه اليدا

    فنال الذي فوق أيديهم من المجد ثم غدا مصعدا

    يكلفه القوم ما عالهم وإن كان أصغرهم مولدا

    وإن يُذكر المجد ألفيته تأزر بالمجد ثم ارتدا

    وامرؤ القيس يقول:

    ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني ولم أطلب قليل من المالِ

    فالذي يسعى للشيء الكثير لابد أن تكون له همة ذلك، ولهذا قال أبو الطيب المتنبي:

    وحيداً من الخلان في كل بلدةٍ إذا عظم المطلوب قل المساعدُ

    ولهذا فإن ابن عباس رضي الله عنهما إنما تبوأ هذه المنزلة السامقة في العلم بسبب ما آتاه الله من الهمة العالية، يُحدث عن نفسه قال: لما توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم كنت في الثالثة عشرة من عمري، فذهبت إلى لدة لي من الأنصار، فقلت: إن الله توفى رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن علمه في أصحابه، فتعال بنا نجمع علم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنسد لأمته يوماً من الأيام منسداً تحتاج إليه، فقال: دعنا نلعب ومتى يُحتاج إلينا؟ فذهبت وتركته، ولذلك تبوأ ابن عباس هذه المنزلة، يقول فيه أحد الشعراء:

    بلغت لعشرٍ مضت من سنيـك ما يبلغ السيد الأشيبُ

    فهمك فيها جسام الأمور وهم لداتك أن يلعبوا

    ويقول فيه حسان بن ثابت رضي الله عنه:

    إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه رأيت له في كل محمدة فضلا

    إذا قال لم يترك مقالاً لقائلٍ بلمتقطات لا ترى بينها فصلا

    كفى وشفى ما بالنفوس فلم يدع لذي إربة في القول جداً ولا هزلا

    وكذلك عدد كبير من التابعين الذين كانت لهم المنزلة العالية، إنما نالوا تلك المنزلة بسبب هممهم العالية التي لم تقف بهم دون حد لهذا العلم، فأرادوا أن يحرزوه وأتعبوا أنفسهم في سبيل ذلك.

    وكذلك كان حال أئمة الإسلام فيما بعد، فالأئمة الحفاظ الكبار من أمثال أبي زرعة الرازي الذي يحفظ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف ألف حديث، والدارقطني الذي هو أحفظ إنسان عُرف في تاريخ الإسلام، وإنما نالوا ذلك بهممهم العالية التي كانت تكدر عليهم نومهم وشؤون حياتهم حتى تتعب أجسامهم في مقابل ما يجدونه في صدورهم، ولذلك فقادة الإسلام أيضاً والمجاهدون الذين فتحوا الأمصار في كل عصر من العصور، إنما رحلت بهم هماتهم في طلب الفتح، يقول المتنبي في وصف سيف الدولة ابن حمدان:

    أكلما رمت جيشاً فانثنى هرباً ترحلت بك في آثاره الهممُ

    عليك هزمهمُ في كل معتركٍ وما عليك بهم عار إذا انهزمُ

    ألا ترى وبراً حلواً سوى وبراً تصافحت فيه بيض الهند واللممُ

    ويقول فيه:

    على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ وتأتي على قدر الكرام المكارمُ

    تعظم في عين الصغير صغارها وتكبر في عين العظيم العظائمُ

    يكلف سيف الدولة الجيش همه وقد عجزت عنه الملوك الخضارمُ

    فهنا يبين همة سيف الدولة والمقام الذي وصلت به إليه هذه الهمة، وكذلك الحال حتى لدى الدعاة المتأخرين، فإن كثيراً منهم إنما بوأتهم همتهم هذه المكانة العالية في نفوس الناس، فعدد كبير من الذين كان لهم أثر بالغ في نشر هذه الدعوة في العلم، إنما كانت هممهم أقوى من أجسامهم، ولذلك فإن الشيخ أبا الحسن الندوي رحمه الله ذكر في ترجمته ابن الشيخ أحمد رياس رحمة الله عليه أن همته كانت أقوى من جسمه، فهو نحيف ضعيف الجسم، لكن همته وصلت مشارق الأرض ومغاربها، ولذلك كان همه نشر دين الله والدعوة إليه في كل الأوقات.

    ومثل ذلك ما قاله المودودي رحمه الله عندما جاء في وقتٍ اشتدت في المشكلات على شبه القارة الهندية، وأُريد لها أن تكون قارة كفرية، وأراد هو أن يفصل المسلمين عن الكفار، وأن يجعل داراً للإسلام مستقلة، دعاه بعضهم إلى الخروج للاستجمام في حديقة من الحدائق، قال: سبحان الله! تفكرون في الراحة وأنتم بين بطش الإنجليز وتدبير الهندوس! فعجب من هؤلاء الهنود يفكرون في الراحة وهم بين بطش الإنجليز وتدبير الهندوس، ولذلك كان يخطب في مؤتمرٍ فأطلق الرصاص في القاعة فقال له الناس: اجلس، فقال: إذا جلست أنا فمن يقوم؟ فبقي قائماً يخطب.

    ومثل هذا ما قال علال الفاسي رحمه الله عن نفسه:

    أبعد بلوغي خمس عشرة ألعبُ وألهو بلذات الحياة وأطربُ

    ولي نظر عالٍ ونفس أبية مقاماً على هام المجرة تطلبُ

    وعندي آمال أريد بلوغها تضيع إذا لاعبتُ دهري وتذهبُ

    ولي أمة منكودة الحظ لم تجد سبيلاً إلى العيش الذي تتطلبُ

    على أمرها أنفقت دهري تحسراً فما طاب لي طُعم ولا لذ مشربُ

    ولا راق لي نوم وإن نمت ساعةً فإني على جمر الغضا أتقلبُ

    وقد سبق إلى ذلك أيضاً صلاح الدين الأيوبي رحمه الله فقد كان محدثاً، وقد اجتمع حوله طلاب الحديث بمصر فسألوه أن يحدثهم بالمسلسلات في الأحاديث المسلسلة بهيئة أو إسنادٍ أو نحو ذلك، ومنها حديث مسلسل بالابتسامة حديث الركوب، فحدثهم بالحديث ولم يبتسم، فطلبوا منه أن يبتسم حتى يستمر لهم التسلسل بالابتسامة، فقال: إني أستحي من الله تعالى أن أبتسم وبيت المقدس في أيدي الصليبيين، إنها همة عالية دعته بعدها إلى تحرير بيت المقدس واستنقاذه من أيدي الصليبيين بعد أن عاثوا فيه خمساً وتسعين سنة.

    فالهمة العالية هي التي تقتضي من أصحابها التضحيات الجسام، وتقتضي منهم العمل الكبير.

    ولذلك فإن أمير المؤمنين المعتصم رحمه الله لم يكن صاحب ثقافة ولا علم، وحتى لم يكن من أذكياء الخلفاء، كان أخوه المأمون من أذكى الناس، ولم يكن هو بهذا المستوى من الذكاء ولا من العلم، لكنه كان صاحب همة عجيبة، فقد كان يوماً يشرب في مجلسه، فسمع أن امرأةً من أطراف الشام أغارت خيل للروم فأخذتها فصاحت: وا معتصماه، فوضع الكأس وختم عليه، ونادى بالنفير لغزو عمورية وهي عاصمة الروم آنذاك، وهي التي أُخذت إليها هذه الفتاة من أطراف الشام، فجهز لذلك جيشه الجرار، وجاء أصحابه والمخذلون ينصحونه بعدم الغزو في ذلك الوقت، ويذكرون أن هذا الوقت وقت شدة الصيف والحر، وقد بدا فيه كوكب المذنب، ويزعم أهل التنجيم أنه إذا ظهر فإنما يظهر لإزالة ملك، وهم يخشون عليه ذلك، فما أنصت إلى شيءٍ من ذلك، وخرج قائداً لهذا الجيش، فحاصر عمورية فترة من الزمن، فاستعصت عليه وكانت غاية في المنعة، فأمر بحفر الأنفاق في جبلها، وهي حصن فوق جبل، فحُفرت فيه الأنفاق، فملأها من البارود وأوقد عليها النار، فانفجر الجبل وفتحت المدينة بذلك، فاستنقذ تلك الفتاة فلما وقفت بين يديه قال لها: لبيكِ فأنا المعتصم، لبيكِ فأنا المعتصم، ولذلك وصف هذه الغزوة أبو تمام بقصيدته التي خلدها بها يقول فيها:

    السيف أصدق أنباءً من الكتبِ في حده الحد بين الجد واللعبِ

    بيض الصفائح لا سود الصحائفِ في متونهن جلاء الشك والريبِ

    والعلم في صُحف الأرماح لامعةً بين الخميسين لا في السبعة الشهبُ

    إلى أن يقول فيها:

    إن كان بين ليالي الدهر من نسبٍ موصولة أو ذمامٍ غير منقضبِ

    فبين أيامك اللائين نصرت بها وبين أيام بدرٍ أقرب النسبِ

    يا يوم وقعة عمورية انصرفت منك المنى حفلا معسولة الحلبِ

    فالشمس طالعة من ذا وقد أفلت والشمس واجبة من ذا ولم تجبِ

    ضوء من النار والظلماء عاكفة وظلمة من دخان في ضحى شحبِ

    إن لم تطلع الشمس فيه يوم ذاك على بان بأهلٍ ولم تغرب على عزبِ

    إلى أن يقول فيها:

    رمى بك الله برجيها فهدمها ولو رمى بك غير الله لم يصبِ

    فهذا الحال أيضاً ذكر مقارنته بحال قادتنا في هذا الزمان الأستاذ عمر أبو ريشة رحمة الله عليه في قصيدته المشهورة التي يقول فيها في مطلعها:

    أمتي هل لكي بين الأممِ منبر للسيف أو للقلمِ

    يقول فيها:

    رُب وا معتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتمِ

    لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصمِ

    ولذلك كان سبب سقوط الأندلس كما يذكره المؤرخون دناءة همم قادتها، فعندما كانت هممهم مقصورة على القينات والخمور والزخارف في البنيان سلط الله عليهم العدو فأخذ ما في أيديهم.

    ولذلك لابد من علو الهمة وهو مما تحتاج الأمة في هذا الظرف بخصوص إلى رفعه، فالأمة تحتاج الآن إلى الترفع عن السفاسف وعن الانشغالات بالأمور الدنيوية التافهة، وإلى الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى بهمات عالية يطلب أصحابها الفردوس الأعلى من الجنة، ويستعدون للقاء الله ويقولون: عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84].

    فالآن تحتاج هذه الأمة إلى من يحل أزرار قميصه لاستبال الرصاص وهو يقول: و عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84].

    وإنما يجرؤ على ذلك من كان من ذووي الهمم العالية الذين لا يرضون إلا بالفردوس الأعلى من الجنة تحت عرش الرحمن.

    الشيخ الناصح

    ثم بعد هذا الركن الآخر من أركان طلب العلم: الشيخ الناصح، فالعلم لا يكن أن يؤخذ من بطون الكتب، وقد قال أهل العلم: من كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه، وقد قال أبو حيان رحمه الله:

    يظن الغمر أن الكتب تهدي أخا فهم لإدراك العلومِ

    وما يدري الجهول بأن فيها غوامض حيرت فهم الفهيم

    إذا رمت العلوم بغير شيخٍ ضللت عن الصراط المستقيمِ

    وتلتبس الأمور عليك حتى تصير أضل من توما الحكيم

    فيحتاج الإنسان في حال الطلب أن يكون له شيخ، وهذا الشيخ يريه المزالق والأخطاء التي هو مقبل عليها وهو لا يعرفها، وهذا في كل الأمور، فالإنسان سالك لطريقٍ لا يدري ما عرجاتها وما فيها من المخاطر، فإذا وجد من قد سلك الطريق من قبل، فإنه سيدله على ما فيها من المخاطر، ولذلك فإن أحد الدعاة المعاصرين دعا عدداً من الشباب الصغار المتحمسين ليعلمهم آداب الدعوة، فوضع لهم برنامجاً قال: سندرس أمور الدعوة النظرية خلال شهرٍ، وندرس أمور الدعوة التطبيقية خلال خمسة أشهر، وفي الشباب شاب متحمس حضر معه الأمور النظرية وقال: أنا لا أحتاج إلى الأمور التطبيقية فسأطبق لنفسي، فقال: اذهب على بركة الله، وإذا واجهتك أي مشكلة فارجع إلينا، خرج هذه الشاب في أول يوم كان يوم جمعة دخل مسجدٍ من المساجد، فوقف الخطيب على المنبر وبدأ بذكر الأحاديث الموضوعة المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي لا يستطيع أحد تحملها ولا سماعها، فتحرك الشاب يميناً وشمالاً وهو يريد الإنكار، فما كان منه إلا أن وقف يصيح بين الصفوف ويلعن هذا الإمام ويسبه ويقول: إنه كذاب وضاع يكذب الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكلم الإمام على المنبر، وأمر الناس أن يخرجوا هذا الشاب من المسجد، فأخرجوه وضربوه ضرباً مبرحاً، فما غير شيئاً، وعاد إلى الشيخ وقد ضُرب ضرباً شديداً، فقص عليه الواقعة فقال: يا بني! أنت ما زلت في بداية الطريق وتحتاج إلى كثير من التجارب.

    وفي الجمعة القادمة سنذهب إلى ذلك المسجد، وسترى أسلوب التغيير المناسب لهذا الشيخ الذي رأيته، فذهب معه يوم الجمعة الآخر، فجاء الشيخ مبكراً وجلس تحت المنبر، وكان أقرب الناس إلى الخطيب، وبدأ الخطيب يقص تلك الأحاديث الموضوعة، والشيخ يبكي، والخطيب ينظر إليه، فيظن أنه بكى تأثراً لخطبته وإعجاباً بها، فلما سلم من الصلاة اقترب إليه الشيخ وقبل يده وقال: يا أهل المسجد! إن خطيبكم هذا مبارك، ومن أراد قضاء الحوائج فلينتف شعرات من لحيته للبركة، فقاموا إليه فنتفوا لحيته، ووطئته الأقدام، فأمسك بأذنه بعد أن أدبر الناس عنه وقال له: هل يكفيك هذا تأديباً على وضع الحديث والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أم تحتاج إلى الزيادة؟ فلم يرجع ذلك الخطيب إلى المسجد بعدُ، وتحطمت شخصيته ولم يبق له ذكر، فهو تخلص منه ببساطة، مع أنه لم يتكلف شيئاً إلا كلام ظاهره كذب وباطنه تأويل، فلهذا يحتاج الإنسان إلى شيخٍ عارف بالعلوم يختار له وينتخب له منها.

    ويحتاج كذلك إلى تجربة هذا الشيخ وأناته وحلمه، فالعلوم كثيرة جداً متشعبة، والكتب أكثر منها، ويضيع الإنسان، ويتيه بينها إذا لم يكن له شيخ يختار له وينتخب منها، ومن سنة أهل الحديث الانتخاب في الحديث، وقد ألف عدد من المؤلفين منتخبات من كتبهم بعد أن ألفوا كتباً موسعة، انتخبوا منها واختاروا، فهذا الإمام النسائي بعد أن ألف سننه الكبرى انتخب منها المجتبى، وهو السنن الصغرى التي هي من أحد دواوين الإسلام الكتب الستة، وعبد بن حميد كذلك لما ألف مسنده الكبير انتخب منه المنتخب الموجود إلى الآن، والمسند غير موجود.

    الطالب المنافس

    ومن هذه الأركان: الطالب المنافس، فطالب العلم يحتاج إلى من ينافسه في الطلب، والذي ينافسه ينبغي أن يكون معاصراً له حتى يصبر عليه، وحتى يجد منه ما يجده من نفسه من الضعف في بعض الأحيان والقوة في بعضها، والنشاط في بعض الأحيان والخمول في بعضها، فهذا الذي يعينه على الاستمرار في الطلب.

    وقد كان أهل العلم يذكرون أنهم يستفيدون من قرنائهم في الطلب أكثر مما يستفيدونه من مشايخهم، والإمام سليمان بن مهران الأعمش رحمه الله لما لم يجد صديقاً قريناً له في الطلب اشترى تيساً من السوق، فربطه في داره فكان يراجع عليه الحديث ويضربه ويقول: أفهمت؟ فاشتهر لدى أهل الحديث بتيس الأعمش الذي كان يراجع عليه معلوماته، والقرين الزميل يشجع الإنسان على الازدياد؛ لأنه منافس له فيشجعه على الازدياد، ويعينه على المذاكرة حتى لا يذهب شيء من معلوماته.

    الكتاب المقروء

    ومن هذه الأركان: الكتاب الذي يقرأ منه الإنسان، والكتب المؤلفة كثيرة، وهي تختلف باختلاف العلوم.

    1.   

    تنوع علوم الإسلام

    وعلوم الإسلام إلى اليوم متشعبة كثيرة، وهي زائدة على الأربعين من التخصصات.

    أشهر العلوم الخادمة للقرآن

    فالعلوم الخادمة لكتاب الله تعالى أشهرها خمسة علوم هي:

    أولاً: علم الأداء، أي: علم التجويد كيف تنطق بالحروف وكيف تؤديها وكيف تنطق بالمدود؟ وما هي أحكام النون والميم؟ وكذلك الوقف والابتداء، فهذه هي أحكام التجويد.

    والعلم الثاني: علم القراءات، أي: اختلاف القراء في القراءات، وهي الحروف التي أنزل بها القرآن.

    والعلم الثالث: علم التفسير وهو بيان معاني القرآن وتدبر ما فيه من الأحكام.

    والعلم الرابع: علم الرسم والضبط، أي: الرسم الذي أجمع عليه الصحابة، والضبط الذي أجمع عليه التابعون لكتاب الله على اختلاف المصاحف.

    والعلم الخامس: علم علوم القرآن، وهو العلم الجامع لمصطلحات الناس في المصاحف ولأسباب النزول وأوجه الإعجاز وما يتعلق بترجمة القرآن وغريبه والناسخ والمنسوخ منه، والمكي منه والمدني والصيفي والشتوي .. إلى آخره.

    وهذه أُلف فيها كثير من المتون والكتب التي مستوياتها متفاوتة، ومن سنة أهل العلم أن يُبدأ فيها بصغارها قبل كبارها، فكل علم من العلوم فيه كتب صغيرة يستفتح بها الإنسان، مثلاً في علم القراءات ما لم يتقن الإنسان قراءة واحدة لا يمكن أن يتقن السبع أو يتقن العشر، فلذلك يبدأ أولاً بقراءة نافع وليقرأ مثلاً منظومة ابن بدر في القراءة العشر، ثم يتجاوز إلى السبع فيقرأ الشاطبية مثلاً، ثم بقية العشر فيقرأ الدرة أو طيبة النشر التي تجمع العشر كلها وهكذا.

    العلوم الخادمة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم

    أما في الحديث، فالعلوم الخادمة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهرها ستة:

    العلم الأول: علم متون الحديث، وهذا أُلف فيه الكثير من الكتب، وأشهرها دواوين الإسلام، وهي الموطأ والصحيحان والسنن الأربع ومستدرك الحاكم وصحيح ابن حبان وصحيح ابن خزيمة وسنن البيهقي وسنن شيخه الإمام الدارقطني، فهذه الدواوين المشهورة، ويُضاف إليها المكملات مثل المختارة للحافظ المقدسي، والمسانيد مسند الإمام أحمد ومسند البزار ومسانيد الأئمة الآخرين، والمصنفات مثل: مصنف ابن أبي شيبة ومصنف عبد الرزاق وهكذا، ومن تمام السنن أيضاً سنن الدارمي، ويُضاف إلى الكتب السابقة، فهذه هي دواوين الإسلام الكبرى.

    ويُضاف إليها الأجزاء والمصنفات التي دون ذلك، والأجزاء أي: المختصة بمجال معين أو بحديث شخصٍ معين، والمصنفات التي دون ذلك، وهذا علم عظيم جداً من علوم الإسلام، وقد أدبر الناس عنه في زماننا هذا، فقل من يشتغل به فيه، وكثير من الذين يوصفون بأنهم علماء وفقهاء لم يختموا الموطأ ولا صحيح البخاري ولا صحيح مسلم ولا لهم مشاركة في هذا العلم أصلاً ولا عناية به، وهذا يدلنا على مدى تراجع الناس في العلم، فهذا هو العلم الأول الذي كان الناس يبدءون به علم متون الحديث، وأول ما يُبدأ به من العلم، واليوم قل من يشتغل به أصلاً، فأكثر الناس لم يشتغلوا بهذا العلم ولا اعتنوا به.

    والعلم الثاني: علم شروح الحديث، وهو شروح هذه الكتب، وأكثر هذه الكتب شرحاً وتناولاً الصحيحان والموطأ، فشروح الموطأ إلى الآن تنيف على ثلاثمائة، وشروح صحيح البخاري ثمانية وثمانون شرحاً كما يذكر أهل العلم، وكذلك شروح صحيح مسلم متعددة متنوعة، وهذه الشروح علم بذاته قائم.

    العلم الثالث من علوم الحديث: علم المصطلح، أي: اصطلاح أهل الأثر في تدوينه وما لهم من كلمات يرمزون بها لبعض ما اصطلحوا عليه واتفقوا عليه، وهذا العلم من أهم علوم الحديث، ولا يستطيع الطالب للحديث أن يكون من أهله ومندرجاً في حملته إلا إذا كان على دراية بعلم المصطلح، وقد أُلف فيه الكثير من الكتب، وأقدم كتاب أُلف فيه استقلالاً (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي) للحافظ الرامهرمزي، ثم بعده علوم الحديث للحاكم، ثم بعده الكفاية في علم الدراية للخطيب البغدادي والجامع لآداب الراوي والسامع للخطيب البغدادي أيضاً، ثم كتاب الإجماع في آداب الرواية والسماع للقاضي عياض، ثم المقدمة لـابن الصلاح، ثم الكتب الكثيرة التي بعد ذلك كألفية العراقي في المصطلح وما بعدها من الكتب التي هي من سلالتها.

    العلم الرابع من علوم الحديث: هو علم الرجال والجرح والتعديل، وهو علم شريف؛ لأن الإسناد من خصائص هذه الأمة، ولولا الإسناد لقال من شاء بما شاء، والإسناد نسب الحديث كما قال أحمد بن حنبل، والكتب المؤلفة فيه مختلفة، منها كتب مختصة برجال كتب معينة، مثل الكمال، فإنه مختص برجال الكتب الستة، والكتب المختصرة منه كذلك، مثلاً تهذيب الكمال هو تهذيب لهذا الكتاب، وهذا التهذيب اختصر بكثير من المختصرات، واختصره الذهبي رحمه الله بكتاب تذهيب التهذيب، واختصره ابن حجر رحمه الله بكتاب تهذيب التهذيب، واختصر ذلك أيضاً بكتاب تقريب التهذيب، واختصر التهذيب الكمال الخزرجي بكتاب خلاصة التهذيب، واختصرت جميعاً كذلك الذهبي بكتاب الكاشف، فهذه الكتب مختصة برجال الكتب الستة.

    وكذلك الكتب التي تختص ببعضها فقط، ككتاب التعديل والجرح لسليمان بن خلف الباجي وهو مختص برجال البخاري في الأصل، وكذلك كتاب تعديل المنفعة في رجال الأئمة الأربعة للحافظ ابن حجر رحمه الله، وقد خصه برجال مالك وأحمد والشافعي، والرجال الذين روى عنهم أبو حنيفة أيضاً.

    ومن ذلك كتب اختصت بالثقات فقط، أي: لا تذكر إلا من كان من أهل الثقة، وهذه مثل كتاب الثقات للحافظ العجلي والثقات لـابن حبان، وهناك كتب أخرى اختصت بالضعفاء فقط، مثل كتاب الضعفاء للعقيلي والضعفاء والمتروكين لـابن حبان، والضعفاء للدارقطني، والضعفاء للنسائي، وهناك كتب تجمع الجميع ولا تختص برجال كتب ولا بالثقات ولا بالضعفاء، مثل كتب التواريخ كلها، ككتاب التاريخ الكبير والتاريخ الأوسط والتاريخ الصغير، والثلاثة كلها للإمام البخاري، ومثل كتاب التاريخ لـخليفة بن خياط، وكتاب الطبقات لـخليفة بن خياط، وكتاب الطبقات لمسلم بن الحجاج، وكتاب الطبقات لـمحمد بن سعد، وغيرها من الكتب التي لا تختص برجال كتب ولا بالضعفاء ولا بالثقات، فهذا العلم شريف مهم.

    ومن أقدم الكتب التي أُلفت فيها وهو أقدمها تقريباً تاريخ خليفة بن خياط ثم بعده تاريخ البخاري، وتاريخ البخاري لما ألفه رتبه على أسماء الرجال على الحروف الأوائل، وهو أول من عمل هذه الطريقة في المعاجم، فأول من هُدي لذلك البخاري، ولذلك حين عرضه على شيخه إسحاق بن راهويه ولما رأى هذا الكتاب قال: إنه السحر، فطريقة المعاجم هي أحدث ما توصل له العلم الحديث اليوم، وهي معينة جداً على الضبط والتدقيق، والبخاري هُدي إليها في ذلك التاريخ.

    العلم الخامس من العلوم الخادمة للحديث: علم العلل، وهو علم من أدق العلوم وأكملها خطراً وقدراً، ولا يتكلم فيه إلا الجهابذة الأعلام الكبار، ومن أوائل الذين ألفوا فيه الإمام أحمد بن حنبل، فقد ألف كتاب العلل والرجال، وعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي وقد ألف كتاب العلل، والترمذي ألف كتاب العلل الصغير وهو ملحق بسننه، وكتاب العلل الكبير وهو منفصل عنه، والإمام الدارقطني ألف كتاب العلل الكبير، والبزار ألف كتابه المسند المعلل، وكذلك يعقوب بن شيبة رحمه الله ألف كتابه المسند الكبير المعلل، وعدد كبير من أهل الحديث اشتغلوا بالعلل، ومن مشاهيرهم: أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان.

    والكتب المؤلفة في هذا العلم إما أن تسمى بالعلل، وإما أن تسمى بالآثار أو نحو ذلك، مثلاً: المراسيل، المفردات، فمثلاً مراسيل أبي داود ومراسيل ابن أبي حاتم الرازي كلها تدخل في باب العلل، والآثار كذلك مثل كتاب الآثار لـمحمد بن الحسن الشيباني والآثار لـأبي يوسف وغير ذلك من الكتب المختصة بالآثار أيضاً فيها علة الوقف، وهي علة من العلل المعروفة، أن يكون الحديث مرفوعاً لدى بعض الرجال وموقوفاً على الصحابي لدى بعض الرجال، وهذه علة من العلل المعروفة، ومرجع العلل في جمهورها إلى عشرة علل هي أشهر العلل.

    العلم السادس من العلوم الخادمة للحديث: علم التخريج ودراسة الأسانيد، فعلم تخريج الحديث لمعرفة من أخرجه والحكم عليه، وهو علم دراسة الأسانيد، أي: البحث في الاتصال والانقطاع سواءً كان الانقطاع واضحاً أو خفياً، فيشمل ذلك الكلام في التدليس بالإسقاط وتدليس التسوية وتدليس الشيوخ، وكل ذلك من العلل الخفية في هذا المعنى، وعلم التخريج إنما طُبق أساساً على أدلة الأحكام فهي أكثر ما خُرج، وقد ألف الإمام الزيلعي نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية، واختصره الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتاب الدراية بتخريج أحاديث الهداية، وألف ابن حجر أيضاً على منواله كتاب تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، وألف عدد من العلماء تخريج أحاديث بعض الكتب، فمثلاً الزركشي رحمه الله ألف المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر في الأصول، والسيوطي ألف كتاب تخريج أحاديث العقيدة، وألف أيضاً كتاب تخريج أحاديث الأصول، وعدد من الأئمة اعتنوا بتخريج هذه الأحاديث والحكم عليها وبيان طرقها ومن أخرجها وأطرافها.

    ويدخل في هذا علم الأطراف، ومن أوائل الذين ألفوا فيه الحافظ المزي، فقد ألف تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف، وذكر فيها أطراف الكتب الستة، واختصره الحافظ ابن حجر رحمه الله بالنكت الظراف.

    ومثل هذا أيضاً الزوائد التي يجمع فيها زوائد بعض الكتب على بعضٍ، ومن أوائل المشتغلين بذلك الحافظ الهيثمي رحمه الله، وقد ألف كتابه مجمع الزوائد لزوائد بعض المسانيد والمعاجم الثلاثة للطبراني بزوائدها على الكتب الستة، وألف أيضاً ملتقى البحرين في زوائد المعجمين، وألف رفع الأستار عن زوائد البزار، وألف كذلك المنهج المعتلي بزوائد مسند الحنبلي، وألف عدداً من الكتب المعتنية بالزوائد، وبعده طلابه كالحافظ ابن حجر وكذلك الحافظ البوصيري من الذين اعتنوا بالزوائد، فالبوصيري مثلاً له مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه، وله كتاب زوائد المسانيد العشرة، وابن حجر له كتاب زوائد المسانيد العشرة، وله أيضاً زوائد المسانيد الثمانية، فالمطالب العالية في زوائد المسانيد الثمانية.

    علوم الفقه

    كذلك علوم الفقه، وهي الثالثة في الترتيب من ناحية الأهمية في علوم هذه الأمة.

    وعلوم الفقه من أول ما يُبدأ به منها علم الفقه المذهبي، فالإنسان في بداية طلبه عاجز عن الترجيح والإحاطة بأقوال الناس فيدرس على مقتضى منهجٍ واحد.

    وقد سبق أن بينا أن المذاهب ليست ديانات، وإنما هي مجرد طرق للتعامل مع النصوص، فهي مدارس فقط يُفهم بها معنى النصوص، وتوضع فيها معايير لفهم هذه النصوص، فالمذاهب ليست ديناً، وإنما هي مجرد طرق لفهم النصوص، ولذلك ليس للصحابة مذاهب ولا للتابعين مذاهب؛ لأنهم لم يحتاجوا إلى البحث في جهة الورود ولا في جهة الدلالة، وأول من احتاج إلى البحث في جهة الورود وجهة الدلالة أتباع التابعين، ,لذلك كانت لهم مذاهب، فيبدأ الإنسان بالدراسة على مقتضى مذهبٍ واحدٍ في البداية.

    ومن المهم أن يعرف أدلة ذلك المذهب وقواعده ومصطلحاته، وهذا هو الفقه المذهبي يأخذ فيه الإنسان كتاباً أو أكثر، ثم بعد هذا الفقه المقارن، أي: أن يدرس المذاهب الأخرى، ومن الكتب ما يجمعها، كالمحلى لـابن حزم والمغني لـابن قدامة والاستذكار لـابن عبد البر وغير ذلك من الكتب الجامعة.

    ثم العلم الثالث من علوم الفقه: علم القضاء، وهو علم شريف مستقل بما يتعلق بالأقضية والأحكام السلطانية، وقد أُلف فيه عدد كثير من الكتب في كل مذهب من المذاهب نظماً ونثراً، فأفرده أهل العلم بالعناية.

    والعلم الآخر من علوم الفقه: هو علم النوازل، وهو علم كذلك مهم من علوم الإسلام النافعة، والناس محتاجون إلى العناية به؛ لأنه كل يوم تتجدد نوازل لا عهد للناس بها، وليس لها ذكر في كتب الأقدمين، ويحتاج الإنسان إلى طريقة إجابتها من خلال النصوص الشرعية.

    ثم بعد ذلك علم تاريخ التشريع، وهو يشمل تراجم رجال الفقه وطبقات الفقهاء وتدوين المذاهب والكتب المعتمدة في كل مذهبٍ من المذاهب وما يتعلق بذلك.

    ثم علم أصول الفقه: وهو من أهم العلوم، بل هو علم اقتصاد الشريعة؛، لأنه من خلاله يصل الإنسان إلى رتبة الاجتهاد، فيستطيع تغطية النوازل والوقائع غير المحصورة من النصوص المحصورة، فنصوص الوحي محصورة، مثلاً آيات القرآن بالعد المدني ستة آلاف ومائتان وأربع عشرة آية، وبالعد الكوفي ستة آلاف ومائتان وأربع وثلاثون آية، وآيات الأحكام منه فقط خمسمائة آية، والأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تتجاوز ثلاثمائة ألف حديث، وأحاديث الأحكام منها لا تتجاوز أحد عشر ألف حديث، ومواقع الإجماع محصورة، والنوازل غير محصورة كل يوم تتجدد، فكيف تغطى هذه النوازل من النصوص المحصورة؟ إنما يكون ذلك عن طريق الاجتهاد بأصول الفقه، وهذا يدل على حاجة الأمة إلى علم الأصول.

    ثم بعد هذا علم آخر شريف من علوم الإسلام وهو من السلالة الفقهية وهو علم تخريج الفروع على الأصول، أي: إعادة المذاهب وما درسته في الفقه إلى الأصول، بحيث تعرف كل خلاف من أي يؤخذ، ما سبب هذا الخلاف؟ ولماذا اختلف الناس في فهم هذا الحديث؟ وإذا عرفته فسيزول عنك التعصب بالكلية، وستعذر الجميع، وستعرف مآخذ أهل العلم، وإذا عرفت ذلك هان عليك الخلاف، ولم تضق به ذرعاً، وكثير من الناس يضيق ذرعاً بالمسائل الخلافية، ويظن أن الخلاف شر كله، فإذا درس الإنسان تخريج الفروع على الأصول عرف أن مآخذ أهل العلم كلها لها وجه من العقل، ويستغربه الإنسان عندما يذوق طعمه ويفهمه، وحينئذٍ سيزول عنه التعصب بالكلية، وسيعذر الجميع ويعرف مآخذهم جميعاً، ولذلك هو علم من العلوم المهمة جداً.

    ثم بعده علم القواعد الفقهية، وهو علم من علوم الإسلام المهمة، حيث اختصر كثير الفروع بقليل من الألفاظ، ألفاظ قليلة تجمع ما لا حصر له من الفروع، فإذا حفظها الإنسان حفظ كل تلك الفروع، ودليل واحد يكفي لمائة فرع فأكثر، لأنك تعرف هذا الدليل، وتعرف المسائل المخرجة على هذه القاعدة، ومن هنا تعرف دليل كل تلك المسائل، مثلاً قوله: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، هذا دليل لقاعدة كبرى من قواعد الإسلام وهي قاعدة المشقة تجلب التيسير، والمشقة تجلب التيسير يدخل فيها سبع ضوابط هي ضوابط المشقة: المرض والسفر والضعف والكثرة والقلة والحاجة والفقر، فهذه ضوابط المشقة عموماً، وكل واحد من هذه يدخل فيها كثير من الفروع، وآية واحدة من كتاب الله دليل لكل فروع هذه المسألة، وكل هذه القاعدة الكبيرة، مع ما يدخل تحتها من القواعد، وهو كثير جداً.

    وكذلك طبقات الفقهاء، حتى يعرف الإنسان من هو من أهل الاجتهاد المطلق، ومن هو من أهل التقليد، ومن هو من أهل التخريج، ومن هو من أهل الترجيح، وهذا يحتاج إليه الإنسان في معرفة أقوالهم والترجيح بينها؛ لأن الناس أُمرنا أن ننزلهم منازلهم كما في حديث عائشة: (أمرنا أن ننزل الناس منازلهم)، فليس كل من تكلم في الفقه أو في العلم على درجة واحدة، بل منهم الجبال الذين هم من فطاحلة الإسلام الكبار، ومنهم دون ذلك، وكل ينزل في منزله المناسب له، ولا يعرف ذلك من لم يعرف طبقاتهم، ولم يتطلع إلى أحوالهم وكلام معاصريهم فيهم وتواريخهم، وهذا مما يُحتاج إليه كثيراً.

    ثم بعد ذلك ما يخدم هذه العلوم من مكملاتها.

    علوم الاعتقاد

    ثم علوم الاعتقاد وأهمها أن يعرف الإنسان ما كان عليه سلف هذه الأمة بالأدلة والآثار، فيعرفه مربوطاً بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وبآثار السلف؛ لأن الله تعالى أحالنا إلى ما كانوا عليه بالعقيدة فقال: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا [البقرة:137]، وهذه إحالة صريحة من كتاب الله إلى عقيدة السلف.

    ومن هنا فمعرفة الإنسان لتلك الآثار كيف كانوا يفهمون القرآن، وكيف كانوا يفهمون السنة، وكيف كان أدبهم مع الله، وكيف كانوا يخاطبونه ويدعونه، فهذا مهم جداً، وليس المقصود به تلك المسائل الخلافية غير المحصورة أو الشبهات التي أثارها بعض الضالين في عصرٍ من العصور ومحيت ولم يبق لها وجود، أو المشكلات المتوقعة التي يمكن أن تقع أيضاً، فهذه تُدرس في علمٍ آخر وهو علم المقالات، أما علم العقائد فالمقصود به ما كان صافياً خالياً من الشبهات والبدع والمشكلات، ويزداد الإنسان فيه محبة لله ورسوله، ويزداد فهماً للقرآن، ويزداد يقيناً وإيماناً، ولا يخلط النصوص بمجرد آراء عقلية وأمور قابلة للرد والقبول، فالآراء العقلية والأمور القابلة للرد والقبول موجودة في علم آخر هو علم المقالات والفرق، وهو علم يعرف به الإنسان تاريخ هذه الأمة بحسنه وسيئه، ويعرف أقوال الطوائف وآرائهم، ويعذر أيضاً من كان منهم معذوراً، وكثير من الذين اجتهدوا في مسائل عقدية أخطأوا، لكنهم يُثابون على خطأهم، وهم معذورون في ذلك، وإن كنا نخالفهم وإن كنا نرد عليهم، لكننا نعذرهم لأنهم اجتهدوا في موضع خفي، واعتمدوا على دليل فأخطأوا الصواب، ونرد عليهم ونبين خطأهم، لكن مع ذلك نلتمس لهم العذر، ونعلم أنهم قد يكونوا حطوا رحالهم بالجنة قبل مائة عام كما قال يحيى بن معين رحمه الله.

    علوم المنطق

    ثم بعد هذا كذلك ما يحتاج إليه الإنسان من ترتيب الأدلة، فيشمل ذلك الجدل الفقهي والجدل العقدي، وأيضاً قواعد المنطق التي هي غير معضلة التي خلصها أهل الإسلام من شوائب الشرك اليوناني، فهذه يحتاج إليها الإنسان فقط في إقناع الآخرين وفي الاطلاع على الكتب اليوم التي أُلفت في الإسلام لا تخلو منها، وإن كان الناس في غنى عنها في الأصل، لكن اليوم أصبحت الثقافة الإسلامية مربوطة بها؛ لأن هذه الثقافة موجودة في الكتب، وهذه الكتب لا يمكن أن يفهمها إلا من درس تلك القواعد، لكن على الإنسان ألا يتوسع فيها، وألا تأخذ جزءاً مهماً من وقته وتفكيره، ويجعلها أمراً عظيماً، فما هي إلا أمر اضطر الإنسان إليه بعد أن أُلفت الكتب على هذا الوجه.

    علوم اللغة

    ثم بعد هذا علوم اللغة، وهي من أهلم العلوم، إذ لا يمكن فهم الكتاب ولا السنة إلا بها، وهي علوم كثيرة، منها علوم مفردات اللغة، وعلم النحو وعلم الصرف وعلوم البلاغة، وعلم الشعر وعلم الإنشاء، وعلم الهجاء وعلم المحاضرة، وعلم الأدب وعلم العروض والقوافي، وعلم آداب البحث والمناظرة وعلم الاشتقاق، فهذه كلها من علوم اللغة التي يحتاج الإنسان إلى معرفتها، والإنسان محتاج إليه كذلك في إدراكه لإعجاز القرآن والسنة.

    1.   

    مطالعة العلوم وبعض مبادئها

    وهذه العلوم يحتاج الإنسان إلى معرفة مبادئ منها، وإذا درس شيئاً يسيراً من كل علم من العلوم كان مشاركاً، ويستطيع حينئذٍ المطالعة.

    المطالعة عند الأوائل

    والمطالعة اليوم قد بدأ الناس بها قبل أن يصلوا إلى هذا المستوى، مع أن أهل الحديث في زمانهم كانوا ينكرون على من يأخذ الحديث من الكتب، ويسمونه من سراق الحديث، وكثير من المجروحين ما جُرحوا إلا بسبب سرقة الحديث، وقد نص عدد كبير من أهل الحديث على عدم جواز أخذ الحديث من الكتب، فإنه لابد فيه من إسناد، ولذلك قال العراقي رحمه الله في الألفية:

    قلت ولابن خير عندهم امتناعُ نقل سوى مرويه إجماعُ

    فإن ابن خير ذكر في الفهرس أن نقل الإنسان لغير مرويه من الحديث قالوا بالإجماع، فحكى الإجماع على ذلك، والمقصود بالإجماع إجماع أهل الحديث، وقد ذكروا أنه يكفي في العصور المتأخرة الرجوع إلى الكتب المصنفة بعد أن يكون الإنسان له إجازة فيها، حتى لو لم يقرأها على الشيخ يستبيحها بالإجازة، ولهذا قال العراقي أيضاً: ويكتفي الآن بالرجوع إلى المصنف، لكن لابد أن يكون ذلك المصنف صحيحاً، وأن يكون مقابلاً على نسخٍ على أصول معتمدة، وقال الإمام يحيى بن شرف النووي: يكفي أصل واحد أن تكون النسخة التي لديك مقابلة على أصلٍ واحد مروي، ولكن جمهور أهل الحديث قالوا: لابد أن تكون مقابلة على عدد من الأصول لئلا يقع فيها اختلاف.

    من غرائب التحقيقات في عصرنا

    واليوم المطابع تُخرج كل يومٍ ما لا حصر له ولا عناية لأحدٍ به، ففيها من الأخطاء الشيء الكثير جداً، والذين يسمون أنفسهم بالمحققين، ويُخرجون كتب التراث، في الواقع كثير منهم ما لهم عناية بالعلم ولا اشتغال به، وإنما هم تجار، ولذلك لا يُعتمد على تخريجهم ولا على تحقيقهم.

    ومن غرائبهم أن أحدهم حقق أجزاءً من سنن الترمذي تكميلاً لما عمله أبو الأشبال أحمد شاكر رحمة الله عليه، وبعده محمد فؤاد عبد الباقي، فشاكر رحمة الله عليه حقق المجلدين الأولين من سنن الترمذي، ومحمد فؤاد عبد الباقي حقق الثالث تحقيقاً دون ذلك بكثير لا يُقارن به، لكن جاء بعضهم فكمل المجلدين الآخرين وهو قريب على هذا العلم أصلاً، ومن غرائب ما عمل أنه في حديث: ترث المرأة عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه. جعل رقماً على قوله: (لاعنت عليه) وكتب في الهامش: العنت المشقة، ما علاقة هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: (ولدها الذي لاعنت عليه)، وإلا لأن المقصود لا عنت عليه؟! هذا يُفسد المعنى تماماً ولا له علاقة بهذا.

    ومثل ذلك آخر يحقق جزءاً للحافظ ابن حجر في تخريج حديث: (لا تسبوا أصحابي)، فقد قال الحافظ فيه: هذا الإسناد جرحه ثابت، أي: أنه معروف، فجعله عليها رقماً، وكتب: ثابت هو البناني، وجاء لترجمة ثابت البناني، وثابت البناني من التابعين، ولا له كلام في الجرح والتعديل ولا جرح هذا الإسناد، لا له علاقة به، وأما أن المعنى شرحه ثابت، فهذا النوع من الأخطاء كثير جداً.

    وأحد المستشرقين عند قرأ في مقدمة صحيح مسلم عن عبد الله بن المبارك قال: كان بقية يأخذ عن كل من هب ودب، فقرأها هو: كان عبد الله بن المبارك ثقة يأخذ عن كل من هب ودب، فجعلها: كان بقية، فقال: كان ثقة يأخذ عن كل من هب ودب! ونظير هذا كثير جداً من أخطاء المعاصرين.

    آداب المطالعة

    ولكن هنا أذكر بآداب المطالعة، فينبغي للذين وصلوا إلى مستوى المطالعة إذا أرادوا مطالعة أي كتاب أن يأخذوا دفتراً للمطالعة، ويقسمونه إلى ثلاثة أقسام:

    الأول: قسم يكتبون فيه المعلومات التي فهموها واستوعبوها من الكتاب لتكون تلخيصاً لهم لمعلوماتهم.

    الثاني: قسم يكتبون فيه المعلومات التي قرأوها مما بين السطور وتفهموها من الكتاب، ولم يدل عليها الكتاب لربط المعلومات بمعلوماتهم السابقة.

    الثالث: قسم يكتبون فيه الإشكالات التي لم يجدوا لها حلاً ولم يفهموها ليسألوا عنها، والاستشكال في حد ذاته علم؛ لأنه يقتضي من الإنسان أن يبحث، وأن يعرف نقص نفسه.

    وأيضاً لابد أن تكون المطالعة متأنية، وأن تكون في وقت ليس فيه للإنسان أية مشاغل تشغله عن الفهم، وإذا قرأ شيئاً وهو مشغول فإنه لا ينتفع بذلك، بل لابد أن يكون في مكانٍ هادئ ليس فيه ضجيج ولا أشغال حتى يستطيع تفهم ذلك.

    اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد بكل شيء تحب أن تُحمد به على كل شيء تُحب أن تُحمد عليه، لك الحمد في الأولى والآخرة، لك الحمد كثيراً كما تُنعم كثيراً، لك الحمد كالذي نقول وخيراً مما نقول ولك الحمد كالذي تقول، لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767956161