بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فنحمد الله تعالى الذي جمعنا مرة أخرى في هذا الصرح المبارك العريق، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا أجمعين من المتحابين فيه المتزاورين فيه المتجالسين فيه، الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وأشكر للرابطة عنايتها بمثل هذه الموضوعات التي تهم تصور المسلم، وبناءه العلمي والفكري، فإنها يبنى عليها غيرها وهي الأساس، ولا شك أن الموضوع الذي اختير للتحدث عنه موضوع واسع، ولن نوفيه حقه، ولكن ما لا يمكن كله لا يترك ما تيسر منه؛ فلذلك أستعين بالله تعالى، وأحمده في بداية هذه الكلمة وأقول:
إن الله جل جلاله خلق الخلق جميعاً لعبادته، وصرح بأنه خلق الجن والإنس لذلك؛ فقال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات:56]، وبين حكمة أخرى تختص بخلق الإنس وهي الاستخلاف في هذه الأرض، ولله الحكمة البالغة في ذلك كله؛ فقد خلق آدم بيمينه، ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، وجعله خليفة في هذه الأرض، وسخر له ولذريته جميع ما فيها؛ خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا[البقرة:29]، وذلل لهم البهائم والأنعام؛ وَذَلَّلْنَاهَا لَهمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ[يس:72]، وجعلهم سادة هذه الأرض، وعلم تفاوت مستوياتهم وعقولهم، وتفاوت اجتهاداتهم؛ فلم يتركهم همجاً كالبهائم يعتدي بعضهم على بعض، بل نظم شئون حياتهم؛ فأرسل إليهم الرسل لإقامة الحجة وإنارة المحجة، وبدأ الرسالة إلى أهل الأرض بــنوح عليه السلام، وقد علم الله بحكمته أن مهمة الرسل شاقة، وأنها تحتاج إلى جهد عظيم؛ فلذلك كانت البداية الممهدة بعثة نوح الذي مكث ألف سنة إلا خمسين عاماً، وهو يعالج هداية أهل الأرض وإقامة الحجة عليهم، ثم قفى على آثاره بالمرسلين؛ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ[فاطر:24].
فما من أمة من الأمم إلا وقد بعث الله إليها رسولاً؛ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ[النساء:165]، ومع كل رسول يرسل الله سبحانه وتعالى معجزة مصدقة لما جاء به وبرهاناً قاطعاً، فكل من رآه استجاب له؛ كما ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من نبي بعثه الله قبلي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة )، حتى إذا خاضت البشرية كل تجاربها، ومرت بجميع أطوار حياتها التي علمها الله في سابق علمه الأزلي، وقال فيها في نذارة نوح : وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا[نوح:14]، وفي نذارة محمد صلى الله عليه وسلم: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ[الانشقاق:19].
ختم الله الرسالة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، وجهالة من الناس واقتراب من الساعة؛ فجاء بالحنيفية السمحة التي هي الدين عند الله جل جلاله، فكل ما سواها من الأديان إنما كان مؤقتاً يصلح لمدة محددة، فإذا تجاوزت البشرية ذلك الطور لم يعد ذلك الدين صالحاً للتطبيق المستمر فيها، بل إن من الديانات التي أرسل الله إلى أهل الأرض ما يكون مختصاً بأهل بلد أو بقبيلة أو بعرق مخصوص، ولا يصلح لتطبيق من سواهم؛ كالتشديد الذي نزل على بني إسرائيل فإن البشرية الأخرى لا تتحمله، وهم يتحملون الإصر لما فيه من الفساد المتجذر المتعمق، وجاء محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله بهذا الدين الذي قال الله فيه: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ[آل عمران:19]، فدعا إليه في وقت لا يجد فيه أعواناً، وقد ختمت به الرسالة وجهل الناس أمر الدين، وانقطع عنهم الوحي من السماء لمدة طويلة هي خمسمائة عام، وذلك منذ رفع عيسى بن مريم عليه السلام فنسي الناس الصلة بالسماء، ونسوا الصلة بالله جل جلاله، وأقبلوا يتبعون خطوات الشيطان وما يزينه لهم من الشرك والفجور والفسوق، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم بمهمة صعبة هي مثل مهمة نوح وقت رسالته؛ ولذلك فإن دعوته تقوم على أركان دعوة نوح والنبيين من قبله فيما بينه وبين نوح ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد، أبناء علات ).
بين الله ركنين لرسالة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ[الشورى:13]، فالركن الأول: إقامة الدين لله جل جلاله، والركن الثاني: الاتحاد وعدم التفرقة بين المسلمين، بين الملتزمين بالدين.
وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم في وقت كانت البشرية فيه بحاجة ماسة إلى منقذ ومخرج لها من ويلات الجهل والطغيان والضلال، وما من أمة من الأمم إلا وهي تنتظر مبعثه، سواءً كانت على أثارة من علم سابق كاليهود والنصارى؛ فإنهم كانوا ينتظرون مبعثه، ويعلمون أنه قد حان وقته لما رأوه من فشو الضلال والابتعاد عن منهج الله، أو كانت على غير أثارة من علم؛ كالأديان غير السماوية فإن أهلها يعلمون أن هذا الواقع لا يمكن أن يقر، وأنه لا بد أن يغير؛ ولذلك فإن قس بن ساعدة الإيادي قال في خطبته بسوق عكاظ: (أيها الناس! من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، أقسم قس قسماً لا كاذباً فيه ولا حانثاً: أن لله ديناً هو خير من دينكم الذي أنتم عليه).
حضر النبي صلى الله عليه وسلم خطبة قس وسمع بعض كلامه، وتأثر به عدد من الذين حضروا سوق عكاظ، ولكنهم لم يروا حلاً فهم ينتظرون مبعث النبي؛ لأنهم يعلمون أن هذا الإنقاذ لا يمكن أن يكون أرضياً ولا اجتهاداً بشرياً، فهم ينتظرون الوحي من السماء، فاختار الله محمداً صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة الأمية، في قوم لا يحسبون ولا يكتبون، فبعثه في أم القرى، في قرية نائية، ولكنها وسط العالم، ومنطلق حضارته؛ ففيها أول بيت أخرج للناس.
وجاء محمد صلى الله عليه وسلم إلى قومه وهو وسط فيهم من ناحية النسب، وقد أكمل أربعين سنة؛ فتتام عقله وتمت سمعته وذكره بين الناس.
دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى منهج الله جل جلاله مؤيداً بما ظهر من المعجزات الباهرة الظاهرة، وأبلغها هذا القرآن، الذي به قامت الحجة على الثقلين - الإنس والجن - فقد تحداهم الله أن يأتوا بسورة من مثله، وعلم الله أنهم لن يأتوا بسورة من مثله، ولو تمالئوا على ذلك أجمعين، فأنزل الله عليه الوحي مشمولاً في هذين المتنين وهما: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فكتاب الله: كلام الله بلفظه ومعناه، تحدى الله به الثقلين وتعبد الناس بتلاوته.
وقد أخصه الله بخصائص عن الكتب الأخرى منها ظاهرة النسخ المتكرر فيه، والإنساء والتأخير، وقد قال الله في ذلك: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا[البقرة:106]، وقال: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ[النحل:101].
وقد كانت الكتب السابقة تنزل دفعة واحدة، وتنسخ دفعة واحدة، كما قال الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا[الفرقان:32-33]، كما أن الكتب السابقة كان حفظها موكولاً إلى الأمم التي أنزلت فيها، وقد تولى الله حفظ هذا الكتاب بنفسه وتعهد به فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[الحجر:9]، وبين أن الأمم السابقة كانت مسئولة عن حفظ كتبها، فقال في ذكر التوراة: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ[المائدة:44].
السنة التي هي بيان للقرآن، تنقسم إلى ما كان موحىً إلى النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله أوحي إليه معناه، فأمر هو بالتعبير عنه فعبر عنه بلفظه هو، فليست من كلام الله، ولكنها كلام رسوله الله صلى الله عليه وسلم، وقد قذف في روعه معناه، فعبر عنه هو بلغته وبيانه، وإلى ما كان موحىً إليه من كلام الله جل جلاله بلفظه ومعناه، ولكنه غير متحدىً به، ولا معجز، وليس كذلك متعبداً بتلاوته، وهو الحديث القدسي الذي يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله جل جلاله؛ فهو وحي من عند الله بلفظه ومعناه، ولكنه غير معجز ولا متعبد بتلاوة لفظه؛ فكان ما أوتيه زيادة عن القرآن كالقرآن.
قد نزل القرآن منجماً في ثلاث وعشرين سنة، كما قال الله تعالى: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا[الإسراء:106]، فنزله الله تنزيلاً منجماً خلال ثلاث وعشرين سنة، فكان حجة على الناس بمنهج تربوي عجيب، فإنه لو جاء مكتوباً في الصحف كما أنزل على إبراهيم أو موسى أو عيسى أو داود ؛ لأقام الحجة على الجيل الذين رأوا نزوله، ولكنه جاءت بعده الاعتراضات وكثرت بعده المجادلات، فلما علم الله أن قريشاً قوم خصمون أنزل القرآن مدرجاً؛ ففيه جواب لكل شبهة يلقونها، ولكل ما يقدمونه؛ فكان فيه الجواب لمناظرات المشركين، وفيه جواب لمناظرات الكافرين من أهل الكتاب؛ فكلما جاءوا بشبهة دحضها القرآن بما ينزل منه من جديد، تارة يسبق النزول الشبهة، وتارة تسبق الشبهة النزول؛ فعندما تمالأ المشركون وأولياؤهم من الشياطين أن يعترضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضية الذكاة بمكة قالوا له: ( تزعم أن ما تذبحه أنت بيدك حلال، وأن ما يذبحه الله بشمشار من ذهب حرام؟! فأنزل الله في ذلك: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ[الأنعام:121] ).
وعندما جاء نفر من المشركين من أهل مكة إلى أحبار اليهود، يلتمسون منهم شبهة دامغة يردون بها على محمد صلى الله عليه وسلم، أمروهم أن يسألوه عن الروح، وجاء معهم من اليهود من يسألوه عن ذلك، فسألوه عن الروح فوجدوا الجواب قد أنزل؛ فقد نزل جبريل بقول الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[الإسراء:85]، فكان في القرآن خبر من قبلنا وخبر ما بعدنا وفصل ما بيننا، هو الفصل ليس بالهزل؛ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[فصلت:42]، وقد احتيج إلى بيانه العملي؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل هذا القرآن بلغة عربية رصينة، لا يصلح لفهمها واستيعابها والاستنباط منها جميع الناس، بل إنما يصلح لذلك الراسخون في العلم الذين هيأهم الله له، وأما من سواهم فهم عيال عليهم، وتبع لهم في ذلك، كما قال الله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء:83]، فلم يقل: لعلموه جميعاً، وإنما قال: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء:83]، مع أنهم أولو الأمر جميعاً لأنه قال: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء:83]، وهذا أول ضابط للتعامل مع الكتاب والسنة، وهو أن لا يترك البحث فيهما والكلام فيهما وفي معانيهما والاستنباط منهما مشاعاً بين عوام الناس ومن ليس أهلاً لذلك.
أرى العنقاء تكبر أن تصاد فعاند من تطيق له عناد
فلا يصلح لذلك إلا من هيأه الله له من الراسخين في العلم، ومن هنا فإنه قال: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ[النساء:83]، وباللغة العصرية نفسر الأمن أو الخوف بالظروف الاستثنائية وبالظروف العادية؛ فالأمن هو ظروف عادية، والخوف هو الظروف الاستثنائية، وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ[النساء:83]، أي: جعلوه عاماً بينهم لكل إنسان أن يشارك في تدبره وتفقهه، وقد نعى الله هذا الحال فقال: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء:83]، فهذا توجيه لما هو أفضل وأكمل وأحسن أن يردوه إلى الرسول ما دام بين أظهرهم، ولكن الله علم أنه لن يعيش بعد بداية نزول الوحي عليه إلا ثلاثاً وعشرين سنة؛ فلذلك قال: وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ[النساء:83]، وأولو الأمر هم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؛ كما فسر ذلك عدد من أهل العلم، فقالوا: أولي الأمر: الذين يأمرون وينهون، أي: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وقيل: أولي الأمر هم القادة الربانيون الذين مثابتهم في هذه الأمة كمثابة الأنبياء في بني إسرائيل؛ فإن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، وهذه الأمة يسوسها العلماء، فهم فيها بمثابة أنبياء بني إسرائيل كما ثبت في الصحيح كذلك.
وهؤلاء الذين يرد إليهم الأمر عند الاختلاف فيه ليسوا بالضرورة يهدون له جميعاً؛ لأنه لو كان كذلك لكانت دلالته واضحة دائماً، ومن حكمة الله ألا يكون القرآن بأسلوب واحد؛ فلا بد أن يكون فيه الحذف والإثبات والكناية والتصريح والمجاز، وغير ذلك من أساليب اللغة العربية لأنه بلسان عربي مبين، وهذا يقتضي أن يبقى كل أهل زمان يتطفلون عليه ويأخذون من مائدته ما يناسبهم، فلو جاء بأسلوب واحد لفهمه واستوعبه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والصدر الأول، ولم تبق للاحقين فيه مطامع، ولم يبق لهم ما يختص بهم في فهمه واستيعابه، وهذا مناف لعمومه وشموله وصلاحه لكل زمان ومكان؛ فلذلك بقي تدبره مأموراً به في كل عصر، ويرزق الإنسان المتدبر له ما لا يرزقه من سواه في كل زمان وفي كل مكان، حتى لو لم يكن من الناطقين بالعربية؛ فكثير من الذين دخلوا في الإسلام أفواجاً من الأمم الأخرى رزقهم الله من فهم كتابه ما لم يرزقه العرب الأقحاح، الذين هم أهل هذا اللسان في الأصل، فهذا يدل على منحة ربانية يمنحها الله من شاء من عباده كما قال تعالى: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا[الشورى:52]، وكما قال تعالى: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ[العنكبوت:49]، وكما قال تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ[العنكبوت:43].
فهم الذين يصلحون لتدبره؛ فتارة يرزقون الهداية إلى الصواب فيه، وتارة يحرمون من ذلك، وقد قال محمد بن مالك رحمه الله تعالى في مقدمة التسهيل: (وإذا كانت العلوم منحاً إلهية ومواهب اختصاصية فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين). وهذا يقتضي أن ينال كل حظه من هذا الأمر فهو قسمة ربانية ورزق، كما قال العلامة محمد المتاني رحمه الله:
وقسمة الحظوظ فيها يدخل فهم المسائل التي تنعقل
فيحرم الذكي من فهم الجلي إن لم يكن من حظه في الأزل
فكل ينال حظه منه وهم جميعاً مأمورون بتدبره كما قال الله تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[ص:29]، وكما قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا[محمد:24].
الضابط الثاني من ضوابط التعامل مع الكتاب والسنة وهو: الجمع وعدم التفريق؛ فالقرآن يصدق بعضه بعضاً ويفسره وتفسره السنة وتصدقه، والسنة كذلك لا تفهم إلا في نطاق القرآن وضمن إطاره؛ فلا يمكن أن يفصل بعض القرآن عن بعض، فالذين يفعلون ذلك هم مرضى القلوب الذين يتبعون ما تشابه منه، وقد بين الله هذا التفاوت في أسلوبه، وأشار إلى هذا الضابط في التعامل معه؛ فقال تعالى: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ[آل عمران:7].
وقد قال الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات: (القطع في القوليات متعذر) ومعناه: أن الألفاظ يتعذر القطع بدلالتها؛ لأن لها محامل كثيرة، فإذا قيل لك: ما الدليل القاطع على وجوب الصلاة؟ فلا يمكن أن تستدل مثلاً بقول الله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ[البقرة:43]، لأنه يقال لك: هذا أمر يمكن أن يكون للوجوب، ويمكن أن يكون للندب، ويمكن أن يكون للإباحة، وكذلك فإن الصلاة عامة تشمل النفل والواجب، فلا يكون ذلك قاطعاً على وجوب الصلاة، وكذلك إذا أتيت بأية آية أخرى وحدها لا تكون قاطعة، لكن الطريقة المناسبة في ذلك هي العمل بهذا الضابط، بأن تجمع كثيراً من النصوص التي تدل على وجوب الصلاة كقوله تعالى: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ[المائدة:55]، وكقوله: وَالمُقِيمِينَ الصَّلاةَ[النساء:162]، وكقوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ[المرسلات:48]، وكقوله: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ[البقرة:43]، وكقوله: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ[آل عمران:43]، وكقوله: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، وكقوله: قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]، إلى غير ذلك.
فتجمع جميع الآيات فيحصل لك القطع بوجوب الصلاة، وهذا القطع يكون مثل التواتر المعنوي كما مثل له الشاطبي بشجاعة علي وجود حاتم ، فإننا ليس لنا إسناد الآن بحديث واحد يثبت شجاعة علي أو جود حاتم ، ونحن نقطع بذلك ونجزم به، وإنما عرفناه من قصص كثيرة تألفت حتى حصل بها رأي عام لدى الإنسان، وأصبح واثقاً به لا يقبل لديه نقاشاً ولا جدلاً، فكذلك إنما يحصل القطع في القوليات بجمعها في مفرق واحد من مختلف النصوص ومن مختلف السياقات؛ فإذا جمعت كانت دليلاً قاطعاً كالسيل لا يمكن أن يوقف في وجهه.
الضابط الثالث من هذه الضوابط: تكميل بعض النصوص لبعض؛ فإن الله سبحانه وتعالى أخبر أن القرآن محكم جميعاً، وأنه متشابه جميعاً بعدما ذكر في الضابط السابق بأن: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7] فإنه قال: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ[هود:1]، وقال تعالى: اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا[الزمر:23]، فالإحكام العام معناه: الإتقان؛ فهو متقن لا يمكن أن يجد فيه الإنسان اختلافاً ولا تناقضاً؛ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا[النساء:82]، ولكنه يمنع منه من لا يريد الله أن يكونوا من أهله؛ فيصرفون عنه كما قال الله تعالى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ[الذاريات:9]، (يؤفك) أي: يصرف عنه، أي: عن هذا القرآن من أفك في علم الله، أي: علم الله أنه ليس أهلاً لذلك، وكما قال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا[الأعراف:146].
فهؤلاء يصرفون عن منهج الله جل جلاله، ويتبعون بنيات الطريق؛ لأن الله علم أنهم ليسوا أهلاً لخدمة كتابه، فحملة القرآن أهل الله وخاصته من خلقه، وحملته ينقسمون إلى الذين يحملون حروفه وحدوده، والذين يحملون حروفه فقط، والذين يحملون حدوده فقط، فأكملهم وأعلاهم منزلة من يحمل حروفه وحدوده، أي: يقرأ ما تيسر من القرآن كما أمر الله بذلك، وقد قال الإمام جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي رحمه الله: إن ما تيسر من القرآن في زمانه يشمل القراءات العشر برواياتها العشرين؛ لأنها ميسرة للذكر ومضبوطة بالكتب، فالذين يقرءونه بهذه القراءات ورواياتها يعرفون معانيه، ويتدبرون فيه ويعرفون تفاسيره، هم الدرجة العليا، ثم دونهم الذين يحملون حروفه ولا يحملون حدوده؛ فهم يحفظونه ولكن لا يتقنون فقهه ولا فهم مقاصده، ثم دون أولئك الذين يعملون يؤمنون به جميعاً ولكنهم لا يحفظونه؛ فالجميع من أهله وهم متفاوتون في ميراثه، وقد قال الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا[فاطر:32-33].
وذلك أن أشرف ما في الأرض وأفضله هو هذا الوحي الذي أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن الله ليأتمن عليه المفلسين؛ فالله يعلم خفايا النفوس وهو يعلم السر وأخفى، وهو يعلم مآلات الأمور؛ فلا يمكن أن يختار من بين عباده لحفظ وحيه، ولإقامة الحجة على الناس، ولخلافة الرسل وميراثهم من ليس أهلاً لذلك، بل يكثر المدعون والمتطفلون والذين يظن الناس بهم ذلك، ولكنهم عند الله ليسوا من أهله، ويقل الذين تقوم بهم الحجة؛ فهؤلاء وإن كانوا يقعون في الأخطاء وهم غير معصومين، لكن أخطاءهم تكفرها حسناتهم في القيام بشأن الدين والأمر به، وحفظه على الناس، وهم متفاوتون في ذلك، فأقلهم منزلة مثلاً من يحفظ على هذه الأمة أربعين حديثاً من أمر دينها.
وقد ورد في ذلك عدد كثير من الأحاديث الضعيفة، ولكنها لكثرتها جعلت لذلك أصلاً؛ ولهذا اعتنى العلماء بالأربعينيات؛ فألف المنذري الأربعين في الأحكام، وألف النووي الأربعين في جوامع الكلم، وألف العجلوني الأربعين في مقدمات الكتب، وغيرهم من الذين اعتنوا بالأربعينيات؛ كالأربعينيات البلدانية وغيرها؛ لأن هذا أقل ما ينسلك به الإنسان في سلك الحافظين للكتاب والسنة، أن يحفظ القرآن ويحفظ معه أربعين حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الضابط يقتضي أن يحاول الإنسان تفسير القرآن بالقرآن أولاً، وتفسير القرآن بالسنة بعد ذلك، وتفسير السنة بالقرآن، ثم تفسير السنة بالسنة؛ فما ذكر من التشابه بينه، التشابه العام معناه: أن بعضه يفسر بعضاً ويصدقه.
فأنت إذا قرأت مثلاً بقراءة الجمهور في سورة المؤمنون: (قلنا احمل فيها من كلِ زوجين اثنين)، فهذه قراءة جمهور القراء: (من كلِ زوجين اثنين) تستشكل هذه القراءة فتقول: هما زوجان فكيف أحمل منهما اثنين؟ فهما اثنان أصلاً؟ و(من) تبعيضية، ولا يمكن أن يقصد زوجان فقط؛ لأنه قال: (من كلِ زوجين) ويجاب عن ذلك بالقراءة الأخرى، وهي قراءة حفص عن عاصم بن أبي النجود الكوفي ، وهي: مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ[هود:40]، (من كلٍ) أي: من كل صنف من أصناف الخلائق زوجين اثنين.
ومثل ذلك ما قال ابن جرير الطبري رحمه الله: (القراءتان كالآيتين في تفسير سورة المائدة عند قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ[المائدة:6]، فقراءة الجمهور: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ[المائدة:6]، وقراءة عبد الله بن كثير المكي : (وأرجلِكم إلى الكعبين) فـابن جرير الطبري قال: (القراءتان كالآيتين فكلتاهما لها حكم) والجمهور على أن قراءة ابن كثير تفسرها قراءة الجمهور؛ فيكون الجر من باب المجاورة، والجر بالمجاورة معروف في لغة العرب؛ كقول امرئ القيس :
كأن أباناً في أفانين ودقه كبير أناس في بجاد مزمل
فـ(مزمل) بالجر هي نعت لــ(كبير) بالرفع، وكان أصلها أن ترفع أن يقال: (مزمل) ولكنها جاورتها لفظ (في بجاد) وهذا اسم مجرور بالحرف، فلما جاورتها اللفظة المجرورة حسن جرها لينساق الكلام في وجه واحد، كما قال سيبويه رحمه الله: (يحسن الجر بالصفة المشبهة لينساق الكلام في سياق واحد) فالصفة المشبهة لها مواضع يحسن الجر بها، وتعرفون السور التي ذكر ابن مالك في الألفية وهي اثنتان وسبعون سورة في قوله:
فارفع بها وانصب وجر مع أل ودون أل مصحوب أل وما اتصل
بها مضافا ً أو مجردا ً ولا تجرر بها مع أل سما ًمن أل خلا
ومن إضافة ٍ لتاليها وما لم يخل فهو بالجواز وسما
وقد أوصلها خالد الأزهري في التوضيح إلى أربعة عشر ألف صورة، وأوصلها الخضري في حاشيته على شرح ابن عقيل إلى ثمانية وعشرين ألف صورة، وهي صور عمل الصفة المشبهة، لكن هذه الصور بعضها حسن وهو ما جر بها؛ فإن ذلك لينساق الكلام في سياق واحد كما قال سيبويه ، ومنها فإن قراءة الجر هنا إنما تحمل على المجاورة وتفسر بقراءة الجمهور.
ومثل ذلك قراءة حمزة الزيات رحمه الله في أول سورة النساء في قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامِ إن الله كان عليكم رقيباً) فقراءة حمزة بجر الأرحام، وقراءة الجمهور (والأرحامَ) بالنصب، فقراءة الجمهور مفسرة لقراءة حمزة ؛ لأن قراءة حمزة ظاهرها القسم بالأرحام، وقد كان ذلك معروفاً لدى أهل الجاهلية؛ فقد كانوا يقولون: (أذكرك الله والرحم) وكانوا ينشدون بالأرحام، ولكن ذلك منع منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تحلفوا بآبائكم، فمن حلف بغير الله فقد أشرك ).
والمقصود بذلك شرك دون شرك؛ فليس هو من الشرك الأكبر المخرج من الملة، بل هو شرك دون شرك، ومع هذا فإن للآية محملاً آخر، وهو ألا يقصد بقوله: (تساءلون به) النشدة والقسم، بل يقصد بذلك الاستعطاف بالتذكير فقط، كما كان محمد السجاد بن طلحة بن عبيد الله التيمي رضي الله عنهما يقول: (أذكرك حم) فمعناه: أذكرك الحق الذي قال الله في سورة "حم" وهي "حم" الشورى، فإنه قال: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى[الشورى:23]، فهو من قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش من بني تيم بن مرة بن كعب بن لؤي ، فكان يذكر بذلك فيقول: (أنشدك حم) وقد قال الذي قتله:
وأشعث قوام بآيات ربه قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
شككت له بالرمح جيب قميصه فخر صريعاً باليدين وللفم
على غير شيء غير أن ليس تابعاً علياً ومن لا يتبع الحق يندم
يناشدني حم والرمح شاجر فهلا تلا حم قبل التقدم
فيكون هذا محمولاً على النشدة بالتذكير، وهو الذي يسمى بالاستعطاف، والاستعطاف قد يؤتى بالقسم فيه على غير وجهه كقول جرير :
بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ليلاي منكن أم ليلى من البشر؟
فإنه لا يمكن أن يحلف على ظبيات القاع؛ لأنهن لا يفهمن ذلك، ولا يمكن أن يجبنه، وإنما قصد بذلك استعطافاً على طريقة العرب في بكائهم للأطلال وخطابهم للرسوم والديار، وهذا المعنى في آيات القرآن كثير.
الضابط الرابع من هذه الضوابط: المرجع إلى أساليب العرب في فهم الكتاب والسنة؛ فإن للعرب أساليب متنوعة، ومن أراد أن يجريها على سنن واحد أو قاعدة واحدة فإنه لا بد أن يصادم كبكباً، ولا بد أن يضرب في حديد بارد، ولا يمكن أن يستقيم له الكلام؛ فلذلك تعلمون أن الأصل أن تذكر الجملة بطرفيها، وهما العمدة أي: المبتدأ والخبر أو الفعل والفاعل، وإذا حذف أحدهما ولم يذكر ما يدل عليه يقع الإشكال، لكن أساليب العرب يأتي فيها خطاب الأذكياء، وهو مخالف لخطاب الأغبياء؛ فخطاب الذكي يختلف عن خطاب الغبي، وقد ذكر القزويني رحمه الله في "التلخيص" ونظمه السيوطي في "عقود الجمان" في قوله:
كذا خطاب للذكي والغبي وكلمة لها مقام أجنبي
مع كلمة تصحبها فالفعل ذا إن ليس كالفعل الذي تلا إذا
والارتفاع في الكلام وجبا بأن يطابق اعتباراً ناسبا
وفقدها انحطاطه فالمقتضى مناسب من اعتبار مرتضى
فكل مقام له مقال؛ فلذلك إذا قرأت في سورة الحج مثلاً قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ[الحج:25]، يأتي أهل الغباء الذين لا يفهمون فيقولون: أين الخبر؟ فــ(إن) هنا بداية جملة: (إن الذين كفروا) هذا اسم (إن) وهو مبتدأ فأين خبرها؟ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ[الحج:25]، فأهل الذكاء يعرفون الخبر: لأن الآية جاءت في سياق الوعيد وجاء قبلها: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ[الحج:19-21]، فهذا الوعيد جميعاً مترتب على: الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالمَسْجِدِ الْحَرَامِ[الحج:25]، فيكون الخبر وعيداً شديداً مأخوذاً من الوعيد السابق؛ فيعرف ذلك أهل الذكاء ولا يعرفه أهل الغباء.
ومثل هذا من الأساليب التي يختلف التعبير فيها أن يؤتى باسم الإشارة على غير وجهه المعهود؛ فمن المعهود أن العرب يعبرون عن الإشارة دون (أل) بعشرة أسماء هي في قول ابن مالك رحمه الله في الألفية:
بذا لمفرد مذكر أشر بذي وذه تي تا على الأنثى اقتصر
وذان تان للمثنى المرتفع وفي سواه ذين تين اذكر تطع
فهذه الأسماء أسماء إشارات تدل على المشار إليه، سواءً كان مفرداً مذكراً أو مفرداً مؤنثاً أو اثنين أو جمعاً للذكور أو جمعاً للإناث؛ فكل له صيغة يعبر بها عنه، ولكننا نجد في القرآن أسلوباً آخر من أساليب العربية يشار فيه باسم الإشارة الذي هو مفرد للاثنين، فيفهم ذلك أهل الذكاء دون سواهم؛ فإذا قرأتم في سورة البقرة قول الله تعالى: لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ[البقرة:68]، تجدون اسم الإشارة هنا وهو (ذلك) إشارة للمفرد المذكر، وقد سبق (فارض) و (بكر) وهما اثنين؛ فالإشارة إليها على مقتضى القواعد اللغوية أن يقال: (عوان بين ذينك) ولكن هذا الأسلوب للأذكياء؛ لأنهم يعرفون أن ما سبق جميعاً هيئة وسياق؛ لأنه عمر؛ فالعمر له درجات متفاوتة ولكن تلك الدرجتان إنما هي أجزاء لوحدة واحدة، فيشار إلى تلك الوحدة فيقال: (عوان بين ذلك).
ومثل هذا إذا قرأتم في سورة الفرقان قول الله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا[الفرقان:67]، تجدون (ذلك) اسماً مفرداً متساوياً في الأصل للمفرد المذكر، ولكنه هنا في السياق سبقه أمران الإشارة إليهما معاً: لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا[الفرقان:67]، فيفهم الأذكياء أن السرف والتقتير كلاهما داخل في إطار النهي، وكلاهما مذموم، وكل فضيلة بين رذيلتين فيفهمون السياق على وجهه.
وهكذا في عود الضمائر؛ فإن القاعدة المعروفة في اللغة: أن الضمير يعود على أقرب مذكور، ولكن الأذكياء يميزون فيعرفون المقصود إذا تداخلت الضمائر، وفي ذلك إعجاز من إعجاز القرآن، فإذا قرأتم في سورة الفتح قول الله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا[الأحزاب:45]، لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا[الفتح:9]، عرفتم أن الضمير في قوله: (وتسبحوه) لله لا لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الضمائر التي قبله هي لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فهذا من تداخل الضمائر، وهو خطاب للأذكياء الذين يميزون، وليس خطاباً للبلهاء الذين لا يفصلون.
ثم بعد ذلك تجدون نظير هذا كثيراً أيضاً في ما يحتمل وجوهاً متعددة في اللغة؛ فإذا قرأتم مثلاً في أول سورة بني إسرائيل - وهي سورة الإسراء - قول الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[الإسراء:1]، تجدون هذه الضمائر فهذه واضحة جداً للأذكياء: ((الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ)) أي: المسجد، (لنريه) أي: عبدنا، (الذي أسرى بعبده) (إنه) أي: إن الله هو السميع البصير، فالذكي يفهم الضمائر الثلاثة ولا يقع لديه إشكال أبداً فيها، فيقول: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى[الإسراء:1]، فسبقت الأسماء الظاهرة وهي(الذي) وهو الله جل جلاله، و (عبده) وهو محمد صلى الله عليه وسلم و (المسجد الأقصى) وهذه الثلاثة الأسماء الظاهرة أعيدت عليها الضمائر بالترتيب فقال: الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[الإسراء:1]، (الذي باركنا حوله) هذا المسجد، (لنريه) هذا الرسول صلى الله عليه وسلم (إنه) أي: الله جل جلاله هو السميع البصير، بعد هذه يقول: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ[الإسراء:2-3]، فما إعراب: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ[الإسراء:3]؟ بالنصب.. هذا بحسب السياق والمعنى؛ فهي محتملة الأمرين:
الأمر الأول: أن تكون منادىً معناه: يا ذرية من حملنا مع نوح! إنه كان عبداً شكوراً فاشكروا.
والاحتمال الثاني: أن تكون مفعولاً لقوله: (تتخذوا) ألا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح وكيلاً، فتكون مفعولاً أول لـ(تتخذوا) (ألا تتخذوا من دوني وكيلاً ذرية من حملنا مع نوح) فــ(وكيلاً) مفعول ثاني لــ(تتخذوا) لا إشكال فيها، لكن المفعول الأول محتمل أن يكون: (ذرية من حملنا مع نوح )، أي: لا تتخذوا البشر الذين كانوا فوق الماء في الطوفان تجري بهم السفينة، مما يدل على أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة، فلا تتخذوهم وكيلاً من دوني.
ونظير هذا أيضاً بعد هذه الآية قوله في هذا السياق يقول: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا[الإسراء:4-8]، أيام الطلب كنا مقيدين بالتفسير بما يذكره المفسرون في هذه الآيات؛ فكنا نتوقع أن بني إسرائيل قامت لهم دولتان وأنه سلط عليهم عدوان، وأنهم قد جاءهم بختنصر والبيزنطيون فأذلوهم في الشام، وأهانوهم أنواع الإهانات، وأن ذلك كله قد مضى.
ولكننا اليوم ونحن نعيش حصار غزة، وتتفطر أكبادنا لحال إخواننا هنالك، إذا قرأنا هذه الآيات بالتجرد عن أقوال المفسرين سنفهمها فهماً مغايراً لما يفهمه الطبري ومن دونه من المفسرين؛ فأنتم جميعاً عندما تقرءون قوله: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا[الإسراء:4]، عرفتم أن الله وعد بني إسرائيل بدولتين، وأن الدولتين كلتاهما سيظهر فيها الفساد والإجرام، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا[الإسراء:5]، أي: جاءت نهايتها حق عليها وعد الله، بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ[الإسراء:5]، والخطاب هنا لبني إسرائيل، عِبَادًا لَنَا[الإسراء:5]، ولا يقتضي ذلك إسلامهم، كما ذهب كثير من المفسرين إلى أن معنى عباداً لنا أنهم مسلمون، وهذا غير صحيح؛ فالعبد يطلق في اللغة على أربعة أمور:
عبد الخلق؛ فالناس كلهم عباد لله بمعنى أنه خلقهم، وعبد الملك؛ فالناس كلهم عباد لله بمعنى أنه مالكهم، وعبد الطاعة، وهذا يختص بالذين أطاعوه من عباده دون سواهم، وعبد المحبة وهذا يختص بالمصطفين من الذين أطاعوه، وهو أخص من السابقين، وعبد المحبة قليل الاستعمال في اللغة ولكن من قول الشاعر:
يا عمرو ثأري عند أسماء يعلمه السامع والرائي
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف الأسمائي
فهو نادر ولكنه موجود في اللغة.
فهنا قوله: (عِبَادًا لَنَا) سنتحرر من العبودية بمعنى الطاعة أو بمعنى المحبة فنقول: (عباداً لنا) بمعنى مملوكين ومخلوقين لنا، أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا[الإسراء:5]، وقد تحقق هذا بالفعل، ويدل الإطلاق في قوله: (عباداً لنا) لأنها نكرة في سياق الإثبات، ولم يقل: (عبادنا) لم يجعلها معرفة وإنما قال: (عباداً لنا) ليدل ذلك على تنوع هذه الحوادث وأنها ليست مختصة بـبختنصر ومن جاء معه من العراق، وليست مختصة بالبيزنطيين وما جاء معهم من بلاد الروم؛ فإن كل ذلك يشمله قوله: (عِبَادًا لَنَا).
ولاحظوا الفرق بين الإطلاق والعموم؛ فالمطلق هو: لفظ يتناول الصالح له من غير حصر على سبيل البدلية والتناوب، والعام: لفظ يتناول الصالح له من غير حصر دفعة واحدة؛ فلو جاء معرفة هنا فقال: بعثنا عليكم عبادنا أولي البأس الشديد، لاختص ذلك بعباد بأعيانهم، ولكن ذلك لا يقتضي حصرهم بل هم عدد كثير؛ لأنه سيكون معرفة، وكذلك لو جاءت النكرة في سياق النفي؛ فإنها أيضاً تدل على العموم، (لا رجل في الدار) معناه: أنه ليس فيها أي إنسان يتصف بهذا الوصف وهو الرجولة، لا واحد ولا اثنان ولا عشرة ولا أي عدد، أما النكرة في سياق الإثبات؛ فالأصل أن تكون من باب المطلق لا من باب العام، ولكم أن تستثنوا من ذلك، ومن المعلوم أنه ما من قاعدة عامة إلا وفيها خصوص واستثناء، قال ابن عباس : (ما من عموم إلا وتحته خصوص، إلا قول الله تعالى: أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[البقرة:231]) فالله عالم بذاته وصفاته وخلقه وكلامه، لكن: اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ[الزمر:62]، هذا عام ويستثنى منه ما ليس مخلوقاً؛ كذات الله وصفاته وكلامه.
وهكذا في كل ما سوى ذلك، عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[البقرة:20]، لا تشمل المستحيل؛ كإعدام ذاته وصفاته ونحو ذلك؛ فالاستثناء من هذه القاعدة هو في قول الله تعالى في سورتين متواليتين هما سورة التكوير وسورة الانفطار: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ[التكوير:14]، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ[الانفطار:5]، فـ(نفس) هنا نكرة في سياق الإثبات وهي من باب العام لا من باب الإطلاق؛ لأن المعنى: علمت كل نفس ما أحضرت، علمت كل نفس ما قدمت وأخرت.
ومن أهل العلم بالتفسير من يقول: إنما جاءت النكرة في سياق الإثبات للعموم هنا لا للإطلاق؛ لأن العموم في مقام التهويل؛ فهذا الأمر هائل فكأن البشر جميعاً لتساويهم في الإدراك كالنفس الواحدة فالناس يقولون: (شدوا شدة رجل واحد) فالأمر إذا أصبح معلوماً لدى الجميع بمستوى واحد؛ فإنه أصبحت نفوسهم كالنفس الواحدة؛ فلذلك قال: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ[التكوير:14]، وقال: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ[الانفطار:5]، فاستووا جميعاً في الإدراك، فأصبح تساويهم في الإدراك كأنما جعلهم نفساً واحدة؛ فلذلك هنا قال: عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا[الإسراء:5].
ثم قال: ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ[الإسراء:6]، المفسرون يقولون: (ثم رددنا لكم) الخطاب لبني إسرائيل رد الله لهم الكرة على بختنصر والبيزنطيين؛ فقامت دولتهم الثانية، ولكن هذا منكر من ناحية التاريخ؛ فما قامت لبني إسرائيل دولة قط بعد التي أقامها داود وسليمان، ولا رد الله لهم الكرة على الروم وفارس أبداً؛ فما تغلبوا على الروم ولا تغلبوا على فارس قط؛ فلذلك نفهم نحن أن الضمير في قوله: (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ)، خطاب للمسلمين، ثم رددنا لكم يا معشر المسلمين الكرة عليهم على الروم وفارس، وهذا وعد لم يتحقق وقت نزوله، وإنما تحقق في أيام فتح العراق والشام، ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا[الإسراء:6].
عجباً للمفسرين كيف يظنون أن اليهود كانوا أكثر نفيراً من الروم وفارس؟! ما حصل هذا في التاريخ، فاليهود أقلية دائمة؛ ولذلك يصفون أنفسهم بأنهم أذلة، أما المسلمون ففعلاً هم أكثر من الروم وفارس الذين قاتلوهم بالشام والعراق، (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ)، وهذا مشير إلى الخلافة وتمددها وانتشارها في أيام بني أمية وبني العباس وبني عثمان، (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا).
ثم أشير إلى تاريخ الأمة وما يقع فيه من الانحطاط والسمو فقال: إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا[الإسراء:7]؛ فهذه الأمة تاريخها فيه إحسان وفيه إساءة، فإذا أحسنوا رفع الله درجتهم في الأمم وفتح لهم الفتوح، وإذا أساءوا عوقبوا، ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ[الإسراء:6-7]، هذه دولة بني إسرائيل الثانية وهي التي نعيشها الآن قائمة في فلسطين في البلاد المقدسة، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ[الإسراء:7]، هذا الدليل على أن الضمير راجع إلى المسلمين لا إلى اليهود؛ لأنه قال: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ[الإسراء:7]، أي: ليسوء اليهود وجوهكم يا معاشر المسلمين! وقد فعلوا، وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ[الإسراء:7]، أي: المسجد الأقصى، كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا[الإسراء:7]، أي: يهلكوا مَا عَلَوْا[الإسراء:7]، إما أن تكون (ما) موصولاً اسمياً؛ فيكون العائد محذوفاً لأنه منصوب بفعل متصرف، وقد قال ابن مالك في الموصول:
إن يستطل وصل وإن لم يستطل فالحذف نزر وأبو أن يختزل
إن صلح الباقي لوصل مكمل
فهنا قال: مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا[الإسراء:7]، (ما علوه) في الأصل؛ فيكون الضمير هو العائد وحذف للعلم به، أو أن تكون (ما) موصولاً حرفياً نائباً عن ظرف الزمان فيكون المعنى: (وليتبروا ما علوا)، أي: مدة علوهم وارتفاع شأنهم (تتبيراً).
ثم جاء الخطاب للمسلمين أيضاً فقال: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ[الإسراء:8]، و(عسى) من الله واجب، وسيرحم الله المسلمين فينتصروا على اليهود، ويقتلوهم ( حتى يتكلم الحجر والشجر: يا عبد الله!.. يا مسلم! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود ).
وستكون معركتان في هذه الأرض إحداهما قبل نزول المسيح بن مريم وقبل خروج الدجال ، وهي معركة يفتح فيها بيت المقدس عند خراب المدينة، كما في الحديث: ( فتح بيت المقدس خراب المدينة، أو: خراب يثرب وخراب يثرب فتح رومية ويخرج الدجال في الثامنة )، فسيقاتلهم المسلمون والمسلمون يومئذ معسكرهم شرقي نهر الأردن، ومعسكر اليهود غربيه، فقد قال لهيك السكوني رضي الله عنه وهو راوي هذا الحديث: (لا أدري ما الأردن يومئذ) والمعركة الثانية هي بعد خروج الدجال عند نزول المسيح بن مريم حكماً عدلاً عند المنارة البيضاء شرقي دمشق؛ فإنه ( ينزل وقت أذان الفجر بين ملكين يمينه على ملك، وشماله على ملك، كأنما خرج من ديماس إذا رفع رأسه تحدر منه مثل الجمان، وإذا طأطأه تقاطر؛ فلا يشك فيه أحد رآه أنه المسيح بن مريم عليه السلام، ولا يحل لكافر أن يجد ريح نفسه إلا ذاب كما يذوب الملح في الماء، وإن نفسه ليبلغ ما يبلغ بصره )، فيقاتل المسلمون مع المسيح بن مريم اليهود الذين اجتمعوا مع المسيح الدجال، في تلك البلاد وهذه المعركة هي التي يتكلم فيها الشجر والحجر.
فلذلك قال: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا[الإسراء:8]، إن عدتم إلى الجهاد في سبيل الله والتضحية في سبيله عدنا إلى ما عودناكم من النصر والتمكين، وهذا لا يمكن أن يكون خطاباً لليهود، بل هو خطاب للمسلمين، ونحن لا نجزم بذلك جزماً، ولكننا نرى الشواهد عليه من دلالات الآيات ومن تداخل الضمائر، وهو مخالف لكل ما يوجد تقريباً لدى المفسرين في تفسير هذه الآيات، والأمثلة في هذا الضابط كثيرة جداً.
الضابط الخامس وهو: المرجع إلى أهل الرواية؛ فإن أهل الرواية هم الذين يمكن أن يعرفوا مقاطع الكلام، والكلام له مقاطع كمفاصل العظام، ومن لم يهتد إلى تلك المفاصل لا يمكن أن يتقنه؛ ولذلك يعرف أهل التجويد التجويد بأنه: إعطاء كل حرف حقه ومستحقه وإتقان الوقف والابتداء، فإتقان الوقف والابتداء من التجويد، ولا بد منه؛ فمن لا يتقن أين يقف؟ ومن لا يتقن كيف يبتدئ؟ لا يكون مجوداً للقرآن، فيحتاج الإنسان في هذا إلى رواية، وبالأخص أن الفواصل أمرها توقيفي وهي لا تخضع لقاعدة واحدة، فالسورة التي كنا نتحدث عنها الآن وهي سورة الإسراء مائة وعشر آيات، وفواصلها جميعاً مع الألف إلا فاصلة واحدة وهي الفاصلة الأولى منها في قوله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[الإسراء:1]، فهذه الفاصلة على الراء، وجميع الفواصل مائة وتسع فواصل كلها على الألف.
ونظير هذا أيضاً سورة الفرقان فهي ثمان وسبعون آية، وجميع فواصلها على الألف إلا فاصلة واحدة، وهي (السبيل) فهي على اللام، وكذلك سورة الأحزاب فهي ثلاث وسبعون آية وجميع فواصلها على الألف إلا فاصلة واحدة، وهي (السبيل) أيضاً كالتي في الفرقان، وهذا من إعجاز القرآن ومن عجائبه، وقد قرأنا من قبل عن العلامة محمد فال ولد محمد ولد أحمد العاقل ما يتعلق بفاصلة سورة الإسراء، ولكن ما ذكرت لكم في فاصلة سورة الفرقان وفاصلة سورة الأحزاب وهو أغرب من ذلك لم نقرأه في أي كتاب، وإنما كان من فوائد الخلوة في السنوات الماضية في السجن.. فإننا وجدنا هذه الفواصل، والغريب أن الإنسان ما يمكن أن يتطفل على مائدة القرآن في أي وقت إلا استخرج منه أشياء عجيبة؛ فنحن في تلك الفترة مرة من المرات كانت الرقابة شديدة، وكانت الأجهزة أجهزة التسجيل وغيرها وأجهزة فصل الاتصال موجودة، ومع ذلك كان يقع بعض ذلك، وكنت أقرأ برواية رويس عن يعقوب البصري وهو قارئ أهل البصرة وهو التاسع من القراء العشرة سورة سبأ؛ فقرأت فيها قول الله تعالى: (فلما خر تبُينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) وقراءة الجمهور وبقية القراء العشرة: فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ المُهِينِ[سبأ:14]، لكن رواية رويس عن يعقوب : (فلما خر تبُينت الجن) وهذا معناه: اكتشف وعرفت أنهم لا يعلمون الغيب، فعرفهم الإنس وعرفهم غيرهم من أنواع الخلائق أن الجن لا يعلمون الغيب؛ لأن هذا سليمان قد مات منذ سنة، وهم في أشد العذاب منهم المصفدون في الأصفاد، ومنهم الذين يمارسون الأعمال الشاقة؛ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ[سبأ:13]، وهم لا يظنون إلا أنه حي، واقف على عصاه، فسلط الله دابة الأرض على عصاه فأكلتها، فلما أكلتها سقط سليمان، وخر سليمان على وجهه، فعرفوا أنه من سنة وهو ميت، وهم كانوا يرونه يطيل القيام في الصلاة، فلم يستنكروا طول قيامه، فظنوا أنه من سنة وهو يصلي، (فلما خرت تبُينت أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين).
وأنا لأول مرة أفكر في هذه الآية ففكرت في معناها، فاكتشف أننا أيضاً في ذلك الوقت يظن كثير من الناس أن كل ما لدينا مكشوف، وأنه لا اتصال بيننا وبين الخلائق، وهذا خلاف الواقع؛ فدلت الآية على هذا تماماً.
ومثل ذلك أيضاً ما اكتشفنا في قول الله تعالى في سورة النحل: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ[النحل:61]، وفي سورة فاطر: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ[فاطر:45]، فالظاء من الحروف الصعبة لصفاتها، والسياق يقتضي أن تتكرر في الآيتين على ظهرها (بظلمهم) لكنه في الآية الأولى التي هي في سورة النحل أثبتت الظاء الأولى، ولم يؤت بالثانية، وفي الآية الثانية التي في سورة فاطر أثبتت الظاء الثانية ولم يؤت بالأولى، وكل له مناسبته وموضعه؛ فالآية الأولى في الذكر والتي هي في سورة النحل جاء فيها: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ[النحل:61]؛ فجيء بالظاء الأولى، وفي السورة الثانية وهي المتأخرة عنها في ترتيب المصحف وهي سورة فاطر جاء فيها: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا[فاطر:45]؛ فجاءت الظاء في الموضع الثاني ولم تأت في الموضع الأول.
والمتدبر يكتشف نظائر هذا أيضاً حتى في الإعجاز في الترتيب وفي التعشير والتجزئة، فالتعشير والتجزئة من عمل التابعين وليس من عمل الصحابة؛ فالصحابة كانت تجزئة القرآن في أيامهم إلى آيات وسور، وليس لديهم أحزاب وأثمان ونحو ذلك، و الحجاج هو صاحب تلك الفكرة، وهي فكرة التعشير والتجزئة، لكن هذه الفكرة رغم تأخرها فيها إعجاز، ومن أمثلة ذلك ما اكتشفناه في تلك الفترة في حزبين متواليين هما الحزب الذي بدايته سورة الجمعة، والحزب الذي بدايته سورة الملك؛ فكلا الحزبين فيه خمس سور، فالحزب الأول فيه سورتان كلتاهما إحدى عشرة آية، وسورتان كلتاهما اثنتا عشرة آية، وبينهما في الوسط سورة هي ثمانية عشر آية بالتوازن التام؛ فسورة "الجمعة" إحدى عشرة آية، وسورة "المنافقون" إحدى عشرة آية، وسورة "الطلاق" اثنتا عشرة آية، وسورة "التحريم" اثنتا عشرة آية، وبين الإحدى عشرة والاثنتا عشرة جاءت سورة التغابن ثماني عشرة آية، فيقع عليها التوازن، وهذا إبداع عجيب جداً، وكذلك في الحزب الذي يلي هذا سورة الملك بالعد المدني بجميع العد ثلاثين آية، وسورة نوح بالعد المدني ثلاثون آية أيضاً، وسورة "ن" وسورة "الحاقة" كلتاهما إحدى وخمسون آية، وسورة "المعارج" أربع وأربعون آية، فسورتان عدهما متحد وسورتان عدهما متحد وسورة جاءت منفردة؛ فجاء التشابه أيضاً من هذه الناحية، ونظير هذا كثير جداً.
وبالنظر إلى رواية الراوي يتبين للإنسان أيضاً في الحديث الأسلوب المختص؛ فمن الرواة من له أسلوب يختص به إما أن يكون ناشئاً عن حدة في طبعه أو عن مباشرة طويلة للتعليم والتفهيم؛ فيكون له أسلوب للتفهيم، كـعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، فـعائشة من أعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولها أسلوب متميز في التفهيم، وقد باشرت التدريس مدة طويلة؛ لأن الله أمرها بذلك في نطاق أمهات المؤمنين حين قال: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ[الأحزاب:34]، فآيات الله: القرآن، والحكمة: السنة، و عائشة لها أسلوب متخصص من لا يعرف هذا الأسلوب أشكل عليه كثير من الأحاديث، وهذا الأسلوب هو: أنها تأتي بالنفي بمعنى التقليل، وقد أخذنا هذا استنباطاً واستقراء من أساليب عائشة أم المؤمنين؛ فالعرب يستعملون (قلما) للنفي، وهذه لغة قريش، إذا قالوا: (قلما) معناه: أنه لم يحصل، (قلما يقوم فلان) معناه: أنه لا يقوم أصلاً؛ ولذلك اختلف النحويون في (قلما) النافية هل هي فعل أو حرف؟ وقد اختار المختار بن بونة رحمه الله أن (قلما) النافية حرف، مع أن صورتها فعل وحرف مركبان تركيب مزج، أو يكون الفعل متصلاً بـ(ما) الكافة وهي إحدى أقسام ما العشرة، لكن عائشة رضي الله عنها يكثر في أسلوبها النفي بمعنى التقليل.
ونظير ذلك ما أخرج مسلم في الصحيح عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى، وإني لأسبحها ) فمن لا يفهم أسلوب عائشة يستشكل هذا الحديث؛ لأنه يجد بعده في صحيح مسلم عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى في بيتي أربعاً )، فيقولون: سبحان الله! هي تقول: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى) وهنا تقول: (كان يصلي سبحة الضحى في بيتها أربعاً).
فالجواب: أن من يعرف أسلوب عائشة عرف أن المقصود بالنفي التقليل، أي: أن ذلك قليل وليس كثيراً، فلا معارضة بين الحديثين أصلاً.
ونظير هذا ما أخرج مسلم في الصحيح عن عائشة بشأن أيام عشر ذي حجة، قالت: ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط صائماً في العشر )، أي: عشر ذي الحجة، وقد أخرج أبو داود عن إحدى أمهات المؤمنين وذكر عدد من أهل العلم أنها عائشة ، قالت: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترك صيام عشر ذي الحجة )، فالمقصود بالنفي التقليل، هذا أسلوب عائشة .
ويمكن أن يحمل على أن المقصود بذلك في الحج، أي: ما كان يصومها إذا كان حاجاً، وكان يصومها في غير ذلك، وما كان يتركها؛ كصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأول إثنين من كل شهر والخميس، ويوم عاشوراء، فهذا ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتركها أبداً.
كذلك حديث عائشة : ( ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة بعدها الوتر.. )، ( على اثنتي عشرة ركعة بعدها الوتر )، وفي رواية على: ( إحدى عشرة ركعة )، فهذا الحديث يقتضي إذا نظرنا إلى أصل اللغة أنه لم يزد على إحدى عشرة ركعة أو ثلاثة عشرة ركعة، لكن ثبت عن عائشة أنها سئلت عن وتر النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ( تارة يوتر بواحدة وتارة يوتر بثلاث، وتارة يوتر بخمس، وتارة يوتر بسبع، وتارة يوتر بتسع، وانتهى وتره إلى إحدى عشرة )، هذا الوتر وحده زيادة على قيام الليل؛ فكثير من أهل العلم استشكلوا فقالوا: كيف تنفي عائشة الزيادة على إحدى عشرة وهي تثبت أن الوتر وحده إحدى عشرة زيادة على ما قالت؟ لأنها لما سئلت عن قيامه قالت: ( كان يصلي ركعتين خفيفتين يفتتح بهما قيامه، ثم يصلي أربعاً لا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن لا يسلم بينهن )، فكيف تقول: إن وتره وحده إحدى عشرة بالإضافة إلى الاثنتين التي يفتتح بهما الأربع التي لا تسأل عن حسنهن وطولهن، والأربع التي بعدها فلا تسأل عن حسنهن وطولهن؟
فالجواب عن ذلك: أن النفي عند عائشة معناه التقليل، معناه: قلما يزيد النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان أو في غيره من قيام الليل على هذا العدد، والذين لا يفهمون هذا الأسلوب يظنون أن الزيادة على هذا العدد بدعة إضافية، وهم لم يفهموا كلام عائشة أصلاً، وحملوه على غير محمله؛ فقيام الليل لم يحدد الشارع فيه عدداً وإنما حدد فيه وقتاً ومدة فقال الله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ[المزمل:20]، فالعبرة فيه بالقدر الذي يقومه، كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أفضل القيام قيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه )، فحدد ذلك بالوقت لا بعدد الركعات؛ ولهذا قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا[الفرقان:64]، فحدد ذلك بالوقت لا بعدد الركعات، فالمطلوب في قيام الليل الوقت لا عدد الركعات، وأنتم ترون كثيراً من العوام ومن لا ينزل الكلام منازله يحافظون في رمضان مثلاً على إحدى عشرة ركعة سريعة تأخذ نصف ساعة أو أقل ويظنون أنهم قد قاموا الليل؛ والعبرة في قيام الليل كما ذكرنا بالنصوص الواضحة من الكتاب والسنة إنما هو بالوقت لا بعدد الركعات.
وكثير من الذين سبقوا من الأصوليين تكلموا في هذا الضابط في قضية الرواية، فالحنفية ردوا حديث التسبيع في غسل الإناء من ولوغ الكلب بأن أبا هريرة وهو راويه أفتى بخلافه، فغسل إناءً أو أفتى بغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب ثلاثاً، وهذه المسألة إذا نظرناها من ناحية الفقه نجد أن الأصل أن النجاسة تطهر بالغسلة الواحدة المنقية كما هو مذهب المالكية، أو بثلاث غسلات منقيات كما هو مذهب الجمهور، فمذهب الجمهور إن ثلاث غسلات منقيات هي تطهير فيما عدا نجاسة الكلب والخنزير، والشافعية والحنابلة يرون أن الكلب والخنزير نجس حتى لو كان حياً.
والمالكية يرون أن الحي طاهر مطلقاً؛ ولذلك قال خليل في عد الطاهر: (والحي ودمعه وعرقه ولعابه ومخاطه). وقال العلامة محمد ولد محمد سالم رحمة الله عليهما: والحي، قال: ولو إبليس عليه لعنه الله، فقيل له: ما فائدة طهارة إبليس عليه لعنة الله؟ قال: من تحكك عليه في الصلاة لم تبطل صلاته، ودليل المالكية في ذلك أن الشاة ما دامت حية فهي طاهرة إجماعاً، فإذا ماتت شاة من غير ذكاة فإنها نجس إجماعاً، قالوا: نجد أن العلة ملازمة للمعلول عكساً وطرداً، ومعناه: إذا نفيت انتفى المعلول وإذا أثبتت أثبت المعلول، وقد وجدنا الشاة في حال الحياة طاهرة، ووجدناها في حال الموت من غير ذكاة نجساً، فيطرد الحكم حيث وجدت الحياة وجدت الطهارة مطلقاً، لا العكس؛ والموت ليس علة للنجاسة؛ لأن الأنبياء ماتوا ولا يتنجسون أصلاً، واختلف في أجساد غيرهم من المؤمنين؛ فلذلك يرى المالكية أن غسل الإناء من ولوغ الكلب فيه يكون سبعاً تعبداً لا تطهيراً؛ فإنه طاهر أصلاً، ويرون أنه لا تتريب في غسله؛ لأن حديث أبي هريرة أخرجه مالك في الموطأ و البخاري في الصحيح بلفظ: ( إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً )، ولم يرد فيه: (إحداهن بالتراب) لا عند مالك ولا عند البخاري .
وقد جاء ذكر التتريب في صحيح مسلم وفي السنن عن أبي هريرة ، ولكنه انفرد به من أصحاب أبي هريرة أبو صالح السمان ، فلم يرو التتريب عن أبي هريرة من أصحابه غير أبي صالح ، وانفرد بالتتريب كذلك من أبي صالح من أصحاب أبي صالح عنه، الأعمش سليمان بن مهران فلم يرو التتريب من أصحاب أبي صالح السمان إلا سليمان بن مهران الأعمش وحده، و الأعمش و أبو صالح السمان كلاهما ثقة، وزيادة الثقة مقبولة، ولكنهم يرون أن الاضطراب حصل فيها، وقاعدة المحدثين أن الحديث إذا حصل اضطراب فيه فالرواية التي في الصحيح قاضية على الاضطراب، والرواية في صحيح مسلم إحداهن بالتراب، ولكن في سنن أبي داود : (أولاهن بالتراب)، وفي سنن الترمذي : (أخراهن بالتراب)، وفي صحيح ابن حبان : (أولاهن أو أخراهن بالتراب)، وفي حديث عبد الله بن المغفل وهو عند مسلم وغيره: (وعفروه الثامنة بالتراب).
فذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الإناء إذا ولغ فيه كلب، أو أدخل فيه يده أو ذنبه، أو أي طرف من أطرافه فإنه تنجس نجاسة مغلظة لا يطهر منها إلا بغسله سبعاً إحداهن بالتراب، ويقولون: نجاسة الكلاب والخنازير مغلظة، لا تطهر بثلاث غسلات منقيات، وإنما تطهر بسبع مع التتريب، ورأوا أنه لا فرق بين ولوغه وبين أن يدخل طرفه في الإناء، بل قالوا: لسانه أطهر من ذنبه؛ لأن ذنبه يبول عليه ولسانه ليس كذلك؛ فقالوا: لسانه أطهر من ذنبه، ولسانه أمرنا بالغسل منه سبعاً، فكيف بذنبه! والمالكية يرون أن لسانه طاهر، ويستدلون بما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: ( كانت الكلاب تقبل وتدبر زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك )، فقالوا: إن الكلب إذا أقبل وأدبر لا بد أن يلهث، وإذا لهث لا بد أن يتطاير شيء من لعابه، ولم يؤمروا برش شيء من ذلك، ولم يفعلوا؛ فدل ذلك على طهارته، أما الحنفية فيرون أنه نجس نجاسة مغلظة، لكنها تطهر بثلاث غسلات منقيات، وقالوا: ترك العمل بحديث أبي هريرة لأنه خالفه هو بفتواه، ويجيبهم الشافعية والحنابلة بأن العبرة بما روى لا بما رأى؛ فالتثليث رآه ولم يروه، والتسبيع رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالعبرة بما روى لا بما رأى.
وعموماً الراوي أولى بفهم الحديث؛ لأنه مرجح عند التناقض والخلاف؛ فمثلاً ابن عباس رضي الله عنهما يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة بنت الحارث أي: عقد عليها وهو محرم قبل أن يطوف ويسعى في عمرة القضاء، و أبو رافع حدث أنه إنما تزوج بها بعد أن تحلل من عمرته، و أبو رافع مرجح في الرواية عن ابن عباس هنا؛ لأنه قال: (فكنت السفير بينهما) فهذا يدل على أنه صاحب القصة، وصاحب القصة مقدم في روايتها على غيره، ومثل ذلك أيضاً الخلاف في حديث: ( إيما إهاب دبغ فقد طهر )، فهذا الحديث ترجح فيه رواية سودة ؛ لأن الشاة التي ماتت كانت لها رضي الله عنها؛ فهي مقدمة على رواية عبد الله بن عكيم بالنهي من الانتفاع بالميتة بجلد أو عظم.
أختم ببعض أوجه الاستنباط التي هي ناشئة عن إعمال هذه الضوابط.
الإنسان إذا تدبر كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعرف أنه لا تناقض، وأنه لا إشكال، وأنه لا يمكن أن يعرض تناقض أو إشكال من قبل عقله، أو بسبب معصية اقترفها أو نظرة إلى محرم، فيقع لديه إشكال في فهم كتاب الله وفي فهم سنة رسوله، فإذا تاب واستغفر زال عنه ذلك الإشكال واتضح له الأمر؛ فيوضع الران على قلبه فيحول بينه وبين فهم الآية، وبحسب ضخامة الذنب وكبره يشتد الران ويخف.
فالإنسان الذي ذنبه صغير، أو وقع في مكروه، أو خلاف الأولى يكون إشكاله إشكالاً خفيفاً وتسهل إزالته، والإنسان الذي هو صاحب كبيرة من كبائر الإثم أو الفواحش تكون الظلمة بينه وبين فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كبيرة؛ فيشق عليه الفهم، وهذا يشمل نور البصيرة؛ فأنتم تعرفون أن الإنسان العابد تتنور بصيرته بعبادته، وقد كان ابن تيمية رحمه الله إذا أراد التفهم في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مكث وقتاً طويلاً مقبلاً على الذكر منقطعاً عن الناس، لا يخاطب الناس، ثم يقول: (يا معلم داود علمني، يا مفهم سليمان فهمني) فتنحل له المشكلات.
والذي يقبل على الذنوب لا بد أن تقع ظلمة كبيرة في قلبه، فيكون كالذي ينظر من نظارة سوداء؛ كل ما يقع عليه نظره يكون أسود لديه، فتتأثر بذلك علاقته مع الله، وعلاقته مع الناس؛ فعلاقته مع الله تغشاه الظلمة، فيطرد عن التقريب والأنس، وعلاقته مع الناس تغشاه الشبهة، كما قال أبو الطيب المتنبي :
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم
وعاد محبيه بقول عدوه فأصبح في ليل من الشك مؤلم
فمن يريد أن يكون أكثر حظاً بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فعليه أن ينور بصيرته بذكر الله؛ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ[الرعد:28]، عليه أن يكون من العابدين، من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، عليه أن تكون له خلوات بالله جل جلاله؛ يذكر الله خالياً فتفيض عيناه، عليه أن يكون من أهل الأنس بالله سبحانه وتعالى؛ فأنتم تعرفون قول ابن الجوزي رحمه الله في "صيد الخاطر" : (أشد الناس بلاء المحجوبون عن الله جل جلاله، وأشد المحجوبين بلاء الذين لا يشعرون بالحجب)، فهم يتخبطون محجوبين عن الله، وهم لا يشعرون أن محجوبون عنه؛ فلذلك الذي لا يقرأ ورداً يومياً من القرآن، ولا يتصل به، أو لا يتصل بالسنة ولا يقرأها، كيف يريد أن تستنير بصيرته، وأن يفهم ما لم يفهمه غيره، وكيف يستطيع أن يقول ما قال أحمد بن سليمان المعري :
وإني وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل
فلا يمكن أن يقول ذلك؛ لأنه حيل بينه وبين الرمية فتترست منه بسور كبير أو برمل لا يستطيع النفاذ منه.
لا بد أن يحرص الذي يريد التدبر على تنوير بصيرته بالإقبال على الله والاتعاظ، بل إن الذي يكثر من الملذات الحلال قلما تستنير بصيرته لفهم كتاب الله لهذا المستوى؛ ولنتذكر هنا حديث أبي طلحة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم ماتت ابنته خرج في جنازتها فلما حفروا لها قال: هل فيكم من لم يقارف الليلة؟ قال أبو طلحة : فقلت: أنا، فقال: انزل في قبرها )، وهذا الحديث فهمنا منه أمراً عجيباً، وهو أن من يعافس النساء والأولاد على الفرش تكون بصيرته ثقيلة حتى ولو كان ذلك من حلال لا شبهة فيه، وتزداد البصيرة نوراً كلما انقطع الإنسان عن الإقبال على الشهوات، ولو كانت من الحلال، ودليل هذا ما ثبت في صحيح مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل من أصحابه: نكون عندك فنكون على ما ترى، فإذا خرجنا من عندك عافسنا النساء والأولاد على الفرش، فقال: لو تدومون على ما تكونون عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن ساعة وساعة ).
إذا أراد طلاب العلم أن يكونوا من الذين تصافحهم الملائكة في الطرقات فلا بد لهم من الخلوات والإقبال على الله والإكثار من ذكره، والانقطاع عن الشهوات؛ فهي مزلة قدم حتى ولو كانت من حلال، فيقتصد الإنسان فيها، ويقتصر على أداء الحق الواجب أو نحو ذلك، ويحاول التقلل منها ما استطاع وبالأخص في أوقات التفهم والتدبر وأوقات المحاسبة؛ ولا بد أن يكون للإنسان ورد يحاسب نفسه عليه يومياً، فلا بد أن يحرص على ذلك فهذا من التعامل الذي لا بد منه مع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
كذلك إحداث العهد؛ فالقرآن محبوب، والمحبوب لا بد أن يحرص الإنسان على لقائه؛ كيف أصبحت؟ كيف أمسيت؟ مما يغرس الود في فؤاد الحبيب، وإذا طال العهد ستنتقص المحبة، وقد قال غيلان :
وبعض الهوى بالهجر يمحى فيمحي وحبك عندي يستجد ويربح
تغير أهواء القلوب ولا أرى نصيبك من قلبي لغيرك يمنح
فبعض الهوى بالهجر يمحى فيمحي وحبك عندي يستجد ويربح
فلا بد أن يزيد الإنسان حب كتاب الله وحب سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في قلبه بكيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟ فإذا استيقظ فأول محبوب ينظر في وجهه صفحات من كتاب الله؛ في المصحف، وإذا أمسى آخر محبوب ينظر في وجهه المصحف. وكان عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه عند موته يقلب المصحف على خديه ويقول: (كلام ربي كتاب ربي) محبة للقرآن، والذي يحبه هذه المحبة لا بد أن يباشر شغاف قلبه، ولا بد أن تفتح فيه الفتوحات الربانية، وأن يؤتى من عند الله علماً لدنياً يحجب عنه من سواه.
وكذلك السنة، وقد جربنا أن من أكمل أذكار المنام واضطجع متوضئاً على شقه الأيمن فقرأ حديثاً أو حديثين أو أكثر من رياض الصالحين؛ فإنه يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام؛ فهذه التجربة يمكن أن تعيدوها وأن تكرروها؛ فالصلة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا بد فيها من مراجعة سنته، ولا بد أن يحرص الطلاب جميعاً على أن يكونوا من الذين يتصلون بالنبي صلى الله عليه وسلم من خلال سنته وسيرته، وأن يقرءوا كتب الحديث وأن يراجعوها؛ فالزمان الماضي حصل فيه عزوف عن الرجوع إلى الأصول واشتغل الناس عنها بما سواها؛ لأن المنهج العلمي الذي كان يدرس في كثير من المدارس في تأخير دراسة السنة، وهذا مذهب أهل البصرة، فقد ذكر العراقي أنهم لم يكونوا يدرسون الحديث إلا بعد تجاوز العشرين من العمر، والطالب المحضر يؤخر دراسة السنة فيدرس غيرها من الكتب، لكنه كثيراً ما ينقطع دونها؛ فيبقى أهم المهمات لم يدرسه لأنه انقطع دونه.
لا بد أن تحرصوا على التزود بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يلتمس كل إنسان منكم فتحاً وفهماً في ذلك، وليس هذا مستحيلاً؛ فكل إنسان يمكن أن يرزق ما لم يرزقه غيره، وعطاء الله غير محظور، وقد قال الله تعالى: وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا[الإسراء:20]، وقد بين في الحديث القدسي الصحيح سعة عطائه لعباده: ( لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد منهم مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر )، والغريب في الأمر أن من تدبر يفتح له في القرآن في أمور شتى؛ فيفتح له في الرقية به فيكتشف أن هذه الآيات محل للرقية؛ لأن الله قال: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ[الإسراء:82]، و (من) تبعيضية لا بيانية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما يدريك أنها رقية؟ )، فلو كان القرآن كله رقية لما قال له: (وما يدريك أنها رقية؟)، فدل ذلك على أن من القرآن ما هو رقية، يكتشفه من كان ممارساً للقرآن ولا يكتشفه غيره.
وكان كثير من السلف الصالح يكتشفون ذلك؛ فـالفضيل بن عياض رضي الله عنه جيء له بفرس لا يثبت عليها أحد، فقال: قربوها إلي، فقربوها إليه فأمسك بأذنها وقرأ آية سورة آل عمران وهي قول الله تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ[آل عمران:83]، فما سقط عنها أحد بعد ذلك، و ابن تيمية جيء له بمريض لازمه الرعاف، أي: لا يجف أنفه من الرعاف أبداً، فقرأ عليه آية سورة هود: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[هود:44]، فجف من حينه، وهكذا؛ فلا بد أن نحرص على الصلة القوية بالقرآن، وأن نهتم بالتدبر منه.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، اللهم صل على محمد وعلى آله وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آله وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر