بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، وقد اختار من خلقه أشياء نسبها إلى نفسه تشريفاً لها وتعظيماً، ومن ذلك هذه المساجد التي سماها الله بيوت الله، وشرفها بذلك عما سواها من الأماكن؛ فجعلها بداية الدنيا فقال سبحانه وتعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ[آل عمران:96-97]، جعل الله بداية الدنيا من البيت الحرام الذي جعله مثابة للناس وأمناً، فمن هنالك ابتدأت الحضارة على هذه الأرض كلها، وشرف القدم يقتضي الاهتمام الزائد من خالق هذا الكون بهذه المساجد، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أحب البقاع إلى الله مساجدها، وأبغض البقاع إلى الله أسواقها )، فأحب المشاهد إلى الله هذه البيوت التي شرفها بأن أضافها إلى نفسه، وجعلها متمحضة لعبادته.
لقد خص الله سبحانه وتعالى المساجد بكثير من الخصائص ومن أعظمها: مشروعية إنشائها وبنائها، والأجر العظيم على ذلك؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من بنى لله مسجداً ولو قدر مفحص قطاة بنى الله به بيتاً في الجنة ).
وانظروا إلى قدر مفحص قطاة! والقطاة الطير الكدر التي تسكن في الأرياف والبوادي، ومفحصها المكان الذي تحفره لتستقر فيه عند البر، وبنى الله له بيتاً في الجنة مقابل ذلك القدر، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( والذي نفس محمد بيده لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها )، وقال لأصحابه حين عجبوا من جبة أكيدر دومة الجندل ولمسوها بأيديهم كما في الصحيح، قال: ( والله لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها )، وبين النبي صلى الله عليه وسلم بيوت الجنة فبين أنها لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وأن سقفها قباب من لؤلؤ وزبرجد منحوتة، يرى باطنها من ظاهرها، وظاهرها من باطنها، إنها بيوت الجنة، إن سعتها لا تقدر؛ فانظروا إلى الجنة التي هذه بيوتها وعرضها كعرض السماء والأرض.
إذا كان جزاء مفحص قطاة في هذه الدنيا يقابل بمثل هذه البيوت في الجنة فمعناه أن هذه البيوت صفقاتها رابحة، فيا أيها الراغبون في الربح! يا أيها التجار الذين يرغبون في زيادة الاستثمار! إن هذه البيوت هي مكان للاستثمار الرائج، هي التي دعاكم الله سبحانه وتعالى للاستثمار فيها فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ[الصف:10-12].
إن هذه البيوت مكان للاستثمار في الأوقات وفي الجهد كله؛ فالنوع الثاني من أنواع تفضيلها أن وقت الإنسان فيها وقت شغلت فيه جوارحه عن معصية الله سبحانه وتعالى بطاعته؛ ولذلك عد النبي صلى الله عليه وسلم الجلوس فيها رباطاً في سبيل الله؛ فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ألا أخبركم بما يحط الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرباط فذلكم الرباط.. فذلكم الرباط )، إنه جلوس لا يكلف؛ فالإنسان فيه ليس تحت بارقة السيوف، وليس في السجون، ولا في الأماكن التي يشق عليه الجلوس فيها، بل هو في راحة تامة وطمأنينة، يزاحم الملائكة الكرام المقربين، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ويتعرف عليهم على أبواب المساجد يكتبون الناس الأول فالأول، ويجالس أهل الذكر الذين اختارهم الله لشغلهم بطاعته عن معصيته، فهو بذلك يرابط في سبيل الله سبحانه وتعالى بمجرد الجلوس في هذه البيوت الطيبة.
كذلك فإن قصدها بين النبي صلى الله عليه وسلم منزلته فقال: ( بشر المشائين في سدف الليل إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة )، إن الظلمة التي يسير فيها الإنسان في آخر الليل إلى المسجد ثمنها النور التام يوم القيامة، عندما يضرب بين أهل الجنة وأهل النار بسور له باب باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب؛ فيتخبط أهل النار في ظلماتهم أشد تخبط، ضرب الله لهم مثلا بقوم كانوا تحت مطر شديد، ورعد شديد وبرق، إذا أضاء لهم البرق أخذ أبصارهم، فلا يدركون شيئاً مما ينظرون إليه من شدة وقع البرق، وإذا انطفأ البرق انطفأ نورهم بالكلية؛ فلم يستطيعوا تقدماً ولا تأخراً؛ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ[البقرة:19]، فهذا حال أهل النار، نسأل من الله السلامة والعافية.
إننا محتاجون إلى النور التام يوم القيامة؛ ولذلك حضَّنا الله على سؤاله وبين أن أهل الإيمان يسألونه إياه؛ فحكى عنهم قولهم: رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[التحريم:8]، كذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بذلك؛ فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ذهب إلى المسجد في آخر الليل يقول: ( اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، واجعلني نوراً )، وفي رواية: ( وأكمل لي نوراً )، وفي بعض الروايات أنها تبلغ تسع عشرة دعوة بالنور، فنحن محتاجون إلى هذا النور، وسوقه في الدنيا هي الظلمات على أبواب المساجد، فالذين يقصدونها في سدف الليل هم الذين يتمم الله نورهم يوم القيامة.
كذلك فإن من صفقاتها المربحة: أن جلوساً فيها لقصد التعليم أو التعلم بمثابة جهاد في سبيل الله يرجع منه الإنسان سالماً غانماً؛ فقد أخرج مالك في الموطأ عن أبي بكر بن محمد بن عمر بن حزم ، قال: من خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه، كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانماً. إنها غنيمة باردة يرجع بها الإنسان وهو ينوي عند خروجه أن يعلم أو يتعلم في المسجد، فيرجع كالمجاهد في سبيل الله غانماً، فسلم وغنم.
كذلك فإن عمارتها دليل على الإيمان، وهذه الصفقة ليست دون السابقة؛ فمجرد كون الإنسان من الذين يعمرون المساجد دليل على إيمانه؛ لقول الله تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ[التوبة:18].
كذلك من صفقاتها المربحة: أن الله سبحانه وتعالى دعا إليها المؤمنين أجمعين، ذكوراً وإناثا، كباراً وصغاراً؛ فجعل مناديه ينادي: حي على الصلاة.. حي على الفلاح، فيسمع ذلك المؤمنون فيلبون نداء الله سبحانه وتعالى، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن إذا خرجن تفلات )، أي: غير متعطرات ولا متزينات، فهذا نداء الله وهذه مائدته في الأرض يدعو إليه عباده رجالاً ونساء، وأطفالاً وشيوخاً، وغير ذلك، يدعوهم جميعاً للاجتماع فيها؛ ولهذا أخرج مسلم في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ( من سره أن يلقى الله غداً مسلماً؛ فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن.. ) أي: في المكان الذي ينادى بهن فيه، ( فإنهن من سنن الهدى، وإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى، ولعمري لو أن كل أحد منكم صلى في بيته، كما يفعل هذا المتخلف لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد رأيت الرجل يهادى بين الرجلين حتى يدرج في الصف ). فالرجل الذي لا يستطيع السير يهادى ويحمل بين رجلين حتى يدرج، أي: يدخل في الصف، هذا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، لا يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق؛ كل الناس يشهدون له بالنفاق.
إنها صفقات مربحة في هذه المساجد تقتضي العناية بها والاهتمام.
إن الله سبحانه وتعالى شرع بناءها وحض عليه رسوله صلى الله عليه وسلم وباشره بيده وبين عظم منزلته؛ فعندما كان يبني مسجده كان يحمل الحجارة على بطنه، حتى اغبر بطنه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، وكان أصحابه يحملون اللبنة كل رجل منهم يحمل لبنة إلا عمار بن ياسر كان يحمل لبنتين لبنتين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أعز ربنا وأطهر
فهو خير من كل التجارات، وكل الثمار: هذا الحمال لا حمال خيبر.
كذلك فقد باشره أنبياء الله، حيث باشروا بناء المساجد بأيديهم؛ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[البقرة:127]، وقد بينا أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى المسجد بيده، فعندما بركت به ناقته في مكان المسجد وكان إذا مر بقوم من الأنصار أمسكوا بخطامها فيقولون: ( يا رسول الله! انزل عندنا ففينا الحلقة والسلاح، فيقول: دعوها فإنها مأمورة )، حتى بلغت ديار بني النجار فدارت فيها، ثم بركت في مكان المسجد، ثم قامت فدارت، ثم رجعت إلى مبركها فبركت فيه، فعرفوا أن ذلك المكان هو الذي اختار الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فأول عمل بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نادى بني النجار فقال: ( يا بني النجار! ثامنوني حائطكم هذا.. )، وكان في الحائط مقبرة للمشركين ونخل، فقالوا: ( والله لا نأخذ به ثمناً، وإنما هو لله ورسوله )، وفي رواية: ( أنه كان لغلامين يتيمين من بني النجار؛ فدفع إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمنه )، ثم أمر بقبور المشركين فنبشت، فأخرجت من المسجد وأمر بالنخل فقطعت، ثم بنى مسجده في ذلك المكان، فقيل له: ( يا رسول الله! ألا ننحت الحجارة نحتاً؟ فقال: لا ولكن عريشاً كعريش أخي موسى )، فسقفه بجذوع النخل وسعفها وبالطين، وجعل له مصابّاً تصب الماء عن سقفه في الأطراف، وباشر ذلك بيده صلى الله عليه وسلم وأوسعه، وبين منزلته فقال في مسجد: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى )، وقال: ( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد)، وفي رواية: ( إلا المسجد الحرام )، وقال كذلك: ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي )، وقال: ( إن منبري هذا على ترعة من ترع الجنة يوم القيامة )، وماء الترع: المياه التي تجري في الأرض بين النخل، وهي مثل الأنابيب التي تساق فيها المياه والأخاديد التي تشق للمياه بين النخل، فبين أنه سيكون على نهر ضيق من أنهار الجنة يوم القيامة.
كذلك فإن قوله: ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ) فسره أهل العلم بثلاثة تفسيرات:
التفسير الأول: أن المقصود به أن ذلك المكان برمته سيوضع في الجنة كما هو.
التفسير الثاني: أن ذلك المكان لا يزال معموراً بذكر الله إلى يوم القيامة، فإن حلق الذكر هي رياض الجنة؛ لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: حلق الذكر )، وقد سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن حلق الذكر فقال: (كيف تصوم، وكيف تحج، وكيف تنكح، وكيف تبيع). أي: حلق تعليم العلم، فهذه هي رياض الجنة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا المكان روضة من رياض الجنة ففسره بعض أهل العلم باستمرار ذكر الله والتعليم فيه إلى يوم القيامة، وما زالت الروضة معمورة بذلك.
التفسير الثالث: أن ذلك المكان سيكون فيه قبر عيسى عليه السلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار )، وقبر عيسى قطعاً روضة من رياض الجنة، وليس بعد الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة بالتعيين من يقطع بأن قبره روضة من رياض الجنة، إلا عيسى بن مريم ؛ فلذلك جمعوا بين هذه الأدلة فتوصلوا منها إلى أنه إذا كان المقصود روضة من رياض الجنة، أي: قبر من قبور أهل الجنة، فإن الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتعيين بالجنة لم يدفن أحد منهم في ذلك المكان، فلم يبق إلا عيسى بن مريم فيكون ذلك المكان مدفنه، وأرجح هذه الأقوال القول الأول؛ لبيان النبي صلى الله عليه وسلم أن المنبر سيكون على الحوض، وفي رواية ( على ترعة من ترع الجنة ) فأرجح الأقوال أن هذا المكان برمته سيوضع في الجنة، فيكون روضة مزهية عطرة في الجنة يوم القيامة.
كذلك فإنه صلى الله عليه وسلم بنى بقباء مسجده الذي قال فيه: ( من تطهر في بيته، ثم ذهب إلى مسجد قباء فصلى فيه ركعتين كانتا له كأجر عمرة )، وكذلك قال في الحديث الآخر: ( من صلى في مسجد قباء أربعاً من غير الفريضة، كن له كعتق ست رقاب من ذرية إسماعيل )، وكذلك بنى مساجد أخرى في أحياء متفرقة من أحياء الأنصار في المدينة منها مسجد بني معاوية الذي دعا فيه النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث، فأجيب باثنتين ولم يجب بواحدة، وذكره في الصحيحين وغيرهما، ومنها مسجد بني زريق الذي في حديث ابن عمر في صحيح البخاري كذلك، ومنها مسجد بني مبذول بن النجار الذي جاء فيه تحويل القبلة، وغير ذلك من المساجد التي في مدينته صلى الله عليه وسلم، وكذلك أمره لوفد عبد القيس أن يبنوا مسجداً وأن يوسعوه ففعلوا؛ فبنوا مسجدهم بجواثى، وهو أول مسجد تقام فيه الجمعة التي أقيمت بنقيع الخضمات، بهزم النبيت، أقامها أسعد بن زرارة و مصعب بن عمير قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك أمر مالك بن الحويرث والشببة الذين معه أن يرجعوا إلى أهليهم وأن يقيموا فيهم مسجداً، وأن يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله، وأن يتخذوا مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً ففعلوا، فكان إذا أتاه وفد أمرهم أن يبنوا مسجداً في مكانهم لله سبحانه وتعالى، فهو بداية صلاح الأمر، وبداية الهداية؛ ولذلك كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى فيروز بن باذان وهو من الأبناء في اليمن أن يبني لأهل صنعاء مسجداً، وأن يجعل قبلته بين عيبان ونقم، وأن يجعله بين الصخرة الململمة وبستان باذان ففعل ذلك فيروز ، وجعل فيه عمودين ما زالا قائمين إلى وقتنا هذا، وهما الأسطوانتان إحداهما تسمى بالمنقورة، والأخرى تسمى بالمسمورة، وما زالتا إلى وقتنا هذا.
وكذلك فعل أصحابه من بعده وعنايتهم بهذا المسجد بناءً وتطويراً؛ فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووسعه عثمان توسعة أكبر من توسعة عمر ، ثم وسعه الوليد بن عبد الملك بالتوسعة الكبرى التي حوت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كلها، ثم وسعه المهدي العباسي ، وكذلك المسجد الحرام وسعه الوليد وجمع بين السقائف القديمة والسقائف الطريفة بالبناء، ووسعه كذلك المهدي العباسي وجعل فيه العمودين الباقيين إلى وقتنا هذا، اللذين كتب عليهما: (أمر بوضع هاتين الأسطوانتين في هذا المكان علماً على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصفا؛ ليأتم به حجاج البيت وعماره، أمير المؤمنين محمد المهدي ، أجزل الله مثوبة أمير المؤمنين، وأطال بقاءه بتكريم وتعظيم، وكان ذلك سنة 167ه مما عمل أهل الكوفة. كان ذلك سنة 167 من الهجرة، وما زال الخط إلى الآن مقروءاً واضحاً على هذين العمودين كما وضعهما المهدي في هذا التاريخ المذكور في القرن الثاني الهجري.
كذلك من أوجه العناية بهذه المساجد ما يتعلق بتنظيفها؛ فقد باشر النبي صلى الله عليه وسلم تنظيف المسجد بيده، فقد صح في الصحيحين: ( أنه رأى مخاطاً في قبلة المسجد فقام إليه يحته.. )، أي: يحكه بظفره، ( حتى أزاله ودعا بطيب فوضعه مكانه )، ( وحين رأى المخاط في قبلة المسجد اشتد غضبه، واحمر وجهه، وقال: إذا كان أحدكم في مصلاه فلا يبصق تلقاء وجهه فإن ربه أمامه )، وكذلك حذر صلى الله عليه وسلم من البصاق في المسجد، وبين أن تكفيرها دفنها، وهذا محله في المحصب أو المترب، وأما المفروش فلا يحل البصق فيه مطلقاً، وكذلك أخبر أن المرأة السوداء التي كانت تقم المسجد أنها من أهل الجنة، وحين مات الغلام أو المرأة التي كانت تقم المسجد صلى النبي صلى الله عليه وسلم على قبره بعد أن دفن.
وكذلك فإن من عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالمساجد أنه كان يختار لها الأئمة؛ ففي حديث عمران بن الحصين رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم سلماً )، وفي رواية: ( فأقدمهم سناً )، وأقام معاذ بن جبل إماماً لمسجد قباء رتبه النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، ورتب عتاب بن أسيد إماماً للمسجد الحرام بمكة، وكذلك اعتنى بمساجد القبائل والأمصار الأخرى، فكان يرتب لها أئمة من خيرة أصحابه، فمسجد البحرين رتب له عمرو بن العاص ، وكذلك رتب العلاء بن الحضرمي لأهل الشاطئ الشرقي، ورتب عدداً من الأئمة للمساجد.
إن عناية النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المساجد بتنظيفها، وبأئمتها وببنائها معلومة في سنته، متواترة لا يختلف عليها اثنان، وكذلك عناية أصحابه بها، ومنطلق ذلك أنها المكان الذي اقتضاه الله سبحانه وتعالى لإقامة عبادته ولإعلاء كلمته.
إن هذه المساجد لم تبن فقط لمجرد أن تكون أشكالاً أو مناظر أو أن تتخذ لها المنائر، بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( بل عريشاً كعريش أخي موسى )، وحين أمر عمر رجلاً أن يغطي المسجد قال له: لا تحمر ولا تصفر فتشغل الناس عن الصلاة. نهاه أن يجعل الألوان في المسجد، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن زخرفة المساجد، بل قد قال: ( ما أمرت بتشييد المساجد )، والتشييد معناه: طلاؤها بالشيد، وهو الصبغ الجميل الذي ترى فيه الوجوه، فلم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لأن هذا يشغل عن الصلاة، وقد ورد في حديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا ساء عمل قومٍ زخرفوا مساجدهم، وأطالوا خطبهم، وقصروا صلاتهم )، وبين كذلك أن اختيار الأئمة على أساس مجرد حسن الصوت من أشراط الساعة، فقال فيما أخرج عنه أحمد في المسند وغيره: ( إنه في آخر الزمان يقدم القوم الرجل ليؤمهم، ليس بأفقههم ولا بأفضلهم، ما قدموه إلا ليغني لهم )، فيختارونه على أساس صوته فقط؛ فهذا مناف للعناية السابقة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم.
إن المساجد مؤسسات وكل مسجد منها مؤسسة عامة أعدت لكثير من الأعمال التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم في تطبيقه وفعله؛ فأول هذه الأعمال إقامة ذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن، والعبادات المختصة؛ فهذه العبادات يشرع عمارة المساجد بها فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي بال في ناحية المسجد: ( إن هذه المساجد لم تبن لهذا، وإنما بنيت لذكر الله وقراءة القرآن )، وفي رواية: ( وإقامة الصلاة ).
كذلك كان عثمان بن عفان يذهب إلى المسجد في الثلث الأخير من الليل، فيرتفق في مؤخرته فيجتمع الناس عليه يعلمهم القرآن؛ كما في الموطأ، وكان رضي الله عنه يجلس في المقاعد التي على باب المسجد، فيعلم الناس الوضوء؛ كما في الصحيحين، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم جلس عليها فتوضأ فأحسن الوضوء فقال: ( من توضأ مثل وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه )، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بجعل المطاهر على أبواب المساجد فيما في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( واجعلوا مطاهركم على أبواب مساجدكم ).
وكذلك التعليم فيها؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الناس في المساجد ولم يكن لهم مدارس، ولم تكن بيوته متسعة لتعليم الناس، بل كان إذا أنزل عليه شيء من القرآن، أو حكم من أحكام الله نادى مناديه في الناس: الصلاة جامعة؛ فيأتي الناس إلى المسجد فيعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنزل عليه، ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين: ( أنه أقيمت الصلاة فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه فخرج أعرابي أمام الصف فقال: يا رسول الله! علمني مما علمك الله، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعل يده على منكبه وتلطف به، فما زال يعلمه والناس في صفوفهم حتى شبع الأعرابي.. )، أي: اقتنع، ( فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكانه، وهو مصلاه فأحرم ولم يقم الصلاة مرة أخرى )، وكذلك في حديث أبي هريرة : ( أن الأعرابي كان يأتي فلا يعرف النبي صلى الله عليه وسلم من بين أصحابه بالمسجد فقلنا: ألا نبني لك دكة تجلس عليها؟ فقال: إن شئتم، فبنينا له دكة من طين فكان يجلس عليها ليعلم الناس )، والدكة: المكان المرتفع في المسجد يجلس عليه النبي صلى الله عليه وسلم ليعلم الناس.
وكذلك فقد اتخذ منبره لهذا؛ ففي حديث حذيفة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح ثم انفتل إلى المنبر فقام يخطب، فما زال يخطب، حتى حان وقت صلاة الظهر، فنزل فصلى الظهر، ثم رجع للمنبر فما زال يخطب حتى حان وقت العصر، فنزل فصلى العصر، ثم رجع إلى المنبر فما زال يخطب حتى غربت الشمس؛ فبين لهم ما بينهم وبين قيام الساعة، ذكر ذلك من ذكره ونسيه من نسيه ).
وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم في تعليمه للناس في المسجد كان يتخولهم بالموعظة في الأيام مخافة السآمة عليهم؛ كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: ( أنه كان يذكر الناس كل يوم خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن ! لوددنا أن تذكرنا كل يوم، فقال: أما أني لأتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها في الأيام مخافة السآمة عليكم ) وفي رواية: ( مخافة السآمة علينا ) فإنه كان صلى الله عليه وسلم يتخول الناس بالموعظة في المسجد؛ فيعظهم في بعض الأيام بعد إحدى الصلوات، ثم لا يعظهم بعد الأخرى يخاف عليهم من السآمة والملل، لكن ذلك كان كثيراً من هديه صلى الله عليه وسلم، هذا في التعليم العام للناس، أما التعليم الخاص؛ فقد صح في الصحيحين من حديث معاذ : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمسك بيده في المسجد فجعلها بين يديه، وقال له: لا أخرج من المسجد حتى أعلمك أعظم سورة أنزلت علي، فما زال يمشي معه ومعاذ يخاف أن يخرج من المسجد قبل أن يعلمه هذه السورة، فلما أراد أن يخرج قال: يا رسول الله! ألم تقل لي أنك ستعلمني قبل أن تخرج من المسجد أعظم سورة أنزلت عليك؟ قال: بلى، إنها الفاتحة ).
كذلك فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد اتخذوا هذه السنة في المساجد فكانت لهم الحلقات المعروفة فيها؛ ففي الصحيح أن معاذ بن جبل كان فتىً براق الثنايا، وكان في مسجد بني أمية بدمشق يصدر الناس عن رأيه؛ فإذا اختلفوا في أمر رفعوه إليه فلم يعدلوا عن قوله وكان أبو الدرداء رضي الله عنه كذلك له حلقة بمسجد بني أمية بدمشق، وكان لـقبيصة حلقة كذلك في مسجد بني أمية بدمشق، أما حلقات أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده، فهي كثيرة؛ خرج أبو هريرة ذات يوم إلى السوق فرأى الناس في وقت الضحى مشغولين بتجاراتهم فقال: ( يا معشر أهل السوق! إن ميراث النبي صلى الله عليه وسلم يقتسم الآن في المسجد فلا يفوتنكم نصيبكم منه، فاشرأبت إليه أعناقهم فقالوا: ومن يحفظ علينا زروعنا، حتى نأخذ نصيبنا من ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أنا أحفظها عليكم، فخرجوا يتسابقون حتى دخلوا المسجد، ثم رجعوا إليه فقالوا: ما وجدنا شيئاً، فقال: بلى، فقالوا: ما وجدنا إلا حلق العلم فقال: ذلكم ميراث رسولكم صلى الله عليه وسلم ). فحلق العلم التي في المسجد هي إنما يقتسم فيها الناس ميراث النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة، إنا لا نورث ديناراً ولا درهماً، وإنما نورث هذا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر )، فميراث الأنبياء العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر.
كذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه الرجل من خارج المدينة فيسأله الأسئلة، فيجتمع أصحابه في المسجد ليسمعوا جوابه؛ لأنهم نهوا عن السؤال كما في حديث أنس : ( نهينا عن المسألة، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل العاقل من الأعراب فيسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنجتمع عليه فنسمع جوابه ) وفي حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أنه قال: ( كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده فجاء رجلٌ أعرابي من أهل نجد، ثائر الرأس، له دوي بصوته، يسمع ولا يعرف ما يقول حتى وقف علينا فقال: أيكم ابن عبد المطلب ؟ فقلنا: هذا الأبيض المتكئ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هأنذا، فقال: أنشدك بالذي أرسلك وأرسل من قبلك آلله أمرك أن نصلي هؤلاء الصلوات الخمس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم نعم، فقال: أنشدك بمن أرسلك وأرسل من قبلك آلله أمرك أن نؤدي زكاة أموالنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم نعم، فقال أنشدك بمن أرسلك وأرسل من قبلك آلله افترض علينا صيام هذا الشهر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم نعم ).
وفي حديث ابن عباس أن ضمام بن ثعلبة كذلك أتى النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فسأله نحو أسئلة هذا الأعرابي، لكنه كان يقول له: ( فهل علي غيرها؟ فيقول: لا، إلا أن تتطوع، فلما أكمل حديثه قال: والذي بعثك بالحق لا أنقص منهن شيئاً، ولا أزيد عليهن ثم أدبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح وأبيه! إن صدق )، وفي رواية: ( أفلح إن صدق )، فبين النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأعرابي في المسجد، و ضمام بن ثعلبة قال له: ( وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني بكر وأنا رسول من ورائي ) فكان وافداً بقومه فجاء فتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده ثم رجع إليهم بما حفظ مما علمه؛ فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجعل المسجد جامعة للتعليم؛ ينهل منها الناس كل على حسب طاقته وعلى قدر ما أتاه الله من الفهم والاستيعاب كما قال حذيفة : (ذكر ذلك من ذكره ونسيه من نسيه).
وكان كذلك في تطبيقه للأحكام يفعل ذلك في المسجد ليري الناس هيئة ذلك؛ فقد صلى على منبره، وقال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، ليرتفع عن المنبر حتى يراه الناس فيأخذوا عنه صلاته، وكذلك هدي أصحابه من بعده فقد كانوا يعلمون الناس في المسجد، ويحرصون على عمارة المسجد بالتعليم بصورة مستمرة.
وبهذا نعلم أن هذه المساجد هي المدارس التي لا تسرق امتحاناتها ولا تباع، وهي الجامعات التي لا يدرس فيها ما يكذب ما قال الله ورسوله، فلما أخرج المسلمون التعليم عن المساجد جاءت المدارس التي الله أعلم بما فيها، وأنتم تعرفون أيضاً بعض ما فيها.
كذلك فإن من وظائف المسجد البارزة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان مكان الدعوة وإقناع الناس بالإيمان؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فيه حتى المشركين يدخلهم المسجد لدعوتهم؛ كما ثبت في حديث نصارى نجران ومجادلة النبي صلى الله عليه وسلم لهم التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران، وكذلك في حديث وفد بني تميم حين أتوه فدعوه من وراء الحجرات فقالوا: (يا محمد! اخرج إلينا نناظرك) أو : (حتى نجادلك) فأنزل الله في ذلك سورة الحجرات، ثم خرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنوه أن يصعد خطيبهم على منبره فأذن لهم، فقام خطيبهم فخطب وأطال خطبته وافتخر، ثم نزل فاستأذنوه أن يقوم شاعرهم على منبره فأذن له، فقام شاعرهم كذلك فافتخر، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس أن يجيب خطيبهم؛ فقام على المنبر فخطب فأجابه، ثم دعا بـحسان فجاء وقد ارتجل قصيدة ولم يسمع قصيدة بني تميم، فلما جاءت على غير قافيتها عدل عنها وأتى بقصيدة أخرى، وهي:
إن ذوائب من فهر وإخوتهم قد بينوا سنة للناس تتبع
يرضى بها كل من كان سيرته تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا
فألقالها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقام صاحب بني تميم فقال: (إن هذا الرجل لمؤتماً له! فوالله لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، وإن أصواتهم لتعلوا أصواتنا).
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم اتخذ المسجد سجناً، فمن وظيفته أن يتخذ للسجن، وذلك أن السجون لا يقصد بها أذى الناس، وإنما يقصد بها تعليمهم وإصلاحهم وتأديبهم وتهذيبهم؛ فقد ربط رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمامة بن أثال الحنفي فكان يمر عليه فيعرض عليه الإسلام فيقول: ( يا محمد! إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تمنن علي تمنن على شاكر ) فلما طال عليه ذلك أطلق النبي صلى الله عليه وسلم سراحه، فذهب إلى رحله فاغتسل وجاء فتشهد شهادة الحق بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إني سيد أهل اليمامة، ولن تمر بها عير لقريش بعد اليوم، ثم هجم على قريش ملبياً)، وكذلك فإن أبا لبابة رضي الله عنه حين سرب إلى اليهود معلومة يكتمها النبي صلى الله عليه وسلم وهي حكم الله فيهم أن يذبح مقاتلهم، أي: من جرت عليه الموسى منهم، وأن تسبى ذراريهم، سرب إليهم ذلك ليس بالقول، بل بالإشارة حين سألوه: لو نزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم ماذا سيفعل؟ أشار إلى حلقه بيده إنه الذبح، ثم علم أنه خان خيانة عظيمة، فخرج تائباً إلى الله عز وجل؛ فربط نفسه في سارية المسجد المعروفة إلى الآن بسارية التوبة في مكانها، حتى تاب الله عليه، ولما أبعدت السجون عن المساجد أصبحت أوكاراً للرذيلة والمخدرات، وأصبحت كذلك لأذى الناس وإهانتهم وتعذيبهم، فخرجت عما أعدت له في الأصل.
وكذلك فإن من وظيفة المسجد أن يتخذ بيت مال، وأن تحفظ فيه أموال المسلمين العامة؛ فقد صح في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالأنطاع فتبسط في مؤخرة المسجد في الثلاث الأخر من رمضان؛ فيأتي الناس بزكاة فطرهم فتوضع عليها، فيكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من يحرسها حتى إذا كان يوم العيد ذهب إليها فوزعها، صلى الله عليه وسلم ) وكذلك تعدد في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم جمع التبرعات في المسجد؛ فعندما جاءه الدافة مجتابي النمار وعامتهم من مضر، تمعر لهم وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة لهم، ثم وقف على المنبر فذكر الناس بالإنفاق، وبين منزلته؛ فجمع الناس ما أتوا به من الأموال: ( حتى لقد رأيت جبلين أحدهما من طعام والآخر من ثياب؛ فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، وكان إذا سر تبرق أسارير وجهه ) بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
ومثل ذلك ما كتب به عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقاص وهو واليه على الكوفة عندما نقب بيت المال قال: انظر إلى المسجد الذي بالتمارين فانقله، واجعل بيت المال في قبلته فلن يزال في المسجد مصلى. والتمارون سوق بالعراق هي سوق التمارين، أي: سوق أصحاب التمر الذين يبيعون فيها أنواع التمور، وكان في تلك السوق مسجد هو مسجد التمارين، فأمر عمر أن ينقل المسجد فيجعل بيت مال ويجعل المسجد وراءه؛ فإنه لن يزال في المسجد مصلىً ويكفي هذا المصلى لحراسة بيت المال.
وعندما أخرجت أموال المسلمين العامة من المساجد بسطت عليها أيدي الظلمة والطواغيت، ووضعت في غير محلها وأخذت من غير حلها، وكانت دولة بين الأغنياء منكم؛ كما تعرفون في واقع المسلمين في كثير من أنحاء العالم؛ فأصبحت أموال المسلمين العامة لا تؤخذ عن رضىً، وإنما تؤخذ بالضرائب الجائرة المخالفة للشرع، ولا تؤخذ عن طواعية ورضا نفس، بل تؤخذ كذلك بالعسف والظلم، ولا توضع في موضعها بل تكون دولة بين الأغنياء من الناس. إن من أسباب ذلك انتقال بيت المال عن المسجد، حين ابتعد بيت المال عن المسجد، وما هو إلا مظهر من افتراق السلطان والقرآن كما بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك سيحصل في آخر الزمان.
كذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل من وظائف المسجد التدريب العسكري؛ فقد جعل المسجد مكاناً لتكون الجيش الإسلامي الذي يقصد بتكونه إعلاء كلمة الله والجهاد في سبيله، ونصرة المظلوم، وإعلاء الحق، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نادى مناديه في الناس بالجهاد اجتمعوا إليه في المسجد فأتوا بجهازهم، ومن أتى منهم بتجهيز من سواه يأتي بذلك إلى المسجد فيوزعه النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، وأذن للأحباش أن يتدربوا فيه على الرماية، فرموا فيه وكانوا يرمون بالحراب، قالت عائشة : ( فسمعت أصواتهم فأعجبت بها؛ فأوقفني رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه، فكنت أنظر من فوق كتفه فيقول: أشبعت.. أشبعت، وأنا جارية حديثة السن ) فما ظنكم متى تشبع من رؤية ذلك.
وعندما أخرجت الجيوش من المسجد، ولم يعد مكاناً لإنشائها وتكوينها وتدريبها، كانت الجيوش على ما ترون اليوم جيوشاً مجيشة لحماية الباطل ونصرة الظالم، ولم يعد أهلها يستشعرون عزة الإسلام ولا إعلاء كلمة الله ولا ينوون الجهاد في سبيل الله طيلة حياتهم.
إن التربية التي كانت الجيوش تتربى بها في المسجد تكون مغايرة تماماً للتربية التي نشهدها اليوم في كثير من الجيوش في البلاد الإسلامية؛ فكان المسلم يربى في المسجد على أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وعلى أن القوة القاهرة التي لا تقهر هي قوة الله سبحانه وتعالى، وعلى أن العبد قد بايع الله على نفسه وماله؛ لإعلاء كلمته ونصرة دينه، وعلى أن المؤمنين ينبغي أن يكونوا أذلة على المؤمنين، وأن يكونوا أعزة على الكافرين، واليوم تربى الجيوش كما تربى الحمر الأهلية أعزكم الله! فالحمار الأهلي إنما يربى على الضرب والأذى؛ فهو أذل شيء كما قال الشاعر:
ولا يقيم على ضيم يراد به إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته وذا يشج ولا يرثي له أحد
فكذلك أصبحت الجيوش تربى على الإهانة والأذى، حتى تفقد إنسانيتها بالكلية، وإذا فقدت إنسانيتها لن تطيع إلا من كان يهينها ويذلها، وحينئذ بالإمكان أن تطيعه في معصية الله، وأن تطيعه حتى في قتل الآباء والإخوة والأقارب، وفي الاعتداء على الحرمات كلها، وهذا منافٍ للمقصد الشرعي من جعل التربية العسكرية في المساجد؛ ليكون الولاء فيها لله ولرسوله وللمؤمنين وأن لا يكون لغير ذلك، وكان مسجد الكوفة في أيام علي رضي الله عنه يعلق فيه مائة ألف سيف لكثرة الجيش؛ فالمصلون في المسجد من المقاتلين من الجيش الإسلامي مائة ألف مقاتل.
كذلك من وظائف المسجد التي استعمله فيها النبي صلى الله عليه وسلم وظيفة القضاء؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه الخصم يقضي بينهم في المسجد، وقد بين مالك رحمه الله في الموطأ قال: ما أدركت الناس إذا أرادوا تحليف الخصم أن يحلفوه إلا عند المنبر، وهذا مكان تحليف الناس عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبين أن القضاء إنما كان يفصل في المساجد، وذلك لعظم شأنها ومنزلتها؛ فإن الإنسان إذا كان في المسجد يتذكر الآخرة ويتذكر العرض على الله سبحانه وتعالى فلا يرضى أن يقتطع له جمر من النار، وفي حديث أم سلمة في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض؛ فأقضي له على نحو ما أسمعه، فمن قضيت له بشيء من مال أخيه، فإنما أقتطع له جمراً من النار فليأخذه أو فليدعه )، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس للقضاء في المسجد، لكنه لم يكن يقيم الحدود في المساجد، بل كان إذا قضى على شخص بحد من حدود الله، أمر به أن يخرج إلى الحرة فيقام عليه الحد، كقصة ماعز والغامدية ، واليهوديين اللذين زنيا وهما محصنان وغير ذلك، لكنه كان يحكم بالأحكام كلها في مسجده صلى الله عليه وسلم.
وهذه الوظيفة كذلك عندما نقلت عن المسجد فأصبحت المحاكم في دور مستقلة، بنيت على الجور والظلم، وانتقلت عن وظيفتها في إقامة العدل والقسط بين الناس، وأصبح كثير من القضاة - مع الأسف - لا يستشعرون مراقبة الله سبحانه وتعالى، ويجورون على الناس ويظلمون، ويميلون وراء أهواء الظلمة والسلاطين، ولا يعدلون بين الناس بالحكم الذي أقامهم الله على العدل فيه، وذلك أنهم انتقلوا عن مكانهم المذكر بالله؛ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ[الذاريات:55]، وهي مهمة جداً عندما يتذكر القاضي وقت حكمه حكم الحكم العدل ديان السموات والأرض الذي لا يظلم عنده أحد، فإنه لا بد عليه أن يعدل؛ ولذلك فإن نباشاً كان بمصر إذا مات ميت ذهب في جنازته فعرف مدفنه، فإذا خرج الناس رجع إليه من الليل فأخذ كفنه وباعه، فمات قاضٍ من القضاة في مصر فخرج في جنازته، فلما كان من الليل ذهب ليستل كفنه، فلما فتح قبره خرجت ألسنة اللهب ورأى السلاسل، نسأل الله السلامة والعافية، رأى الرجل مكبلاً بالسلاسل، فرعب ففقد سمعه وبصره، وأخذته رعدة استمرت معه طيلة حياته، من هول ما رأى، فكان أحد القضاة الكبار إذا أراد أن يحكم بين اثنين لا يحكم، حتى يؤتى بهذا الرجل الذي هو شاهد على ما رأى، فيجلسه بين يديه وينظر إليه على هيئته ثم بعد ذلك يحكم بين الناس، يتذكر قصة هذا القاضي وهو في قبره في السلاسل وألسنة اللهب تخرج من قبره، ويرى الرجل الذي شاهد ذلك فأصيب، ففقد سمعه وبصره، وأخذته الرعدة المستمرة فيجلسه بين يديه في مجلس حكمه.
كذلك من وظائف المسجد المهمة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان مكان الإعلام؛ فهو وسيلة الإعلام لدى المسلمين، إذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم إعلان حكم أو إشاعة أمر، فإنما ينادي مناديه في الناس: الصلاة جامعة، ثم يقف على المنبر فيبين ذلك، فكان المنبر وسيلة الإعلام لدى المسلمين، وكانت تعلن فيه الإعلانات كلها؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد نقض حكم، أو رد قضية بين ذلك على منبره كقوله: ( أما بعد: فما بال أقوام يشترطون الشروط ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أصدق، وشرط الله أوثق، والولاء لمن أعتق )، في قصة بريرة، وكذلك في رده حين خطب علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابنة أبي جهل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن بني هاشم استأذنوني في أن ينكحوا ابن أبي طالب من ابنة أبي جهل ألا لا آذن.. ألا لا آذن.. ألا لا آذن )، ثم بين أن فاطمة بضعة منه، يريبه ما يريبها، ويريبها ما يريبه، فكان ذلك إعلاناً عاماً للناس على المنبر، يرويه الناس ويتناقلونه.
ومثل ذلك ما فعل خلفاؤه من بعده فقد كانوا إذا رابهم أمر أعلنوا الموقف منه للناس، وفي الصحيحين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع: أن رجالاً يتحدثون بملك في آخر الزمان سيكون في بني قحطان، فغضب عمر في حجته فهم أن يكلم الناس بخطبة الحج بعرفة، فأتاه عبد الرحمن بن عوف فقال: يا أمير المؤمنين! لا تفعل فإنك يغلب عليك العوام). أي: هم الذين يجتمعون على الخليفة ويكونون أقرب إليه ممن سواهم، وأنهم لا ينزلون حديثك منزلته، فاترك ذلك حتى تعود إلى المدينة فتخلص بالمهاجرين والأنصار، ثم تكلم بما شئت؛ ففعل ذلك عمر ، فلما رجع إلى المدينة وقف على المنبر وبلغ ما كان يريد تبليغه وبين ما كان يريد بيانه. وكذلك فقد كان يعلن أحكامه القضائية على المنبر؛ كقوله رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أن الأسيفع أسيفع جهينة قد رضي من دينه وأمانته بأن يقال سابق الحج إلا أنه قد أدان معرضاً؛ فأصبح قد رين به؛ فمن كان له عليه دين فليعد بالغداة فلنقسم ماله بينهم بالحصص. فهذا حكم قضائي وهو تفليس هذا الرجل قد أعلنه عمر على المنبر أمام الناس.
وكذلك فقد كان من استعماله في المسائل الإعلامية إعلان البراءة لمن برأه الله سبحانه وتعالى؛ كما أعلن النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد من براءة الثلاثة الذين خلفوا من النفاق حين تاب الله عليهم، وما أعلنه من براءة عائشة رضي الله عنها مما رماها به المنافقون في قصة الإفك، وغير ذلك.
واليوم عندما نقلت وسائل الإعلام من المسجد فأقيمت الإذاعات والتلفزيونات، والمطابع العامة، وغيرها من وسائل النشر، وانتقلت عن المسجد نقلة كاملة أصبحت وسائل الإعلام على ما ترون، كلها كذب وخداع وترويج للباطل وسب وشتام، وتعرض لأعراض المسلمين الطيبين الغافلين، وكذلك ما فيها من التظليل، حتى في نقل الأخبار وتحليلها؛ فقد صارت أبعد شيء إلى الحق، بل أصبح كثير من أصحابها إذا سمعوا كلاماً يعلمون أن فيه مجازفة أو كذب وقالوا: هذا كلام جرائد.
إن الابتعاد عن المسجد مضر بهذه الوظائف كلها، وأثر ذلك باد في حياة الناس، لا يختلف عليه اثنان في أي شأن من الشئون.
أعود لأقول: أنه آن للمساجد أن تأخذ مكانتها في مجتمعنا هذا على سنة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فمن المؤسف جداً أن يكون الحي الثابت المتقري يتطاول أهله في البنيان، ولا يبنون مسجداً لله سبحانه وتعالى، ونحن نعلم في بلادنا كثيراً من الأحياء والقرى التي ليس فيها مسجد، ونحن نجزم أنه لو كان للنبي صلى الله عليه وسلم جيش اليوم لأغاروا عليها؛ لأنه كان يأمر جيوشه إذا نزلوا بساحة قوم أن يكفوا حتى إذا حان وقت النداء، فإن سمعوا الأذان تركوهم وإن لم يسمعوه أغاروا عليهم. إن كثيراً من القرى اليوم تستحق أن يغار عليها؛ لأنها لا يسمع فيها النداء.
وكذلك من المؤسف جداً أن لا يعتني الناس بنظافة هذه المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه؛ فلا يعتني الناس بنظافتها ويعتنون بنظافة بيوتهم، فالشيء الذي لا يرتضونه لبيوتهم يرتضونه لبيوت الله، كيف يا أخي! ترضى أن تأتي بنعالك متسخة ممتلئة بالتراب غير النقي فتنقلها إلى فراش المسجد، وأنت لا ترتضي أن يفعل ذلك أحد بفراش بيتك؟! إن على المسلمين أن يعتنوا بنظافة هذه المساجد ورفعها الذي أمر الله به، وأن يعلموا أن عمارها من الملائكة يتأذون بما يتأذى به الناس، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من كل أذىً فيها فقال: ( من أكل من هذه الشجرة فلا يقرب مسجدنا، يؤذينا بريح الثوم ).
وأن أهل العلم ذكروا أن هذا الحديث دليل على منع إدخال كل ذي رائحة كريهة، أو لون كريه أو نجاسة إلى المسجد؛ فلا يحل لمن كان متسخ الثياب يؤذي الناس أن يصلي بثيابه تلك في المسجد؛ لأنه لا بد أن يبتعد الناس عنه فيبقى في الصف مكان للشيطان، وكذلك من كان كريه الرائحة فإن ذلك مؤذ للناس ومؤذ للملائكة فعليه أن لا يشهد المساجد بذلك، ومثل ذلك من كان بعض ثوبه متنجساً؛ فإنه لا يحل أن يدخله المسجد ويجعله بين الناس كما نشاهد في خلع السراويل في المساجد، وجعلها عند مكان السجود، كثير من الناس يضعونها مقابل أنوفهم موضع السجود الذي شرفه الله عز وجل؛ فهذا من المنكرات، وقد قال الإمام سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله عندما ذكر أن الصلاة بين الأساطين مكروه عند بعض أهل العلم قال: (وقد ذكر بعض الفقهاء تعليل ذلك فقال: هي موضع إلقاء السراويل والنعال. قال: قلت: وضعها في ذلك بدعة منكرة أي: وضع السراويل والنعال بين الأساطين بدعة منكرة، ومع الأسف! فإننا نضطر أيضاً لإدخال النعال للمساجد خشية السرقة، لكن يجب على من فعل ذلك أن لا يدخلها إلا وهي طاهرة، وأن ينظفها قبل إدخالها بضرب إحدى النعلين بالأخرى حتى لا يدخل غبار يمكن أن يكون متنجساً إلى بيت الله عز وجل.
كذلك فإن على المسلمين أن يهتموا ببناء المساجد أيضاً؛ فيوشك أن يمنع بناؤها، وقد شوهد ذلك في كثير من الأماكن، فلم تعد السلطات فيها تأذن ببناء مسجد أو ترميم مسجد قد سقط سقفه أو بعض أجزائه، وهذا حاصل في بعض البلدان الإسلامية مع الأسف! فما دامت الفرصة مفتوحة أمام بناء المساجد فعلى المسلمين أن يكثروا من بنائها، وهم يعلمون أنه سيأتي الزمان الذين يمنع فيه بناؤها ويحال بينهم وبين ذلك؛ فما هذا إلا من أشراط الساعة المتكاثرة التي كل يوم تتجدد.
كذلك على المسلمين أن يعلموا أن منع هذه المساجد وتعطيلها عما شرع الله سبحانه وتعالى واستغلالها في غير ما أعدت له هو من الظلم البين الذي يقتضي بطلان العمل؛كما قال الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ[البقرة:114].
إن المساجد محررة لله سبحانه وتعالى، ليس عليها سلطة للناس؛ فلذلك لا يمكن أن يستعمل أحد سلطته في منع الكلام فيها فيما يرتضيه الله سبحانه وتعالى، وفيما بنيت من أجله من تعليم كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، والعلم النافع، والذكرى الحسنة المؤثرة والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛ فهذه وظيفة المسجد فمن عطلها فهو ظالم متوعد في الدنيا بالخزي وفي الآخرة بالعذاب الأليم، نسأل الله السلامة والعافية.
كذلك على المسلمين أن يعلموا أن هذه المساجد لا تحيا إلا إذا عادت مؤسسات اجتماعية، يجمع فيها المسلمون تبرعاتهم ويتكافلون فيها؛ فإنما جعلت إقامة الصفوف ليتحقق التكافل فيما بينهم، وليرى الأغنياء الفقراء معهم في صف واحد؛ فينالوا من رحمتهم وليرى الكبار الصغار كذلك معهم في الصف واحد، فينالوا من رحمتهم وينال الكبار من توقير الصغار وهكذا، فهذا المطلوب لا بد من تحققه، فإذا كان أهل المسجد لا يعتني بعضهم ببعض، ولا يتعرف بعضهم على بعض، بل يصلي كل رجل منهم وينطلق من مسجده إلى بيته دون أن يتعرف الناس عليه فإن المسجد لم يحقق حينئذٍ رسالته في توحيد المسلمين وجمع كلمتهم، فعلى من يصلي في مسجد أن يتعرف على المصلين فيه، وبالأخص من يلتمس الخير منه ومن دعائه وهديه، ومن يمكن أن يعين الإنسان على أمور دينه، وكذلك على الذين ائتمنهم الله على بعض ماله أن يتعرفوا على إخوانهم الذين يصلون معهم في المسجد، فيتلمسون حاجاتهم ويقومون بواجبهم تجاههم، وكذلك على الكبار أن يشجعوا الصغار الذين يرونهم بالمسجد، وأن يدعوا لهم بالبركة كما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفعلون، وكذلك على الصغار أن يحترموا الكبار في المسجد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم : ( ليليني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ).
ومع هذا فمن سبق إلى مكان في المسجد لا يخرج منه، لأنه أولى به؛ لأن السبق هو الذي يستحق به المكان؛ وقد قال أبو هريرة رضي الله عنه كما في الموطأ وغيره: والله لأن يصلي أحدكم على الحرة خير له من أن يتأخر، ثم يأتي يتخطى رقاب الناس حتى يضايقهم في مصلاهم. فأن يصلي الإنسان في الحرة خير له مما يفعل بعض الناس عندما يكتمل الصف يأتي مندفعاً فيضايق الناس، فيمنعهم من أداء النسك على وجهه؛ ولذلك فكثير من الصفوف إذا نظرتم إليها تجدونها بسبب المضايقة لا يستطيع أصحابها إتقان الركوع، ولا إتقان السجود، ولا إتقان الجلوس، على الوجه الذي شرعه النبي صلى الله عليه وسلم وبينه؛ ولهذا لا ينبغي أن تحصل المضايقة في الصفوف لحد منع السنن، بل على الناس أن يتركوا فرصة لأداء سنة الصلاة كما هي، بل إن المضايقة كثيراً ما تذهب بخشوع الصلاة كذلك، وتؤدي أيضاً إلى ضغينة في النفوس؛ فإن الإنسان إذا كان في الصف معتدلاً متهيئاً لأداء الصلاة فجاء رجل لم يكن من أهل ذلك الصف فضايقه في مصلاه، فإنه يجد عليه في نفسه كثيراً، وتنشأ تلك الضغينة بينهما، والمقصود بإقامة الصفوف توحيد الكلمة وحصول التقارب، لا حصول البغضاء والتنافر، بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( عباد الله! لتسون بين صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم )، وفي رواية: ( بين قلوبكم ).
فالمقصود هنا تقارب القلوب وإزالة الضغائن؛ ولذلك فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يكون الساق إلى الساق والمنكب إلى المنكب، لا يقصد به الأذى والمضايقة، بل المقصود به أن لا تترك فرجة للشيطان، وأن لا يتكبر الإنسان أن يمسه أخوه في الصف، فإن تلك الكبرياء منافية لحكمة المشروعية من السجود التي فيها تعفير الإنسان لأشرفيه - وجهه وكفيه - بين يدي الله سبحانه وتعالى ورفعه لسافله وخفضه لأعاليه مذلة بين يدي الله سبحانه وتعالى؛ فالإنسان يرفع أسافله في السجود، ويخفض أعاليه مذلة لله سبحانه وتعالى العزيز الحكيم؛ فإذا كان كذلك فكيف يتكبر على عباد الله ويتجبر؟
على المسلمين كذلك أن يعلموا أن هذه المساجد هي معيار الإقبال على الدين أو التراجع فيه؛ فإذا كانت المساجد تمتلئ في أوقات الصلاة بصفوف المصلين المتطهرين فذلك دليل على التزام الناس بالدين؛ ولذلك كتب عمر إلى عماله كما في الموطأ: (إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع) فالذي يحفظ هذه الصلاة في المساجد سيعينه الله على حفظ بقية دينه؛ ولذلك كلما قل رواد المسجد كثر رواد دور الفساد، والعكس صحيح، ولعلكم تتذكرون سنوات عجاف مرت على هذا البلد كان فيها رواد السينما أكثر من رواد المساجد، وتذكرون ما كان فيها من فساد العقائد وفساد الأخلاق واتباع الناس للدعوات الفاجرة المغرضة، عندما كانت تتفشى الدعوة إلى الشيوعية الحمراء، وإلى القوميات الفاجرة وغيرها من أنواع الدعوات التي تخالف منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وتشهدون كذلك - ولله الحمد - في زماننا هذا إقبال الناس على المساجد عمارة وبناءً، وتشهدون أن ذلك متسارع - ولله الحمد - مما يدل على رشد هذه الصحوة المباركة وآثارها الطيبة، فقارنوا بين سنواتكم هذه وبين السنوات العجاف قبل خمس وعشرين سنة في عدد المساجد في هذه المدينة وحدها، ستجدون الفرق الشاسع الذي لا ينكره أحد، سواءً فيما يتعلق بوجود المساجد، أو بعمارتها وشغلها بذكر الله وإعلاء كلمته، وتعليم دينه.
كذلك فإن على المسلمين أن يعلموا أن هذه المساجد ينبغي ألا تخلى كذلك مما ينفع المؤمنين من أمور دنياهم؛ فالمساجد كما ذكرنا هي بداية الحضارة في الأرض، فأول بيت وضع للناس هو المسجد الحرام - البيت الحرام - فعلى هذا لا بد أن ينطلق من هذه المساجد عمل يقتضي كفالة الفقراء من المسلمين، وعلاج المرضى منهم، ورعاية الأيامى واليتامى، وأن يهتم المسلمون بذلك اهتماماً بالغاً؛ فأنا أعرف بعض المساجد في أنحاء متعددة من العالم تعتبر مؤسسة كاملة؛ ففيها مستشفى تبرعي حيث إن بعض رواد المسجد من الأطباء تطوعوا بساعات للعلاج لمختلف أنواع الأمراض؛ فيأتي الناس إلى المسجد ولم يكونوا في الأصل من رواد المسجد ولا من المهتمين بالصلاة وما جاءوا إلا ليتلقوا العلاج؛ فيكون ذلك داعياً لهم إلى المسجد، ثم يهديهم الله للإسلام بعد ذلك، وكذلك بعض الأغنياء الذين يوزعون بعض فضول أموالهم في المساجد فيكون ذلك داعياً لعمارتها؛ فيجتمع إليها الناس.
ومثل ذلك عناية كثير من الناس في هذه المساجد بالسنن العلية؛ فيعينون الناس بتوزيع السواك عليهم وبتوزيع الوضوء كذلك على أبواب المساجد، وبتوزيع الأشرطة والكتب الصغيرة، وكثير من المساجد لها مكتبات متخصصة، يدرس فيها من أراد المرابطة في المسجد، وهو يريد أن يجمع بين المرابطة في المسجد وتعلم العلم النافع فيه؛ فيجد مكتبة يقرأ فيها العلم، وينافس فيها أهل الخير، فخير ساعات الإنسان ساعة يتعلم فيها بعض ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى، وبالأخص إذا كان ذلك في بيت من بيوت الله، وكذلك يقام فيها مكان لتعليم القرآن؛ فرواد المسجد من حفظة كتاب الله يتبرع كل واحد منهم بساعة في الأسبوع، وتكون موزعة على الأيام، يعلم فيها الراغبين أحكام التجويد، ويسمعون له ما حفظوه من كتاب الله فيروونه عنه؛ فالقرآن متلقىً من أفواه الرجال، لا من المصاحف، وبهذا يقع التكامل وكل طاقة من طاقات جماعة المسجد يعم خيرها فتنفع الآخرين.
إنه لا شك أن بين الحاضرين عدداً كبيراً ممن لديهم طاقات زائدة تحتاج إليها الأمة، سواءً كانوا من حملة كتاب الله وحفاظه، أو من الذين يحفظون بعض سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو من الأطباء، أو من التجار، أو من المستشارين في مصالح الدين والدنيا كذلك، فلماذا لا يتبرع هؤلاء لإخوانهم في المسجد بساعة ولو بمرة في الأسبوع؟ فيكون ذلك تحقيقاً للتكافل الاجتماعي وداعياً لعمارة المسجد، وداعياً كذلك لإحياء هذه السنة المماتة، وسعياً لأن يحال بين عدد من الناس وبين الركون إلى المنظمات التنصيرية والتهويدية، التي تحاول أن تجعل من نفسها بديلاً عن المساجد، ومن أغرب ما سمعت في ذلك ما حدثني به بعض الثقات: أن منظمة كارتاس - وهي منظمة تنصيرية معروفة - لها دور في هذا البلد بعضها لكفالة الأيتام، قد أرادت أن تستأجر بعض طلاب العلم ليحفظوا اليتامى بعض سور القرآن، وقطعاً هم لا يريدون بذلك حفظ القرآن ولا تحفيظه للطلاب، ولا يريدون به إلا الحصول على ثقة هذا المجتمع الطيب الذي يحب كتاب الله ويحب أن يتعلم أولاده القرآن؛ فيريدون غزوهم بجعل السم في الدسم، ومثل ذلك ما يفعلونه اليوم من بيع كتب التنصير في طبعات أنيقة بالعربية.
وقد حدثني أحد الثقات العدول: أنه أتى رجلاً من الباعة الذين يصلحون الأحذية في ظل الشجر قرب وزارة الثقافة والتوجيه الإسلامي، فوجد عنده مجموعة كتب من كتب التنصير، منها كتاب بعنوان " كيف نتحد مع الرب" سبحانه وتعالى، تعالى عما يقولون علواً كبيراً، وكتاب آخر "كيف نفهم الرب" وكتاب آخر "ما على الشباب" وكتب هكذا هي كلها دعوة إلى التنصير سافرة، لكنها مطبوعة طباعة أنيقة بالعربية، ويبيعها مصلح النعال تحت الشجر بأبخس الأثمان، يقول: دعاني لأشتري منه كتاباً بثلاثين أوقية، هو كتاب شامل بثلاثين أوقية! وطباعته تكلف لا شك أكثر بكثير من هذا الذي ينادي به ليبيع به الكتاب، لكنه إنما وضع للتوزيع لا للبيع، ولكنه لو وزع دون ثمن لم يكن ذلك مدعاة لانتشاره بين الناس ولا لقراءته، فكلما كان الشيء ينال بلا ثمن كان الحرص عليه أقل؛ ولذلك يقول العرب: (النيل بعد اليأس أبلغ في النفس). فالشيء الذي لا يناله الإنسان إلا بثمن لن يفرط فيه، فلذلك وضعوا له ثمناً رمزياً، وسعوا لإعلانه وإشاعته بين الناس.
إن هذا العمل بين المسلمين، في هذه الأرض التي انطلقت منها كتائب الجهاد في سبيل الله رافعة راية الإسلام في أماكن مختلفة من العالم، في هذه الأرض التي وطأتها أقدام عقبة بن نافع رضي الله عنه عندما غرز رمحه في المحيط الأطلسي، وعاهد الله أن لو كان يعلم أن خلف هذا المحيط ذو نفس منفوسة أن يقطع إليه البحر، حتى يبلغه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أو يموت دونه أصبحت اليوم مطمعاً لمن وراء البحر؛ فأصبحوا يأتون بكتبهم الداعية إلى تنصيرهم الذي لا معنى له، وهم أنفسهم يعلمون أنه لا يمكن أن تستوعبه العقول أصلاً، وأنه محرف ما أنزل من عند الله، ولا جاء به عيسى عليه السلام، ولا يمكن أن يقره عقل، ولكنهم يريدون مع ذلك نشره ويضحون من أجله غاية التضحية.
إن على المسلمين أن يعوا أن مثل هذه الدعوات المغرضة المبطلة لا يمكن أن تكافح إلا بإعادة المساجد إلى مكانتها العالية، وأن تكون منطلقاً لكل خير؛ فمنها بدأت دعوتنا ومنها بدأت دولتنا وجهادنا؛ فعلينا أن نعود إليها فهي بداية الخير، فكم من إنسان لم يذق للهداية طعماً، فجاء إلى المسجد فكانت بداية هدايته تلك الدخلة التي دخلها في المسجد.
حدثني رجل في مدينة زويرات قال: كنت لا أذوق للصلاة طعماً، ولا أحافظ على الصلوات أبداً، ولا أدخل مسجداً، ولا أعرف ألفاظ الأذان، وكنت أبيت مع مجموعة من الناس يلعبون بالورق -بالقمار- فإذا أذن الناس وأرادوا الصلاة، خرجنا إلى أماكن ننام فيها إلى أن نذهب إلى العمل، يقول: فغلبت، وانتزع مني بعض ما كان لدي من المال، فخرجت مهموماً، فمررت بمسجد فإذا الإمام فيه يقرأ آيات من كتاب الله يرتلها، فوقعت على قلبي كالصاعقة، فصعقت لسماعها فوقفت قليلاً، وأنا متردد أستمع إلى قراءته دون أن أدخل المسجد ودون أن أهم بالوضوء أو بالمشاركة معه في الصلاة، بل وقفت فقط أستمع إلى قراءته؛ فكانت تلك القراءة صواعق تتنزل على قلبي، فلما راجع نفسه وراجع عقله أسرع فتوضأ فأدرك بعض الصلاة، ومن ذلك الوقت إلى الآن والرجل من أشد الناس غيرة على الدين وحفاظاً عليه أحسبه كذلك، وما زال موجوداً يحدث بقصته.
وقد شاهدت شيئاً عجيباً من هذا؛ فقد كنا مرة في باريس، وقت صلاة العشاء في مكان عام - في حديقة - فحان وقت الصلاة، ومعي بعض الزملاء والحديقة مكتظة بالناس، فقلت: سنمتحنهم الآن بامتحان الله لأهل الأرض، فأذنت بصوت مرتفع وأقمت الصلاة، ووفق الله سبحانه وتعالى لقراءة بداية سورة الرعد في الركعة الأولى، فلما توسطت في قراءة الآيات أزعجتنا أضواء المصورات، وجاءوا بالمسجلات، واقتربوا منا وجاءت مجموعة منهم يصلون معنا، فلما سلمنا إذا منهم من يبكي، ومنهم من يحفون بنا من كل وجه، ومنهم من يصلي معنا فسألهم الشباب: هل أنتم مسلمون؟ فكثير منهم يقول: لا، ولكن أعجبتني حركاتكم هذه!
إن هذه المساجد تؤثر تأثيراً لا يمكن أن يبلغه شيء، وإن ما يسمع فيها من القرآن هو الذي فيه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ وقد قال الله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]، هذه الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأول ذلك نهيها عن الشرك والكفر؛ فلهذا ينبغي أن يدوي صوت الصلاة منطلقاً في كل مكان يسمعه من يزعجه، وينبغي للمؤمن أن لا يستحي من أن يرفع صوته عالياً بما أمر الله برفع الصوت به؛ ولذلك فقد ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب علا صوته واحمرت عيناه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم مساكم ) وكانت خطبته تسمع من البلاط، والبلاط عند البقيع، بينه وبين المسجد خمسمائة متر، أي: نصف كيلو، تسمع منه خطبة النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يكون له مكبر، وكان كثير من النساء يحفظن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وهن في بيوتهن، بل قالت إحداهن: ( ما حفظت سورة (ق) إلا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ).
إن الأصوات المدوية من هذه المساجد منطلقة لمن أراد أن يفهم تأثيرها وأثرها البالغ على النفوس، فليذهب إلى أماكن يعلو فيها صوت النواقيس، وتنتشر فيها أصوات المزامير؛ فإنه عندما يسمع هذا الصوت، فكأنما اغتسلت أذناه وتطهرتا بصوت مطهر لكل ما كانت الأصوات وضعته فيها، فحينئذ يتذكر الإنسان قول الله تعالى: فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحج:52]، إن الأصوات الكفرية تكون راناً على القلوب، فإذا سمع الإنسان صوت المنادي ينادي: حي على الصلاة.. حي على الفلاح، وسمع: الله أكبر.. الله أكبر، فإن ذلك يغسل تلك الآثار السيئة من الأسماع ويزيلها بالكلية.
على المسلمين اليوم أن يعلموا أنه بقدر كثرتهم في المساجد وكثرة سوادهم فيها بقدر ما يرهب أعداؤهم؛ صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على آمين )، عندما يقول الإمام: وَلا الضَّالِّينَ[الفاتحة:7]، فيقول كل الموجودين في المسجد: آمين، بصوت مرتفع يرتج المسجد؛ فهذا تعبير عظيم عن تماسك المسلمين، وعن كثرة سوادهم وعن قوتهم في الله، وعن انتظامهم حيث يأتمون بإمام واحد لا يكبرون قبل تكبيره ولا يركعون قبل ركوعه، ولا يرفعون قبل رفعه؛ ليدل هذا على أنهم كالجسد الواحد، فهذا الذي تحسدهم عليه اليهود، ليس معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على آمين ).
أن المقصود أنهم يحسدوننا على مجرد أن الله وفقنا لهذا اللفظ؛ لأنهم بالإمكان أن يتعلموه أيضاً، فليس ذلك مقصوداً بل المقصود: ما حسدوكم على لفظ في العبادة تتفقون عليه فيكون مؤلفاً للقلوب، تجتمعون عليه جميعاً فيقتضي كثرة السواد والقوة والانتظام، إنه أمر عظيم فعلاً أن يكثر سواد المسلمين في المساجد؛ فيكون ذلك مدعاة لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه وإظهاره.
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بإخراج العواتق والحيض وربات الخدور إلى المصلى يوم العيد، يشهدن الخير ويكثرن سواد المسلمين، ويأمر الحيض أن يعتزلن المصلى؛ فأمره بإخراج العواتق والحيض وربات الخدور دليل على أهمية تكثير سواد المسلمين، ولذلك فعلى الإنسان حتى لو كان ضعيفاً أو مريضاً أن يحاول أن يشهد الصلاة مع المسلمين؛ فإن كان لا يستطيع تكثير الجيش في الغزو، على الأقل أن يكثر الصف في عين العدو، بمجرد مجيئه وحضوره للصف سيرهبهم العدو بكثرتهم، فالكثرة لها بال ويحصل بها الانتصار؛ فلذلك على المسلمين أن يهتموا بتكثير سوادهم.
حدثني رجل من أهل الأردن قال: كان لي جار من اليهود في فلسطين، وقد اشترى دار جاري فسكنها، فكان يحدثني عن بعض ما يجدونه في كتبهم من أنه سيكون لهم دولة وقوة، فقلت: أليس في كتبكم أيضاً أننا سنتغلب عليكم وسننتصر؟ فقال: نعم، لكن ذلك ليس لكم إنما هو لقوم آخرين، فقلت: كيف ذلك؟ فقال: الذين سينتصرون علينا هم الذين يبلغ عددهم في المسجد في صلاة الفجر عدد ما يبلغون في صلاة الجمعة.
ما أحوجنا لأن تغص المساجد بأهلها وأن تمتلئ حتى يقتضي ذلك هيبة الدين وأهله، ويقتضي كذلك تعاونهم جميعاً على إعلاء كلمة الله، كما يتعاونون في الصف المنكب بالمنكب، والساق بالساق.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يؤلف بين قلوبنا وأن يصلح ذات بيننا، وأن يأخذ بنواصينا إلى الخير أجمعين، وأن يجعلنا هداة مهديين غير ضالين ولا مضلين، وأن تعود المساجد إلى حالها الذي ارتضى لها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن تعود لنصرة الدين، وأن يدرك المسلمون ذلك في حياتهم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر