بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فسيكون الدرس وقوفًا في ظلال الآيات التي قرأ بها الإمام في صلاة المغرب، وهي خطاب من الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين، تذكيرًا وإحياءً للقلوب، وبيانًا لمنزلة هذا القرآن ولأثره كذلك في الإيمان.
فقد قال الله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ[الحشر:21].
بين الله سبحانه وتعالى عظمة هذا القرآن وتأثيره، فهو مؤثر على كل الخلائق، سواء كانت من الأحياء أو كانت من الجمادات، ومن ذلك الجبال على ضخامتها وقوتها، فلو أنزل عليها هذا القرآن لخشعت لله سبحانه وتعالى من خشيته وخوفها منه، لذلك قال: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ[الحشر:21].
وقد بين الله سبحانه وتعالى أن الحجارة تخشاه، وبين أن منها ما تتفجر منه الأنهار، وأن منها ما يخرج منه الماء، وأن منها ما يهبط من خشية الله، وكل ذلك يدل على أن ما في هذا الكون من الخلائق جميعًا يذل ويخنع لله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى هو ذو الملك والملكوت والعز والجبروت، وقد خنع لوجهه الكريم كل الخلائق: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا[طه:111]، فجميع ما في الأرض وظلالهم يسجدون لله سبحانه وتعالى: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ[النور:41]، سواءً من ذلك الأحياء والجمادات، والناطق والصامت، كلهم يعبدون الله سبحانه وتعالى، كل على حسب عبادته: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ[الإسراء:44].
وقد ضرب الله المثل بأقساها وأشدها، وهو الحجارة والجبال، فلا شك أن هذه الحجارة أقوى من الإنسان، وأصلب وأشد، وأطول أعمارًا، ولا شك أن الجبال أضخم، وأعلى من الإنسان، فإنه لا يستطيع مطاولتها: إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا[الإسراء:37]، فلذلك إذا كان الجبل الصلب الضخم يخشع لله سبحانه وتعالى ويتصدع ويتشقق، لو أنزل عليه هذا القرآن، فكيف بهذا الإنسان الكائن الضعيف، الذي ينبغي أن يكون خاشعًا لله على كل أحيانه خلق من عدم، وأنعم عليه بأنواع النعم، وشرف على كثير من الخلائق، وفضل عليها ومكن له حتى على الجبال، فجنود الله سبحانه وتعالى كثيرة، ومن أقواها النار، فهي تعدو بكل ما في الأرض وتأكله، ومع ذلك فالنار أقوى منها الماء؛ لأنه يطفؤها، والماء لا شك قوي من جنود الله سبحانه وتعالى، ولكن التربة أقوى منه؛ لأنها تشربه، والتراب لا شك كذلك جند قوي من جنود الله، ولكنها أضعف من جند آخر هو الريح؛ لأنها تنقلها وتذرها، والريح جند من جنود الله، وهي مسخرة، وهي قوية جدًا، ولكن أقوى منها الحجارة والجبال، فهي جند من جنود الله تعالى فتصدها وتصرفها، والحجارة أقوى منها الحديد، وهو جند آخر من جنود الله سبحانه وتعالى، والحديد أقوى منه الإنسان؛ لأنه الذي يسخره ويذلـلـه ويصنع منه الأشياء.
فلذلك سخر الله ما في هذا الكون من الخلائق للإنسان، وجعله نكتة العالم، كما قال الله تعالى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا[البقرة:29]، وقد قرأ ابن عباس رضي الله عنهما هذه الآية فقال: إما انتفاعًا وإما اعتبارًا وإما اختبارًا، كل ما في الأرض هو لمصلحة ابن آدم، إما انتفاعًا كالمأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات والمركوبات، فكلها ينتفع بها الإنسان انتفاعًا ظاهرًا، وإما اعتبارًا، وهو ما يتعجب فيه فيكون تغذية لقلبه، فالإنسان: قلب وبدن، وروح، فالروح نفخة غيبية من أمر الله، وغذاؤها العبادة والطاعة، والبدن من تراب، وغذاؤه ملقى من المآكل والمشارب والأدوية، والقلب هو العقل الذي ميز به الإنسان على غيره وغذاؤه إنما يكون بالمواعظ والعبر، والعلم، فهذه تغذية القلوب، ولذلك لا يمكن أن يكون الإنسان عطلًا عن تغذية القلب، فإذا خلا من الذكرى ولو لمدة يسيرة قسا قلبه فأصبح كالبهيمة.
فأنتم ترون أن البهائم يضرب بعضها بعضًا، ويقتله، ويشق قرونه، وينطحه وينهسه، وهذا الحال إنما هو لقسوة القلوب، وترون بعض الناس يكون كذلك يعتدي على البشر، ويؤذيهم بأنواع الأذى، ولو كان إنسانًا على الفطرة والطبيعة، لما كان منه ذلك؛ لأن الأصل في الإنسان: أنه آنس بغيره محتاج إليه، فهو يأنس بغيره ويحتاج إليه، ولو حبس وحده، فسد عنه الاتصال بالبشر، ولو لمدة يسيرة، اشتاق إليهم، وتمنى سماع أصواتهم ورؤيتهم، ولذلك يشق على الإنسان أن يحبس وحده، وأن ينفصل عن هذا الجنس البشري الذي هو معه، وقد قال أهل العلم في تفسير قول الله تعالى في سورة النمل في قصة سليمان عليه السلام في ذكر الهدهد: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ[النمل:21]، قالوا: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا[النمل:21] هو الحبس مع غير الجنس؛ لأنه طير صغير ضعيف، لا يمكن أن يضرب، ولا يمكن أن يفعل به إلا الذبح، وقد ذكر فقال: أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ[النمل:21]، فما هو العذاب الشديد إذاً؟ قالوا: الحبس مع غير الجنس، فكذلك حبس الإنسان مع غير جنسه يقتضي منه الوحشة والشوق إلى الجنس البشري.
فلذلك ينبغي للإنسان في أصل الفطرة، أن يكون حي القلب، وأن لا يكون كالبهيمة تتصرف على غير إدراك، ولذلك فالحيوان البهيمي يكون ذا رحمة بأولاده الصغار ما داموا في صغرهم فإذا كبروا انفصل عنهم، وضربهم وآذاهم وطردهم، وهذا الحال ليس موجودًا في البشر، بل الإنسان كلما تقدمت به السنين كلما احتاج إلى أولاده وازدادت محبته لهم، وذلك بتفضيل الله له.
فلهذا يحتاج الإنسان إلى تغذية قلبه بالعبرة والموعظة، ولذا شرعت خطبة الجمعة مرة في الأسبوع تغذية للقلوب، فالقلوب تصدأ وتحتاج إلى الذكرى، وهي في البشر ثلاثة أقسام.
قلب ميت، لا يمكن أن يفرق بين حق وباطل ولا يمكن أن ينتفع بذكرى، ولا يمكن أن تصل إليه موعظة، فصاحبه سادر مشغول عن الله تعالى منغمس في الدنيا ووحلها، لا يبالي، ولا يهتم بشيء، قد فقد الحياء بالكلية، وهؤلاء موتى القلوب يوجدون في الكفار، وفي المنافقين، وفي عصاة المؤمنين، يصلون على مستوًى من المعصية، يحال فيه بينهم وبين التوبة، نسأل الله السلامة والعافية، فيقبلون على وجوههم في المعاصي، لا يردهم شيء، ولا ينصرفون عما هم فيه من أنواع المعصية، نسأل الله السلامة والعافية.
والقسم الثاني: مرضى القلوب، الذين قلوبهم مريضة، فهي تسمع الحق، وتقر بأنه حق، ولكنها لا تطبقه، وتسمع الموعظة فتتعظ بها وقت سماعها، ولكنها تنساها بعد ذلك، وترى ما جاء في وصف الجنة والنار فتحب دخول الجنة وتكره دخول النار، ولكنها لا تعمل بعمل الجنة، ولا تخاف من عمل النار، وهؤلاء هم موعظة لأهل الإيمان أن يكون الإنسان فعلًا عارفًا بما ينفعه، عارفًا بما يضره، فلا يعمل بما ينفعه ولا يترك ما يضره.
وقد قال معاوية بن قرة المزني رضي الله عنه وهو من أئمة التابعين: عجبت لمن يعلم أن الجنة فوقه قد زينت بكل ما فيها من الزينة، وأن النار تحته قد سعرت بكل ما فيها من العذاب، فيبيت بينهما نائمًا.
فهذا الإمام من أئمة التابعين يعجب من الإنسان الذي يستشعر في الليل إذا أوى إلى فراشه أن الجنة فوقه قد زينت بكل زينة، وأعدها الله تعالى لعباده المؤمنين وبارك فيها، وأن النار تحته كذلك قد ملئت بأنواع الأذى والعذاب، كيف يبيت بينهما فيبيت نائمًا، لا يطمع في الجنة فيعمل بعملها، ولا يخاف من النار فيهرب من عملها، فلذا أصحاب القلوب المريضة، إذا كان الحكم لصالحهم، أحبوه وأقبلوا إلى صاحبه وإن كان لغير صالحهم لم يرضوا به، كما قال الله تعالى: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ[النور:48-52].
ومن علامات موت القلب: إذا كان صاحبه لا يتعظ بالمواعظ، فلا يتأثر بذكر الجنة والنار، والموت والدار الآخرة ومشاهد القيامة، ولا يتعظ كذلك بعجائب هذا الكون وما فيه من الآيات، ولا تقطر دمعتاه من خشية الله، لا يذكر الله خاليًا فتفيض عيناه، فهذا الإنسان عبادته هي بمثابة تصرف الماكنة تشتغل وهي لا تدري أنها تشتغل، فهؤلاء هم مرضى القلوب.
والقسم الثالث: هم ذوو القلوب السليمة، والقلب السليم: هو الصحيح الذي لم يمرض، فصاحبه يميز بين الحق والباطل، ويميز بين النافع والضار، ويقبل على الله سبحانه وتعالى، كما قال الله تعالى في ذكر إبراهيم عليه السلام: إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ[الصافات:84]، فالقلب السليم يقبل من الله سبحانه وتعالى ويقبل عليه، ويفهم عنه، ويعرف حكمه في هذا الكون، وعجائبه وتعرفه على خلقه، فيحمد الله سبحانه وتعالى ويتصل به ويأنس به، وعلامة سلامة القلب أن يكون صاحبه مقبلًا على الطاعة مدبرًا عن المعصية، إذا سمع موعظة انتفع بها، وإذا تذكر ذكرى بقيت، وإذا سمع الآن في الدرس موعظة فذهب إلى أهله فبات على فراشه فتقلب بدأ يفكر فيما سمعه من الموعظة أين هو من الجنة والنار وهو بينهما، فالجنة فوقه، والنار تحته، واعتبر بذلك وانتفع به، إذا جاء وقت الشهوة تذكر إيمانه فحال بينه وبين ما نهى الله عنه، إذا جاءت الشبهة تذكر إيمانه فكان حجة بين يديه قاطعة لشبهات الشيطان، فهذا هو ذو القلب السليم، وتغذية القلوب هي هذه الذكرى، والناس فيها على أربعة أقسام:
القسم الأول: لا يتحملون الذكرى بوجه من الوجوه، يكرهونها غاية الكراهة، فيفرون منها كما يفرون من الأسد، وهؤلاء هم المشركون أهل النار، كما قال الله تعالى: فَمَا لَهمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ[المدثر:49-51]، يفرون من الذكرى كما يفرون من الأسد، ولذلك قال: وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا[الأعلى:11-13]، لا يتحملون سماع الذكرى، فإذا سمعوا منها موعظة أو بيانًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فروا منه ولم يتحملوه ولم يطيقوه.
النوع الثاني: هم الذين يتحملون سماع الذكرى بآذانهم، ولكن آذانهم غير أمينة فلا توصل الذكرى إلى القلوب، فقد طبع عليها، فحيل بينها وبين الآذان فلا يمكن أن تنتفع بالذكرى، وهؤلاء هم المنافقون الذين قال الله فيهم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا[محمد:16]، ألم تحضروه؟ ألم تستمع إليه؟ لكن لم يبقَ معهم منه شيء لأن آذانهم غير أمينة فلم توصله إلى القلوب فقد طبع الله على قلوبهم، ولذلك: ((وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ)) يستمعون بالفعل: حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ[محمد:16].
والقسم الثالث: يتحملون سماع الذكرى من بعض الناس دون بعض، فيفصلون فيها، فإذا قام خطيب أو واعظ أو مذكر أو معلم أو موجه، يعرفونه أو يعجبون به، أو يعرفون علمه أو مستواه، استطاعوا السماع له، وإذا قام مجهول لديهم، أو يحتقرون مستواه أو لا يعرفون قدره، انصرفوا عنه وتركوه، وهؤلاء هم مرضى القلوب الذين اتصفوا بصفة أهل مكة وأهل الطائف عند بعثة محمد صلى الله عليه وسلم: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ[الزخرف:31-32]، فأولئك الذين يفصلون في الذكرى فيسمعونها من بعض الناس دون بعض، يعرفون الحق بالرجال، ولا يعرفون الرجال بالحق، فهم يتعلقون بالرجال، والرجال لا فائدة في التعلق بهم، فكل إنسان منهم يتحمل ما تحمل يوم القيامة، ولا يمكن أن يبعثوا وبينهم صلة: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا[مريم:95].
فلا بد أن يكون الإنسان إذاً من القسم الرابع، وهم الذين يستمعون الذكرى من كل أحد، كلما سمعوا ذكرى وجدوا فيها ضالتهم فاستمعوا؛ لأنهم يسمعون كلام الله، ولا ينظرون إلى مبلغيه، سواء كان في شريط، أو على لسان فلان من الناس، أو على لسان آخر، أو على لسان صغير أو كبير، عالم أو جاهل، المهم أنه كلام الله، فنحن نحب كلام الله ممن صدر، وكذلك يحبون سماع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من أي إنسان يبلغهم إياه، وكذلك يحبون الذكرى؛ لأنها قوت قلوبهم، وتغذيتها، فهم يستمعون إلى كل مذكر، فإذا جاء الحق عرفوه، وإذا جاء الباطل أنكروه، ولهذا قال الله تعالى: .. فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ[الزمر:17-18]، ولم يقل: الذين يستمعون بعض القول، أو يستمعونه من بعض الناس، قال: ((الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ ))، مطلقاً، فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ[الزمر:18]، لا شك أن القول فيه ما هو أحسن، وفيه ما دون ذلك: فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[الزمر:18]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا[الفرقان:73]، وقال تعالى: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ[يس:11].
وقال تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى[الأعلى:9-10] أي: من يخشى الله، هو الذي ينتفع بالذكرى، فمن الناس من يظن أن الذكرى والدعوة ليست موجهة إلى المسلمين، ولا إلى الأتقياء الصالحين، وإنما هي موجهة إلى الكفار يدعون بها للدخول في الإسلام، وهذا غلط، فالكفار لا يقدرون الذكرى، ولا يقدرون الدعوة ولا ينزلونها منازلها، وإنما ينزلها منازلها أهل خشية الله، ولذلك قال: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ[يس:11].
وقال تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ[الذاريات:55]، فالمؤمنون هم المنتفعون بالذكرى، وأما من سواهم فقد ينتفعون بها إذا أرد الله بهم الخير، فجعلهم مع المؤمنين، والأكثر عدم انتفاعهم بها؛ لأنهم لا يقدرونها ولا يدركون قيمتها، فلذلك لا بد أن يحرص الإنسان على تغذية قلبه من الذكرى، وأن يكون من القسم الرابع الذين يحبون سماع الذكرى من كل أحد، كما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم اصطفاه الله من الخلائق، وشرفه على الثقلين الإنس والجن، وأحيا قلبه، وغفر له ما تقدم وما تأخر، ونصره على كل الخلائق، وأنزل عليه القرآن، وجعل قلبه حيًا دائمًا لا ينام: (إن عيني تنامان ولا ينام قلبي).
ومع ذلك كان يحب سماع القرآن من غيره، كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقرأ عليّ القرآن، قلت: يا رسول الله: أأقرأه عليك، وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت عليه سورة النساء، حتى بلغت قول الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا[النساء:41-42]، فقال: حسبك، فنظرت فإذا عيناه تذرفان).
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان يستمع إلى أبي موسى الأشعري وهو يقرأ القرآن فيزين به صوته في المسجد في الليل، فلما أصبح قال: (لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود، فأتاه أبو موسى فقال: لو رأيت إلي وأنا أستمع إليك البارحة تقرأ القرآن، قال: يا رسول الله! لو كنت أعلم أنك تستمع إليّ لحبرته لك تحبيرا).
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة في فجاج المدينة، فسمع عجوزًا من الأنصار في بيتها تقرأ قول الله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ[الغاشية:1]، فقال: (نعم أتاني نعم أتاني)، وجلس يبكي على بابها، ذكرته هذه المرأة وهي تقرأ بحديث الغاشية، حديث القيامة، فتذكر هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأثر به تأثر أهل الإيمان.
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان في المسجد فجاء أعرابي فوقف بجانبه فأثنى على الله فأبلغ الثناء، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته فجاء بأهيبة، أي قطعة من ... فقال: (خذ هذا بحسن ثنائك على ربك)، أحب حسن ثناء هذا الأعرابي على الله سبحانه وتعالى، وكذلك عندما رفع رأسه من الركوع، قال رجل خلفه في الصف: ربنا لك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وزاد النسائي في روايته: كما يحب ربنا ويرضى، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من القائل؟ قال: أنا يا رسول الله، هو رجل من الأنصار، قال: لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكًا يبتدرونها)، فلذلك كان يحب الثناء على الله، ويحب دعاؤه، ويحب قراءة القرآن، ويحب أن يسمع ذلك من غيره.
ومن هنا: فإن الله يذكره في القرآن، فيقول: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ[الأحزاب:1]، ومن المعلوم أنه متقٍ، لكن هذا هو من الذكرى التي تزيد القلوب تغذية وحياة، ولو قيل لأحد من الناس اليوم: اتق الله، فكثيرًا ما يغضب، فقد قيلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
لا شك أن من الخلائق التي خلق الله في هذه الأرض ما هو لمجرد الاعتبار والموعظة، وليس فيه انتفاع للإنسان، فما في هذه الأرض من أنواع النبات الذي ليس فيه تغذية ولا تأكله البهائم، وما فيها كذلك من أنواع الدواب، والطيور والفراش الذي يجتمع على الضوء، ليس فيه ضر ولا نفع، هذا لماذا خلق؟ خلق لمصلحة ابن آدم في الاعتبار والموعظة، يرى الإنسان هذا الضوء إذا أوقف يجتمع عليه من أنواع الخلائق الشيء الكثير، فيعجب أن الله قد نفخ فيه هذه الخلائق جميعًا الروح، وسيقبضها منها جميعًا، وكل ذلك بأجل مكتوب عنده، وأن رزقها جميعًا على الله، وأن مآله ومستقرها عنده سبحانه وتعالى، وأنه لا تلتبس عليه واحدة منها بأخرى، وأنه يعلم عدد دقات قلوبها، وعدد تنفسها، وعدد أغذيتها، وكل ما تمر به من هذه الحياة، فيعجب الإنسان لذلك، ويحفر في الأرض فيجد بين أوساط التراب دودة حسنة اللون سمينة، فيعجب من أين يأتيها الماء، من أين يأتيها الهواء، من أين يأتيها الغذاء؟ فيتذكر قول الله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا[هود:6].
وفي ذلك يهون عليه الأمر، ويعلم أنه هو ما خلق لجمع الرزق، فجمع الرزق هو أدنى المهن وأخسها؛ لأنه تتقنه الفأرة والنملة، فكل الخلائق تتقن جمع رزقها.
الإنسان كائن شريف إنما خلق لعبادة الله، لمهمة عظيمة نبيلة، ولهذا قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ[الذاريات:56-58]، وقد قال الحسن بن أبي الحسن البصري رحمه الله: عجبت للإنسان يعرف لماذا خلق، وأنه قد ضمن له ما هو بحاجة إليه، فيشتغل بجمع ما ضمن له، ويترك ما خلق من أجله، يشتغل بجمع ما ضمن له وهو الرزق، ويترك ما خلق من أجله وهو وظيفته التي من أجلها أهبط إلى هذه الأرض، فهذه الخلائق ومثلها وأضعافها معها في العوالم الأخرى هي للمواعظ، فما نراه من الكواكب والأضواء في المجرات النائية الشاسعة، وهي بعيدة عنا نرى فيها أنواعًا من الخلائق عجيبة جدًا، فالمجرة الواحدة يكون فيها المليارات من النجوم، والكوكب الواحد منها قد يكون أكبر من الأرض بعدد من الأضعاف، وهذا بتدبير الله سبحانه وتعالى، وهي ساجدة تسبح بأمره وتقدس له، وهذه السماء على ضخامتها وقوتها فما بينها وبين الأرض مسيرة خمسمائة عام للحجر الصلب الهاوي، وسمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، ومع ذلك ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك لله ساجد أو راكع، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط، فما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك لله ساجد أو راكع)، وهذا المطر الذي نراه ينزل، ما من ذرة منه ولا قطرة إلا وهي في يد ملك حتى يوصلها إلى مكانها الذي كتبها الله له، على كثرة ما ينزل من القطر، كل قطرة منه بيد ملك يوصلها إلى المكان الذي قدرت له.
وكذلك أنواع الخلائق الأخرى، كلها موعظة وذكرى، وتقتضي منا حياة القلوب، فلنا فيها نفع، ومنها الجبال والحجارة التي لا نعرف فيها نفعًا ولا ضرًا، فالأراضي الشاسعة الواسعة نجد فيها أنواعًا وألوانًا من الحجارة والجبل الواحد يكون فيه جدد بيض وحمر مختلف ألوانها، كل ذلك للموعظة والاعتبار.
كذلك القسم الثالث: ما خلقه الله تبارك وتعالى للاختبار والابتلاء، وهو ما فيه الضرر كالسموم والأوبئة والأمراض، ونحو ذلك مما فيه ضرر من هذه الأرض، ينبت الله نبتة وهي سامة، إذا ذاقها حيوان مات، وينزل داءً فيصاب به من يصاب بإذن الله، ويصرفه عمن يشاء، ينزل صواعق فيصيب بها من يشاء ويصرفها عمن يشاء، يرسل الحرائق فيصيب بها من يشاء، ويصرفها عمن يشاء، ينزل البرد في المطر، فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء، كل ذلك موعظة وذكرى، وهو امتحان واختبار للناس يبتليهم الله سبحانه وتعالى به، وهذا الابتلاء فيه أوجه أخرى من أوجه النفع، فلو أن الخلائق لم يموتوا، وكان آدم حيًا الآن، ومن دونه من الخلائق لما اتسعت لهم الأرض وأقواتها وطياتها، ولشربوا الماء جميعًا ولم تتسع لهم الأرض، وأيضًا لو عاش الإنسان هذه المدد المتطاولة ولم يحس بالموت لقسى قلبه وغفل، وأصيب بالطغيان، لكن الإنسان عليه أن ينتبه، وقد قال الله تعالى: وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ[الأعراف:185].
ولذلك جاء في حديث: أن الله سبحانه وتعالى لما مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته رآهم فأعجبته كثرتهم، فقال: (يا رب لا تتسع الأرض لهؤلاء؟ فقال: إني خالق موتاً، فقال: إذن لا ينعمون فوق ظهرها، فقال: إني خالق أملاً).
فالموت يموت به من مات منهم فيترك مكانه ورزقه لغيره، وكذلك الأمل يقتضي منهم العيش على وجه الحياة ويبقى الإنسان مؤملًا للحياة إلى آخر لحظة عند الميت، كل مريض ولو كان مرضه مخوفًا ولو أدرك حقيقة مرضه فهو يؤمل الحياة، وهذا الأمل يبقى مع الإنسان إلى آخر لحظة من لحظات حياته، وهو أمر عجيب جدًا، جعله الله للإنسان تسلية عما يصيبه في هذه الحياة.
فهذه الجبال إذاً مواعظ وذكرى وعبر، وقد ضربها الله مثلًا لنا، فقال: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا[الحشر:21]، وخشوع الجبال له أنواع: فمنه أن يخرج منها الماء، ومنها أن تهبط من خشية الله، ومنها أن تتصدع، ومنها كذلك أن تبقى دكاء كما حصل للجبل الذي تجلى الله له جل وعلا، عندما سأله موسى ، فقال: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ[الأعراف:143]، فهذا الجبل صار دكًا من جلال الله سبحان الله وتعالى فأصبح ترابًا وانفصلت ذراته، فالذي أصاب الجبل اقتضى منه التفكك والتفتت حتى انفصلت كل ذرة منه عن أختها، فلذلك ضرب لنا المثل بخشية الجبال، وإذا كانت الجبال تخشى الله بهذا المستوى وتخافه، فكيف لا يخشاه الإنسان الضعيف المسكين المحتاج إلى الله بكل أحيانه، فلهذا قال: لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَهمْ يَتَفَكَّرُونَ[الحشر:21]، وَتِلْكَ[الحشر:21] هذا اسم إشارة للمؤنث وهو للعبيد والمقصود بالبعد إعلاء المنزلة، أي: أن أمثال القرآن هي من الأمثال التي يضربها الله للناس تعليمًا وتعويدًا على الإيمان وزيادة في المستوى، فلذلك رفع الله شأنها، وأعلى منزلتها فأشار إليها بإشارة البعيد إيذانًا بذلك، فقال: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ[الحشر:21] ولم يقل: وهذه، بل قال: وَتِلْكَ[الحشر:21] للبعد، والمقصود بالبعد هنا: رفع المنزلة، فأمثال القرآن عالية المستوى.
وَتِلْكَ الأَمْثَالُ[الحشر:21]، والأمثال جمع مثل، وهو ما يضرب لنظيره، ما يكون له نظائر، فيدل على نظيره، فإذا كان الجبل يخشى الله تعالى ويخافه، فكيف لا يكون الإنسان كذلك، فالمثل يضرب ويكون بالغًا في التمثيل بدلالة الأولى، أو بدلالة المساوي، فلذلك قال: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ[الحشر:21]، نضربها: أي: نجعلها لهم مثلًا، والمثل له مضرب ومورد، فمورده ما قيل فيه أول وهلة، ومضربه ما يضرب فيه بعد ذلك، وما يذكر فيه من المعاني.
وأمثال القرآن كثيرة جدًا، وقد بين الله سبحانه وتعالى أنه لا يفهمها إلا من كان من أهل العلم، فقال تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ[العنكبوت:43]، ((وَمَا يَعْقِلُهَا)) أي: لا يفهمها إلا العالمون، من كان من أهل العلم فهم الأمثال التي يضربها الله للناس في القرآن، فالعالمون وحدهم هم المؤهلون التلقي عن الله وفهم كتابه، فلذلك ضرب هذا المثل، ومع هذا قليل من يعتبر به، إنما يعتبر به أهل العلم وهم الذين يخشون الله، كما قال الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر:28]، فكل من كان من أهل الخشية كان من العلماء بالضرورة، كل من كان يخشى الله اعتبر من العلماء؛ لأنه عرف الله بخشيته له حتى لو لم يكن لديه علم بأمور أخرى كان جاهلًا بالفيزياء، جاهلًا بالكيمياء جاهلًا بالرياضيات، ولو كان جاهلًا بالنحو والصرف وغير ذلك من العلوم لكنه يخشى الله، فخشيته الله هي فائدة العلم، وهي التي يصل بها الإنسان إلى هذا المستوى من فهم كلام الله، فلذلك قال: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ[العنكبوت:43].
ثم قال هنا: لِلنَّاسِ[العنكبوت:43]، وعمم، وهذا يشمل المؤمنين والكفار، والأبرار والفجار، فكلهم ضرب الله لهم الأمثال في القرآن، فمن كان من أمة الإجابة فهو من المستجيبين الممتثلين، ومن كان من أمة الدعوة فتقوم عليه الحجة بالأمثال التي يضربها الله في القرآن، فهذه الأمثال قامت به الحجة على الجميع، من كان من المستجيبين، فهو من المنتفعين بها، ومن لم يكن من المستجيبين كانت حجة دامغة قائمة على رأسه لا يستطيع التنصل منها ولا الخلاص منها.
لَعَلَهمْ يَتَفَكَّرُونَ[الحشر:21]، هذا ترجٍ لعل الناس يتفكرون، أي: يعملون عقولهم، فالتفكر: هو إعمال العقل وذلك بأن يستشعر الإنسان حاله وحال غيره، فيعتبر بذلك، فهذا هو التفكر، والتفكر منزلة من منازل العبادة، فالعبادة تكون بالبدن، وتكون باللسان وتكون بالقلب، وعبادة القلب أفضل من عبادة الجوارح كلها؛ ولذلك فتفكر ساعة أفضل من عبادة سنة كما جاء في بعض الأحاديث، والتفكر يقتضي من الإنسان حياة القلب والإقبال على الله، ولهذا قال الله في ثنائه على عباده الذين ارتضاهم من خلقه: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعَادَ[آل عمران:190-194].
فهؤلاء هم أولو الألباب وهم المنتفعون بآيات الله، وهم المتفكرون، فهم يعتبرون بآيات الله سبحانه وتعالى، وقد قال ابن أبي زيد رحمه الله تعالى في مقدمة الرسالة: يعتبر المعتبرون بآياته، ولا يتفكرون في ماهية ذاته.
فالله سبحانه وتعالى ضرب لنا الآيات والعبر والأمثال التي هي إحياء للقلوب، وفيها الذكرى لكل معتبر ومتفكر، يتفكر الإنسان في خلق السماوات والأرض، يتفكر في رفع هذه السماء من غير عمد، وفي بسط هذه الأرض للخلائق، وفي رفع الجبال فوقها، وفي خلق الإبل وغيرها من سائر الحيوانات، كما قال الله تعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ[الغاشية:17-20]، فلذلك ربط ذلك بالذكرى فقال: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ[الغاشية:21].
وهنا قال: لَعَلَهمْ يَتَفَكَّرُونَ[الحشر:21]، وهذا الترجي إنما هو لبعض الناس دون بعض فليس كل الناس سيتفكرون قطعًا، وهو يقول: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَهمْ يَتَفَكَّرُونَ[الحشر:21]، ولن يتفكر قطعًا إلا بعضهم فقط، فهم الذين اختارهم الله للانتفاع بالقرآن، ونفعهم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
ثم بعد هذا، أثنى الله على نفسه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وذكر منها عددًا من هذه الآيات، وهذا الثناء يدلنا على نتيجة الفكر، فالتفكر الذي يوصل إليه، لو فكرت في كل الخلائق فإن نتيجة تفكيرك هو هذا، إيمانك بالله وذكرك لأسمائه وصفاته، فهذا نتيجة التفكر: لَعَلَهمْ يَتَفَكَّرُونَ * هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ[الحشر:21-22]، نتيجة التفكر: هي إيمانك بالله، وشهادتك أن لا إله إلا هو: هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
وهذا الاسم، اسم الله يدل على كل أسمائه، وكل صفاته، وقد اختلف فيه هل هو من العربية أو من غيرها من اللغات، والذين يرون أنه من العربية كذلك اختلفوا: هل هو مرتجل أو مشتق، والراجح فيه: عدم الاشتقاق كما قال اشليف الموفى التندغي رحمه الله:
وشهروا عدم الاشتقاق في علم الرب القديم الباقي
ويقصد به هذا الاسم، وهو الاسم الأعظم عند طائفة من أهل العلم الذين لا يرون إخفاء هذا الاسم.
هذا الاسم إذا كان مشتقًا فهو من لاه، بمعنى: احتجب لأنه: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ[الأنعام:103]، وقد قال الشاعر:
لاهت فما عرفت يومًا بخارجة يا ليتها برزت حتى عرفناها
وقيل هو من: أُله إلهةً كعُبدَ عبادة وزنًا ومعنى، ومنه قيل للشمس إلهة، قال الشاعر:
تروحنا من الدهناء عصرًا وأعجلنا الإلهة أن تغيب
وقيل: من أَلِه إليه، بمعنى اشتاق، لاشتياق قلوب العارفين إليه، أو من ألِه بمعنى: تحير؛ لأنه تحيرت في ذاته العقول وليس إلى إدراكه سبيل.
أو من ألِه إليه، بمعنى قصده طامعًا فيه؛ لأنه المقصود في كل الحوائج، كما قال الشاعر:
أَلِهت إليكم في أمور تهمني فألفيتكم فيها كرامًا أماجدا
وقيل: هو إله عرف بـ(أل) ثم ادغم، فأصله الإله، ثم لكثرة الاستعمال ادغم بحرف الهمزة فقيل: الله: هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ[الحشر:22]، وصف نفسه بقوله: ((الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ))، وهذا نفي للألوهية عن كل ما سواه، وإثبات للألوهية له وحده سبحانه وتعالى.
والألوهية معناها: استحقاق العبادة؛ وذلك مقتضٍ للربوبية التي هي خلق الكون وتدبير أمره، فالله سبحانه وتعالى يجب الإيمان بربوبيته، أي: أنه وحده الخالق لهذا الكون والمدبر لشئونه، لا خالق ولا رازق ولا محيي ولا مميت ولا مستجيب إلا هو وحده، فهذه هي الربوبية، وهي السيطرة؛ لأنها في الأصل من ربه يربه إذا أوصله إلى كماله بالتدريج شيئًا فشيئًا، أو من ربه إذا ترأس عليه، أو من رباه يربيه إذا أوصله إلى كماله بالتدريج.
فالرب إذاً معناه: الخالق لهذا الكون المدبر لشئونه.
أما الإلهية: فهي استحقاق العبادة، أي أنه وحده الذي يستحق أن يعبد، فلا أحد في هذه الأرض يستحق أن يعبد، وأن يتقرب إليه بالعبادة ولا بالتشريع لا يستحق أحد فيها، إحلالًا ولا تحريمًا، ولا تشريعًا إلا الله وحده، وكذلك هو الذي يستحق من العبادة المحبة بالخصوص، فالمحبة يستحقها الله؛ لأنه الذي لديه ما يخاف منه، ولديه ما يطمع فيه، وهو المتصف بالكمال، وهذه ثلاثة أمور هي سبب المحبة، كل من أحببته: إما لأنه أحسن إليك، أو لأنه حسن في ذاته، أو لأنك تخافه، والله عز وجل: هو الذي أحسن إلينا، وهو الذي لديه ما يخاف منه، ولديه ما يطمع فيه، وهو المتصف بصفات الكمال المنزه عن النقائص، فهو الذي يستحق المحبة، ولذلك قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ[البقرة:165].
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث من كنّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب العبد لا يحبه إلا لله، ومن كره أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار)، فمحبة الله سبحانه وتعالى صفة عظيمة من صفات الإيمان، تذاق بها حلاوة الإيمان، والألوهية هي المقتضية لهذه الأمور الأربعة، مقتضية أولًا لاعتقاد أن الله سبحانه وتعالى وحده هو الخالق الرازق، وهذا هو الربوبية، ومقتضية كذلك؛ لأنه وحده هو الذي يستحق العبادة فلا يستحقها أحد من دونه، ومقتضية؛ لأنه وحده الذي يستحق التشريع، فلا يمكن أن يشرع أحد من دونه، ومقتضية لأنه وحده الذي يستحق المحبة الإلهية، فلا يستحقها أحد من دونه، وهذا يقتضي أن الله وحده هو الذي يستحق أن يُدعى وأن يستغاث به وأن يتوكل عليه: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء لم قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، ولهذا قال الله تعالى: ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[فاطر:13-14]، وهذه اللوازم كلها يقتضيها قوله: هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ[الحشر:22].
وهذا النفي، جاء بعده الاستثناء، وتلك وسيلة من وسائل الحصر، فهي تقتضي حصر الألوهية عليه سبحانه وتعالى، فلا يمكن أن يشركه فيها أحد: أَئِلَهٌ مَعَ اللهِ[النمل:60]، فليس للكون إله غير الله سبحانه وتعالى وحده، فلذلك قال: هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ[الحشر:22]، أثنى على نفسه بصفة العلم التام المحيط بجميع الأشياء إجمالًا وتفصيلًا، وهذا العلم وهو علم الله سبحانه وتعالى ليس فيه تفاوت، فعلمه بجميع الأشياء قبل أن تكون هو علمه بها بعد كونها، ولذلك فالعلم مرتبة من مراتب القدر.
فالقدر الذي الإيمان به ركن من أركان الإيمان الستة أربع مراتب:
المرتبة الأولى منه: علم الله بجميع الأشياء إجمالًا وتفصيلًا، فقد علم الله كل ما يكون في هذا الكون وعلمه بذلك كان تفصيليًا محيطًا بجميع ذلك، حركات كل شيء وسكناته وتفاصيل كل ما فيه من الأمور قد علم الله ذلك قبل كون السماوات والأرض، قبل خلق جميع الخلائق.
جلستنا هذه علمها الله قبل أن يخلق آدم وقبل أن يخلق السماوات وقبل أن يخلق الأرضين، وعلم كل حركة يتحرك بها كل إنسان منا، وعلم كذلك من كتب له أجرها كاملًا، ومن نقص من أجره منها شيء، وعلم كل من يفهم ومن لا يفهم، وعلم كل تفصيلاتها، وكل ما يخطر في قلوبنا من الهواجس، وكل ما تسمعه آذاننا كذلك من النغم والأصوات، وكل ما يحصل من الحركات والسكنات معلوم لديه قبل خلق السماوات والأرض، وهذه المرحلة هي الأولى من مراتب القدر.
والمرتبة الثانية: كتابة كل ما هو كائن في الصحف التي عنده فوق عرشه، وتلك الصحف هي أم الكتاب، كتب الله فيها كل ما هو كائن من الخلائق، ولا محو فيها ولا تبديل، وليس فيها ارتباط بالشروط ولا في انتفاء الموانع، كتب الله فيها كل الخلائق وهي أم الكتاب كما قال الله تعالى: يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ[الرعد:39]، وقد كتب الله فيها كل الخلائق وأفعالهم وكل ما يتعلق بهم.
والمرتبة الثالثة: هي توزيع ذلك على الزمن، فإن الله تعالى في ليلة القدر في كل سنة ينزل إلى اللوح المحفوظ ما يقع في تلك السنة، ومع كل جنين في بطن أمه يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، ومع كل شجرة يكتب عند ما تنشق الأرض عنها عدد ما ينبت فيها من الأوراق وعدد ما تشربه من الماء، وعدد ما تشربه من الهواء، وعدد ما يستظل بها من الكائنات، وما ينتفع بأوراقها، وما يسقط من ورقها، وما يسقط من شوكها، كل ذلك يكتب معها أول ما تنشق عنها الأرض، ( إن لهذه الأشجار لآجالًا كآجالكم )، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
والمرتبة الرابعة: هي تنفيذ ذلك على وفق العلم السابق، فينفذ الله جميع ما كتب في أم الكتاب على وفق ما سبق في علمه المحيط بجميع الكائنات، فلذلك جلستنا هذه علمها الله كما ذكرنا قبل خلق الكون، وكتبها في الصحف التي عنده فوق عرشه، ثم كتبها في هذه السنة أنها تقع في هذا العام في هذا الوقت، ثم قدرها الآن فجاءت على وفق ما علم الله قبل خلق السماوات والأرض، لم يختلف منها شيء، لا في عدد الحاضرين، ولا في مدة جلوسهم، ولا في حركاتهم ولا سكناتهم ولا عرقهم ولا تفكيرهم كل ذلك على نحو ما كتب الله قبل خلق آدم وقبل خلق السماوات والأرض.
فهذا هو من علمه بجميع الأشياء، وهذا العلم أثنى به على نفسه، فقال: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ[الأنعام:73]، فالكائنات جميعًا تنقسم إلى غيب وشهادة، فالغيب: هو ما غاب عن الحس. والشهادة: ما شوهد بالحس، المشاهد بالعين أو بالأذن بالسماع أو الملموس باليد أو المشموم بالأنف أو المذوق باللسان، كل هذه من عالم الشهادة، وعالم الغيب هو ما غاب عن الحس.
والغيب قسمان: قسم منه غيب حقيقي، وقسم غيب نسبي، فالغيب الحقيقي: هو ما استأثر الله بعلمه كما في غد، ما يقع في غد، فهذا من الغيب الحقيقي لا يطلع عليه إلا الله، أو من أخبره به عن طريق الوحي، كما قال الله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا[الجن:26-28]، وفي قراءة أخرى: (ليُعلم) أي ليعلم الناس بذلك، أي: هو معجزة لهم ما يخبرون به من الغيب هو معجزة لهم، (ليُعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم) وأنهم تكلموا من تلقاء أنفسهم، وهذا الغيب الحقيقي، أصله مفاتيح الغيب الخمسة، التي بينها الله سبحانه وتعالى في قوله: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ[الأنعام:59].
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مفاتح الغيب خمس، وقرأ قول الله تعالى: إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ[لقمان:34])، فهذه الخمسة هي مفاتح الغيب لا يعلمها إلا الله: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ[الأنعام:59]، فلا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا ما أوحى الله تعالى عليه به، وبينه له.
أما ما سوى ذلك من الغيوب، فهو الغيب النسبي، وهذا يطلع الله عليه من شاء من خلقه، فما وراء الجدار لا يراه من ليس عنده منا، فهو من عالم الغيب في حق الذين هم دون الجدار؛ لأنهم لا يرون ما وراء الجدار، ولكن ذلك ليس غيبًا حقيقًا؛ لأن الذين وراء الجدار يرونه، ولذلك فما يطلع الله عليه أولياءه من بعض الأمور الحاصلة حالًا، أو التي حصلت في الماضي هو من الغيب النسبي وليس من الغيب الحقيقي.
وكذلك ما يكشف من التكنولوجيا والعلوم كأن يأخذ الإنسان مكبرًا فينظر فيه فيرى ما فيه من تفصيلات ما في القمر من الجبال، أو ما في الكواكب البعيدة، أو نحو ذلك هذا من الغيب النسبي وليس من الغيب الحقيقي، ولذلك يطلع عليه، ومثل ذلك الفحوص التي تكشف الجنين هل هو حي أو ميت؟ وربما كشفته هل هو ذكر أو أنثى، هل هو واحد أو اثنان مثلًا، فكل ذلك هو من الغيب النسبي ولهذا فإن ما في بطن الشاة قبل أن تسلخ ويشق بطنها كان من الغيب، فلما شق بطنها صار من عالم الشهادة، وكذلك التصوير عن طريق الموجات، هو أيضًا من عالم الشهادة فما رئي بتلك الموجات والأشعة فهو من عالم الشهادة، ليس من عالم الغيب.
ومن هنا في قوله تعالى: وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ[لقمان:34] الذي هو من عالم الغيب الحقيقي الذي لا يطلع عليه الناس تفصيلات ما في الأرحام، فالله يعلم الجنين في الرحم هل هو شقي أو سعيد، هل هو معمر، أو قصير العمر، عدد ذرات الأكسجين الذي يتنفسها، عدد أرزاقه، طول أمعائه، واتساعها، ما فيه من الشعر، عدد ما في دمه من الكريات الحمراء والبيضاء، هذه أمور يعلمها الله، ولا يمكن أن يعلمها من سواه بوجه من الوجوه، ولا يستطيع العلم مهما تطور أن يبين شيئًا من ذلك، من المستحيل، أن يصل إلى شيء من ذلك؛ لأن هذا من الغيب الحقيقي، الذي لا يعلمه إلا الله.
ولذلك تصوروا، هل يمكن أن يتصور إنسان أن فحصًا يمكن أن يعرفه به هذا الجنين شقي أو سعيد مثلًا؟!
هل يمكن أن يكشف به: هل هو معمر أو سيموت قريبًا؟! هذه أمور لا يمكن أن يطلع عليها الناس؛ لأنها من الغيب الحقيقي، الذي استأثر الله به، ولذلك فهذا النوع من الغيوب، إذا كتب في اللوح المحفوظ في ليلة القدر علق بالشروط وانتفاء الموانع، فيكتب فلان بن فلان إذا تصدق بكذا في هذه السنة، وإذا لم يتصدق به.. مات في هذه السنة، إذا تصدق بكذا برء من هذا المرض وإن لم يتصدق لم يبرأ منه، إذا تصدق بكذا لم يصب بهذه المصيبة، وإذا لم يتصدق أصيب بها، وهذه أمور لا يعرف الملك في وقت كتابتها: هل ستتحقق تلك الشروط أو لا؟ إنما يعلم ذلك هو الله وحده، فالملك عرف أن فلانًا كتب في من يموت في هذا العام إذا لم يتصدق، لكن هل سيتصدق، الله أعلم، ولذلك: فإن ملك الموت جاء إلى موسى لقبض روحه، عندما اطلع على أنه كتب أنه سيموت في هذا الوقت من هذه السنة معلقًا بالشرط، فأتاه لقبض روحه، فلما أتاه صك موسى الصورة التي ظهر فيها الملك ففقأ عينها، فقأ عين تلك الصورة التي ظهر فيها الملك، وليست صورة الملك، الملك كبير جدًا، فالملائكة مثلًا منهم جبريل ، له ستمائة جناح، ما بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب، وإنما يظهر في صورة يتجلى فيها فقط، كما كان جبريل يظهر في صورة دحية الكلبي ، فالفرق شاسع جدًا بين قامة رجل من البشر، وبين قامة جبريل ، فكذلك ملك الموت ظهر لـموسى في صورة رجل فصكه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه: قال: يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فأوحى الله إلى موسى فخيره، حياة طويلة مع ما ينشأ فيها من الضعف والمرض والسقم، أو أن يعجله إلى رضوانه، وأخبره أنه إذا وضع يده على جنب ثور، فله بكل شعرة سنة من العمر، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال: أما إذا كان لا بد منه فالآن. فحان في وقت موته الحقيقي.
فلذلك هذا العلم هو من علم الله سبحانه وتعالى الذي هو محيط بكل ذلك، ولذلك قال: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ[الحشر:22]، وبُدئ بالغيب؛ لأن علمه أعظم من علم الشهادة، فعلم الغيب أعظم وأغرب من علم الشهادة، ولم يقتصر عليه لئلا يظن أن علم الله مختص بالغيبيات، بل هو شامل للجميع: ((عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)).
نقف على هذا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر