إسلام ويب

أسماء الله الحسنى [2]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن لله أسماء حسنى وصفات علا، علمها الله سبحانه وتعالى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وذكرها في كتابه الكريم وجعل لمن أحصاها فضيلة وأجر كبير، ونزه نفسه سبحانه وتعالى من النقص والعجز بأسمائه وصفاته، وجعل معرفته والتقرب إليه بهما، وكانت ثمرة من دعا بها وحرك لسانه بذكرها أن يوفق لكثير من الطاعات، والتفريج من الكربات وغيرها.

    1.   

    صفة الرحمة ومشتقاتها

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فقد وصف الله نفسه بقوله: هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ[الحشر:22]، وهما صفتا مبالغة من الرحمة، وقد كتب الله الرحمة على نفسه وأمر بها عباده، واشتق لنفسه اسمين منها، وهما: الرحمن، والرحيم.

    صفة الرحمن والرحيم والفرق بينهما

    فالرحمن: ذو الرحمة العامة بجميع الخلائق في الدنيا حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها، والرحيم: ذو الرحمة الخاصة بالمؤمنين في الآخرة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فادخر عنده تسعًا وتسعين رحمة لعباده المؤمنين في الجنة، وأنزل رحمة واحدة في الدنيا، فبها يتراحم الخلائق فيما بينهم حتى ترفع الدابة عن ولدها)، رحمة واحدة في الدنيا، يتراحم بها الخلائق جميعًا فيما بينهم، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها، الدابة التي تلد ولدها في الليلة الظلماء في الخلاء، ولم تمسها يد، ولم تؤدب بأي نوع من الأدب ترفع حافرها عن ولدها وتدافع عنه، فهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى الشاملة.

    وهو الرحمن الرحيم، وثناؤه على نفسه بذلك يقتضي أنه سبحانه وتعالى يبتدئ الناس بالخير قبل المسألة، ويلهمهم المسألة ... إذا سألوه، وأنه سبحانه وتعالى غني عن عباده وعما في أيديهم وعما آتاهم، قد رحمهم برحمته حين خلقهم ورزقهم، ولو قابلهم بسيء أعمالهم وبما يستحقون، لما استحقوا شيئًا من جزائه ولا من رحمته، ولما نالوا ما هم فهي من خيراته، وقد قال الله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا[إبراهيم:34]، وقال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ[النحل:53]، ورحمة الله هذه واسعة جدًا، كما قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ[الأعراف:156].

    آثار رحمة الله سبحانه وتعالى

    وهذه الرحمة من آثارها الليل والنهار، والشمس والقمر، والمطر والنبات كل ذلك من آثار رحمة واحدة.

    فالليل الذي يستريح فيه الناس عن العمل، وينامون فيه، وقد جعل الله النوم سباتًا لأبدانهم، وراحة لها، والنهار الذي فيه الضياء للعمل ويعملون فيه وينتجون كلاهما من رحمة الله، كما قال تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ[القصص:73]، ((لِتَسْكُنُوا فِيهِ)) راجع إلى الليل، و((وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)) راجع إلى النهار، وكذلك المطر، كما قال الله تعالى: فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[الروم:50].

    عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ[الحشر:22]، أثنى على نفسه إذاً بصفة الرحمة وهي من صفات الله تعالى التي هي للتعلق والتخلق، فصفات الله عز وجل منها ما هو للتعلق لا للتخلق كالصمد، الجبار، المهيمن، المتكبر، فهذه الصفات للتعلق يسأل الله بها، لكن لا يتخلق بها، أي: لا يمكن أن يشرع للبشر أن يتخلقوا بها.

    ومنها ما هو للتعلق والتخلق كصفتي: الرحمن الرحيم. الرحمة صفة مطلوبة في البشر، فلذلك يتخلقون ويتعلقون بهذه الصفة، وقد كتبها الله على نفسه وشرعها لعباده، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من لا يَرحم لا يُرحم)، وقال: (الراحمون يرحمهم الرحمن)، (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).

    1.   

    مستويات الرحمة عند المؤمن

    وهذه الرحمة على مستويين:

    المستوى الأول لرحمة المؤمن

    المستوى الأول: الرحمة بالمؤمنين، وهي الرقة لهم، والعطف على فقرائهم وضعفائهم وصغارهم، وكل المحتاجين منهم، فهذا حق من حقوق المؤمنين، كما قال الله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ[الفتح:29]، وكما قال تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ[المائدة:54]، وهذه الرحمة بهذا المستوى ليس للكفار منها نصيب؛ لأن الكفار في مقابل ذلك نصيبهم الغلظة كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ[التوبة:73]، وكما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً[التوبة:123].

    المستوى الثاني للرحمة

    أما المستوى الثاني: فهو شامل للكافر والمسلم، وهو الحرص على هداية الناس واستقامتهم وتحقيقهم لما خلقوا من أجله، فلا بد أن يحب المؤمن الإيمان لكل الخلائق؛ لأنه يحب لهم ما يحب لنفسه، حتى لو كانوا كفارًا يحب أن يهتدوا، ويحب أن يؤمنوا، ويحب أن يموتوا على الإيمان وحسن الخاتمة، ويحب أن يكونوا من أهل الجنة، ولا يرضى لهم الكفر بحال من الأحوال، وهذا هو الوارد فيما أخرج مالك في الموطأ و أحمد في الزهد عن يحيى بن سعيد : أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسوا قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلىً ومعافاً فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية.

    فارحموا أهل البلاء، فكل مبتلى من حقه هذا المستوى من مستويات الرحمة، وشر البلية البلاء في الدين، فشر بلاء هو البلاء في الدين، فلذلك إذا رأيت الكافر فكن حريصًا على هدايته رحمة به من عذاب الله، ترحمه أن يكبه الله على وجهه في النار، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أن شابًا من اليهود مريضاً فذهب إليه يعوده فوجده في السياق يجود بنفسه، فقال له: (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله)، فرفع رأسه إلى أبيه يستأمره، فقال: قل ما أمرك به أبو القاسم، فقال: أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ومات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الحمد لله الذي أنقذه بي من النار)، ثم قال لـسعد بن أبي وقاص وأصحابه: (خذوا صاحبكم، فأخذوه فغسلوه وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفن في مقابر المسلمين)، فقد كان حريصًا على هداية الناس جميعًا.

    وهذا المستوى بينه النبي صلى الله عليه وسلم في وظيفته فيما أخرج البخاري و مسلم في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارًا، حتى إذا أضاءت ما حوله جعل الفراش يتساقط فيها، وهذه الدواب، فجعل ينفي بيده وهن يقتحمن فيقعن فيها، ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار)، فجعل الخلائق جميعًا بمثابة الفراش الذي يجتمع على ضوء النار فيتساقط فيها فيحترق، وجعل نفسه منذرًا يحول بين الناس وبين النار، فقال: (ألا إني ممسك بحجزكم )، أي: أحزمتكم عن النار، وهذه وظيفته، وعلى كل إنسان أن يشغلها ما استطاع أن يحاول أن يحول بين الناس وبين نار جنهم، فلا بد أن يجد كل إنسان منا في قلبه هذا النوع من الرحمة، يرحم الناس من عذاب الله، ويكره لهم الكفر، ويكره لهم المعصية، ويحب لهم الإيمان والهداية والاستقامة. فهذا هو المستوى الثاني من مستويات الرحمة، وقد قال أحد الحكماء:

    ارحم بني جميع الخلق كلهم وانظر إليهم بعين الرفق والشفقة

    وقر كبيرهم وارحم صغيرهم وراع في كل خلق حق من خلقه

    فهم مخلوقون لله سبحانه وتعالى فلما كان هو خالقهم وهو رازقهم، كان لهم من الحق أنهم عباد لله، وأنه خلقهم، فلذلك قال: هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ[الحشر:22].

    ثم بعد هذا كرر الاسم العظيم فقال: هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ[الحشر:23]، فأثنى على نفسه مرة أخرى باسمه هذا العظيم، باسم الجلالة، وبنفي الألوهية عمن سواه، وبإثبات الألوهية له.

    1.   

    صفة الملك ومقتضاه

    ثم بعد ذلك قال: المَلِكُ الْقُدُّوسُ[الحشر:23]، والملك هو المتصف بالملك، والملك هو السلطان والقهر والجبروت، فالله سبحانه وتعالى: هو ذو السلطان الذي لا معقب لحكمه، فالسماوات السبع والأرضون السبع في قبضة يمينه، والقلوب كلها بين إصبعين من أصابعه، قلوب المؤمنين والكفار والأبرار والفجار، كلها بين إصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، والأرواح كلها بيده متى شاء أخذها، ولذلك كانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا والذي نفس محمد بيده)، فنفس الإنسان بيد الله متى شاء أخذها؛ ولذلك لا بد أن يُعلم: أن ملك الله سبحانه وتعالى شامل لجميع الخلائق عام في جمعيها، فالكفار لا يستطيعون التعقيب لحكمه، ما حكم به عليهم من الموت، إذا قال لأحدهم: مت، لا يستطيع أن يتأخر: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ[الأعراف:34]، فهذا هو القهر، وقد قهر العباد بالموت، فهو القهار، قهر العباد بالموت كما في الحديث.

    وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله عز وجل يأخذ السماوات السبع والأرضين السبع يوم القيامة فيقبضهن فيهزهن ويقول: أنا الملك أين الجبارون، أين المتكبرون؟ )، وهذا الملك يقتضي نفاذ حكمه في جميع الخلائق، فلا يقع في الكون إلا ما أراد، ولا يحتاج فيه إلى علاج بل إنما يأمر، وأمره هو أن يقول: كن فيكون، ما أراد بين الكاف والنون، كما قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[آل عمران:59]، وكما قال تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[النحل:40]، وكما قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[يس:82]، فكل ذلك من تمام ملكه وقهره للعباد جميعًا، وهذا القهر كذلك يشمل الجمادات والأحياء والخلائق جميعًا كما قال الله تعالى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا[فصلت:9-12]، فالكل من ملكه سبحانه وتعالى الذي لا يمكن التعقيب له.

    الفرق بين الملك بالضم والكسر

    وهذا الـمُلك الفرق بينه وبين الـمِلك: أن المِلك معناه: الاختصاص، والـمُلك: معناه السلطان، فتقول: هذا مِلك فلان، ولا تقول: في مُلك فلان إلا إذا كان مَلكًا.

    فالـمُلك معناه: السلطان، أما المِلك بالكسر، فهو الحوز والاختصاص الخاص، تقول: ملكت هذه الدار مِلكًا، وملك فلان الحكم في البلاد الفلاني مُلكًا، فالـمُلك مُلك السلطان، والـمِلك بالكسر للاختصاص والحوز، فالله سبحانه وتعالى وصف نفسه بأنه الملك، وهو الذي أذل الجبابرة جميعًا بالموت، وقهر العباد بها، ولذلك فكل تدبير في هذا الكون كتصريف الرياح، وتقليب أهواء الرجال، وتقليب المصالح، كل ذلك من ملكه سبحانه وتعالى.

    وكان علي رضي الله عنه إذا رأى الهلال طالعًا، يقول: أيها الخلق المتردد في منازل التقدير، والمتصرف في فلك التدبير، آمنت بمن نور بك الظلم، وأسفر بك البهم، وجعلك آية من آيات وحدانيته، وعلامة من علامات سلطانه، وامتحنك بالزيادة والنقصان والطلوع والأفول، والإنارة والكسوف، وفي كل ذلك أنت له مطيع، وإلى أمره سريع، فسبحان الذي خلقك وخلقني، وقدرك منازل.

    فهذا تدبير الله سبحانه وتعالى في الكون، وكل الخلائق ناصيتها بيد الله سبحانه وتعالى مطيعة لأمره.

    .. فحتى لو كانت في الظاهر تنكر وجوده ولا تقر بربوبيته فهي في الباطن مقهورة بملكه، فلذ لك هو الملك.

    1.   

    صفة القدوس ومعناه

    ثم بعد هذا قال: المَلِكُ الْقُدُّوسُ[الحشر:23] وصف نفسه بهذا الاسم العظيم، المتضمن صفة عظيمة من صفات الله سبحانه وتعالى: فالقدوس معناه: المتطهر من جميع العيوب والنقص، فهو منزه عن جميع العيوب والنقائص، لا يمكن أن تأخذه سنة ولا نوم، ولا أن يتصف بفقر ولا فاقة، ولا أن يعروه أي نقص مما يعرو عباده الخلائق المقهورين، فهو القدوس المنزه عن كل ذلك، وفسرت أيضًا بأن معناها: المقدس، أي: المشرف من شاء من خلقه، المطهر لهم بالإيمان، والتقوى، فهو يقدس من شاء أن يطهره بالإيمان والتقوى: المَلِكُ الْقُدُّوسُ[الحشر:23].

    1.   

    معنى اسم السلام وصفته

    السَّلامُ[الحشر:23] أي: المتصف بصفة السلام، وهذا اسم من أسمائه سبحانه وتعالى وهو يدل كذلك على صفة الأمان، فهو المؤمن من شاء ولا عاصم من الله إلا إليه، ولا ملجأ من الله إلا إليه، وإنما يسلم من سلمه الله، ومن لم يسلمه الله فلا منجي له كما قال الله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[الأنعام:17]، وقال تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ[يونس:107]، وكما قال تعالى: مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ[فاطر:2]، وكما قال تعالى: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المُتَوَكِّلُونَ[الزمر:38]، فلذلك هو ......

    1.   

    اسم المؤمن وصفته

    ثم قال: المُؤْمِنُ[الحشر:23]، والمؤمن أيضًا اسم من أسمائه، متضمن صفة من صفاته، وهو أن يؤمن من شاء من خلقه، فيشمل ذلك تأمينهم من عذابه وسخطه، ويشمل تأمينهم من الأذى في هذه الحياة كالأمراض والأوبة والأسقام، فهو المؤمن لما يشاء من خلقه.

    والاسم يضاف إلى مفعوله، فكثيرًا ما يقال: المؤمن للناس، أو مؤمنو الناس، أو مؤمنو الخلائق، وهكذا كما قال النابغة :

    بالمؤمن العائذات الطير تمسحها ركبان مكة بين الغيل والسعد

    فالمؤمن أي مؤمن لها بأمان الحرم الذي جعل الله فيه، فهو المؤمن يؤمن من شاء من خلقه من عذابه، ويؤمنهم كذلك من عقابه، ويؤمنهم من الأمراض والأوبئة والأسقام، فمن أمنه الله فلا يمكن أن يخاف، ومن لم يؤمنه فلا يكن أن يأمن بوجه من الوجوه.

    1.   

    صفة اسم المهيمن ومعناه

    السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ[الحشر:23]، كذلك من أسمائه (المهيمن) وهو يدل على صفة من صفاته وهي الهيمنة بمعنى الشهادة والعلم والإحاطة، وبمعنى نفاذ الأمر في الكون كله، فهو المهيمن على الخلائق، أي الشاهد عليهم بكل أعمالهم فهو أسرع الحاسبين، سريع الحساب لا يفوته شيء من أعمال عباده كما قال تعالى: فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى[طه:7]، وكما قال تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ[ق:16]، والمهيمن بمعنى: الشاهد من لغة أهل اليمن.

    معنى المهيمن عند أهل اليمن وقصة المرأة اليمنية مع عمر رضي الله عنه

    وقد روي أن امرأة من أهل اليمن جاءت إلى عمر رضي الله عنه، فقالت: يا أمير المؤمنين: إن بعلي عبد حقي وترك الوصيد رهواً ولي عليه مهيمن، فهل لي عليه من مصيطر، فقال: ما فهمت شكواك، فقال ابن عباس كلمات كلهن في كتاب الله، فإنها قالت: إن بعلي عبد حقي، وبعلي بمعنى: زوجي وهي لغة أهل اليمن، ومنها قول الله تعالى: وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا[هود:72]، (عبد حقي) أي: ترك حقي، ومن ذلك قول الله تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ[الزخرف:81]، أي: أول التاركين لعبادته، أو أول العابدين لذلك الولد، فعبد بمعنى: ترك، عبد حقي. (وترك الوصيد هوا) الوصيد: هو الباب، لقوله: وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ[الكهف:18]، (رهواً) أي: مفتوحًا، وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ[الدخان:24]، (ولي عليه مهيمن) أي: لي عليه شاهد، ومن ذلك قول الله تعالى في وصف هذا القرآن: وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ[المائدة:48]، أي: شاهدًا على ما بين يديه من الحق على الكتب السابقة، (فهل لي عليه من مسيطر) المصيطر: هو المجازي، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ[الغاشية:22] أي: مجازٍ لهم، فلذلك لقبه عمر بترجمان القرآن، لقب ابن عباس بترجمان القرآن لعلمه بلغات العرب التي فيه.

    1.   

    اسم العزيز وتفسيره

    المُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ[الحشر:23]، (العزيز) كذلك وصف نفسه بهذا الوصف العظيم المتضمن للعزة، والعزة لها معنيان في اللغة: المعنى الأول: هو القهر، والعرب يقولون: من عز بز، أي: من علا وغلب قهر وانتزع من الناس أملاكهم، كما قالت الخنساء :

    إذ الناس إذ ذاك من عز بزا

    أي: من عز منهم بز، أي: من غلب منهم سلب.

    والمعنى الثاني: فالعزيز هو الذي ليس له جنس، فالله سبحانه وتعالى هو الواحد ليس كمثله شيء، فهو العزيز، فالعزة إذاً من الأمرين، أي: العزيز بمعنى الواحد، والعزيز بمعنى الذي لا يرد له حكم، فكل ذلك من صفاته سبحانه وتعالى.

    1.   

    اسم الله الجبار ومعناه

    الْجَبَّارُ[الحشر:23]، هذا اسم من أسمائه، متضمن لصفة أيضًا، وهي صفة الجبر، والجبر قسمان، جبر بمعنى: إصلاح للخلل كجبر الكسر، فهو الذي يجبر خواطر كل مصيبة، فالله فيه منها خلف، في الله خلف عن كل هالك، إذا أصبت بأية مصيبة أو فقدت أي حبيب فالله خلف عن كل هالك، وفيه عزاء عن كل مصيبة، فهو الجبار الذي يجبر الكسر، ويعيد للإنسان ما فاته، ويجبر القلوب إذا انكسرت، وكذلك هو الجبار هو القهار يجبر عباده على التصرف الذي كتبه عليهم وأراده.

    أنواع خطاب الله للإنسان

    ومن عجائب ذلك أنه يجبرهم بالإرادة لا بالقهر، فالإنسان له خطابان: خطاب هو فيه مخير، وخطاب هو فيه مسير، فالخطاب الشرعي للإنسان هو فيه مخير، فالكلمات التشريعية، الإنسان بها مخير، إن شاء صلى وإن شاء لم يصلّ، والله يقول: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ[البقرة:43]، فيمتثل كل مؤمن فيصلي، ويزكي ويمتنع منه الفاجر فلا يصلي ولا يزكي، هذا النوع من الخطاب يكون الإنسان فيه مخير، وهو الخطاب التشريعي.

    والنوع الثاني: هو الخطاب القدري، وهذا يستوي فيه البر والفاجر فلا يستطيعان العدول عنه، إذا قال للبر: مت، سيموت حالًا، وإذا قال للفاجر: مت سيموت حالًا، ولا يستطيع الممانعة، فلذلك الكلمات القدرية الكونية لا يتعداها بر ولا فاجر، والكلمات التشريعية، يقف عندها البر ويتعداها الفاجر، فلذلك جاء الخطاب تشريعي على التخيير، وجاء الخطاب الكوني على التسيير، فالإنسان فيه مسير على وفق ما علم الله سبحانه وتعالى، ولا يستطيع العدول عن ذلك، لكن مع هذا يجبره الله سبحانه وتعالى من حيث لا يشعر، فيتعلق قلبه بالأمر ويريده، وفيه الضرر عليه، يستعد الإنسان للسفر في الطائرة، ويقص التذكرة بثمن باهض، ويسعى لتأكيدها، ويسافر وهو على موعد مع ملك الموت في سفره ذلك تتحطم به الطائرة مثلًا، أو يركب في السيارة وهو على موعد مع ملك الموت، فيقع في حادث السير ويموت فيه، فالكل في محض إرادته ومحبته وهواه ولو حبسه حابس عن السفر لما قبل، ولذلك يقول الحكيم :

    إذا ما حمام المرء كان ببلدة دعته إليها حاجة فيطير

    أمثلة على تدبير الله الكوني للإنسان

    وقد شاهدنا عجائب من هذا: أذكر مرة من المرات أن شابًا كان يريد السفر فحجز في طائرة صباحية، وكانت أمه مستيقظة فلم توقظه للسفر فغضب على أمه غضبًا شديدًا حين فاتته الرحلة، وخاصم أمه وبين لها أنه فاتت عليه الفرصة وضيعت عليه ما كان يريده من السفر، ثم رجع ففتح التلفزيون فإذا خبر عاجل فيه أن تلك الطائرة قد تحطمت، فجاء إلى أمه وعهدها به غضبان جدًا، مخاصماً لها، فجاء يقبل رأسها ويقول: قد تحطمت الطائرة التي كنت سأسافر فيها.

    وكذلك شاهدنا في أيام الطائرة التي تحطمت في تنجيا، أن رجلًا كان حجز في تلك الطائرة، وأراد السفر فيها، وكان في نفس الوقت طائرة أخرى تتجه إلى العيون، فركب عن طريق الغلط في الطائرة المتجهة إلى العيون، فلما كان في الجو علم أنها تتجه إلى العيون، فغضب وخاصم فوق الطائرة خاصمًا شديدًا، فلما نزلت الطائرة علم أن التي ذهبت إلى تنجيا قد احترقت، فهذا من تدبير الله العجيب، وقد قال العلامة ابن التالي رحمه الله:

    العبد في الظاهر ذو اختيار والجبر باطناً عليه جار

    فكان من عجائب الجبار أن يجبر العبد بالاختيار

    كفعله لما له فيه ضرر يفعله طوعًا على وجه النظر

    فهو يفعله طوعًا غير مكره عليه على وجه النظر يرى أنه هو المصلحة، ويكون فيه الضرر عليه من حيث لا يشعر، فهذا هو من جبر الله العجيب.

    فلذلك قال: الجبار، المتكبر، هذا اسم من أسمائه، وهو متضمن لصفة من صفاته وهي صفة الكبرياء، وهي من عظمة الله سبحانه وتعالى وجلاله، وقد جاء في الحديث القدسي: ( أن الله تعالى يقول: الكبرياء ردائي فمن نازعني ردائي قصمته)، فلذلك حرمها الله على الخلائق، حرم الكبر والتكبر والكبرياء على الخلائق؛ لأن ذلك رداء الله سبحانه وتعالى، وإنما يستحق الكبرياء الخالد الدائم الذي لا يموت ولا يفنى ولا يبيد، أما الذي يموت ويصير تحت التراب فلا يستحق أن يتكبر، لماذا يتكبر؟ فلذلك هو سبحانه وتعالى المتكبر.

    تنزيه الله نفسه عن الشرك

    سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ[الحشر:23]، نزه نفسه سبحانه وتعالى عما يشركه العباد من دونه، فبين أنه هو الذي اتصف بهذه الصفات، فهو الذي يستحق العبادة وحده ومن سواه ممن يدعى من دونه أو يعبد، كيف يعبد أو يدعى من دون الله وهو غير متصف بهذه الصفات، قال: ((سُبْحَانَ اللهِ)) أي: تسبيحًا له، وسبحان علم على التسبيح، والتسبيح معناه: التنزيه، فهو من أسماء المصادر، ومعناه: التسبيح: سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي: تنزه الله تعالى عما يشركون من دونه، فليس له ند ولا معين ولا ظهير ولا وزير، ولا حاجب يدعى من دونه: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ[البقرة:255]، وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ[الأنبياء:28]، فلذك لا يستحق أحد العبادة ولا الدعاء من دونه سبحانه وتعالى وحده. سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي: تنزه عن ذلك.

    ثم قال: هُوَ اللهُ[الحشر:24]، وصف نفسه كذلك بإعادة هذا الاسم وإثبات الألوهية له ونفيها عمن سواه.

    1.   

    صفة الخالق ومعناها

    الْخَالِقُ[الحشر:24] أي: المتصف بصفة الخلق، فهو الخالق لهذا الكون، والخلق في الأصل معناه: التقدير، فيقول: خلقت صورة في هذه الورقة، أي: رسمتها على هيئتها التي أريد قطعها عليها، فالخلق إذاً: معناه التقدير، ثم بعد ذلك يفرى الخلق أي: يقطع على وفق ما قدر له، والله سبحانه وتعالى هو وحده الخالق، ولا خالق لشيءٍ سواه، فهو الذي خلق العباد، وهو الذي خلق أفعالهم، لكن لا بد هنا من التمييز بين الخلق والفعل.

    الفرق بين خلق الله وفعله

    كثير من الناس لا يدرك الفرق بين الخلق والفعل، فالله هو الخالق لكل الأشياء، هو الخالق للعباد، وهو الخالق لأفعال العباد، لكن الله يفعل والعباد يفعلون، فمن الأفعال ما هي من أفعال الله كإنزال المطر وإنبات الشجر وبعثة الأنبياء، وإدخال الناس في الجنة، وإدخال من أراد في النار، فكل ذلك من فعل الله ومن خلق الله.

    ومن الأفعال ما هو من أفعال العباد ليس من أفعال الله، ولكنه من خلق الله، فأفعال العباد: هم الذين فعلوها؛ ولذلك يثابون على حسنها ويعاقبون على سيئها، فالكذب والسرقة والزنى والقذف والشرك، هذه ليست أفعال الله، لم يفعلها الله عز وجل، ولكنه خلقها، والعباد هم الذين فعلوها، وفاعلها هو الذي يعاقب عليها؛ لأن الخطاب بالثواب والعقاب يترتب على الفعل لا على الخلق، فالخلق لا يرتب الله عليه ثوابًا ولا عقابًا، أما الفعل المباشر فهو الذي يرتب الله عليه الثواب والعقاب، فلذلك رتب الثواب على الفعل الحسن، ورتب العقاب على الفعل السيء، وأفعال العباد هم الذين فعلوها؛ فالإنسان هو الذي سرق، أو هو الذي زنى، أو هو الذي كذب، فلذلك يستحق العقاب على ذلك الفعل، أو في المقابل هو الذي صلى أو زكى أو ذكر أو قرأ القرآن فعلمه، فهو الذي يستحق الثواب على ذلك الفعل؛ لأنه هو الذي فعله.

    1.   

    أقوال الناس في القدر ومذاهبهم

    ومن هنا: فإن أقوال الناس في القدر أربعة:

    مذهب القدرية

    القول الأول: مذهب القدرية، وهم نفاة القدر الذين يزعمون أن الأمر أنف، وأن الله لا يعلم بالأشياء حتى تقع.

    تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، فأولئك الذين يقولون بقول القدرية، يزعمون أن الأمر أنف، وأن العباد هم الذين يخلقون أفعالهم، وأن الله لا يعلم بها حتى تقع، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، ومذهبهم هو شر المذاهب وقد جاء فيهم أن القدرية مجوس هذه الأمة، وقد أنكروا ركنًا من أركان الإيمان، وهو الإيمان بالقدر خيره وشره.

    مذهب الجبرية في القدر

    والمذهب الثاني: مذهب الجبرية، وهم الذين يزعمون أن الله تعالى هو الذي يفعل كل الأفعال وأن المخلوق لا يفعل، فينسبون إليه السرقة والزنى والقذف والشرك تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، ويزعمون أن العبد ليس له مشاركة في ذلك ولا فعله، وهذا مغالطة وكذب، فالعبد هو الذي فعله، وهو يعلم أنه فعله وأراده وفكر فيه، وعد آلته وصنعه، وهم يكذبون على أنفسهم، ويقتنعون بأن ما يقولونه باطل، ومع ذلك فحججهم كلها واهية يقولون:

    ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء

    وهذا خلاف الواقع تمامًا فهم يعرفون أن الإنسان هو الذي فكر من قبل هل يسرق أم لا؟ ثم أعد السبب ثم مد يده ثم تناول المال المحرم، أو هو الذي فكر بالقتل وسعى إليه، وأعد آلته وفعل الفعل المحرم، فهم يعرفون أن الإنسان هو الذي فعل، وإنكار ذلك مكابرة لا يستطيعها عاقل، العاقل يعرف أنه هو الذي خرج من بيته وهو الذي أراد هذا الفعل، ومالأه عليه قوم آخرون وفعل.

    مذهب الأشاعرة في القدر

    أما المذهب الثالث: مذهب الكسب، وهو لـأبي الحسن الأشعري و ابن كلاب رحمهما الله إذ كان يرى: أن أفعال العباد هي من خلق الله لكن لا يميز بين الفعل والخلق، فرأى أن تعلق العبد بالفعل هو بمثابة تعلق الحديد بالمغناطيس، فيرى أن العبد له قدرة لكن لا يقع بها، وأن النتائج تقع عند الأسباب لا بها، وهذا ما تسمعونه على ألسنة العوام يقولون: عندها لا بها، عندها لا بها معناه: عند الأسباب تقع المسببات لا بها، وهذا غلط في التصور، فالمسببات إذا لم تترتب على أسبابها فأسبابها عبث لا فائدة فيها.

    مذهب أهل السنة في القدر

    فالمذهب الرابع هو المذهب الحق، وهو: التفريق بين الخلق والفعل، فالخلق كله لله: اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ[الزمر:62]، خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ[الصافات:96]، والأفعال منها ما هو فعل الله، ومنها ما هو فعل المخلوق، ففعل الله كإنزال المطر والرزق والإحياء والإماتة وبعثة الرسل، وخلق الجنة والنار، وخلق السماوات والأرض، وفعل المخلوق كبنائه لداره بيده، وكصلاته وصيامه، وككذبه وفواحشه، فهذه من أفعال العباد وليست من أفعال الله، وبهذا يتبين أنه لا اعتراض في إثبات القدر ولا يترتب عليه أي شيء ينافي العقل.

    فلذلك قال: الْخَالِقُ الْبَارِئُ[الحشر:24]، (البارئ) أي بعد أن خلق الأشياء وقدرها برأها على نحو ما علم من قبل، والبرء: هو الشق وهو الفري، كما قال الشاعر:

    ولأنت تبري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يبري

    وفي رواية:

    ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري

    1.   

    صفة الله في اسم الباري والمصور ومعناهما

    فالبارئ الذي ينفذ ما خلق، أي: ما قدر، فينفذه على وفق ما علم، فالله سبحانه وتعالى هو الذي برأ السماوات والأرض، وفطرهن من غير مثال سابق، وهو الذي برأ هذا الجنس البشري، وفطره على أحسن صورة وأتم تقويم من غير مثال سابق، وهو الذي برأ الجنة وما فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بغير مثال سابق ولا لاحق، فكل ذلك من تدبيره سبحانه وتعالى: الْخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ[الحشر:24]، (المصور) كذلك وصف نفسه بهذه الصفة وهي اسم من أسمائه تتضمن صفة المصور، أي: الذي يخلق الأشياء على صورها وهيئاتها: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ[الانفطار:8]، والصور هي الهيئات، والله سبحانه وتعالى، جعل لكل مخلوق من ذوي الحياة، صورة وحياة فالحياة من المعنويات والصورة من الماديات الظاهرة، فهذه الصورة لا تمثل الإنسان في الواقع، فقد يكون الإنسان في الظاهر جسيمًا وسيمًا وعقله ضعيف، أو فهمه ضعيف، وقد يكون الإنسان قبيحًا ذميمًا في الظاهر، ولكنه شجاع وذكي، فإذاً: الصورة لا تمثل حقيقة الإنسان، ولذلك يقول الشاعر:

    لا بأس بالقوم من طول ومن ضخم جسم البغال وأحلام العصافير

    و حسان رضي الله عنه لما قال هذا في بني عبد المدان بن الديان، قال: والله إن كنا لنفخر بأجسامنا على العرب، كانوا من ذوي الجسامة والقوة، فأفسدت علينا فخرنا، فاسترضاهم فقال:

    وقد كنا نقول إذا رأينا لذي جسم يكون وذي بيان

    كأنك أيها المعطى بياناً وجسماً من بني عبد المدان

    وبنو عبد المدان بن الديان هم سادة بني سعد العشيرة بني كعب في اليمن وهم سادتهم وقادتهم، وهم أخوال بني العباس بن عبد المطلب، ولذلك يقول الشاعر:

    ولو أني بليت بهاشمي خؤولته بنو عبد المدان

    لهان علي ما ألقى ولكن تعال فانظروا بمن ابتلاني

    فلذلك يصور الله سبحانه وتعالى الخلائق على نحو ما أراد، فالتوأمان يكون أحدهما ذكرًا والآخر أنثى ويكون أحدهما دميمًا والآخر جميلًا، ويكون أحدهما طويلًا، والآخر قصيرًا وهكذا.

    ومن هنا: فيخرج من البطن الواحد من هو قوي ومن هو ضعيف، ومن هو شجاع ومن هو جبان، ومن هو كريم، ومن هو بخيل، كل ذلك من تصوير الله سبحانه وتعالى: المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى[الحشر:24].

    1.   

    أسماء الله وصفاته لا حصر لها

    عقب بعد ذكر هذه الأسماء والصفات بأنها لا تقتضي حصرًا، فأسماء الله غير محصورة في هذه المذكورة هنا.

    لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى[الحشر:24]، والاسماء: جمع اسم، وهو في الأصل من السماء يسمو؛ لأنه يسمو بمسماه ويرفعه من المجهولية إلى ضدها وهو المعلومية، وهذا منهج البصريين، وقال الكوفييون: بل هو في الأصل وسم، يشتق من وسم الشيء إذا وضع عليه علامة وهي الوسم؛ لأن الاسم علامة على مسماه، ولكن مذهب البصريين أرجح من مذهب الكوفيين؛ لأنك تقول: سُمي في تصغير اسم، وتقول: سميت ابني زيدًا، ولا تقول: وسمت به زيدًا، وتجمعه فتقول: أسماء، ولا تقول: أوسام، فلو كان الاسم من (وسم) لقيل: أوسام، وقيل: وسيم، وقيل: وسمت ابني زيدًا، وكل ذلك ليس في لغة العرب، بل الذي في لغة العرب أسماء وسمي، وسميت، ولا يتوقع دعوى القلب فيه فهي بعيدة.

    أسماء الله الحسنى وجزاء من أحصاها

    الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى[الحشر:24]، والحسنى: معناها: المتصفة بالحسن، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إن الله تسعًا وتسعين اسمًا مائة إلا واحدًا من أحصاها دخل الجنة)، (إن الله تسعة وتسعين اسمًا)، وهذا الحديث أيضًا لا يقتضي الحصر، فمعناه: إثبات تسعة وتسعين اسمًا، تتعلق بها مزية الخصوصية، وهي: أن من أحصاها دخل الجنة، لكن ليس معنى ذلك: أن أسماءه منحصرة في هذه، بل كل لغة من لغات العالم فيها عدد كبير من الأسماء لله، وكثير من الأسماء استأثر به في نفسه، وكثير من الأسماء أطلع عليه ملائكته، أو أطلع عليه عوالم أخرى لا نعرفها نحن، ولذلك جاء في الحديث: (اللهم إني عبدك ابن عبدك، ابن أمتك في قبضتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور بصري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي، اللهم علمني منه ما جهلت، وذكرني منه ما نسيت، واجعله لي إمامًا شافعًا ولا تجعله عليّ ... مصدقًا)، فهنا بين أن أسماءه منها: ما استأثر الله به، ومنها ما علمه بعض خلقه.

    عدد أسماء الله الحسنى

    وقد أخرج الترمذي في السنن و ابن حبان في صحيحه، و ابن خزيمة في صحيحه، و الحاكم في المستدرك وغيرهم من حديث أبي هريرة زيادة في الحديث السابق الذي في الصحيحين، وهو: ( هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت) وفي رواية: (المغيث)، ( الحسيب الجليل الكريم الرقيب)، وفي رواية: ( القريب)، (المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين) وفي رواية: (المبين)، (الولي الحميد المحصي المبدئ المعيد المحيي المميت الحي القيوم الواجد الماجد الواحد)، وفي رواية: (الواحد الأحد)، (الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعالي البر التواب المنتقم العفو الرءوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام، المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور)، وزاد ابن حبان في صحيحه: (الحنان المنان).

    وهذه الأسماء في أقل الروايات تصل إلى تسعة وتسعين اسمًا، وفي أكثرها تتجاوز ذلك بذكر الروايات المختلفة التي سقناها.

    وهذا الحديث اختلف فيه: هل هو مدرج، أي: زيادة في الحديث السابق وهو: (إن الله تسعة وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنة)، وعليه يكون من كلام أبي هريرة رضي الله عنه.

    أو هو من المرفوع؛ لأن هذا مما لا يعلم بالرأي، ولا يتوقع أن أبا هريرة أخذه عن أهل الكتاب، بل إنما هو مما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه، فيكون مرفوعًا أو في قوة المرفوع، وهذا الراجح إن شاء الله، أنه مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليس موقوفًا على أبي هريرة فليس مدرجًا.

    معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحصاها دخل الجنة)

    يبقى: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من أحصاها دخل الجنة)، مختلف في معناه: فقالت طائفة: من عدها مؤمنًا بكلها، فيكون الوعد مرتب على أمرين: على الإيمان وعلى المعرفة التي هي العد.

    وقيل: المقصود بذلك من حفظها مطلقًا فإنه لا يوفق لحفظها إلا من كان مؤمنًا بها محبًا لها، وعمومًا فإن الإحصاء بمجرده من دون حفظ ولا إيمان بها لا يغني، ليس المقصود قطعًا، فلا يغني مجرد أن يعدها الإنسان دون أن يتلفظ بها، ويحفظها دون أن يذكر الله بها، وذكر الله بها أيضًا محل خلاف، فقد اختلف في ذكره بالاسم المفرد، فجمهور أهل العلم على أن الذكر لا بد أن يكون بالمركبات كـسبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهذه أذكار إجماعية؛ لأن فيها جملًا مركبة.

    1.   

    ذكر الاختلاف في كيفية الذكر بأسمائه

    واختلف في ذكره بهذه الأسماء المفردة أن يقول الإنسان: الله، الرحمن الرحيم، الملك القدوس، السلام، المؤمن، إلى آخره، فذهب بعض أهل العلم إلى أنه يجوز الذكر بها؛ لأن مجرد ذكرها هو من الإثبات لها، والإثبات لها ثناء على الله بها، واستدل هؤلاء بحديث: (لا تقوم الساعة حتى لا يبقى على الأرض من يقول: الله، الله)، فهذا يدل على أن هذا اللفظ ذكر، وإلا لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يبقى على الأرض من يقول: الله، الله.

    وذهب آخرون إلى أن الذكر إنما يكون بالمركبات لا بالمفردات، وأن الحديث لا يقصد هذا اللفظ فقط، إنما يقصد به من يعرف الله، فيقول: الحمد لله ولا إله إلا الله، ويذكر الله في أي ذكر كان، فلا يقصد مجرد أن يقول: الله، الله، بل المقصود أن يتردد في كلامه ذكر الله، وعمومًا هذا الخلاف لا يمكن حسمه ولو رجحنا أحد شقيه لوجدنا من يرجح الشق الآخر.

    ثناء الله على نفسه بتسبيح الخلق له

    لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ[الحشر:24]، بين أنه يسبح له ما في السماوات والأرض، فكل ما في السماوات من الخلائق ومنهم الملائكة، وكل ما في الأرض من الخلائق ومنهم الإنس والجن، والملائكة والشجر والدواب، كلهم يسبحون الله سبحانه وتعالى، سواء من علم منهم ذلك وعرفه كالمؤمنين، أو من لم يعلمه كالكفار والبهائم والدواب، والأشجار والأحجار وغير ذلك.

    وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[الحشر:24]، أثنى على نفسه كذلك بهذين الاسمين وهما مضمنان لصفتين:

    الأول: العزيز وقد سبقت في هذه الأسماء.

    1.   

    اسم الله الحكيم وإبداعه في الخلق

    والثاني: الحكيم، ولم ترد فيها، والحكيم معناه: ذو الحكمة، والحكمة معناها: وضع الشيء في موضعه، فالله سبحانه وتعالى هو المدبر، فالإنسان جعل الله عينيه في وجهه ولم يجعلهما في مكان آخر من بدنه، ولو جعلهما في قفاه أو في بطنه، لاحتاج إلى الكشف عنهما ويكون ذلك عنتًا ومشقة، فكان من حكمة الله أن جعلهما في وجهه تلقاء وجهه، وكذلك أذنيه جعلهما كذلك للجهتين اللتين لا تتجه إليهما العينان، وكذلك جعل له لساناً واحدًا، وجعل له عينين وأذنين ليكون ما يقوله أقل مما يسمعه، وهكذا جعل له يدين ورجلين وجعله في أحسن تقويم، فكل ذلك من حكمة الله البالغة، وهذه الحكمة البالغة في خلق الإنسان، وفي جميع الخلائق تقتضي أن الله سبحانه وتعالى يبرأ الأشياء على ما يصلح لها، فالإنسان الذي يصلح له هو أن يكون له يدان في الأصل ولو حصلت زيادة، لو نبتت للإنسان يد أخرى لكانت عيبًا ولكانت نقصًا من قوته، ستنقص من قوة يديه، ولو كانت له عين ثالثة لكانت عيبًا ونقصت من قوة عينيه، وهكذا.

    فلذلك هذا الإبداع الذي أبدع الله عليه هذه الخلائق، لا يختل شيء منه إلا كان عيبًا ونقصًا، لا ينقص منه شيء ولا يزيد إلا كان عيبًا ونقصًا، فلذلك اتصف بالحكمة.

    1.   

    معرفة الله بأسمائه وصفاته وأثرها على محبة الله

    وبهذا نكون خضنا بعض الخوض في ظلال بعض هذه الآيات، وأنبه في نهايتها إلى أن التعرف على أسماء الله وصفاته مما يزيد الإنسان محبة لله، ومحبة الله من الإيمان، ونحن جميعًا مطالبون بأن نتحبب إلى الله سبحانه وتعالى وأن نتعرف إليه، وبمعرفتنا لأسمائه الحسنى وصفاته العلى نستطيع أن نثني عليه كذلك، وقد أمرنا الله بالثناء عليه، والثناء على الله سبحانه وتعالى إنما يكون بما أثنى على نفسه، ومن المؤسف أن الإنسان العاقل يجد في صحيفته يوم القيامة كثيرًا من الثناء على المخلوقين بالحق والباطل، ولا يجد فيها إلا القليل من الثناء على الله الذي يستحق الثناء، فلذلك علينا جميعًا أن نتعود الثناء على الله، وأن نكثر من المسألة بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوسل بأسماء الله وصفاته، ويكثر من ذلك ويقول: لا ومقلب القلوب، وكان يحلف بذلك، وسؤالنا لله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وسيلة إجماعية بين المسلمين، وقد قال الله تعالى: وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا[الأعراف:180]، وهذا أمر لنا أن نسأله بأسمائه الحسنى، ولا يمكن أن نفعل ونستجيب لهذا الأمر ما لم نتعلم أسماؤه وصفاته.

    1.   

    ثمرة الذكر والدعاء بأسماء الله الحسنى

    ولا شك أن أسماء الله الحسنى، أيضًا يجد فيها الإنسان توفيقًا لكثير من الطاعات، فهذه الأسماء هي شفاء للعلل والأمراض، فالمرض الذي لم تجد له شفاء اسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى، وتدبر هذه الأسماء فستصادف اسمًا من الأسماء يرتبط به شفاء ذلك المرض، وكذلك فإنها أيضًا يرتبط بها تفريج الكربات، فكم من إنسان سأل الله تعالى بالتوحيد في وقت الضائقة والشدة، فرفع الله عنه ما به، ولنتذكر جميعًا قصة يونس بن متى ذي النون عليه السلام، عندما كان في الظلمات الثلاث: في بطن الحوت، وفي الليلة الظلماء، وفي جوف البحر، فقال: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ[الأنبياء:87]، فاستجاب الله له.

    وكذلك لا شك أن تعويد اللسان عليها مما يزيده صدقًا فهي الحق، أسماء الله تعالى هي الحق، ونحن يجري على ألستنا كثير من الكذب، فإذا كثر عليه الحق كان تطهيرًا لألسنتا من الكذب، وكذلك فإن هذه الأسماء أيضًا التدبر في معانيها يقتضي الأنس بالله سبحانه وتعالى والشوق إلى لقائه، في الوقت الذي يحب فيه اليهود التعمير في هذه الأرض، ويحبون البقاء فيها، على المؤمنين أن يرجوا ما عند الله وأن يرغبوا في لقائه، وقد قال الله تعالى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ[البقرة:96].

    والمؤمن يحب لقاء الله سبحانه وتعالى ويرغب فيما عند الله، فإذا كان الموت خيرًا له رغب في الموت، وإذا كان الموت مقربًا له من مرضات الله كالشهادة في سبيل الله، سأل الله الشهادة في سبيله، ولا يحب أية حياة كحال اليهود الذين يحبون أية حياة، كما قال الله تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ[البقرة:96]، أي: حتى حياة الذلة والمسكنة وأن يكون الإنسان بدنًا يقلب يمينًا وشمالًا لا له ولا عليه، هذا النوع من الحياة لا يرغب فيه المؤمنون، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم وسوء الكبر)، وكان يتعوذ صلى الله عليه وسلم من هذا الحال: ( من سوء الكبر ومن الهرم، ومن أن يرد إلى أرذل العمر)، فهذا ما لا يرغب فيه الإنسان، وبمحبته لأسماء الله وتعلقه بها يتعود على الرغبة في لقاء الله سبحانه وتعالى.

    نسأل الله تعالى أن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا.

    وآخذ سؤالاً لأن الوقت ضيق جدًا إذا سمحتم للصلاة.

    1.   

    فضل الدعاة والدعوة إلى الله

    هذا السؤال: ما حكم من يبغض جماعة الدعاة، ومن هو ساعٍ معهم؟

    الجواب: إن الله سبحانه وتعالى هو أول الداعين إلى الجنة، وقد وصف نفسه بذلك، فالله سبحانه وتعالى وصف نفسه بالدعوة: وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[يونس:25]، وقال تعالى: وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ[البقرة:221]، فإذا كان يكره كل الدعاة فقد كره الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله وصف نفسه بذلك، وكذلك قد وصف الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالدعوة فقال: وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا[الأحزاب:46]، وأمره بها فقال: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ[القصص:87]، وقال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ[النحل:125]، وأمره أن يخبر عن نفسه وعن أتباعه بأن سبيلهم الدعوة، فقال: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ[يوسف:108].

    ومن كره الدعاة بالإطلاق فقد كره محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قائدهم وإمامهم، فلذلك لا بد من التفصيل في هذا الباب:

    إذا كان الإنسان يكره أفرادًا بأعيانهم؛ لأنهم يواجهونه بالسيئ من القول، أو لا يعرفون الأسلوب المؤثر في الدعوة، فينبغي أن تكون كراهته لأولئك الأشخاص لأفعالهم التي وقعوا فيها لا للدعوة نفسها، ولا لأهلها جميعًا، لأنه بكراهته لها، قد كره صفة الله، وبكراهته لأهلها جميعًا، فقد كره محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه جميعًا.

    ومن زعم أنه يكره الدعاة جميعًا، فقد أخرج نفسه منهم فمعناه: أنه هو ليس منهم، وإذا كان ليس منهم فليس قطعًا من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى يقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي[يوسف:108]، فكل من زعم أنه من أتباعه ولم يدعُ إلى ما جاء به فهو كاذب قطعًا كذبه الله بالقرآن، فلذلك لا بد لهذا الإنسان أن يتوب إلى الله تعالى، وأن يرجع عما قال، وأن يراجع عقيدته في هذا.

    أعتذر عن بقية الأسئلة، ولكن إن شاء الله لعله يكون لنا حلقة للإجابة عليها في هذا المسجد إن شاء الله.

    هذا المسجد عزيز علينا، ولنا فيه كثير من الذكريات.

    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق القائمين عليه، وأن يطيل أعمارهم بطاعة الله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767945576