إسلام ويب

عباد الرحمن [2]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر الله من صفات عباد الرحمن الإنفاق وهو يشمل الإنفاق الواجب والمندوب، ونهى عن الإسراف، وحذر من الإقتار وهو: أن يقصر الشخص دون الواجب، وأمر بالوسطية بينهما. وذكر سبحانه خطورة الشرك والزنا وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأن من يرتكب شيئاً من ذلك يلق عقوبة ذلك من العذاب المضاعف، إلا من تاب من تلك الذنوب وتختلف كيفية التوبة من ذنب إلى آخر. لا بد مع هذا أن يعمل الشخص عملاً صالحاً يعوض به ما مضى من عمره؛ لأن بقية العمر ليس له ثمن.

    1.   

    منهجية عباد الرحمن في إنفاق المال

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    قال تعالى في صفات عباد الرحمن: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا[الفرقان:67]، وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا[الفرقان:67]، وأتى هنا بصيغة "إذا" الشرطية التي تقتضي الجزم بالفعل؛ لأن أدوات الشرط منها ما يقتضي الشك ومنها ما يقتضي الجزم، فـ(إن) تقتضي الشك كما لو قلت: (إن جاء زيد فآذني) معناه: أنك تشك هل سيأتي أم لا يأتي، لكن إذا قلت: (إذا جاء زيد فأخبرني) معناه: أنك تعلم أن زيداً سيأتيك وبينك وبينه موعد محدد، وهذا الفرق بين (إن) و (إذا) فـ(إذا) للمجزوم به و (إن) للمشكوك فيه، وهذا ما ذكره أحد علمائنا بقوله:

    سلم على شيخ النحاة وقل له هذا سؤال من يجبه يعظم

    أنا إن شككت وجدتموني جازماً وإذا جزمت فإنني لم أجزم

    فأجابه أحد علمائنا بقوله:

    هذا سؤال غامض في كلمتي شرط وإن وإذا مراد تكلم

    إن إن نطقت بها فإنك جازم..

    يعني أنها تجزم الفعل.

    .. وإذا إذا تأتي بها لم تجزم

    (إذا) لا تجزم إلا في الشعر.

    فإذا لما جزم الفتى بوقوعه بخلاف إن فافهم أخيي وفهِّم

    فهنا قال: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا[الفرقان:67]، وهذا الإنفاق يشمل الإنفاق الواجب؛ كالزكوات والإنفاق على النفس والإنفاق على الأهل وعلى الأولاد وعلى الآباء والأمهات من الفقراء، هذا إنفاق واجب، وكذلك الإنفاق في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله هذا إنفاق واجب، ويشمل الإنفاق المندوب، وهو مثل الصدقات والمواساة والإهداء إلى الناس، ( تهادوا تحابوا وتذهب الشحناء )، فهذا من الإنفاق المندوب، إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا[الفرقان:67] (لم يسرفوا) معناه: لم يبالغوا في الإنفاق، حتى ينفقوا كل شيء ويعودوا بعد ذلك إلى الفقر والحاجة، وهذا السرف مقتض لضعف الإيمان؛ لأن الشخص إذا أسرف في الإنفاق ستؤنبه نفسه، وتندمه على أمر قد أنفقه في سبيل الله، ويكفي ذلك في إبطال العمل، إذا أسرف الشخص في الإنفاق فأنفق راتبه كله في دقيقة واحدة في سبيل الله مخلصاً فيه لله، لا يتركه الشيطان على إخلاصه، فيأتيه عندما تأتيه حاجة ويقول: لو أنك ادخرت بعض راتبك حتى تقضي به حاجتك، فيندمه على أمر قد مضى وانقضى ولا فائدة في ذلك الندم؛ لأنه ندم حيث لا ينفع الندم؛ فلهذا طلب عدم الإسراف مطلقاً، والإسراف يدخل حتى في العبادات وحتى في الأعمال الصالحة.

    أنواع الإسراف

    فلذلك كان الإسراف متنوع الأقسام: منه الإسراف في المعصية، وهو شره، ولهذا سمي فرعون: وَإِنَّهُ لَمِنَ المُسْرِفِينَ[يونس:83]نك

    ، معناه: من المسرفين في معصية الله.

    القسم الثاني: الإسراف في المباحات، وهذا مضرة عظيمة على القلوب وعلى الأبدان أيضاً، مثل الإسراف في المآكل والمشارب ونحوها؛ فهذا السرف مضر على القلوب ومضر على الأبدان، ولهذا ذكر مالك رحمه الله تعالى: أن من دام على أكل اللحم أربعين يوماً لا بد أن يقسو قلبه. فمن واصل أكل اللحم أربعين يوماً سيقسو قلبه؛ لأنه دام على سرور فترة طويلة، والسرور لا يدوم في الدنيا؛ فإذا دام على الشخص قسا قلبه؛ ولهذا ينبغي للشخص في كل فترة أن يلين قلبه بسماع خطبة أو عيادة مريض أو زيارة ميت، حتى يلين قلبه ولا يقسو بالنعم التي يعيش فيها.

    القسم الثالث: السرف في العبادات، وهو: الغلو في الدين، أن يجاوز الشخص الحد المطلوب، وهذا يشمل كثيراً من الأنواع؛ فمنه مثلاً: أن يصوم الشخص الدهر كله ولا يفطر، أو أن يقوم الليل كله ولا يرقد، أو أن يذهب للجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الله عمره كله، ولا يؤدي الواجبات الأخرى، يترك مثلاً الحج ويترك حق الوالدين والزوجة، بحجة الخروج في سبيل الله مثلاً، هذا سرف في العبادة.

    كذلك السرف في الإنفاق: في الصدقات مثلاً؛ فقد ثبت أن ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه جز نخله، فأخرجه جميعاً في سبيل الله في لحظة واحدة، وتصدق به جميعاً، فلامه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وبين له أن عليه حقوقاً واجبة ينبغي أن يؤديها، وثبت في الصحيح أيضاً أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما كان يقوم الليل كله ويصوم النهار كله، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب غضباً شديداً، وقال: ( لكني أقوم وأرقد وأصوم وأفطر وأعاشر النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني )، وأمره أن يصوم صيام داود، وكذلك أمره أن يقوم ويرقد، وبين له أن لنفسه عليه حقاً، وأن لأهله عليه حقاً.. إلى غير ذلك من الحقوق، فلذلك قال: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا[الفرقان:67].

    التحذير من الإقتار

    كذلك في المقابل: وَلَمْ يَقْتُرُوا[الفرقان:67]؛ فالإقتار من البخل، والإقتار هو: أن يقصر الشخص دون الواجب، يجب عليه أن يؤدي هذا الدين كاملاً إلى صاحبه، فينتقص منه جزءاً وهو قادر على تسديده، يجب عليه أن ينفق على أهله مما ينفق الناس على أهليهم، فيقصر بالنفقة وهو قادر عليها، يجب عليه أن يبذل شيئاً في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه فيبخل بذلك، وإنما يبخل عن نفسه، فهذا هو الإقتار، وقد قرئ في هذه الكلمة قراءتان سبعيتان إحداهما: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا[الفرقان:67]، والأخرى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يُقتِروا) فإحداهما من "الإقتار" الفعل الرباعي، والأخرى من "القتر" ثلاثي، ومعناهما واحد، فمعناه: التقصير في الإنفاق عن الحد الواجب أو الحد المندوب.

    الوسطية في الأمور كلها

    ثم قال: وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67]، وقوله: (كان بين ذلك) أي: ثبت واستقر بين ذلك، أي: بين هذين الحالين قوام، وذلك في الأصل يشار بها للمفرد المذكر، لكنها تطلق على الكلية سواءً كانت اثنين أو أكثر؛ فمن إطلاقها على الاثنين قول الله تعالى: لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ[البقرة:68]، معناه: أي: بين ذينك، وكذلك هنا: وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا[الفرقان:67] أي: بين هذين الوصفين، فيطلق إشارة المفرد على التثنية وعلى الجمع لقصد أنه حقيقة متكيفة، فبين أن بين هذين الطرفين قوام. والمقصود بالقوام: العدل والاعتدال والإنصاف؛ وبين هذين الطرفين وهما الغلو والإسراف والتقصير والتقتير، وبينهما حد وسط وهو القوام من العيش، الذي يكون الشخص فيه قائماً بالحق، عادلاً في التصرف، ينفق ولا يقتر ولا يسرف، وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا[الفرقان:67]، وهذا يشمل الإنفاق من المال والإنفاق من الوقت والإنفاق من الكلام وغير ذلك؛ فمثلاً هذا الكلام ينبغي الاقتصاد فيه، أن لا يكثر الشخص الكلام كثيراً وأن لا يقلل أيضاً كثيراً، حتى ينتقص عن المطلوب، ولهذا قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: (أدركت قوماً غير مدفوعين عن ثقة ولا عن علم، فلم أكتب عنهم الحديث؛ لأن أحدهم كان يتكلم في الجمعة كلام الشهر وفي الشهر كلام السنة). فكثرة الكلام تدل على نزق وخفة في العقل، كذلك قلة الكلام جداً عدم استغلال لوسيلة أعطاك الله إياها، وينبغي أن تستغلها في الخير؛ ولهذا يقول الحكيم:

    تكلم وسدد ما استطعت فإنما كلامك حي والسكوت جماد

    فإن لم تجد قولاً سديداً تقوله فصمتك عن غير السداد سداد

    الصمت عن غير السداد سداد.

    فلهذا كان الاقتصاد أيضاً في الكلام وفي كل الأمور، لا بد أن يكون الشخص مقتصداً في كل الأمور، ولا يدخل في السرف مثلاً استغلال الشخص لما أتاه الله من النعمة، مثلاً: شخص غني لبس ملابس الأغنياء، وكذلك الشخص الفقير إذا لبس ملابس الفقراء لا يلام؛ فهذا الحد الواجب؛ ولهذا قال محمد مولود ولد أحمد فال رحمه الله تعالى في الكفاف:

    ثم لباس الشرع تعتريه الأحكام حتم منه ما يقيه

    إلى أن يقول:

    لباس موسر لباس معسر شح وضد سرف

    ثوب السري على الدني خيلاء والضد مهانة والمستجاد القصد

    والعلماء يندب حسن الزي لهم ليعظموا لكف الغي

    وحسنه يندب للمصلي..

    أي: الإمام.

    .. وللمؤذن وذات البعل

    إلى آخر ما قال.

    فكذلك ليس من السرف في هذا الباب ما ينفقه الشخص من الوقت في طلب العلم؛ لأن العلم أفضل ما ينفق فيه الوقت، ولذلك سئل مالك عن المقرب للقتل في أي عبادة يشتغل؟ فقال: (علم يتعلمه، فقيل له: يا أبا عبد الله ! إنه لا يعمل به، قال: تعلمه أفضل من العمل به) ولهذا قال السيوطي رحمه الله تعالى في "الكوكب الساطع":

    والعلم خير من صلاة نافلة فقد غذى الله برزق كافله

    1.   

    اجتناب عباد الرحمن للكبائر والمحرمات

    ثم قال: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا[الفرقان:68].

    فلا شك أن التكليف ينقسم إلى قسمين: إيجاب وسلب، معناه: إلى أفعال يطلب فعلها، وإلى تروك يطلب تركها، ابتدأنا أولاً بالأفعال التي يطلب فعلها مثل: الصلاة والدعاء والإنفاق والاقتصاد فيه، ثم وصلنا إلى السلوب، وهي ما يترك، وقال فيه: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ[الفرقان:68]، وهذه ثلاثة أقسام من الذنوب كل واحد منها مثال لقسم كامل.

    أقسام الذنوب وأمثلة عليها

    فالذنوب ثلاثة أقسام:

    القسم الأول: قسم لا يغفر، وهو الشرك بالله؛ إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ[النساء:48]، وهذا هو المذكور في قوله: لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ[الفرقان:68].

    والقسم الثاني: ذنب لا يترك، وهو حقوق العباد فلا بد أن يستسمح منها، أو أن تقضى لهم أو أن ينالوها يوم القيامة؛ فإنه سيقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء، وهذا النوع هو الممثل له بقوله: وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ[الفرقان:68].

    والقسم الثالث: ذنب في المشيئة، إن شاء الله عذب به، وإن شاء عفا عنه، وهو الممثل له بقوله: وَلا يَزْنُونَ[الفرقان:68]؛ فالزنا حرمه الله تعالى، لكنه في المشيئة، إن شاء الله عذب به وإن شاء غفر لصاحبه، لكن الشرك لا يغفر لصاحبه؛ إلا إذا تاب منه، وحقوق الناس مثل القتل ومثل الغيبة ومثل النميمة ومثل أكل مال الناس بالباطل ونحوها، هذه حقوق للآدميين لا تترك، لا بد أن يأخذ صاحبها حقه منها، إما في الدنيا وإما في الآخرة؛ ولهذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في سؤاله لأصحابه: ( أتدرون من المفلس فيكم؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: بل المفلس من يأتي يوم القيامة وقد ضرب هذا وشتم هذا وأكل مال هذا؛ فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، حتى إذا نفدت حسناته ألقي عليه من سيئاتهم ثم ألقي هو في النار )، هذا هو المفلس الإفلاس الحقيقي، هو الذي يأتي بحسنات أمثال الجبال لكن يتقاسمها الخصماء يوم القيامة، فيرجع هو بذنوبهم.

    وهذه الأقسام الثلاثة مثل لكل واحد منها بنوع من كبائره؛ فالشرك أنواع كثيرة أعظمها:

    الشرك في الربوبية، وهو: أن يعتقد الشخص أن لهذا الكون خالقاً غير الله.

    القسم الثاني هو: الشرك بالألوهية، وهو: أن يعتقد الشخص أن في هذا الكون نافعاً أو ضاراً غير الله، أو مستحقاً للعبادة غير الله.

    الثالث: الشرك في التشريع، وهو أن يتحاكم الشخص إلى غير شرع الله، ويظن أن غير شرع الله أولى من شرعه أو أصوب.

    فهذه أقسام الشرك الأكبر المخرج من الملة، ودونها أقسام الشرك الأصغر مثل: الرياء؛ فهو شرك أصغر، ومثل قتل المسلم؛ فهو كفر دون كفر، وهكذا.

    ثم إن الزنا من أقبح الذنوب التي تؤدي إلى انتشار الفواحش في الناس، وتؤدي إلى تقطع العلاقات فيما بينهم؛ لأن ابن الزنا سيكون محتقراً في المجتمع، وإذا كان له ذرية سيستمر عليهم ذلك الاحتقار؛ فتبقى النفرة سائدة في المجتمع، وهذا الذي جعل الزنا ذا خطر عظيم؛ لأنه يقتضي عدم الألفة بين المسلمين، هذا الشخص مسلم ولكن نظراً لأنه لا ينسب إلى شيء يزدريه الناس ويحتقرونه، فكان هذا مخالفاً لما جاء به الإسلام من مساواة الناس، فكان الزنا من أخطر ما حرمه الله تعالى من حقوقه المختصة؛ فلذلك قال: وَلا يَزْنُونَ[الفرقان:68].

    1.   

    عقاب ارتكاب الكبائر والمحرمات

    ثم قال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا[الفرقان:68]، (من يفعل ذلك) أي: ما سبق، و(ذلك) أيضاً إشارة للكلية السابقة كلها وهي ثلاثة أقسام، وكل نوع منها لا يقصد به ذاته وإنما يقصد به ما يشبهه، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ[الفرقان:68]، معناه: أي جزء مما سبق، سواءً كان ذلك في الشرك أو في قتل النفس التي حرم الله أو في الزنا، يَلْقَ أَثَامًا[الفرقان:68]، أي: يستحق العقوبة، و(الأثام) معناه: العقوبة، وهي عقوبة الإثم؛ فالإثم هو الذنب، و(الأثام) عقوبة ذلك الإثم. ثم شرح هذا الأثام وبينه بقوله: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا[الفرقان:69].

    المقصود بمضاعفة العذاب يوم القيامة

    وعذاب النار له أقسام، هذه الأقسام هي المذكورة هنا في قوله: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[الفرقان:69]، والمقصود بالتضعيف هنا: تنويع العذاب، فالعذاب منه العذاب الهون أجارني الله وإياكم، ومنه عذاب القبر، ومنه أنواع عذاب النار، وفيها أودية كثيرة، والفرق بين أعلاها وأسفلها هو القدر الذي يمكثه الحجر الضخم يهوي سبعين خريفاً، فأعلى النار إذا رمي منه حجر ضخم مكث سبعين سنة وهو يهوي حتى يصل إلى قعرها، ولها سبعة أبواب، لكل باب منهم جزء مقسوم، وهذه الأبواب هي كبائر الإثم، باب للشرك، باب للزنا، باب لشرب الخمر والمخدرات، كل ذلك أبواب من أبواب النار، وهي التي يكون عليها دعاة يدعون إليها في آخر الزمان، كما بين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ( دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها )، فهناك دعاة يدعون إلى الشرك، ودعاة يدعون إلى شرب الخمر، ودعاة يدعون إلى الزنا، ودعاة يدعون إلى غير ذلك من الفواحش، فهؤلاء يدعون إلى أبواب جهنم؛ لأن ما بين الشخص وبين أن يدخل باباً من أبواب جهنم إلا أن يقترف هذا الذنب ويموت قبل أن يتوب منه، فهي حقيقة أبواب جهنم تفتح عنها؛ ولهذا مثلها الرسول صلى الله عليه وسلم بأبواب مفتحة عليها ستور، والشخص يسير على الطريق، ففوق الطريق داع يدعوه ويقول: يا عبد الله! لا تلج الباب فإنك إن تلجه لن تخرج منه، وباب مفتوح ولكن عليه ستراً وهو ستر الله الجميل، فقبل أن يلج الشخص فيه بينه وبينه حجاب، لكن إذا ولج فيه سلك بنيات وانحرف عن الاستقامة فلذلك قال: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[الفرقان:69].

    ولا يقصد بتضعيف العذاب تضعيف السيئات، بل السيئات لا تضاعف إلا لعدد محصور من الناس، تضاعف السيئات لزوجات الأنبياء؛ لقول الله تعالى: مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا[الأحزاب:30]، لكن من سواهن لا تضاعف له السيئات، بل السيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنه؛ كما قال تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا[الأنعام:160]، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن العبد إذا أسلم فحسن إسلامه محا الله عنه كل سيئة كان سلفها، ثم كان بعد ذلك القصاص، الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنه )؛ فعلم هنا أن قوله: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ[الفرقان:69] ليس تضعيف السيئات، بل السيئة بمثلها، ولكن تضعيف العذاب بمعنى تنوعه، مثلاً في النار أنواع عديدة من أنواع العذاب، بين الرسول صلى الله عليه وسلم بعضها بشكل مروع، ومن أخفها مثلاً بعض العذاب الذي يكون على أساس ذنب معين، مثلاً ظمأ القبر والعطش فيه؛ إنما يكون بسبب عدم الاستنجاء من البول وبسبب المشي بالنميمة؛ فالذي لا يستتر من البول، ولا يستنجي منه يعذب في القبر بالعطش، والذي يمشي بالنميمة بين الناس يعذب في القبر بالعطش، دائماً يستسقي حتى ولو كان من الصالحين لا بد أن يعذب في القبر بالعطش، ومع ذلك لا يمكن أن يدخل الجنة، لما ثبت في صحيح مسلم من حديث معاذ بن جبل و حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يدخل الجنات قتات )، والقتات معناه: الجاسوس الذي يمشي بالنميمة، وهذا لا يمكن أن يدخل الجنة.

    بيان الرسول لبعض أنواع العذاب

    ثم بين هنا الرسول صلى الله عليه وسلم بعض أنواع العذاب الأخرى؛ فذكر مثلاً: ( أن من لا يؤدي زكاة ماله في الدنيا، يوضع لماله في قاع قرقر من الأرض، لا يفقد منه شيئاً فإن كان ماله ذهباً أذيب فصب على بطنه وظهره وجنبه الأيمن وجنبه الأيسر، وكلما انتهى أذيب مرة أخرى وصب عليه، وإن كان ماله إبلاً وضع لها في قاع قرقر من الأرض، لا يفقد منها كبيراً ولا صغيراً، كل ما مر عليه آخرها، أرجع إليه أولها، تضربه بأخفافها وتعضه بأفواهها، وإن كان ماله بقراً وضع لها بقاع قرقر من الأرض، فلا يفقد منها صغيراً ولا كبيراً، تضربه بصياصيها وقرونها وأظلافها وتعضه بأسنانها، لا يفقد منها صغيراً ولا كبيراً، كلما مر عليه آخرها رد عليه أولها )، وهكذا ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم من أنواع العذاب المتعلق ببعض الأعمال، فالذي قتل نفسه بشيء عذب بأن يبقى دائماً يعذب نفسه بذلك الشيء، والذي حاول أن يخلق شيئاً من خلق الله، مثل الذي يرسم صور الأحياء بيده، أو ينحتها نحتاً يعذب يوم القيامة بأن ينفخ فيه الروح وما هو بنافخ، وهكذا؛ فهذه بعض أنواع عذاب النار؛ فلذلك قال: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[الفرقان:69].

    ويوم القيامة اسم أطلقه الله تعالى على اليوم الآخر، وذلك أنه يقوم فيه الناس لرب العالمين؛ فسماه "يوم القيامة" أي: يوم القيام الحقيقي، الذي هو قيام طويل يقف فيه الناس فترة طويلة حتى يلجمهم العرق، ومنهم من يكون ذلك اليوم عنده مائة ألف سنة، ومنهم من يكون عنده خمسين ألف سنة، ومنهم من يكون عنده ألف سنة؛ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ[الحج:47]، كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ[المعارج:4]؛ فلذلك كان هذا اليوم يسمى يوم القيامة.

    ثم قال: وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:69]، هذا عذاب من أشرك بالله تعالى فاقترف الذنب الأول من هذه الذنوب، وهو أن يدعو مع الله غيره، أو أن يستغيث بغير الله أو أن يتوكل على غير الله؛ فإنه يخلد في العذاب مهاناً خالداً مخلداً أبداً؛ فلذلك قال: وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا[الفرقان:69] (يخلد فيه) أي: في ذلك العذاب، (مهاناً) نعوذ بالله! معناه: ذليلاً على الله، لا يجيبه الملك إذا سأله؛ لأنهم يقولون: يا مالك! نضجت منا الجلود، يا مالك! تفجرت من الجلود الصديد، فيمكث زماناً طويلاً لا يجيبهم ثم يقول: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ[المؤمنون:108]؛ فلذلك كانت الإهانة دأبهم؛ فهم أذل الناس على الله، لا ينظر إليهم ولا يزكيهم يوم القيامة، فلهذا قال: وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا[الفرقان:69].

    1.   

    استثناء أهل التوبة من العذاب وبيان أحكامهم

    هنا يأتي الاستثناء من رحمة الله فيقول الله تعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ[الفرقان:70]، فمن تاب من الكفر معناه: آمن؛ لأن التوبة من الكفر لا تكون إلا بالدخول في الإسلام، من تاب من قتل النفس يحصل ذلك بتسليم الحق إلى ذويه إن كان القتل عمداً يسلم نفسه إلى أولياء الدم، هذه توبته من قتله العمد، وإن كان القتل خطأً تاب إلى الله تعالى، والخطأ مرفوع عمن لم يقصد، كذلك إن كان زنى تاب إلى الله من ذلك واستتر على نفسه، وإن علم به يطهر بالحد الذي يكون تكفيراً له إن شاء الله، إِلَّا مَنْ تَابَ[الفرقان:70]، لكن التوبة هنا ثلاثة أقسام:

    توبة بمعنى: توجه القلب إلى الله بالندم على ما فرط الشخص فيه في جنب الله، وهذه هي الأولى، ثم التوبة من الله على عبده ليلهمه أن يتوب إليه، ثم التوبة من العبد بإحسان حاله بعد الذنب، وأن يغير حاله من الذنب فيجعل بدله طاعة، هذه ثلاثة أقسام، وهي المذكورة في قول الله تعالى: لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ[التوبة:117]، إلى أن قال: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا[التوبة:118]، معناه: تاب الله على الثلاثة الذين خلفوا، حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا[التوبة:118]، هذه توبة من الله على العبد ليتوب، وهي التي يوفق الله بها العبد للتوبة؛ لأن العبد بينه وبين الله حد من الذنوب إذا وصل إليه ختم على قلبه فلا يوفق للتوبة أبداً، وهذا الحد مجهول وهو خفي ليبقى الناس دائماً على حذر منه، فكل شخص لا يعلم الحد الذي بينه وبين الله من الذنوب الذي لا يوفق بعده للتوبة.

    ما يقترن بالذنوب ويكون أخطر منها

    ولهذا قال العلماء: إن خمسة أمور من قرائن الذنوب تقارن الذنوب وهي أخطر على القلوب من الذنوب:

    الأول منها: ازدراء الذنب واحتقاره، وهذا من صفات المنافقين؛ كما قال ابن مسعود : (إن ذنب المؤمن كجبل على رأسه، يخاف أن يسقط عليه، وذنب المنافق كذباب نفل على أنفه فنفاه بيده هكذا).

    وأما الثاني فهو: تعظيم الذنب عن المغفرة، أن يتعاظم الشخص الذنب فيقول: أنا الآن أوجبت النار، فلا يهتدي للتوبة منه، فهذا أيضاً خطير؛ لأن فيه جهلاً بالله عز وجل وبسعة مغفرته ورحمته.

    الثالث: المجاهرة به؛ لأن المجاهرة بالذنب دعوة إليه، وسيكتب له سيئات كل من تبعه على ذلك.

    الرابع: الإصرار عليه، وهو المتابعة والاستمرار على الذنب بعد أن يعلم أنه ذنب؛ فيتقدم الملائكة في الصباح بتقرير إلى الله أن عبدك فلاناً عمل الذنب الفلاني، ثم في المساء بتقرير آخر، ثم في الصباح الآخر بتقرير آخر.. وهكذا حتى تتراكم التقارير عند رب العزة، وهذا هو الإصرار الذي يقتضي من الشخص عدم التوبة.

    كذلك الخامس هو: الجرأة على الذنب، أن يكون الشخص جريئاً عليه، لا يجد حاجزاً يحول بينه وبين الذنب، وهذا دليل على نقص برهان الله في قلبه، وبرهان الله في قلب المؤمن هو الوازع الديني الذي يحول بينه وبين الذنب، وهو المذكور في قول الله تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ[يوسف:24]، وهو العصمة في حق الأنبياء والتوفيق في حق المؤمنين، وهو المذكور في قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ[الأعراف:201-202]، فلذلك قال: إِلَّا مَنْ تَابَ[الفرقان:70].

    معنى آمن في قوله تعالى: (إلا من تاب وآمن ...)

    ثم قال: وَآمَنَ[الفرقان:70]، معناه: أحسن إسلامه، ليس المقصود هنا مجرد الدخول في الإيمان؛ لأن أصل الدخول في الإيمان إذا لم يكن معه إحسان الإسلام حجة على صاحبه لا له، وإنما يكفر السيئات إحسان الإسلام، وحسن الإسلام بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: ( إن العبد إذا أسلم فحسن إسلامه محا الله عنه كل سيئة كان سلفها )، وكذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، فكثير من الناس يعلمون أنهم مسلمون ولكنهم لا يحسنون إسلامهم، لا يحسنونه في الأدب مع الله ولا في الأدب مع الناس، ولا في الحياء مع الله، والإحسان هو حسن الإسلام الذي لا بد منه.

    إلحاق التوبة بالعمل الصالح

    قال بعد ذلك: وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا [الفرقان:70]، لا بد مع هذا أن يعمل الشخص عملاً صالحاً يعوض به ما مضى من عمره؛ لأن بقية العمر ليس له ثمن، العمر إذا ضيع أوله ففرط فيه الشخص في جنب الله، قصر في العبادات، ارتكب المحرمات، فتاب وامتن الله عليه بالتوبة، ينبغي أن يملأ بقية عمره من الخير؛ حتى يكون بديلاً عما سبق؛ لأن الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، وفي الحديث: ( أتبع السيئة الحسنة تمحها )، فهذا المطلوب، ولهذا قال: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا[الفرقان:70]، والمقصود بالعمل الصالح ما جمع ركنين: الأول منهما: الإخلاص لله فيه، والثاني: موافقته لما شرع الله، فلا يكون العمل صالحاً إلا إذا جمع هذين الشرطين: أن يكون خالصاً لوجه الله وأن يكون موافقاً لما شرع الله، وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا[الفرقان:70].

    تبديل سيئات التائبين

    ثم قال تعالى: فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ[الفرقان:70]، هؤلاء يبدل الله سيئاتهم حسنات معناه: يلهمهم السداد والرشاد، ويوفقهم للحسنات بدل ما كانوا يعملونه من السيئات، فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا[الفرقان:70]، (كان الله غفوراً) معناه: ساتراً للذنب؛ فالمغفرة هي: ستر الذنب في الدنيا وعدم المؤاخذة به في الآخرة، ((رَحِيمًا)) معناه: شديد الرحمة بعباده.

    وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا[الفرقان:71]، معناه: التوبة ليست مرحلة واحدة، كثير من الناس يظن أنه يتوب من الذنب بمجرد أن يندم عليه فيقول: أستغفر الله؛ لا، بل التوبة درجات كثيرة تقتضي من الشخص أن يرعى نفسه دائماً، وأن يبقى نادماً على ما فرط في جنب الله؛ فلهذا قال: وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا[الفرقان:71]، فإنه يستمر على التوبة أبداً، يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا[الفرقان:71].

    1.   

    حذر عباد الرحمن من شهادة الزور وبعدهم عن اللغو

    قال تعالى: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ[الفرقان:72]، هنا وصف الله هؤلاء باجتناب بعض من المناهي الخطيرة في التعامل مع الناس؛ فقال: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ[الفرقان:72]، والزور هو ما لا يرضي الله تعالى من الكلام ومن الأفعال أيضاً؛ فيشمل ذلك الكذب وشهادة الزور، وقول الزور، وكل ما لا يحل، كل ذلك يسمى زوراً؛ ولهذا سمى الرسول صلى الله عليه وسلم إهداء الرجل إلى أحد أولاده دون بقيتهم زوراً، قال: ( أشهد على هذا غيري، فإنني لا أشهد على زور )، وفي رواية: ( لا أشهد على جور )، وشهادة الزور من أعظم الكبائر؛ ولذلك ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا أخبركم بأكبر الكبائر، ثلاثاً: الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وقول الزور، وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور.. فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت! )، وهذا يدلنا على أن الكذب من شر الأعمال وأقبحها؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ).

    قال بعدها في وصف عباد الرحمن: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا[الفرقان:72]، من الكلام ما ليس حسناً ولا قبيحاً وإنما هو لغو معناه: ملغىً، لا فائدة فيه، وهؤلاء طهروا أنفسهم من الزور، وهو القبيح من الكلام المحرم، ومع ذلك طهروها أيضاً من اللغو الذي لا فائدة فيه؛ فقال: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ[الفرقان:72]، أي: مروا بقوم مشتغلين باللغو من الكلام، وهو ما لا يفيد، مَرُّوا كِرَامًا[الفرقان:72]؛ فلم يعلق بهم شيء، لم يعلق بأسماعهم ولا بقلوبهم ولا شاركوا به، بل انشغلوا بما يعنيهم، وهذا هو حسن الإسلام، وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا[الفرقان:72].

    1.   

    حال الناس مع الذكرى وانتفاع عباد الرحمن بها

    وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا[الفرقان:73]، وهذا من تمام الإيمان أن ينتفع الشخص بالذكرى؛ فلهذا رضي الله هذا الوصف لعباده الذين امتدحهم بهذه الآيات، والناس حيال الذكرى على أربعة أقسام:

    أقسام الناس مع الذكرى

    القسم الأول: قوم لا يتحملون سماع الذكرى أصلاً وإذا سمعوا الدعوة فروا منها فرارهم من الأسد، وهؤلاء هم المشركون، الذين قال الله فيهم: فَمَا لَهمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ[المدثر:49-51]، وفي القراءة الأخرى: (مستنفَرة فرت من قسورة) و(القسورة) الأسد، فهم يكرهون الدعوة كراهة شديدة، حتى لا يتحملون سماعها بآذانهم، وهؤلاء هم القسم الأول، وهم الكفار.

    القسم الثاني: قوم يمكن أن يسمعوها بآذانهم، ولكنها لا تدخل إلى قلوبهم، وهؤلاء هم المنافقون الذين قال الله فيهم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ[محمد:16].

    القسم الثالث: قوم يحبون الدعوة من بعض الناس دون بعض أو في بعض الموضوعات دون بعض، يمكن أن يستمعوا إلى بعض الناس؛ لأنهم يرونهم أهلاً لذلك ويمكن أن يستمعوا بعض الموضوعات دون بعض، وهؤلاء هم مرضى القلوب من المؤمنين، فهم مؤمنون ولكن قلوبهم مريضة؛ ولذلك اتصفوا بوصف من أوصاف المشركين الذين قالوا: لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ[الزخرف:31]، كيف يتكلم به شاب صغير؟! أو كيف يتكلم به شخص من طبقة لم تكن متعلمة؟! فهؤلاء تحلوا بوصف من أوصاف الكفار الذين قالوا: لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ[الزخرف:31-32]، التي هي أقل من هذا، فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ[الزخرف:32].

    القسم الأخير: الذين ينتفعون بالذكرى، يحبونها وينتفعون بها ممن صدرت وفي أي موضوع صدرت، وهؤلاء هم الذين امتدحهم الله بقوله: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[الزمر:18]، (يتبعون القول): هذه أول مرتبة من مراتب العلم: الاستماع أولاً، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ[الزمر:18]، والعلم تقوم به الحجة على من علمه إذا لم يعمل به، فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[الزمر:18]، وكذلك قال تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ[الذاريات:55]، وهؤلاء وحدهم هم الذين ينتفعون بالذكرى، وكذلك قال هنا: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا[الفرقان:73]؛ لم يعرضوا عنها صماً في أسماعهم، عمياناً في أبصارهم، بل يستمعون إليها ويرونها ويشاركون فيها ويستفيدون منها، وهؤلاء هم المؤمنون، وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ[الذاريات:55]؛ ولهذا لا يميزون بين شخص وآخر في سماع الذكرى، بل يريدون الاستفادة من كل أحد؛ لأنهم يعلمون أن الناس يعرفون بالحق، ولا يعرف الحق بهم، إذ الحق لا يعرف بالرجال؛ كما قال علي بن أبي طالب وإنما يعرف الرجال بالحق، كيف نعرف أن فلاناً عالم أو أن فلاناً تقي؟ إذا عرفناه موافقاً لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، لكن لا يمكن أن نعرف أن هذا هو الصواب؛ لأن فلاناً عمله؛ لأن فلاناً غير معصوم، فلذلك يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال؛ فقال: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا[الفرقان:73].

    1.   

    دعاء الرغبة عند عباد الرحمن

    ثم قال في وصفهم: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا[الفرقان:74]، (والذين يقولون) في الدعاء فبدأ بالدعاء ثم ختم به؛ فالدعاء إذاً عظيم جداً في العبادة، ففي البداية سألوا الله أن ينجيهم من النار والسؤال رغبة أو رهبة، وفي البداية كان السؤال رهبة، والآن جاء الدعاء رغبة؛ فقال: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا[الفرقان:74]، أعطنا، مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ[الفرقان:74] (من) هنا ابتدائية، معناه: أن تكون قرة عيننا بدايتها من أزواجنا وذرياتنا، وهذا يشمل الذكور والإناث، ويشمل وجودهم أصلاً؛ فيقول: هذا من لا زوجة له ولا ذرية، ومعناه: أنه يسأل الله أن يرزقه ذرية وزوجة تقر بهما عينه؛ فلذلك قال: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ[الفرقان:74]، و (قرة أعين) معناه: بردها من السرور، والعين تبرد من السرور وتسخن من الحزن؛ ولذلك قال الشاعر:

    وداع دعا إذ نحن بالخيف من منىً فهيج أشجان الفؤاد وما يدري

    دعا باسم ليلى أسخن الله دمعه وليلى بأرض الشام في بلد قفر

    (أسخن الله دمعه) معناه: أحزنه؛ لأن الدمع إذا كان من الحزن يكون ساخناً، أما إذا كان من المسرة فيكون بارداً، تبرد العين سروراً؛ فلذلك قال: هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ[الفرقان:74]، معناه: برد أعين، والعين إنما تبرد دمعتها من السرور.

    معنى (إماماً) في قوله تعالى: (واجعلنا للمتقين إماماً)

    وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا[الفرقان:74]، هذه هي الرغبة الأخروية هنا: أن يجعلهم الله إماماً، معناه: أئمة، والإمام جنس، وهو المقتدى به من رئيس أو غيره، ويطلق على الخائط الذي يوضع على البناء فيسوى عليه ساقه، ومنه قول الشاعر:

    وربيته حتى إذا تم واستوى كمخة ساق أو كمتن إمام

    قرنت بحقويه ثلاثاً فلم يزغ عن القصد حتى بصرت بدمام

    ويطلق على المصحف الذي يكتب منه وهو مصحف عثمان يسمى الإمام. ويطلق على الطريق المسلوك، ومنه قول الله تعالى: وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ[الحجر:79]، ويطلق على المقتدى به في الصلاة أو في غيرها، مثلاً: يقال: إمام الصلاة ويقال: الإمام الأعظم، أي: الخليفة، ويقال: إمام الاجتهاد، مثلاً يقال: الإمام مالك ، الإمام أبو حنيفة ، الإمام الشافعي .. معناه: المقتدى به، فهنا سألوا الله أن يجعلهم أئمة للمتقين، وهذا ليس طلباً للفخر ولا للرياء ولا للسمعة، بل يريدون زيادة أجورهم بمن سيلحقهم ممن يعمل بعلمهم؛ وبهذا تزداد حسناتهم دون توقف؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث أبي هريرة الذي في صحيح مسلم : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له أو علم ينتفع به أو صدقة جارية )، فالعلم الذي ينتفع به لا يزال يزداد به عمل صاحبه في قبره؛ ولذلك كان العلماء أكثر الناس ثواباً؛ لأنه ثبت في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من دعا إلى هدىً كان له مثل أجور من عمل به إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً )؛ ولهذا فضل السلف على الخلف، ولهذا يقول أحد علمائنا:

    وكل أجر حاصل للشهداء أو غيرهم كالعلماء والزهداء

    حصل للنبي مثله على أجور ما كان النبي فعل

    مع مزيد عدد ليس يحد وليس يحصي عده إلا الأحد

    إذ كل مهتد وعامل إلى يوم الجزاء شيخه قد حصل

    له من الأجر كأجر العامل ومثل ذا من ناقص وكامل

    وشيخ شيخه له مثلاه وأربع لثالث تلاه

    وهكذا تضعيف كل مرتبة إلى رسول الله عال المرتبة

    صلى الله عليه وسلم.

    ومن هنا يعلم تفضيل السلف وسبقهم في فضلهم على الخلف

    لذلك سألوا من الله أن يجعلهم للمتقين إماماً، قال مالك : (إن شأن المتقين لعظيم فكيف بإمامهم؟!) فالذي يقصدون به معناه أنه أحسن حالاً منهم، والمتقون معناه: الذين جعلوا بينهم وبين سخط الله وقاية من طاعة الله؛ إذ التقوى هي: أن تجعل بينك وبين سخط الله وقاية من طاعة الله، وهي كما قال ابن عاشر :

    حاصل التقوى اجتناب وامتثال في ظاهر وباطن بذا تنال

    فجاءت الأقسام حقاً أربعة..

    فهذه الأقسام الأربعة وهي: أولاً: الاجتناب ويقدم على الامتثال؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا نهيتكم عن أمر فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم )، فالاجتناب في الظاهر والاجتناب في الباطن، والامتثال في الظاهر والامتثال في الباطن هذه هي التقوى، لذلك قال: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا[الفرقان:74].

    1.   

    جزاء عباد الرحمن يوم القيامة

    أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ[الفرقان:75]، هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات يجزون الغرفة أي: الجنة بما صبروا، والله سمى الجنة "غرفة" للمبالغة في اتساعها وعلو منزلتها، وسماها "غرفاً" أيضاً فقال: لَهمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ[الزمر:20]، فالجنة غرفة وغرف، كل ذلك تسمى به الجنة، يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا[الفرقان:75]، جعل الله كل ما سبق منصباً في بوتقة الصبر، فالصبر ثلاث شعب: الصبر عن معصية الله، والصبر على طاعة الله، والصبر على قضاء الله وقدره.

    فالصبر عن معصية الله هو الذي يلجمك عن اتباع الشهوات، والصبر على طاعة الله هو الذي يلزمك باليقين، والصبر على قضاء الله وقدره: أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، فلا تحزن لمصيبة ولا تفرح فرحاً شديداً بسراء؛ فهذا هو الصبر الحقيقي، فكل ما سبق يسمى صبراً؛ فلهذا قال: أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا[الفرقان:75]، معناه: بسبب صبرهم، والباء سببية، و (ما) موصول حرفي يؤول مع صلته بالمصدر، معناه: بصبرهم.

    وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا[الفرقان:75]، لاحظوا الفرق بين نعيم هؤلاء وعذاب أولئك! فقال: وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا[الفرقان:75]، معناه: يستقبلون فيها بالتحية والسلام، أما التحية فمن الملائكة يقولون: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ[الزمر:73]، وأما السلام فهو: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ[يس:58]، سلام الله تعالى عليهم؛ ولذلك ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع عليهم نور من فوقهم، فرفعوا أبصارهم، فإذا الرب جل وعلا قد تجلى لهم؛ فلا ينظرون إلى شيء مما هم فيه من النعيم ما داموا ينظرون إليه، فيقول: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ[يس:58] )، هذا سلام الله على أهل الجنة، وهو الموعود هنا، وهو قوله: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ[يونس:10]، فلذلك قال: وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا[الفرقان:75]؛ عند مجيئهم مباشرة، أول ما يتلقاهم تحية وسلاماً، والتحية بالتشديد تطلق على الحياة ومنه قول الشاعر:

    يا بني إن أهلك فإني قد بنيت لكم بنية

    وتركتكم أبناء سادات زنادهم ورية

    من كل ما نال الفتى قد نلته إلا التحية

    معناه: إلا الحياة والتعمير.

    وتطلق على الدعاء بالحياة؛ ولذلك كان العرب قديماً إذا سلموا على شخص يقولون: حياك الله، معناه: عمرك الله، فأطلق على كل سلام تحية؛ لأنه في الأصل يصادفه: حياك الله؛ فلذلك قال: وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا[الفرقان:75].

    خَالِدِينَ فِيهَا[الفرقان:76]، معناها: ثابتين فيها، مخلدين أبداً، لا يخرجون منها ولا ينغص عيشهم فيها بأي تنغيص، خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا[الفرقان:76]، على عكس النار التي هي: سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا[الفرقان:66]؛ فالجنة: حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا[الفرقان:76] لمن دخلها لحظة واحدة، و (مقاماً) لمن استقر فيها، حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا[الفرقان:76].

    نقف عند هذا الحد اختصاراً.

    فأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجعلنا في قرة عين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن ينفعنا بما علمنا وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

    والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767945739