إسلام ويب

عباد الرحمن [2]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر الله من صفات عباد الرحمن الإنفاق وهو يشمل الإنفاق الواجب والمندوب، ونهى عن الإسراف، وحذر من الإقتار وهو: أن يقصر الشخص دون الواجب، وأمر بالوسطية بينهما. وذكر سبحانه خطورة الشرك والزنا وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأن من يرتكب شيئاً من ذلك يلق عقوبة ذلك من العذاب المضاعف، إلا من تاب من تلك الذنوب وتختلف كيفية التوبة من ذنب إلى آخر. لا بد مع هذا أن يعمل الشخص عملاً صالحاً يعوض به ما مضى من عمره؛ لأن بقية العمر ليس له ثمن.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    قال تعالى في صفات عباد الرحمن: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا[الفرقان:67]، وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا[الفرقان:67]، وأتى هنا بصيغة "إذا" الشرطية التي تقتضي الجزم بالفعل؛ لأن أدوات الشرط منها ما يقتضي الشك ومنها ما يقتضي الجزم، فـ(إن) تقتضي الشك كما لو قلت: (إن جاء زيد فآذني) معناه: أنك تشك هل سيأتي أم لا يأتي، لكن إذا قلت: (إذا جاء زيد فأخبرني) معناه: أنك تعلم أن زيداً سيأتيك وبينك وبينه موعد محدد، وهذا الفرق بين (إن) و (إذا) فـ(إذا) للمجزوم به و (إن) للمشكوك فيه، وهذا ما ذكره أحد علمائنا بقوله:

    سلم على شيخ النحاة وقل له هذا سؤال من يجبه يعظم

    أنا إن شككت وجدتموني جازماً وإذا جزمت فإنني لم أجزم

    فأجابه أحد علمائنا بقوله:

    هذا سؤال غامض في كلمتي شرط وإن وإذا مراد تكلم

    إن إن نطقت بها فإنك جازم..

    يعني أنها تجزم الفعل.

    .. وإذا إذا تأتي بها لم تجزم

    (إذا) لا تجزم إلا في الشعر.

    فإذا لما جزم الفتى بوقوعه بخلاف إن فافهم أخيي وفهِّم

    فهنا قال: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا[الفرقان:67]، وهذا الإنفاق يشمل الإنفاق الواجب؛ كالزكوات والإنفاق على النفس والإنفاق على الأهل وعلى الأولاد وعلى الآباء والأمهات من الفقراء، هذا إنفاق واجب، وكذلك الإنفاق في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله هذا إنفاق واجب، ويشمل الإنفاق المندوب، وهو مثل الصدقات والمواساة والإهداء إلى الناس، ( تهادوا تحابوا وتذهب الشحناء )، فهذا من الإنفاق المندوب، إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا[الفرقان:67] (لم يسرفوا) معناه: لم يبالغوا في الإنفاق، حتى ينفقوا كل شيء ويعودوا بعد ذلك إلى الفقر والحاجة، وهذا السرف مقتض لضعف الإيمان؛ لأن الشخص إذا أسرف في الإنفاق ستؤنبه نفسه، وتندمه على أمر قد أنفقه في سبيل الله، ويكفي ذلك في إبطال العمل، إذا أسرف الشخص في الإنفاق فأنفق راتبه كله في دقيقة واحدة في سبيل الله مخلصاً فيه لله، لا يتركه الشيطان على إخلاصه، فيأتيه عندما تأتيه حاجة ويقول: لو أنك ادخرت بعض راتبك حتى تقضي به حاجتك، فيندمه على أمر قد مضى وانقضى ولا فائدة في ذلك الندم؛ لأنه ندم حيث لا ينفع الندم؛ فلهذا طلب عدم الإسراف مطلقاً، والإسراف يدخل حتى في العبادات وحتى في الأعمال الصالحة.

    أنواع الإسراف

    فلذلك كان الإسراف متنوع الأقسام: منه الإسراف في المعصية، وهو شره، ولهذا سمي فرعون: وَإِنَّهُ لَمِنَ المُسْرِفِينَ[يونس:83]نك

    ، معناه: من المسرفين في معصية الله.

    القسم الثاني: الإسراف في المباحات، وهذا مضرة عظيمة على القلوب وعلى الأبدان أيضاً، مثل الإسراف في المآكل والمشارب ونحوها؛ فهذا السرف مضر على القلوب ومضر على الأبدان، ولهذا ذكر مالك رحمه الله تعالى: أن من دام على أكل اللحم أربعين يوماً لا بد أن يقسو قلبه. فمن واصل أكل اللحم أربعين يوماً سيقسو قلبه؛ لأنه دام على سرور فترة طويلة، والسرور لا يدوم في الدنيا؛ فإذا دام على الشخص قسا قلبه؛ ولهذا ينبغي للشخص في كل فترة أن يلين قلبه بسماع خطبة أو عيادة مريض أو زيارة ميت، حتى يلين قلبه ولا يقسو بالنعم التي يعيش فيها.

    القسم الثالث: السرف في العبادات، وهو: الغلو في الدين، أن يجاوز الشخص الحد المطلوب، وهذا يشمل كثيراً من الأنواع؛ فمنه مثلاً: أن يصوم الشخص الدهر كله ولا يفطر، أو أن يقوم الليل كله ولا يرقد، أو أن يذهب للجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الله عمره كله، ولا يؤدي الواجبات الأخرى، يترك مثلاً الحج ويترك حق الوالدين والزوجة، بحجة الخروج في سبيل الله مثلاً، هذا سرف في العبادة.

    كذلك السرف في الإنفاق: في الصدقات مثلاً؛ فقد ثبت أن ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه جز نخله، فأخرجه جميعاً في سبيل الله في لحظة واحدة، وتصدق به جميعاً، فلامه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وبين له أن عليه حقوقاً واجبة ينبغي أن يؤديها، وثبت في الصحيح أيضاً أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما كان يقوم الليل كله ويصوم النهار كله، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب غضباً شديداً، وقال: ( لكني أقوم وأرقد وأصوم وأفطر وأعاشر النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني )، وأمره أن يصوم صيام داود، وكذلك أمره أن يقوم ويرقد، وبين له أن لنفسه عليه حقاً، وأن لأهله عليه حقاً.. إلى غير ذلك من الحقوق، فلذلك قال: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا[الفرقان:67].

    التحذير من الإقتار

    كذلك في المقابل: وَلَمْ يَقْتُرُوا[الفرقان:67]؛ فالإقتار من البخل، والإقتار هو: أن يقصر الشخص دون الواجب، يجب عليه أن يؤدي هذا الدين كاملاً إلى صاحبه، فينتقص منه جزءاً وهو قادر على تسديده، يجب عليه أن ينفق على أهله مما ينفق الناس على أهليهم، فيقصر بالنفقة وهو قادر عليها، يجب عليه أن يبذل شيئاً في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه فيبخل بذلك، وإنما يبخل عن نفسه، فهذا هو الإقتار، وقد قرئ في هذه الكلمة قراءتان سبعيتان إحداهما: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا[الفرقان:67]، والأخرى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يُقتِروا) فإحداهما من "الإقتار" الفعل الرباعي، والأخرى من "القتر" ثلاثي، ومعناهما واحد، فمعناه: التقصير في الإنفاق عن الحد الواجب أو الحد المندوب.

    الوسطية في الأمور كلها

    ثم قال: وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67]، وقوله: (كان بين ذلك) أي: ثبت واستقر بين ذلك، أي: بين هذين الحالين قوام، وذلك في الأصل يشار بها للمفرد المذكر، لكنها تطلق على الكلية سواءً كانت اثنين أو أكثر؛ فمن إطلاقها على الاثنين قول الله تعالى: لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ[البقرة:68]، معناه: أي: بين ذينك، وكذلك هنا: وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا[الفرقان:67] أي: بين هذين الوصفين، فيطلق إشارة المفرد على التثنية وعلى الجمع لقصد أنه حقيقة متكيفة، فبين أن بين هذين الطرفين قوام. والمقصود بالقوام: العدل والاعتدال والإنصاف؛ وبين هذين الطرفين وهما الغلو والإسراف والتقصير والتقتير، وبينهما حد وسط وهو القوام من العيش، الذي يكون الشخص فيه قائماً بالحق، عادلاً في التصرف، ينفق ولا يقتر ولا يسرف، وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا[الفرقان:67]، وهذا يشمل الإنفاق من المال والإنفاق من الوقت والإنفاق من الكلام وغير ذلك؛ فمثلاً هذا الكلام ينبغي الاقتصاد فيه، أن لا يكثر الشخص الكلام كثيراً وأن لا يقلل أيضاً كثيراً، حتى ينتقص عن المطلوب، ولهذا قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: (أدركت قوماً غير مدفوعين عن ثقة ولا عن علم، فلم أكتب عنهم الحديث؛ لأن أحدهم كان يتكلم في الجمعة كلام الشهر وفي الشهر كلام السنة). فكثرة الكلام تدل على نزق وخفة في العقل، كذلك قلة الكلام جداً عدم استغلال لوسيلة أعطاك الله إياها، وينبغي أن تستغلها في الخير؛ ولهذا يقول الحكيم:

    تكلم وسدد ما استطعت فإنما كلامك حي والسكوت جماد

    فإن لم تجد قولاً سديداً تقوله فصمتك عن غير السداد سداد

    الصمت عن غير السداد سداد.

    فلهذا كان الاقتصاد أيضاً في الكلام وفي كل الأمور، لا بد أن يكون الشخص مقتصداً في كل الأمور، ولا يدخل في السرف مثلاً استغلال الشخص لما أتاه الله من النعمة، مثلاً: شخص غني لبس ملابس الأغنياء، وكذلك الشخص الفقير إذا لبس ملابس الفقراء لا يلام؛ فهذا الحد الواجب؛ ولهذا قال محمد مولود ولد أحمد فال رحمه الله تعالى في الكفاف:

    ثم لباس الشرع تعتريه الأحكام حتم منه ما يقيه

    إلى أن يقول:

    لباس موسر لباس معسر شح وضد سرف

    ثوب السري على الدني خيلاء والضد مهانة والمستجاد القصد

    والعلماء يندب حسن الزي لهم ليعظموا لكف الغي

    وحسنه يندب للمصلي..

    أي: الإمام.

    .. وللمؤذن وذات البعل

    إلى آخر ما قال.

    فكذلك ليس من السرف في هذا الباب ما ينفقه الشخص من الوقت في طلب العلم؛ لأن العلم أفضل ما ينفق فيه الوقت، ولذلك سئل مالك عن المقرب للقتل في أي عبادة يشتغل؟ فقال: (علم يتعلمه، فقيل له: يا أبا عبد الله ! إنه لا يعمل به، قال: تعلمه أفضل من العمل به) ولهذا قال السيوطي رحمه الله تعالى في "الكوكب الساطع":

    والعلم خير من صلاة نافلة فقد غذى الله برزق كافله

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088524285

    عدد مرات الحفظ

    777122758