بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإن الله تعالى قد أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة ليبين للناس ما يرتضي منهم خالقهم سبحانه وتعالى، وليرشدهم إلى طريق الجنة، فكان مما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ومما ابتدأ به دعوته وركز عليه في أمره كله تآخي المسلمين، وقد جعل ذلك نصب عينيه من بداية دعوته، فسعى لإزالة كل الفوارق بين المسلمين وإذابتها، وسعى لأن يكونوا على قلب رجل واحد، وأنزل الله إليه من الوحي ما يقتضي إزالة تلك الفوارق التي هي من أمر الجاهلية، وما يقتضي ذلك ترسيخ عرى هذه الأخوة وتقويتها، فإنه صلى الله عليه وسلم أول ما بدأ دعوته بمكة وجد الناس أهل جاهلية، ليس لهم انتماء ولا ولاء إلا على أساس القبيلة والعرق والنسب، ووجد الغريب ذليلاً أياً كان، ووجد الناس يقتتلون قتالاً شديداً يدوم ثلاثين سنةً وأربعين سنة لمجرد الانتصار لفرس سبقت في سباق، أو لأن ناقةً وطئت بيضة عمامة فكسرتها، ووجد الحروب تقوم على الثارات بين القبائل؛ فأزال الله به هذه الغمم كلها، فأصبح أهل الإيمان يتآخون بهذه الشهادة التي يشهدون بها، ويوالون ويعادون على أساس ذلك التآخي، فموالاتهم ومعاداتهم كلها نابعة من اعتقادهم؛ لذلك بدأ بأمرين عظيمين بينهما الله عز وجل في دعوات كل الرسل وهما قول الله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا [الشورى:13]، كلمتان وهما: أن تقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه.
أما الكلمة الأولى فتقتضي توحيد المنهج الذي ينطلقون منه، وأما الكلمة الثانية فتقتضي الاستمرار على هذا المنهج؛ لأن حصول الاختلاف يقتضي إزالة هذا المنهج بالكلية، وأن يزايله الناس ويفارقوه؛ فالفرقة تقتضي ضلالاً وخروجاً عن الطريق المستقيم، فما دام الناس يسيرون على الطريق المستقيم لن تختلف قلوبهم، ولن تتفرق أهواؤهم، وسيكونون يداً على من سواهم، كما حصل في صدر الإسلام، فقد كانت الكلمة الواحدة من كلام أهل الجاهلية يقولها الرجل المسلم المؤمن التقي، فتعد نبوةً ويعاتبه النبي صلى الله عليه وسلم عليها، فهذا أبو ذر الغفاري رضي الله عنه يخاطب أخاً له في الله من أهل الإسلام، فيقول له: ( لم فعلت يا ابن السوداء؟ فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية ).
فكل ما يؤدي إلى هذه الفرقة، أو يؤدي إلى الاختلاف قد حسم بهذا الإسلام وأزيل بالكلية، ثم بعد ذلك بنيت الأخوة الإيمانية العميقة التي أساسها تحقيق الألفة وإزالة الكلفة، والأخوة محصورة فيهما في تحقيق الألفة بين المسلمين، وفي إزالة الكلفة التي تقتضي أن يكون الإنسان صاحب تطفيف، أي: أن يكون مطففاً يريد أخذ حقوقه ولا يؤدي إلى الآخرين حقوقهم كاملة، وقد قال الله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:1-6].
وقد قال مالك رحمه الله في الموطأ: يقال لكل شيء: وفاء وتطفيف، أي أن كل شيء يوجد فيه الوفاء ويوجد فيه التطفيف؛ ولذلك فإن عمر رضي الله عنه حين تأخر أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فجاء والإمام يخطب قال له: ما هذا التأخر؟ قال: ما هو إلا أن كنت في عملي، فسمعت المؤذن فتوضأت وأتيت فقال: والوضوء أيضاً؟ قد طففت.
لذلك لا بد من العودة إلى هذا المنهج الصحيح، ولا بد من تحقيق هذه الأخوة بعد أن نرجع إلى المنهج الصحيح.
إن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب المؤمنين بهذه الكلمات الخالدات؛ فقال: ( لا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تباغضوا، ولا تناجشوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يحقره، ولا يخذله، ولا يكذبه، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاثاً، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه ).
إن هذا هو نظام المؤاخاة بين المسلمين، وهو الذي يقتضي أن يرعي بعضهم حقوق بعض، وأن يقوم بهذه الحقوق، وألا يزدريها، وألا يعتدي على شيء منها، فإن الله تعالى جعل الحد الفاصل في هذه الأخوة هو أركان الإسلام؛ فمن التزم أركان الإسلام كان أخاً لنا في الإسلام؛ يجب له ما لنا، وعليه ما علينا، قال الله تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11]، (فإن تابوا) الخطاب هنا كان الحديث فيه عن المشركين، والتوبة من الشرك لا تكون إلا بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وهذا الركن الأول من أركان الإسلام وقوله تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ [التوبة:11] هذا الركن الثاني من أركان الإسلام، وَآتَوْا الزَّكَاةَ [التوبة:11] هذا الركن الثالث من أركان الإسلام، فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11]، فهذا الأساس هو الذي تنبني عليه الأخوة، ثم بعد ذلك لا تنقض إلا بالكفر؛ فلا ينقضها الظلم والبغي لقول الله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:9-10]، فجعل الباغي والمبغي عليه أخوين وجعلهما أيضاً أخوين للمسلمين، (فأصلحوا بين أخويكم).
كذلك فإن هذه الأخوة بعد بنائها تقتضي حقوقاً لا بد من الوفاء بها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم بعضها في أحاديث كثيرة عنه، فبين أن من حقوق المسلم على أخيه: أن يرد عليه السلام، وأن يعوده إذا مرض، وأن يتبع جنازته إذا مات، وأن يشمته إذا عطس، وأن يجيب دعوته إذا دعاه، وبين كذلك صلى الله عليه وسلم عدداً من الحقوق الأخرى كحقوق الطريق؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إياكم والجلوس في الطرقات، فقالوا: يا رسول الله! ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها فقال: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر )، وبين كذلك حقاً عظيماً من حقوق هذه الأخوة وهو النصيحة الشاملة العامة عندما قال: ( الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم ).
وبين كذلك حقاً آخر من هذه الحقوق وهو كف الأذى، وألا تضر إخوانك المسلمين؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ).
وكذلك بين صلى الله عليه وسلم الخطر الداهم في حق انتهاك هذه الأخوة؛ ففي وصيته التي أخرجها البخاري في الصحيح قال: ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض )، وكذلك قال: ( سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر )، وقال: ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار )، وقال صلى الله عليه وسلم: ( إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما )، وقال كذلك: ( تكفير المسلم كقتله )، وقال كذلك: ( من قال لأخيه: يا كافر! فإن كان كما قال وإلا حارت عليه )، وفي رواية: ( وإلا رجعت عليه ).
وحذر صلى الله عليه وسلم كذلك من الاعتداء على حقوق الأخوة مطلقاً حتى بالكلمة الواحدة، حتى بالكلمة أو بشطر الكلمة، كل ذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم خطره الداهم، وأثره العميق الذي يبقى، ( فإن الرجل ليتكلم بالكلمة الواحدة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها سبعين خريفاً في قعر جهنم ).
وحذر كذلك صلى الله عليه وسلم من قطيعة الرحم، ومن أذى الجار، ومن أذى الضيف، وغير ذلك مما ينافي هذه الأخوة؛ فقال: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ).
وفي الحديث الآخر: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ).
كذلك قال: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته ) أي: مدة ضيافته التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم.
كذلك فإنه صلى الله عليه وسلم أكد هذه الأخوة بالمؤاخاة بين المهاجرين أنفسهم، وبين المهاجرين والأنصار، ففي مكة آخى بين المهاجرين، ثم لما أتى المدينة آخى بينهم وبين الأنصار، وكانت هذه الأخوة آكد الروابط في صدر الإسلام، فقد قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الأنفال:72].
وقد كانوا يتوارثون بهذه الأخوة؛ فقد أخرج البخاري في الصحيح عن أم العلاء رضي الله عنها قالت: ( كان المهاجري يرث الأنصاري، والأنصاري يرث المهاجري بأخوة الإسلام، حتى نزل قول الله تعالى: وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً [الأحزاب:6]، قالت: فكانوا يوصون لهم ).
هذا المعروف الذي أذن الله فيه جسدوه في الوصية؛ ولذلك أوصى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بثلث ماله لبقية أهل بدر، أي: لمن لم يمت من أهل بدر، وأوصى عدد من رجال الأنصار كذلك لإخوانهم من فقراء المهاجرين.
إن هذه الأخوة هي التي اقتضت وحدة الكلمة، واقتضت أن يكونوا يداً واحدةً على من سواهم، واقتضت كذلك أن يصلوا خلف إمام واحد، وأن تجتمع قلوبهم، وأن يتغلبوا على أعدائهم، وألا يكيد بعضهم لبعض، وألا ينشغلوا في تتبع عورات المسلمين والبحث عن زلاتهم، فإن اشتغلت الأمة بذلك لا شك أن الهزائم ستتوالى عليها؛ ( فمن تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ).
ولذلك أخرج مالك في الموطأ و أحمد في الزهد عن يحيى بن سعيد الأنصاري : أنه بلغه: أن عيسى ابن مريم قال: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلىً ومعافىً، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية.
وقد أخرج مسلم بعض هذا الحديث في صحيحه من حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن القيم رحمه الله: هذا الحديث خرج من مشكاة النبوة، سواءً كان من كلام عيسى أو من كلام محمد صلى الله عليه وسلم، فهو حق، ومتضمنه صدق.
كذلك فإن هذه الأخوة اقتضت كثيراً من الأحكام الشرعية التي بينها الله في كتابه؛ فمن كبريات الأحكام التي تقتضيها هذه الأخوة: ألا يفر المسلم عن أخيه المسلم في الزحف، فقد جعل الله الفرار من الزحف من الكبائر الموبقات، فقال تعالى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:16].
وعده النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات السبع، وهو محقق لحق من حقوق هذه الأخوة ألا يسلم المسلم أخاه المسلم للأعداء بوجه من الوجوه، وإذا استشعر المسلمون هذا أدركوا حقوق إخوانهم عليهم، فإن الحاصل اليوم للأمة الإسلامية من التقاطع والتدابر والتناحر هو الذي أدى إلى ألا يستشعر المسلمون آلام إخوانهم في مشارق الأرض ومغاربها، فهم يقطعون إرباً إرباً، ويذلون آناء الليل وآناء النهار، ومع ذلك لا يشعر أحد بمذلتهم، ولا يسعى لمواساتهم، بينما نجد أن هذا الدين يحض على تحقيق هذه النبوة وعدم الفرار من الزحف، وألا يخذل المسلم أخاه المسلم بوجه من الوجوه.
كذلك فإن من هذه الحقوق المبينة في الكتاب والسنة: أن يرعى المسلم أخاه بظهر الغيب، فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12]، وهذا غاية في التنفير من أكل الغيبة والكلام في الناس، وأكل أعراضهم بغيبة منهم.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم خطر ذلك وضرره، وبين أن من الموبقات السبع: ( قذف المحصنات الغافلات المؤمنات )، وبين الله سبحانه وتعالى ما يترتب على ذلك أيضاً في كتابه من الوعيد الشديد، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور:23-25].
وبين الله سبحانه وتعالى في كتابه قاعدةً عظيمةً تتعلق بهذا الباب وهي قوله: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [النور:12-13]، فلو سمع المسلم عن أخيه أي مطعن فإن القاعدة التي بينها الله في كتابه أن يقول: (هذا إفك عظيم)، وأن يظن المسلمون بأنفسهم خيراً، والمقصود بظنهم بأنفسهم خيراً؛ أي: أن يظنوا بإخوانهم المسلمين خيراً، وهذا الأسلوب غاية في حصول الانسجام والإخاء؛ فلم يقل: لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بإخوانهم خيراً؛ بل قال: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً [النور:12]، فحق أخيك مثل حق نفسك؛ فلذلك لا بد من رعايته كما ترعى حقوقك الخاصة، وكما تنافح عنها وتدافع، لا بد من رعاية حقوق إخوانك المسلمين.
إن الله سبحانه وتعالى بين في سورة الحجرات ثلاثة عشر سبباً من الأسباب القاطعة لهذه الأخوة، وحرمها جميعاً في كتابه:
السبب الأول: مما يقطع أخوة الإسلام ويؤدي إلى النزاع والفرقة ويؤدي إلى الشحناء هو الاعتداء على الصلاحيات، أن يتجاوز الإنسان حده الذي حدد له شرعاً، والاعتداء على الصلاحيات أنواع منوعة، منها:
أن يتكلم الجاهل فيما لا ينبغي أن يتكلم فيه إلا العالم، فهذا تعد على الصلاحيات، وتجاوز للحدود الشرعية.
ومنها كذلك: تدخل الإنسان فيما لا يعنيه؛ فإن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، وهذا السبب هو الذي بينه الله بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1].
السبب الثاني: عدم الاعتراف بمرجعية الوحي، فإذا كان لكل إنسان من المسلمين مرجع يرجع إليه وحده، ومشرع يأخذ منه لنفسه فلن يتفقوا في أي شيء؛ لأن بداية الاتفاق هي تحكيم الوحي فوق الرءوس، فإذا جاء الحكم من الله ورسوله لا بد أن يقول المسلمون جميعاً: سمعنا وأطعنا؛ فقد قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:62-63].
وقد قال الله قبل هذا: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ [النور:51-52].
فلا بد من الاستسلام لحكم الله ورسوله، وأن يكون المؤمن وقافاً عند كتاب الله، كما ربى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن من أشد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأقواهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لكنه كان وقافاً عند كتاب الله، وقد هو الخليفة الحاكم فإذا قيل له: قال الله تعالى أنصت وأطاع، ولذلك أخرج البخاري في الصحيح: أن الحر بن قيس بن حصن الفزاري كان من النفر الذين يدنيهم عمر ، وكان القراء أصحاب مجلس عمر ، فأتاه عمه عيينة بن حصن فقال: إن لك وجهاً عند هذا الرجل فأريد أن تدخلني عليه -أي: في مجلس خاص لا يدخله أحد- فاستأذن لعمه فأذن له عمر فدخل عليه، فقال له عيينة : هيه يا ابن الخطاب فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل؛ فغضب عمر حتى هم به، فقال له الحر : يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى يقول في كتابه: خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما تجاوزها عمر حين قرأها، وكان عمر وقافاً عند كتاب الله.
من اللازم إذا سمع الرجل قال الله تعالى أو قال رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينقطع النقاش، وأن يستسلم حينئذٍ، وألا يراجع، إن هذا مما يقتضي تمام هذه الأخوة، إذا كان للمسلمين مرجع موحد وهو هذا الوحي المنزل ورضوا به جميعاً وانقادوا له فسيزول الكثير من ظواهر الخلاف؛ لأن الوحي يحسم في كثير منها، وبالأخص إذا أخذ به مأخذه الشرعي وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، أي: إذا كان المرجع فيه إلى فهم الذين يستنبطونه منهم، وهذا الأصل هو الذي بينه الله تعالى في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:1-2] إلى آخر هذه الآيات التي بين فيها الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، والالتزام بهذه المرجعية وهو الوحي، فإنه قال: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ [الحجرات:7].
السبب الثالث: بين الله سبباً آخر من الأسباب التي تقطع هذه الأخوة، وبين تحريمه ألا وهو عدم التثبت في نقل الأخبار، فإن كثيراً من الناس لا يتثبت في نقل الأخبار فإذا جاءه خبر غير العدل أخذ به، فحدث به وعمل على أساسه، وهذا مناف لهذه الأخوة، ومقتض للقطيعة والنفرة؛ ولذلك حذر الله منه في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6].
فحذر من هذا السبب من أسباب الفرقة المنافية لهذه الأخوة.
السبب الرابع: من الأسباب النافية لهذه الأخوة القاطعة لها الظلم والبغي، وقد حذر الله منه في قوله: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9] الآيات.
السبب الخامس كذلك من الأسباب التي تهدم بناء هذه الأخوة ظن السوء، فإن كثيراً من الناس يظن بإخوانه المؤمنين ظن السوء فينطلق منه كقاعدة فيعاملهم على أساس تقدير لديه هو في نفسه، ويجعل نفسه حكماً على الآخرين، كأنه هو الوحيد الذي لا يخطئ، وكأنه مؤيد بالوحي المنزل، وكأن جبريل يأخذ بناصيته يسدده، وكأن الآخرين نواصيهم بأيدي الشيطان، إن هذا الاحتكار للحق ودعوى العصمة فيه مناف لهذه الأخوة وهو الذي يقتضي هدمها بالكلية؛ فلذلك قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ [الحجرات:12].
السبب السادس: ومما ينافي هذه الأخوة، التجسس على المسلمين، وهو تجميع أخبارهم لإفشائها بالسوء، وللوشاية بهم، فهذا التجسس ينبني عليه كبيرتان من الكبائر: إحداهما: تحسس الأخبار والتجسس بها، والثانية: النميمة بها، وكلتاهما من الكبائر الموبقة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يدخل الجنة قتات )، (لا يدخل الجنة) معناه: أنه لا بد أن يموت على خاتمة السوء، فيمنع حينئذٍ من دخول الجنة -نسأل الله السلامة والعافية- والقتات: النمام.
فالتجسس على المسلمين يقتضي انقطاع هذه الأخوة؛ لأن الذي يتجسس لجمع الأخبار معناه أنه لا يعد نفسه من هذه الفئة التي يتجسس عليها، وبالتالي يخرج من هذه الأخوة بالكلية، فهذا الذي حرمه الله فقال: وَلا تَجَسَّسُوا [الحجرات:12].
السبب السابع مما ينفي هذه الأخوة ويقطعها: أكل الغيبة والطعن في الآخرين عن غيبة منهم، وهذا الذي حرمه الله بقوله: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحجرات:12].
السبب الثامن مما يقطع هذه الأخوة وينافيها: رؤية الفضل على الغير، والسخرية من الآخرين، فأنت يا أخي لم تخلق نفسك، ولم يؤخذ رأيك في الصورة التي تكون عليها، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8]، ما شاورك الله عز وجل عند إرادة خلقك هل تكون طويلاً أو قصيراً، أبيض أو أسود، جميلاً أو دميماً، لم تشاور على شيء من ذلك، كله بتدبير الخلاق العليم، مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51]؛ فلذلك ليس لك أن تسخر من الآخرين بوجه من الوجوه؛ ولذلك قال أحد العلماء: الناس أواني الله، يصب فيها ما شاء، فيصب في إناء عسلاً، ويصب في آخر حمضاً، ويصب في آخر ملحاً، ويصب في آخر ماءً.. وهكذا، فكل يجعل الله فيه ما شاء، فمنهم من يحسن الله خلقه وخلقه، ومنهم من يحسن خلقه ويسيء خلقه، ومنهم من يحسن خلقه ويسيء خلقه، ومنهم من يجمع له بين الخلقتين -نسأل الله السلامة والعافية- كل ذلك بتدبير الحكيم الخبير؛ لكن ليس لأحد أن يسخر من أي أحد، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ [الحجرات:11]، فالخيرية ليست في هذه الحياة الدنيا، فالحياة الدنيا لو عشت فيها ما عشت فوقتها يسير، مدة بقائك في هذه الصورة عندما اجتمعت روحك بهذا البدن مدة يسيرة محصورة، بينما وقت الآخرة هو الذي تنتقل فيه الهيئات، وتتغير فيه الصور؛ فأهل الإيمان يحسن الله خلقهم، وينير وجوههم، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]، ويطيل قاماتهم، فيبعثون في سن الثالثة والثلاثين على قامة آدم ثلاثين ذراعاً في السماء، وسبعة أذرع في العرض، وكذلك أهل الكفر -نسأل الله السلامة والعافية- تتغير صورهم بالكلية، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لمقعد الكافر في النار كما بين مكة والمدينة، ولضرس الكافر في النار كجبل أحد )، ووصف أقدامهم في السلاسل بأنها كالجبال السود المتراكمة، وبين الله سبحانه وتعالى ما يعتريهم من سواد الوجوه يوم القيامة؛ فقال الله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس:26-27].
ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]، قال: تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة.
وقد أخذ ابن عباس هذا التفسير من قول الله تعالى في الآية الأخرى: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر:60]؛ فأهل البدعة هم الذين كذبوا على الله بما لم يأذن به الله؛ فلذلك تسود وجوههم يوم القيامة -نسأل الله السلامة والعافية- فمن كان يعلم أن المصير والعمر الطويل في صورة غير هذه، وعلى هيئة غير هذه فهو الفائز قال تعالى، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، فإذا أدخل الجنة فإن كل ما كان يشكوه من سوء الصورة، أو دمامة الوجه، أو القبح، أو ازدراء الآخرين له، أو القصر، أو غير ذلك يزول بالكلية، ( صعد ابن مسعود رضي الله عنه في شجرة فرأى أصحابه حموشة ساقه -أي رقة ساقه- فضحكوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتضحكون من حموشة ساقه؛ فلهي أثقل عند الله من جبل أحد )، فهذا يقتضي أن هذه الصور الدنيوية التي مصيرها في الدنيا للدود وأكل التراب، التفاخر فيها واستشعار العظمة بها لا يكون من أهل الإيمان، إنما يحصل الفوز في الصورة الأخروية الثابتة المستقرة، فكم من ذي وجه حسن في الحياة الدنيا سيكون وجهه دميماً قبيحاً تأكله النار يوم القيامة، كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56]، وكم من دميم قبيح في الحياة الدنيا على منابر من نور يوم القيامة؛ لذلك قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ [الحجرات:11].
السبب التاسع مما ينافي هذه الأخوة ويقطعها اللمز والغمز لإطلاع الآخرين على بعض معايب أخيك المسلم لازدرائه واحتقاره، وهذا ما حذر الله منه في قوله: وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ [الحجرات:11]، وكذلك مما يقطع هذه الأخوة التنابز بالألقاب والولاءات والانتماءات، فإن كثيراً من الناس مهمته الأولى كما يستشعر هو أن يصنف الناس، فيحكم على كل إنسان أنه من الصنف الفلاني من الناس، أو الطائفة الفلانية من الناس، ومن جعله حكماً على الناس؟ أليس للناس ملائكة يكتبون عليهم أعمالهم كما قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12]؟ وقال: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]؛ فأنت لم تكلف بالكتابة على الآخرين، ولا بتصنيفهم وتنويعهم؛ فتذكر قول الله تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11].
إن هذه الأخوة التي دعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحققها بين أصحابه جعلت الكبير يرحم الصغير، وجعلت الصغير يوقر الكبير، أياً كان ذلك الكبير والصغير، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أثر هذا فقال: ( لن تزال أمتي بخير ما دام كبيرها يرحم صغيرها، وصغيرها يوقر كبيرها )، وقال كذلك في الحديث المسلسل بالأولية: ( الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء )، وقال كذلك في حديث البراء : ( إنما يرحم الله من عباده الرحماء )؛ فلذلك من مقتضيات هذه الأخوة: أن تقع الألفة بين الكبار والصغار، وبين مختلف أجناس المسلمين؛ ولهذا فما شرع الله تعالى شعيرةً من شعائر الإسلام إلا راعى في حكمة تشريعها هذه الأخوة، انظروا إلى الشعائر كلها، فهذه الصلاة شرع فيها إقامتها جماعةً ليأتم الناس بإمام واحد لا يحرمون قبل إحرامه، ولا يسلمون قبل سلامه، ولا يركعون قبل ركوعه، ولا يرفعون قبل رفعه، ( أما يخشى الرافع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار؟ )، ويصفون صفاً واحداً كما تصف الملائكة عند ربها، فالساق بالساق، والمنكب بالمنكب، حتى لا تبقى للشيطان فرجة، ( ما لي أرى الشياطين خلال صفوفكم كأنهم غنم عفر؟! ) ( عباد الله! لتسوون بين صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم ).
فبهذه الصلاة تزول كل الفوارق، فترى الصف الواحد فيه الكبير والصغير، والغني والفقير، والصحيح والمريض، والعالم والجاهل، وهم سواء في الصف يخاطبون الله بخطاب واحد، ويدعونه دعاءً واحداً، ويأتمون بإمام واحد، فتتحقق بينهم الألفة وتزول عنهم الكلفة، ولولا هذه الصلاة لكان الغني الذي لا يحتاج إلى الآخرين يقاطعهم ويتوارى عنهم بالكلية ويقولوا:
كلانا غني عن أخيه حياته ونحن إذا متنا أشد تغانيا
لكن الله سبحانه وتعالى شرع لهم بنداء المنادي عندما يسمعونه جميعاً: حي على الصلاة حي على الفلاح أن يأتوا فيصفوا صفاً واحداً؛ فالغني منكبه يمس منكب الفقير، والكبير منكبه يمس منكب الصغير، والصحيح منكبه يمس منكب السقيم.. وهكذا حتى تزول الكلفة بالكلية، وحتى تتحقق الألفة.
كذلك الزكاة التي شرعها الله سبحانه وتعالى تحقيقاً لهذه الأخوة ليدرك الأغنياء مسئوليتهم عن الفقراء، فما استخلفهم الله فيه من المال من حق الفقراء عليهم أن يؤدوا إليهم حقوقهم، وفي المال حق واجب غير الزكاة كذلك بينه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلهذا لا بد أن يستشعر الأغنياء أن الفقراء يشاركونهم في أعيان أموالهم، وأن لهم حقاً معلوماً لا بد من أدائه.
كذلك الصوم الذي يستشعر به الإنسان مرارة الحرمان عندما يحال بينه وبين الماء البارد وبين الطعام، وهو محتاج إليه ويملكه، يستشعر حال المحرومين الذين حيل بينهم وبين ذلك وهم لا يملكونه ولا يستطيعون الوصول إليه، فيرحمهم ويتذكر حالهم، كما قال حاتم بن عبد الله الطائي :
لعمري لقدماً عضني الجوع عضةً فآليت ألا أمنع الدهر جائعا
وكذلك الحال بالنسبة للحج، فهو مؤتمر يلتقي فيه المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها، يلبسون زياً موحداً، ويؤدون شعائر موحدةً في أماكن موحدة، وبذلك يدرك من هو في نهاية الغرب حال من هو في نهاية الشرق، ومن هو في نهاية الشمال حال من هو في نهاية الجنوب، ويطلع بعضهم على آمال وآلام بعض، فتتحقق هذه الأخوة الكاملة بينهم.
كذلك الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام، فبه يصف المسلمون صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:4]؛ ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم وصف المسلمين، فقد أخرج البخاري و مسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ).
وأخرجا كذلك في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ).
فلا بد من تحقيق هذه الأخوة؛ ولذلك ( في كتاب علي رضي الله عنه الذي أخرجه من قراب سيفه حين قام خطيباً في الناس؛ فسأله أبو جحيفة السوائي رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين! هل عندكم شيء تقرءونه غير كتاب الله؟ فقال: والذي فطر النسمة وبرأ الحبة ما عندنا شيء نقرؤه غير كتاب الله، أو فهم آتاه الله عبداً في كتابه، أو ما في هذه الصحيفة؛ فأخرج صحيفةً من قراب سيفه، فإذا فيها العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر، والمسلمون تتكافأ دماؤهم وأموالهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، والمدينة حرام ما بين عائر إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً )، ... صلى الله عليه وسلم أمانةً عند علي رضي الله عنه، وقد بلغه على رءوس الأشهاد، وأخرج الورقة من قراب سيفه للعناية بها، وقرأها على الناس فرواها عنه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن حضره.
فلذلك لا بد أن يحقق المسلمون هذه الخاصة من خصائص الإسلام، وأن يكونوا يداً على من سواهم، فلا بد من تحقيق هذه الوحدة والائتلاف، وبه تحصل الهيبة للمسلمين، وبه تقوى شوكتهم، وبه يتماسكون في وجه أعدائهم.
إن حال أمتنا اليوم بعيد كل البعد عن كل ما كنا نتحدث فيه من هذه الأخوة وحقوقها وما يترتب عليها.
إن الناظر إلى هذه الأمة اليوم يجدها شتاتاً من الناس.
فرقت أولاً بالحدود المصطنعة، فقطعت هذه الأمة إلى أمم، ووزعت إلى دول، كل دولة لها حدود تقاتل عليها، وتفقد أبناءها وخيرة رجالها في الدفاع عن تلك الحدود التي هي مصطنعة صنعها أعداؤها، وخطط لها المستعمرون الكفرة الذين لا يريدون لهذه الأمة أي خير، وتجدوا هذا الأمر قد دخل في كيان الناس؛ فكل من انتسب في دولة من هذه الدول دخل شعارها الذي رسمه لها أعداؤها في كيانه، فأنتم اليوم عندما ترون العلم الذي ينسب إلى بلادكم الذي لا تعرفون معناه، ولا تعرفون أي أمر يتصل بهذا البلاد شعاره الخضرة والهلال والنجمة، يدخل هذا في كيانكم، وتحترمونه احتراماً عميقاً؛ بل إذا نسب أحدكم إلى غير بلده أنف من ذلك وغضب، إذا خاطب مسلم من أي رقعة أخرى حدك، فقال له: أنت من السنغال، أو أنت من أي بلد آخر سيأنف من هذا، لماذا تأنف يا أخي؟ أليست الأمة أمةً واحدة؟ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]؛ فلو سئلت فقل: (إنني من المسلمين) كما أرشدك الله إلى ذلك.
كذلك بعد هذا التقطيع الذي حصل لهذه الأمة بالحدود المصطنعة جاءت أنواع أخرى من التقطيع والفرقة قضت على ما بقي من هذه الأخوة، فكان من المألوف عندما تقطع الأمة إلى بلدان ودول أن يبقى على الأقل كيان الأمة موجوداً في دولة من هذه الدول، وأن يحافظ سكان كل دولة منها على وحدتهم الإسلامية، وبالأخص إذا كانوا من المسلمين صرفاً ليس فيهم أحد من اليهود ولا من النصارى، ولا من الملحدين؛ لكن مع الأسف جاءت القوميات والوطنيات والنزعات الأخرى الجاهلية التي اقتضت تقطيع ما بقي، وتوزيعه وتفرقته، فسكان هذا البلد مثلاً قليل جداً في وقت الاستقلال، كانوا إذ ذاك أقل من المليون، وفي السنة السادسة من الاستقلال بدأت حرب داخلية بينهم، لا يغذيها أي أساس من دين ولا من عقل ولا من خلق، ليس لها أي أساس، فقد فيها كثير من الأرواح، ونهب فيها كثير من الأموال على غير أساس، وظلم فيها كثير من الناس ظلماً لم يقتصر عليهم وحدهم بل تعدى إلى ذرياتهم من بعدهم، ولم تزل هذه النزعة تتكرر، ومن ذلك ما حصل من الظلم السافر سواءً في قضية السنغال، أو ما بعدها من القضايا المتلاحقة التي حصل فيها الظلم لكثير من إخوانكم من أفارقة المسلمين الذين يعيشون معكم على هذه الأرض، ويرجعون معكم إلى آدم و حواء ، ويشهدون معكم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلون معكم إلى القبلة؛ فأين هذه الأخوة التي كنا نتحدث عنها؟ هل رفع القرآن؟ هل ذهبت السنة من الصدور؟ أين أنتم يا عباد الله من مثل هذا النوع من التوزيع والتفرقة الذي ما أنزل به من سلطان وينافي دعوة نبيكم، ويخالف ما جاء به؟
إنني لأعجب كل العجب إذا حدثت ببعض المشاهد التي حصلت، وأحمد الله تعالى على أنني لم أكن من الشاهدين؛ فيحدثني بعض الناس بأمور إذا سمعتها تذكرت ما قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من أمر الجاهلية، عندما تكون الأسرة آمنةً في بيتها لم تعتد أي اعتداء، ليس بينها وبين جيرانها أية خلافات، فإذا الغوغاء يقتحمون عليها في دارها، ويقتلون أفرادها وينتهبون أموالها من غير أدنى سبب، وهم يصلون إلى القبلة، ويشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وقد حدثني رجل عن أمر شهده في مدينة من المدن عندما رأى رجلاً يقتل وهو يمد إصبعه فوق رأسه ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، والذين يقتلونه لا يعرفون اسمه ولا نسبه، ولا عاملوه أية معاملة، وليس بينه وبينهم أي أمر يقتضي مجرد كلمة، إن هذا النوع من المعاملة من أعظم ما يمكن أن يقع على هذه الأرض، وإن الأرض لتضج إلى الله منه.
كذلك ما ينتشر بين الفينة والأخرى من إشاعة التكفير والتفسيق والتبديع للمسلمين سواءً منهم من كان حياً أو من كان ميتاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ذلك مثل قتلهم، فقال: ( تكفير المسلم كقتله )، ومن المؤسف أن يكون الإنسان الحي الذي لم يذبح شاةً فصاعداً، ولم يقتل يهودياً ولا نصرانياً، ولم يجاهد في سبيل الله مع ذلك يأتي يوم القيامة وقد كتب عليه أنه قتل أعداداً هائلةً من المسلمين، منهم من مات منذ قرون وما أدركهم؛ لكن يكتب عليه أنه قتلهم؛ لأنه كفرهم، فـ ( تكفير المسلم كقتله ).
كذلك الأحكام المشاعة وبالأخص الأحكام التي تتناول الطوائف بكاملها ورمتها، فإن الطوائف هي مثل الجيوش، وقد صح في حديث عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر جيشاً يأتون يقصدون البيت الحرام حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بأولهم وآخرهم؛ فقلت: يا رسول الله! كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: يبعثون على نياتهم )، فكذلك هذه الطوائف فيها من يبعثون على نياتهم؛ فيها المقلدون، وفيها المعذورون بالجهل، وفيها الذين لم تقم عليهم الحجة، وفيها الذين لم يبلغهم الإسلام إلا من هذا الوجه، فكيف تتجاسر على جعلهم جميعاً على شاكلة واحدة، إن الحكم بالتكفير والتفسيق والتبديع هو من الأحكام القضائية التي تقتضي تثبتاً، وأن يكون لديك ثبت؛ ولذلك قال شريح رحمه الله: القضاء جمر فنحه عنك بعودين، اختر شاهدين وهما بمثابة العودين فنح بهما الجمر عنك، فالقضاء جمر فنحه عنك بعودين، لا بد أن تتثبت، وأن تبحث حتى يكون حكمك على أساس البينة العادلة، حتى لا تكون من القاضيين اللذين هما في النار يوم القيامة.
إن على المسلم أن يستشعر انتماءه لهذه الأمة وحقوقها عليه، إن كثيراً من الناس ينتسبون إلى هذه الأمة؛ لكنهم لا يجعلون على أنفسهم أي حق من حقوق الأمة، لا يهتمون بقضايا الأمة، ولا يفكرون فيها، إذا رأوا كثيراً من سواد هذه الأمة يخالفون ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقعون في المعاصي وينغمسون فيها، ولا يشعرون أنهم فعلوا ما يخالف الحق ولم يتألموا لذلك، ولم تتمعر وجوههم عندما يرون مخالفة الشارع، هل يمكن أن تحقق انتماءك لأمة جعلك النبي صلى الله عليه وسلم وإياها كركاب سفينة واحدة، وأنت لا تهتم بأن تمسك بأيديهم وأن تمنعهم من معصية الله، إن المثال الذي ضربه لنا النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القضية مثال بليغ، فقد بين لنا أننا بمثابة ( قوم استهموا على سفينة -أي: اقترعوا عليها- فكان بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أن خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً ).
إننا نركب هذه السفينة التي تسبح بنا في عمق الفضاء؛ وهي الأرض، وما أهونها على الله إذا عصاه أهلها، ( إن الله تعالى قيوم لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه، قد احتجب بسبعين حجاباً، حجاب نور، وحجاب نار، وحجاب نور، وحجاب نار، لو كشف الحجاب عن وجهه لحظةً لأحرقت سبحات وجهه، ما وصل إليه بصره من خلقه )، فما أهون الأرض وأهلها على الله إذا عصوه، فنحن نركب هذه السفينة وخرقها إنما هو بالمعصية فيها، فإذا كنت من ركاب السفينة وأنت ترى الناس يخرقونها فتتركهم وما أرادوا فهل أنت عاقل؟ هل أنت مراع لمصالحك الخاصة؟ إن عليك أن تدافع بكل ما تستطيع الذين يريدون خرق السفينة وأنت تركبها، وأن تحول بينهم وبين ذلك بكل ما تستطيع.
إننا في وقتنا هذا نرفع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إليكم بأن تكونوا عباد الله إخواناً، ونريد من الحاضرين والسامعين أن يتسامحوا في هذه الجلسة فيما بينهم، وألا يخرج أحد منهم من هذا المسجد وله ضغينة على أخيه المسلم، وأن يسامح إخوانه في كل حق له عليهم، وأن نخرج أيضاً وقلوبنا مطمئنة بهذا الإيمان، ساعيةً لتحقيقه بين الناس، وأن نحاول تحقيق حقوق هذه الأخوة فيما بيننا، وأن نرفعها شعاراً كما رفعها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما أذابوا كل الفوارق فتآخى سلمان الفارسي و صهيب الرومي و بلال الحبشي بإخوانهم من المهاجرين والأنصار العرب، واندمجوا اندماجاً كلياً؛ فكانوا سادتهم ومقدمين فيهم على من سواهم، إننا إذا عدنا إلى ذلك فقد حققنا قول الله تعالى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ [البقرة:137].
نسأل الله أن يجيرنا من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، وأن يبارك لنا في القرآن الكريم، وفي هدي سيد المرسلين، وأن ينفعنا بما فيهما من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر