بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نحمد الله تعالى الذي جمعنا في هذه الأيام المباركة التي أنجا فيها موسى وقومه من فرعون وجنوده، ونسأل الله أن يعيد فيها نصره لأوليائه، وأن يعز فيها دينه، وأن يجعلنا أجمعين من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقاموا بما أوجب الله عليهم من الأعمال، ولا شك أنكم في هذه الأيام تسمعون ما يحصل لإخوانكم في غزة، وما كانوا عليه قبل هذه الأيام، فكثير من الناس يظن أن أزمتهم ابتدأت مع هذا الغزو الجديد، وهذا قصور في فهم الواقع وتصوره، بل إن أزمتهم استمرت بالحصار الخانق الحانق، وبالضرب يرزح في داخل السجون منهم آلاف، بالإضافة إلى منع الذين كانوا يعملون من الوصول إلى أعمالهم، وغير ذلك من التجويع، والإذلال، وأنواع الإهانة، ثم بعد ذلك جاء الوقت للانقضاض عليهم لإبادتهم كما تباد الحشرات، وذلك على أيدي أعداء الله من خلقه الذين حكمة الله في خلقهم الأذى، فالله جل جلاله هو الحكيم الخبير، ولا يخلق شيئاً عبثاً، وحكمته في خلق اليهود هي مثل حكمته في خلق السرطان وغيره من الأدواء والأمراض الفتاكة؛ يبتلي بها عباده، فحكمته حصول الأذى، فهم أعداء الله من خلقه قالوا: يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا [المائدة:64]، وقالوا: إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181].
وهم أعداء رسل الله كما قال الله تعالى: فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ [المائدة:70].
وهم أعداء محمد صلى الله عليه وسلم، فقد حاولوا قتله خمس مرات، وسحروه، ومالئوا عليه المنافقين والمشركين، وهم أعداء الملائكة الكرام، فإنهم قالوا لرسول لله صلى الله عليه وسلم: ( من يأتيك بالوحي من الملائكة؟ فقال جبريل ، فقالوا: ذلك عدونا من الملائكة )، فأنزل الله في ذلك: مَنْ كَانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98]، وهم أعداء كتب الله المنزلة، يحرفون الكلم عن مواضعه، وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:78]، ويفترون على الله الكذب، وهم أعداء المؤمنين بالخصوص، فقد قال الله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:82]، وهم أعداء الاقتصاد، فقد قال الله فيهم: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]، وقال: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [النساء:161].
فهم أول من أنشأ البنوك، وهم أول من باع بالأسهم، وهم أول من أنشأ القمار، وجعل له دوراً ومقصداً في العالم، وهم أعداء البشرية كلها، ولذلك قال الله تعالى: وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ [المائدة:64]، وكل هذه التهم ثبتت بشهادة الشهيد الحكيم الخبير جل جلاله في محكم تنزيل في كتابه كما تقرءون في صلاتكم، وفي كتاب ربكم جل جلاله: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، وهي مستمرة فيهم، لكن من حكمة الله أنه وعدهم بدولتين يكثر فيهما فسادهم وبطشهم في الأرض، فالدولة الأولى كانت بدايتها عندما جاهد داود و سليمان ، فأقاما في أرض الشام، وقاتل داود العمالقة، فانتصر عليهم، فلما مات داود و سليمان ومن تبعهما وتولى الأمر ملوك بني إسرائيل فعثوا في الأرض وأكثروا فيها الفساد، فسلط الله عليهم بختنصر وغيره من العباد، فأذاقوهم سوء العذاب.
ثم بعد ذلك الدولة الثانية وهي هذه التي قامت في أرض فلسطين، وكان من حكمة الله تعالى عندما كتب هذا السرطان على هذه الأمة أنه لم يكن في طرف من الأطراف، فلو أن دولة إسرائيل قامت في موريتانيا أو في إندونيسيا، أو في السودان، أو في أي مكان آخر غير فلسطين من بلاد المسلمين لنسي المسلمون ذلك الطرف كما نسوا الأندلس، وصقلية، وقبرص، وغيرها من البلاد التي كانت يوماً ما حضارةً ومملكةً إسلامية، لكن أراد الله بحكمته ألا يكون مثل هذا الصقع هو الذي تقوم فيه هذه الدولة، فقد زرعها في قلب الأمة الإسلامية في مهاجر إبراهيم عليه السلام، ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقبلة الثانية للمسلمين، والمسجد الثالث من المساجد المفضلة، وفي أرض الرباط التي فيها الرباط إلى قيام الساعة، وفي أرض مهاجر المسلمين في آخر الزمان، ومنزل المسيح ابن مريم عليه السلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما أخرج عنه أصحاب: ( إنها ستكون هجرة بعد هجرة، وإن خير مهاجركم مهاجر أبيكم إبراهيم عليه السلام )، فسيهاجر المسلمون إلى الشام إذا نزل المسيح ابن مريم من مشارق الأرض ومغاربها، و هذه الأرض المباركة بارك الله فيها لأن الله قال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1]، وهي أرض الرباط إلى قيام الساعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، قيل: أين أولئك يا رسول الله؟ قال: ببيت المقدس أو بأكناف بيت المقدس )، أخرجه البزار و الحارث بن أسامة وغيرهما.
وشاء الله بحكمته البالغة كذلك أن يجعل سكان هذه الأرض جبارين -أي أقوياء- فالجبار هو جذع النخلة القوي كما قال الشاعر:
وجنة ما يذم الدهر حاضرها جبارها بالندى والحمل محتزم
فالجبار هو جذع النخلة القوي، وسكان تلك الأرض وصفوا على لسان بني إسرائيل بقولهم فيما حكى الله عنهم: إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ [المائدة:22]، ومعنى ذلك أنهم أهل صبر وقوة وجلد، وهذا ما نشهده اليوم، فلو أن شعباً من الشعوب الأخرى في الأرض ذاق من الأذى والإهانة والتقتيل والتشريد ما ذاقه أهل تلك البلاد لخنعوا وذلوا، ولكنهم أعدوا لذلك، فقويت شوكتهم، وقويت شكيمتهم، وبقوا صابرين على كل ما يعانون من الأذى، ولا يستغرب ممن عادى الله وأنبياءه وملائكته وكتبه ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يفعل ما يفعله اليهود اليوم بالفلسطينيين، فهذا أمر معهود منهم، حاربوا من هو خير من الفلسطينيين، وحاولوا إلحاق الأذى به حتى قال لهم موسى بن عمران : يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ [الصف:5]، لكن المستغرب هو صمت المسلمين، وعدم مشاركتهم فيما يحصل، وحيادهم وإهمالهم وخذلانهم لإخوانهم، فهذا أمر لا يدل على إيمان، ولا على إسلام، فإن الله سبحانه وتعالى يقول في محكم تنزيله: وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا * الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:75-76]، فهذه الآية مقرعة لكل من تقاعس، أو سولت له نفسه ذلك، فالله يسأل هذا السؤال: (وَمَا لَكُمْ)، وهو سؤال موجه إليكم مع معاشر المسلمين جميعاً، سؤال امتحان من الله ديان السموات والأرض، فيقول: وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ [النساء:75]، وأنتم ترون قتل الأطفال وإبادتهم، وقتل النساء وإبادتهن، وتهديمها على رءوس أهلها، وبين الله سبحانه وتعالى ما يحفز لذلك فقال: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]، وأنتم تعلمون أن الله جل جلاله لو شاء ما خلق إبليس ولا خلق الكفر على وجه الأرض، لو شاء لجعل البشر كالشجر وكالدواب الأخرى، فكانوا جميعاً مسلمين لله، فأنتم تعرفون أن الخلائق التي على وجه الأرض كلها من المسلمين لله إلا بعض الإنس وبعض الجن، فقد قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج:18].
لو شاء لجعل الناس جميعاً كمن سبقهم من أنواع الخلائق فجعلهم جميعاً ساجدين لله عابدين له، لكنه أراد بحكمته أن يتمايز الناس، وجعل هذه الدنيا مسرحاً للصراع بين الحق والباطل، وجعل فيها الموت والحياة ليبلو الناس أيهم أحسن عملاً، وبنى هذه الدنيا على السنن الكونية المسيرة لها، ومن أهمها سنة التدافع، فإنها سنة ماضية لا يمكن أن تتوقف، إذ لو توقفت لفسدت الأرض، كما قال الله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ [البقرة:251]، ومعنى ذلك أنه لا بد أن يكون على الدنيا حزب لله يسعون لإعلاء كلمة الله، والتمكين لدينه في الأرض، وحزب للشيطان يسعون لتحقيق يمين إبليس بإغواء أكثر الناس، وهذان الحزبان لا يمكن أن يقضي أحدهما على الآخر، بل لا بد من استمرر الصراع بينهما حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، ولو توقف الصراع لحظةً واحدةً لفسدت الأرض؛ لأنه لو غلب حزب الله على حزب الشيطان فلم يبق لحزب الشيطان وجود لاستحق أهل الأرض أن يدخلوا الجنة؛ لأنهم نجحوا في الامتحان، والدنيا ليست دار قرار، وهي دار أقدار وأقذار وأكدار، فالبقاء فيها محال، فبقاء الحال من المحال، فلو نجحوا في الامتحان وكانوا جميعاً صادقين خاشعين لله جل جلاله لاستحقوا أن ينقلوا عن هذه الدار إلى دار القرار، كما أنه لو غلب حزب الشيطان على الأرض فلم يبق لحزب الله صولة ولا جولة ولا حول ولا دفع لاستحق أهل الأرض سخط الله ومقته، وعاجل عقوبته؛ لأنه جل جلاله يمهل ولا يهمل، وإذا كفر به الناس جميعاً فإنه يحل بهم غضبه، وأخذه الوبيل كما أحل ذلك بقوم نوح ، فأمر السماء فانفتحت أبوابها بالماء المنهمر، وأمر الأرض فتفجرت عيوناً فَالْتَقَى المَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر:12].
وكما فعل بقوم هود حين سخر عليهم الريح العقيم ثمانية أيام حسوماً، فلم تبق منهم باقيةً، وكانوا كجذوع النخل المنقعر.
وكما فعل بقوم صالح حين أرسل عليهم الصيحة فصاح بهم الملك، فانشقت أشغفة قلوبهم فماتوا موتة رجل واحد.
وكما فعل بقوم لوط حين أرسل عليهم الحاصب، فرفع قريتهم حتى سمع أهل السماء أصوات كلابهم، ثم ردها على الأرض، فجعل عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:82-83].
وكما فعل بـفرعون ذي الأوتاد الذي قال: (أنا ربكم الأعلى) حين التطم عليه وعلى جنوده البحر في لحظة واحدة فلم تبق منهم باقية.
وقد قال بعد أن قص علينا قصص هؤلاء الهالكين في سورة القمر: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ [القمر:43]، (أكفاركم) هل الكفار الذين يعادونكم وتعادونهم وتخالطونهم ويواليهم بعضكم ويخالطهم هل هم خير من أولئكم؟ من قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم لوط ، وقوم موسى ؟ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ [القمر:43]، هل أمريكا خير من عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم؟ هل الصهاينة الموجودون الآن في بلاد فلسطين خير من أولئك؟ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ [القمر:43]، ثم جاء الالتفات في الخطاب وهو أسلوب بلاغي معروف، يقتضي تغيير الأسلوب، فبعد أن كان الخطاب لمعشر المؤمنين فقال: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ [القمر:43]، نقل الخطاب إلى الكفار مباشرةً فقال: أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ [القمر:43]، أم لكم أيها الكفار براءة في الزبر؟ أي: المنزلة من عند الله، أن لا يأخذكم بمثل ما أخذ به السالفين، فأنتم جميعاً تشهدون أن الله ما نقص شيء من قوته بعد أن أهلك أولئك السالفين، وأن أمره بين الكاف والنون، إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40]، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، وهو قادر على إهلاكهم بأنواع ما لديه من البطش الذي لا يمكن أن يطلع عليه أحد، فقد أخرج مسلم في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله قيوم لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه، يرفع إليه أمر الليل قبل النهار، وأمر النهار قبل الليل، حجابه النور ) وفي رواية: ( حجابه النار )، وفي رواية في غير الصحيح: ( قد احتجب بسبعين حجاباً: حجاب نور، وحجاب نار، وحجاب نور، وحجاب نار، لو كشف الحجاب عن وجهه لحظةً لأحرقت سبحات وجهه ما وصل إليه بصره من خلقه )، وسبحات وجهه هي أنوار وجهه الكريم، حتى لو لم يستعمل أي شيء من أنواع البطش الماضي، لو نظر بعين الغضب إلى أهل الأرض لأحرقت سبحات وجهه ما وصل إليه بصره من خلقه جل جلاله، فأنتم تعلمون أن قدرته ما نقصت، وأنه لا يحب الكافرين ولا الظالمين أبداً، وأنه لا يرضى لعباده الكفر، فقد أخبر بذلك في محكم تنزيله، لكنه من حكمته البالغة حكمة الامتحان، وقد بين ذلك في كتابه فقال: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [يونس:99]، وانظروا إلى هذا التعميم (كلهم جميعاً)، أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس:99-101].
وقال تعالى: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، فهو الابتلاء والامتحان، فما يحصل في غزة اليوم إنما هو ابتلاء لحزب الله الذين يؤثرون رضا الله على رضا المخلوقين، ويؤثرون ما عند الله من الباقية الخالدة على ما لديهم من الفانية الزائلة، فأولئك الذين يؤثرون الآجلة على العاجلة سيتقدمون وينجحون في الامتحان ويقولون ما قال موسى بن عمران: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84]، والذين يؤثرون الحياة الدنيا سينصرفون إليها ولن ينالوا منها إلا ما قدر لهم، وقد قال الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:18-19].
وكما قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20]، فالذين يريدون رضا الله جل جلاله سيقدمون ما يستطيعون، ولا يكلفون إلا ما يطيقون: لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، ويجدون فرصتهم في هذا الواقع؛ لأنهم يعرفون أنه ابتلاء وامتحان، وأن الذين يريدون التوظيف يحرصون على وقت الامتحان، ويتمنون تأجيله، فإذا جاء بادروا ولم يفلتوا تلك الفرصة فاهتبلوها فنجح منهم من كتب الله له النجاح.
هذه الأزمات التي يمتحن الله بها عباده دائماً تختلف فيها مواقف الناس إلى أربعة أقسام:
الموقف الأول: موقف أهل الإيمان، فإن الله يثبتهم بالقول الثابت في الأزمات والمشكلات، فيعلمون أنها من وعد الله جل جلاله، ومن حكمته البالغة، وأنها امتحان لهم، فيصبرون ويصمدون.
والموقف الثاني: موقف الصرحاء من المنافقين، فإنهم يعلنون فيها ما كانوا يكتمون، ويصرحون بما كانوا يخافون التصريح به قبل الأزمات.
والموقف الثالث: موقف المخذلين الذين يفتون في أعضاد الناس، وينتهزونها فرصةً ليثبتوا مقالاتهم وما كانوا يسعون به فيقولون: قد أخبرناكم، وقد توعدناكم، وقد هددناكم، وقد نصحناكم، وقد أنذرناكم، وهذه هي الحكمة، وهذا هو الرأي.
والموقف الرابع: موقف الضعفة، ضعفة الإيمان، وضعفة التوكل على الله، وهم الذين يؤثرون مصالحهم، فيبدءون مسلسل التنازلات التي ما لها نهاية إلا الفتنة والردة عن الإسلام.
وقد بين الله هذه المواقف الأربعة في قضية الأحزاب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حوصر بالمدينة ومعه ألف وخمسمائة من المقاتلين من المؤمنين، وليس لهم سلاح خارق ولا نفقة ولا أزواد، فجاء اليهود من أعلاها، وجاء المشركون من أسفلها، والتقت حلقة البطان على القوم، ونودوا بالصيلم الصلعاء، فحوصروا من كل وجه، كما بين الله حالهم بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب:9-11].
فقد بين الله المواقف الأربعة، فقال في موقف أهل الإيمان: وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:22-24].
وبين موقف الصرحاء من المنافقين فقال: وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12]، كانوا يقولون: يعدكم محمد أنه ستفتح عليكم كنوز كسرى وقيصر، وها أنتم اليوم لا يستطيع أحد منكم أن يخرج لقضاء حاجته.
وبين الموقف الثالث وهو موقف المخذلين بقوله: وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مَقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا [الأحزاب:13]، (لا مُقام لكم فارجعوا) في القراءة السبعية الأخرى، ومعنى ذلك أنهم يقولون: يا أهل يثرب! لا نفع لكم، هذا معنى لا مقام لكم، لا مقام لكم ها هنا، لا تستطيعون المقام ها هنا، فارجعوا إلى دياركم واهربوا من وجه العدو، وشرح الله موقفهم وتفصيل حالهم فقال: قَدْ يَعْلَمُ اللهُ المُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ [الأحزاب:18-19]، هم بخلاء لا ينفقون من أنفسهم، ولا من أموالهم، ولا من أوقاتهم، ولا من جاههم، ولا من دعائهم، ولا من رأيهم، أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ [الأحزاب:19]، هم يحسنون النقد ولا يحسون البناء، يحسنون اللوم في حال السراء، ويختفون في حال الضراء، أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا * يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا [الأحزاب:19-20].
لهم داء آخر من النفاق هو ظن السوء بالله جل جلاله، وظن السوء هو أن يظن أن الله لن ينصر دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم أبداً، ولن ينتقم لأوليائه، وهذا هو ظن السوء بالله، وقد قال الله تعالى في سورة الفتح: وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالمُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ [الفتح:6]، وبين هذا الظن بقوله: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا [الفتح:12].
فإن المنافقين لما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر غازياً اليهود وهو يركب حماراً، ومعه سبعمائة من أصحابه قالوا: تظنون أن يئوبوا إليكم، فو الله لن يعودوا حتى يعود أمس الدابر، فظنوا بالله ظن السوء وأنه لن ينصر دينه وأولياءه، فلذلك قال: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا [الفتح:12].
أما الموقف الربع: فقد بين الله حال أهله فقال: وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ [الأحزاب:13]، ومعنى (عورة) ليست داخل الحصن، فهي بادية، وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [الأحزاب:13]، وبين الله أنهم بدءوا مسلسل التنازلات، فقال: وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا [الأحزاب:14] ، (لو دخلت عليهم) أي: بيوتهم، (من أقطارها) من أطرافها، ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا [الأحزاب:14]، (ثم سئلوا الفتنة) أي: الردة عن الإسلام لأتوها، أي: لدخلوا فيها هم، وفي القراءة السبعية الأخرى: (لآتوها) أي: أعطوها من سألهم، وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيراً [الأحزاب:14]، ما تأخروا عنها، وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولًا [الأحزاب:15]، وهذه المواقف نشهدها اليوم في أمتنا، فحيال هذه القضية تجدون أهل الإيمان والصدق صابرين مضحين صامدين، يبذلون ما يستطيعون، وهم واثقون بالنصر، وأن الله سيعز دينه، وأن ما يقع إنما هو من حكمة الله جل جلاله، وهم ينتظرون أن يكون هذا خبراً من الأخبار يروى ويقص في الكتب، كما كانت الوقائع في الأيام السالفة.
أنتم تعرفون مشاهد هذه الأمة وتقرءونها وهي زينة التاريخ في الواقع، عليكم أن تقرءوا عن يوم بدر وتضحيات المؤمنين فيه، وعن يوم أحد وما بذله المؤمنون فيه كيف كانت نسيبة تقاتل بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بسيفين، وفي حديث أنس في صحيح مسلم : ( لقد رأيت عائشة ، و فاطمة و أم سليم يوم أحد مشمرات عن أسوقهن يحملن القرب، ويصببن الماء في أفواه الجرحى ).
وتعرفون في قصة أحد ما حصل لـفاطمة بنت يزيد ابن السكني رضي الله عنها: ( لما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من أحد وصلى بالمستراح وهو مكان بين أحد والمدينة، فاجتمع عليه أهل المدينة شوقاً إليه واستقبالاً له، فلما كثر الناس عليه حال أصحابه بينه وبين الناس، يخافون عليه من التعب، فهو مجروح في جبهته، وقد كسرت رباعيته، وجحشت ركبته بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فرأى امرأةً تتطاول من وراء الناس، فقال: دعوها؛ فقد قتل بين يدي اليوم ثمانية من رجالها -زوجها، وولداها، وأخواها، وأبوها، وعمها، وعم أبيها- وهي فاطمة بنت يزيد ابن السكني، فلما نظرت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله كل مصيبة بعد رؤيتك جلل )، (كل مصيبة بعد رؤيتك جلال) أي: شيء تافه لا يساوي شيئاً، فكل هذه المصيبة لا تعد شيئاً، فهي جلل بعد رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتضحيات المؤمنين في غير ذلك من المشاهد كلها من زينة تاريخنا، فأولئك أهل تلك التضحيات، وأهل ذلك التاريخ، وهم يعلمون أن الأمر كله بيد الله، وأنه متى شاء كشف الغمة وأزالها، وتفريجه للأمر بين الكاف والنون في طرفة عين، أتعرفون ما حصل للإمام أبي عمرو بن العلاء زبان وهو أحد القراء السبعة قارئ البصرة، وأحد أئمة النحو المشاهير في أيام التابعين، فإنه دعاه الحجاج ليعرض عليه القرآن بقراءات مختلفة بقراءات أهل البصرة، فقرأ سورة البقرة وكان يقرؤها بعدة قراءات سواءً منها ما كان من قراءته هو، أو ما كان من قراءة غيره، فقرأ قول الله تعالى: إِلّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [البقرة:249]، قراءة أبي عمرو : (غَرفة بيده) بالفتح، لكن قرأ بالقراءات الأخرى: إِلّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [البقرة:249]، فقال له الحجاج : إن العرب إنما تعبر عن المرة بالفعلة فالفتح تقول: إِلّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً [البقرة:249]، ولا تقول: غرفةً، فلم يتردد أبو عمرو وأثبت هذه الرواية، فقال له الحجاج : أجزتك شهراً تأتي بشاهد من لغة العرب على مجي الفعلة للمرة وإلا قطعت رأسك، وأرسل معه حارسيين يحرسانه حتى يرداه بعد شهر لإقامة الحكم عليه، فخرج أبو عمرو ومعه الحرسيان إلى أنحاء نجد لعله يجد شاهداً لدى العرب، فلما تم الشهر ورجع به الحارسيان إلى العراق وكان في أشد الحزن بينما هو في الطريق إذ رأى راكباً على بعير له يغني في الصحراء، فسمع غناءه فإذا هو يقول:
قد يموت الجبان في آخر الصف وينجو مقارع الأبطال
ربما تكره النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال
هو نفس المعنى الذي حصل أيضاً ربما تكره النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال، وفرجة فعلة بالضم، ففرح أبو عمرو فرحاً شديداً بهذا الشاهد، فلما لقوا الراكب قالوا: ما وراء الخبر؟ قال: مات الحجاج ، فقال: ما أدري بأيهما أفرح أبوجود الشاهد أم بموت الحجاج ؟ وقد قال أحد الحكماء:
والرب يخمل عبده لطفاً به ويكون ذا جبر له بالكسرة
ويسوق أحداثاً إليه تعوقه عن خوض بحر مهالك لزخرت
فتعضه الأحداث عضة مازح وتمر مرة سحب صيف مرت
فالأحداث تأتي هكذا بأمر الله جل جلاله فتعض الإنسان عضة مازح، وتمر مرة سحب صيف مرَّت، فهؤلاء هم المؤمنون وهذا موقفهم، وتشهدون كذلك موقف المنافقين الصرحاء الذين يصرحون بما كانوا يجمجمون ويكتمون من عقائدهم الفاسدة، فيعلنون الآن التشكيك في الدين، والتشكيك في الجهاد في سبيل لله، وإنكار أن يكون من الإسلام، ووصف الجهاد في سبيل الله بأنه ظلم وطغيان واعتداء، ووصف المجاهدين بكل أنواع النعوت التي لا يقصدون بها الأشخاص وإنما يقصدون بها الدين الذي يطبقه أولئك الأشخاص ويمثلونه.
وتشهدون كذلك موقف المخذلين وما أكثرهم، فهم يقولون: ماذا تصنعون؟ وما تغني دريهماتكم التي تجمعون؟ وما يغني تصرفكم هذا؟ وما ينفعكم اجتماعكم؟ فإنه لا ينصر مظلوماً، ولا يكسر عدواً، والجواب عن هذا: أن المنافقين فعلوا قبل ذلك مثلما فعله هؤلاء، فإن رجلاً من الأنصار جاء يحمل مداً من شعير في طرف ثوبه، فقال المنافقون واستهزءوا وضحكوا: وما يغني مد هذا عن لله ورسوله؟ فأنزل الله في ذلك: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:79]، فعاقبهم الله بأشد عقوبة؛ لأنه قال: سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:79].
ثم تجدون موقف المنكفئين على أنفسهم والمهتمين بشئونهم، يزينون بيوتهم بالزخارف، ويصلحون فروشهم، ويزينون سياراتهم الفارهة، وينظفون مكاتبهم، ويهتمون بملابسهم وفرشهم، ولا يعنيهم أمر هذه الأمة، لا يهتمون لشيء منها كأنهم ليسوا عضواً من هذا الجسم ( الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر )، أن هؤلاء نبتة خارجة عن جسم الأمة، كواو عمرو في الكتابة، أو كهمزة الوصل التي تسقط في الدرج، وكما قال الأول:
فستة رهط به خمسة وخمسة رهط به أربعة
فلا فائدة من وجودهم في هذه الأمة وهم معها لا منها، فلا يتألمون لآلامها، ولا يفرحون لانتصارها ولا يهتمون بشأنها، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم )، أخرجه الصاغاني و السخاوي وغيرهما من الذين يهتمون بالأحاديث المشتهرة على الألسنة.
والذين لا يهتمون بأمر هذه الأمة، ولا يهتمون بأمر هذا الدين عند الحاجة إليهم سيغني الله عنهم، فقد تعهد بذلك في كتابه في أربعة مواضع، فقد قال الله تعالى في سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54]، وفي سورة الأنعام يقول: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام:89]، وفي سورة التوبة يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:38-40].
واجب المسلمين اليوم تجاه هذه القضية واضح، وهو متدرج بحسب نعمة الله جل جلاله، فالتكليف على قدر التشريف، فأولياء أمور المسلمين وحكامهم ملوكاً ورؤساء ووزراء وأمراء واجبهم أن يبادروا لإعلان الجهاد في سبيل الله، وأن يحركوا الجيوش، وكل دقيقة يتأخرون فيها عن أداء الواجب هي إثم مضاعف عليهم؛ لأنهم يضمنون شرعاً ما حصل من الإتلاف والإفساد في الأرض.
فمن أسباب الضمان الإجماعية بين الفقهاء ترك تخليص مستهلك، معناه: أن من رأى مستهلكاً من نفس أو مال فلم يخلصه وهو قادر على تخليصه يضمنه شرعاً، كمن رأى أعمى يسقط في نهر أو في نار، أو من رأى صبياً يسقط في مهلكة، أو من رأى مالاً لمسلم في مضيعة فلم يخلصه فإنه ضامن له، وهذا محل إجماع بين المسلمين، فكل دقيقة تأخر ما يحصل فيها من الإفساد في الأرض هو مكتوب في صحائف سيئاتهم، وسيجدونه في الكفة اليسرى في الميزان يوم القيامة، وماذا ينتظرون الآن، ألم يعلموا أن هذه الأمة أمة واحدة، وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [المؤمنون:52].
وقد أخرج البخاري و مسلم في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ).
وأخرج في الصحيحين أيضاً من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه )، لماذا يعدون الجيوش ويدربونها؟ ولماذا يشترون السلاح ويخزنونه؟ لا عطر بعد عروس، هذا وقت استعمال هذه الجيوش، ووقت استعمال هذا السلاح، وهو سلاح للأمة ليس ملكاً لشخصياتهم، ولا ورثوه عن آبائهم وأجدادهم، وكل أمة محمد صلى الله عليه وسلم قاصيها ودانيها وذمتها واحدة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنتم تعرفون ما أخرج النسائي في السنن من حديث أبي جحيفة السوائي رضي الله عنه في حديث علي في البطاقة التي أخرجها من قراب سيفه وفيها: والمؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم.
أين حكامنا اليوم من حال أئمتنا السابقين؟ فأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يبكي، مخافة أن تعثر البغلة السوداء في سواد العراق فيحاسب عمر على ذلك إن لم يعبد لها الطريق.
و المعتصم بالله بن هارون الرشيد لما بلغه أن فتاةً من المسلمين لما أخذها العلج من الروم من أهل عمورية صاحت: وا معتصماه! فقال لها العلج: يأتيك على أبلق، جاءه هذا الكلام وهو يشرب كأساً من الماء، فختم على كأسه وأمر بتغطيتها حتى يعود، ونادى بالنفير في الجهاد، وأن لا يخرج معه إلا فرس أبلق، فأخرج سبعين ألفاً للجهاد، وقد جاء المثبطون والمخذلون ليثبطوه، وقالوا: ليس هذا وقت غزو، وقد طلع فيه الكوكب المذنب، ولا يأتي إلا بكسر ملك وهزيمته وحذروه من الخروج، فخرج وأتى عمورية وحاصرها، فلما طال عليه الحصار أمر الجنود فحفروا تحت التلة التي هي عليها وهي جبل، فملئوه بالبارود ثم أوقد فيه النار فانفلقت كما قال في ذلك حبيب بن أوس أبو تمام الطائي :
السيف أصدق أنباءً من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك والريب
والعلم في صحف الأرماح لامعةً بين الخميسين لا في السبعة الشهب
إلى أن يقول فيها:
إن كان بين ليالي الدهر من رحم موصولة أو ذمام غير مقتضب
فبين أيامك اللائي نصرت بها وبين أيام بدر أقرب النسب
يا يوم وقعة عمورية انصرفت عنك المنى حُفّلاً معسولة الحلب
رمى بك الله برجيها فهدمها ولو رمى بك غير الله لم يصب
فالشمس طالعة من ذا وقد وجبت والشمس واجبة من ذا ولم تجب
ضوء من النار والظلماء عاكفة وظلمة من دخان في ضحى شحب
و هم يسمعون الآن: وا معتصماه! فتتردد على أسماعهم، ولكن لا نخوة لهم كما قال الشاعر الفلسطيني محمود أبو ريشة :
رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
وقد شاهدنا في أمتنا هذه كثيراً من الخير الذي يدل على ماضيها وسالفها، فالحكيم يقول: (إن غاب عنك أبو ابن لم يغب فلمن يبدو لنا إنما يبدو مثل أبيه)، معناه: إذا غاب عنك والد إنسان، فرأيت ولده، فولده يمثله، إن غاب عنك أبو ابن فلمن يبدو لنا إنما يبدو لنا غيبه، فهل يستطيع حكامنا اليوم أن يدعوا أنهم من أحفاد عمر بن الخطاب ، أو عمر بن عبد العزيز ، أو هارون الرشيد ، أو المعتصم ، أو المنصور ، أو صلاح الدين الأيوبي أو غيرهم، شاهدنا في أمتنا من الخير الكثير، رأينا من التجار من يذكرنا بإنفاق عثمان الذي أنفق يوم العسرة وجهز الجيش، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يضر عثمان ما فعل بعد اليوم ).
ورأينا من شبابنا بطولات تذكرنا ببطولات محمد بن القاسم الثقفي ، و قتيبة بن مسلم ، وغيرهم من السابقين، ورأينا في الجهاد من المجاهدين من يذكرنا ببطولات خالد بن الوليد ، و ضرار بن الأزور ، ورأينا من النساء من تذكرنا بالسالفات أيضاً كــنسيبة وغيرها، ورأينا من علمائنا من يذكرنا أيضاً بـابن تيمية و العز بن عبد السلام وغيرهم، لكن لم نر من حكامنا من يذكرنا بأولئك السالفين، شريحة واحدة من المجتمع نريد منها نماذج وأمثلةً تدلنا على السالفين، نريد أن تخرج لنا ذلك، فنحن نطلب من حكامنا اليوم أن يترشحوا لخلافة عمر بن الخطاب ، و عمر بن عبد لعزيز ، و المعتصم ، و هارون الرشيد ، و صلاح الدين الأيوبي ، و قطز وغيرهم، نريد منهم من يترشح ولو يوماً واحداً لسد مسد رجل واحد من هؤلاء في هذه الأمة.
ثم بعد ذلك يأتي الخطاب لعلماء الأمة وأئمتها وموجهيها، فهم فرسان المنابر والمحابر، وهم الذين ائتمنهم الله على وحيه، وهم الموقعون عن رب العالمين، فيجب عليهم أن يقول الحق وأن لا يكتموه، وأن يفتوا ويبينوا، فأنتم تعرفون أن من منع القوت والغذاء من المسلمين، وخاف الهلاك على نفسه وجب عليه أن يقاتل على الغذاء، وهؤلاء المحصورون يجب عليهم أن يقاتلوا من يليهم ممن يمنعهم الغذاء، فهم محصورون قد قطع عنهم الكهرباء والماء، والأكسجين، والعلاج، والدواء، والغذاء، فما لهم إلا أن يقاتلوا عليه، ولا بد أن يبين لهم حكم ذلك، ويبين لمن يليهم، الذي أجاف إنسان أي: ضربه جائفةً وصلت إلى جوفه، فامتنع آخر من علاجه من خيط يعالج به وهو قادر عليه، فهما شريكان في الإثم، و اللخمي يرى أنه يقتاد منهما معاً، يقتلان معاً قوداً، ولا يرى اللخمي إلا القود.
وكذلك لا بد أن يقنتوا، فقنوت النوازل سنة داوم عليها النبي صلى الله عليه وسلم شهراً، فلا بد من الاقتداء به، وتسمية المستضعفين هنالك تسمية قادة المجاهدين والمعروفين منهم في الدعاء في القنوت، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( اللهم أنج المستضعفين من المسلمين بمكة، اللهم أنج الوليد بن الوليد ، و سلمة بن هشام ، و عياش بن أبي ربيعة )، يقول هذا الأئمة في صلاتهم، فيسمون قادتهم من عرفوا منهم يسمونه باسمه تسنناً واقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلا بد كذلك من تخصيص الخطب لتوعية الناس وتنبيههم، ولا بد من تخصيص الدروس لذلك وتنبيه الناس على واجبهم، ثم بعد ذلك يأتي الخطاب إلى رجال الإعلام وفرسان الأقلام، فهذه فرصتهم لتوعية الناس وبيان الحق وشرحه، فإنهم إن لم يفعلوا كانوا كالحاشرين الذين كانوا مع فرعون يقولون: هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ [الشعراء:39-40]، فلا يبينون إلا احتمالاً واحداً، لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ [الشعراء:40].
لا بد أن يهب رجال الإعلام لنصرة هذه القضية وتبنيها وشرحها وبيانها، فالحرب الإعلامية أشد من غيرها، والأقلام تفعل ما لا تفعل السهام، وتعرفون دور حسان بن ثابت رضي الله عنه في الجهاد في سبيل لله، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له: ( اهجهم؛ فهو أشد عليهم من وقع الرماة )، ولما جاء شعر حسان إلى قريش قالوا: شعر والله ما غاب عنه ابن أبي قحافة ، وهم يعرفون خبرة أبي بكر بالأنساب، فوجدوا في شعر حسان قوله في هجائه لـأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وإن كرام الأصل من آل هاشم بنو بنت مخزوم ووالدك العبد
ففرق بينهما بالخئولة، فـالحارث بن عبد المطلب ليس شقيقاً لـعبد الله بن عبد المطلب والد النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك قال:
وإن كرام الأصل من آل هاشم بنو بنت مخزوم ووالدك العبد
فقالوا: شعر والله ما غاب عنه ابن أبي قحافة ، قد تأثر أهل مكة كثيراً لما جاءهم قول حسان رضي الله عنه:
عفت ذات الأصابع فالجواء إلى عذراء منزلها خلاء
ديار من بني الحسحاس قفر تعفيها الروامس والسماء
وكانت لا يزال بها أنيس خلال مروجها نعم وشاء
فدع هذا ولكن من لطيف يؤرقني إذا ذهب العشاء
لشعثاء التي قد تيمته فليس لقلبه منها شفاء
إلى أن يقول فيها:
وقال الله: قد سيرت جنداً هم الأنصار موعدها اللقاء
لنا في كل يوم من معد سباب أو قتال أو هجاء
فنحكم بالقوافي من هجانا ونضرب حين تختلط الدماء
ألا أبلغ أبا سفيان عني مغلغلةً فقد برح الخفاء
لأن سيوفنا تركتك عبداً وعبد الدار سادتها الإماء
هجوت محمداً فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء
هجوت مباركاً براً حنيفاً أمين الله شيمته الوفاء
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدره الدلاء
ومثل ذلك حزنهم حين قوله لهم يوم أحد:
منع النوم بالعشاء الهموم وخيال إذا تغور النجوم
من حبيب أصاب قلبك منه سقم فهو داخل مكتوم
لم تفتها شمس النهار بشيء غير أن الشباب ليس يدوم
رب حلم أضاعه عدم المال وجهل غطى عليه النعيم
لا تسبنني فلست بسبي إن سبي من الرجال الكريم
ما أبالي أنبّ بالحزن تيس أم لحاني بظهر غيب لئيم
ولي البأس منكم إذ رحلتم عصبة من بني قصي صميم
وتسعة تحمل اللواء وطارت في رعاع من القنا مخزوم
لم تطق حمله العواتق منكم إنما يحمل اللواء النجوم
وكذلك يأتي الخطاب لأرباب المال ومن وسع الله عليهم بالرزق، فهذه فرصتهم لتكفير سيئاتهم، والطهارة مما لديهم من المشبوه من المال، ففرصتهم في التخلص من ذلك أن ينفقوه في سبيل الله؛ وذلك تكفير للسيئات ورفع للدرجات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعثمان بن عفان : ( ما يضر عثمان ما فعل بعد اليوم )، فـعثمان يمشي على وجه الأرض وقد حل عليه رضوان الله الأكبر الذي لا سخط بعده، فسبقت المغفرة جميع ذنوبه، كل ما يفعله من الذنوب سبقته مغفرة الله له، وهذه الفرصة لا تترك أيضاً للأغنياء وحدهم لا يظن ظان أن الخطاب ببذل المال مختص بالأغنياء، بل كل المؤمنين مخاطبون بذلك، وتذكروا حال الأنصار عندما هاجر إليهم المهاجرون فقراء قد أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، وينصرون الله ورسوله، فلما جاءوا إلى المدينة استقبلهم إخوانهم من أهلها، وهم الذين تبوءوا الدار والإيمان، فكان الرجل يأخذ عمامته فيقسمها نصفين فيعطي المهاجرين نصفها ويحفظ نصفها، ويمسك إحدى النعلين ويعطي أخاه الأخرى، وأنتم تعرفون أن إحدى النعلين لا تنفع، ولكن ذلك شيء رمزي ليدل على صدقه في مقاسمته ماله، وأنه لا يدخر شيئاً، وهذا الحال حصل لفقرائهم وأغنيائهم فاشتركوا فيه جميعاً، فكلنا مخاطب أن يبذل حتى من قوت أولاده، ومن دوائه، ومن خبز بيته، ومن كل ما يملكه، أن يقتطع شيئاً من دخله ومرتبه أو منحته إن كان طالباً، أو مما يستطيع ولو كان شيئاً يسيراً، فإن الله سبحانه وتعالى غني عنه وعن دراهمه، وإنما يبتلي بذلك، فإذا نجح في الامتحان فاز وضاعف الله له الثواب، وتعرفون أن مال عصب الحياة، وأن هؤلاء الذين تهدم بيوتهم وتحرق مزارعهم ويحال بينهم وبين أعمالهم لا يأتيهم رزق إلا ما رزقهم الله به على أيدي إخوانهم من المؤمنين، إلى من تكلونهم إلى المنظمات التنصيرية، هل تكلونهم إلى الأوبرا أو إلى غيرها من المنظمات؟ فلا بد أن تبذلوا ما تستطيعون، ويجمع من ذلك ما كان يجمع في العهد النبوي، ( فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جاءت الدافة وقف على المنبر فقال: تصدق امرؤ من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره، ويبسط بساطاً في المسجد، ويقول الراوي: حتى رأيت كومين أحدهما من ثياب والآخر من طعام )، فالناس يأتون بالثياب حتى الثياب المستعملة والطعام الذي لديهم في بيوتهم، فيجتمع من ذلك كومان فيتهلل رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحاً بذلك، وهذا مظهر من مظاهر التعاون، وهو يدل على أن هذه الأمة ما زالت بخير إذا فعلت ذلك، تعرفون أن الأمة لا بد لها من رمز يرمز لوحدتها، وقد كان هذا الرمز حصول الخلافة، فلما سقطت الخلافة كان من حكمة الله أن جاءت قضية فلسطين فأصبحت رمزاً للمسلمين يجمع قاصيهم ودانيهم جميعاً، فهي الآن بمثابة الخلافة للمسلمين يجتمعون عليها ولو اختلفت مذاهبهم ونحلهم وعقائدهم، ولو اختلفت آراؤهم، ولو اختلفت أوطانهم وألوانهم وألسنتهم يجتمعون على هذه القضية.
ثم بعد ذلك يأتي الخطاب لعوام المسلمين، قالوا: إن العدو يجس نبضكم: هل أنتم أحياء أم أموات، فحياتكم إنما هي التعبير عن وجودكم بالاستنكار، ولو بالتظاهر والخروج للشوارع، ولو بأي تعبير يفهمه العدو، فخروج الناس إلى المساجد، وجؤارهم بالدعاء إلى الله سبحانه وتعالى، وخروجهم في الطرقات ونحو ذلك بانضباط وانتظام، كله تعبير عن مناصرتهم لإخوانهم بما يملكون وما يستطيعون، وقد قال الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى المَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ [التوبة:91-92].
فلذلك يجب على المسلمين جميعاً أن يبذلوا ما يستطيعون، لا بد أن تخصصوا سجدةً من كل صلاة للدعاء لإخوانكم، لا بد أن تخصصوا شيئاً من قوتكم اليومي لإخوانكم، لا بد أن تنبهوا الناس بتوعية شاملة على هذه القضية، لا بد أن تكون قضيتكم الأولى حتى يرفع الله الغمة عنهم، هذا واجب مطاق داخل تحت الطوق، ونحن جميعاً نستطيعه، وهو تكليفنا، ومن فعله أعذر إلى الله سبحانه وتعالى، وبرئ إليه، فيكون ناجياً، ومن لم يفعله لم يبرأ إلى الله سبحانه وتعالى من هذه الجريمة، فكان راضياً بها، ومن رضي وتابع فهو متوعد بمثل الوعيد الذي توعد به مقترفها ومرتكبها، ثم اعلموا أن النصر آت لا محالة، وأنه وعد الله جل جلاله، والله لا يخلف الميعاد، وقد قال في محكم التنزيل: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55].
وقال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51].
وقال تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
وقال تعالى: إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128].
وقال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105].
فلا بد أن ينصر الله هذا الدين كما وعد بذلك ووعد به رسوله صلى الله عليه وسلم بعز عزيز أو بذل ذليل، وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ [الروم:4-5]، وهذا وعد الله الذي لا يخلف.
ثم بعد ذلك: اعلموا أن ما تنفقونه في سبيل لله مخلوف في الدنيا قبل الآخرة، فالله تعالى وعد بذلك، فقال: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39].
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن الله يرسل ملكين يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: وأعط ممسكاً تلفاً ).
فما يقدمه الإنسان وينفقه مخلوف عليه راجع إليه ربما يضاعف له في الدنيا قبل الآخرة، وبعد ذلك يرتجي ثوابه يوم القيامة، والجبن لا يمد في العمر، ولا يزيد في الرزق، والشجاعة لا يمكن أن تكون نقصاً كذلك في العمر، ولا في الرزق، بل قد قال خالد بن الوليد رضي الله عنه: لا وألت نفس الجبان، فما في موضع مغرز إبرة إلا وفيه ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو نضحة بنبل، وها أنا أموت على فراشي كما يموت العير.
فالموت آت، والله سبحانه وتعالى جعل لكل إنسان أجلاً يبلغه، ورزقاً ينفذه، فلا يمكن أن يموت الإنسان قبل أجله، وإذا أدرك الإنسان ذلك هان عليه ما يلقى دون ذلك، وتذكروا أن الذين يصابون بالهلع والجبن والخوف والبخل على إخوانهم ستأتيهم آجالهم ويموتون، في كل يوم يموت أعداد منهم هائلة، فلم يموتوا تحت قصف الطائرات، ولا ضرب الدبابات والبوارج، ولا تحت وقع الصورايخ، إنما ماتوا بآجالهم بما قدر عليهم:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب إذا حط ذا عن نعشه ذاك يركب
لا الموت محتقر الصغير فعادل عنه ولا كبر الكبير مهيب
كل يموت بما قدر له.
وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما خرج من مكة بعد حجته ووقف على ضجنان، قال: لا إله إلا الله وحده، كنت أرعى إبلاً للخطاب على ضجنان، فكنت إذا أبطات ضربني وقال: ضيعت، وإذا عجلت ضربني وقال: لم تعش، ولقد أصبحت وأمسيت وليس بيني وبين الله أحد أخشاه، ثم أنشأ يقول:
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد
لم تغن عن قيصر يوماً خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له والجن والإنس فيما بينها تفد
أين الملوك التي كانت لعزتها من كل صوب إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود بلا كدر لا بد من ورده يوماً كما وردوا
فلذلك لا بد أن نزيل الوهن عن نفوسنا، وأن نري الله من أنفسنا خيراً، وأن نعلم أن من لم ينجح في الامتحان فستأتيه الرزية في بيته ماذا ينتظر؟ ينتظر حتى الوصول إلى الحي الذي هو فيه؟ فذلك قادم لا محالة إذا لم ندفعهم هنا فسيأتون إلينا في ديارنا، وحينئذ تأتي الرزايا وتتكالب ولا يقف معك أحد؛ لأنك خذلت إخوانك في وقت حاجتهم إليك.
وما الفرق بين بيت الإنسان الذي في غزة، وبيت الإنسان الذي في جبره هنا في الخرطوم؟ ما الفرق بينهما؟ كلاهما يؤمن بالله واليوم الآخر، ويسجد لله جل جلاله، وحقهما واحد، فلذلك لا ننتظر شيئاً، فلا بد من المبادرة لأداء الواجب.
وأسال الله تعالى أن يوفقنا أجمعين لذلك، وأن ينصر إخواننا، وأن يربط على قلوبهم، وأن يثبتهم بالقول الثابت، وأن ينزل عليهم السكينة، وأن يسدد رميهم، وأن يثبت أقدامهم، وأن يسدد سهامهم، وأن يجمع على الحق قلوبهم، وأن ينصرهم بنصره المبين، كما نسأله جل وعلا أن ينزل سخطه ورجزه وعذابه على كفرة أهل الكتاب، و أن يسلط عليهم ما لا يستطيعون الخلاص منه، و أن يجعل تدبيرهم تدميرهم، و أن يدخلهم في ردغة الخبال، و أن يسل عليهم سيف الذل والوبال، وأن يعجل بعقوبتهم، وأن يضربهم بسوط عذاب من عنده عاجل، وأن يأخذهم بأخذه الوبيل، وأن لا يرفع لهم رايةً، وأن لا يحقق لهم غايةً، وأن يجعلهم لمن خلفهم آية، وأن يخرجهم من بلاد المسلمين صاغرين مهزومين.
نسأل الله تعالى أن يطهر الأقصى من رجز اليهود، وأن يرزقنا فيه صلاةً قبل الممات، وأن يرينا في اليهود ما يسرنا ويسوؤهم، وأن ينصرنا عليهم نصراً عاجلاً، و أن يرد كيد الذين آزروهم وساعدوهم في نحورهم، وأن يشتت شملهم، وأن ينزل بهم القوارع والمثلات، و أن يحقق ما وعدهم، فقد قال تعالى: وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ [الرعد:31].
نسأل الله تعالى أن يسلط على اليهود وكل من والاهم المثلات، وأن ينزل بهم رجزه وسخطه وعذابه، وأن يفرق شملهم، وأن يخالف بين رأيهم، وأن يشتت جموعهم، نسأل الله تعالى أن يقتل كبارهم وصغارهم، وأن يقتلهم بدداً، وأن لا يغادر منهم أحداً، وأن ينزل بهم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
السؤال: هذا السؤال يقول: قال لي أحدهم: إن لإسرائيل حق تاريخي في فلسطين في أرض الشام، و أنه كان لهم فيها دولة، ولم أستطع عليه الرد، ومما زاد على نفسي أنني قرأت أن إسحاق عليه السلام عاش عمره كله فيها، أفيدونا؟
الجواب: إن بني إسرائيل لم يكونوا من أهل فلسطين، ولا من أهل الشام، بل أنتم تعرفون أن إبراهيم عليه السلام وهو أبونا وأبوهم كان من أهل العراق، من أهل كوثا، وقد خرج مهاجراً إلى الشام، فهو مهاجر، ووجد أهل الشام فيها، ثم بعد ذلك هاجر إسرائيل وأولاده فاستقروا بمصر؛ لأن الشام ليس أرضاً لهم، وهنا ذكر السؤال عن إسرائيل، فاستقروا بمصر ومات بها إسرائيل وهو يعقوب عليه السلام، ومات فيها أولاده الاثنا عشر وهم الأسباط جميعاً ماتوا بمصر، ومضوا على بني إسرائيل فيها وقد سلط الله على ذراريهم فرعون فسامهم سوء العذاب، كان يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم، ثم بعد ذلك لما أنقذهم الله بـموسى عليه السلام، وأمره أن يخرجهم من مصر، كتب الله عليهم أن يدخلوا أريحا في الشام في فلسطين، فامتنعوا من دخولها، وقالوا: إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ [المائدة:22]، فقال رجلان منهم: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23]، فقالوا: أقبح ما قيل في الاعتذار قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، فكتب الله عليهم التهيه أربعين سنةً يتيهون في الأرض، مات الكبار الذين تعودوا على حياة الذلة والمسكنة، ونشأ جيل صغار، نشئوا في حياة الشظف والارتحال، فهم الذين استطاعوا الجهاد، فكان بنو إسرائيل ضيوفاً في الشام ليسوا من أهلها في أي عصر من العصور، ولكن كتب الله لهم دولتين كما قال الله تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ [الإسراء:4]، والأرض المقصود بها الأرض المقدسة وهي أرض الشام، لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا [الإسراء:4-8]، فالأرض لله ليست للبشر، وهو يورثها من يشاء، وقد أورث الأرض هذه الأمة، أورثها محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته، وقد ثبت عن رسول صلى الله عليه وسلم من حديث ابن جبير بن المطعم عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لي خمسة أسماء: فأنا محمد، و أنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب )، والعاقب معناه: الذي يرث الأرض ويفتحها، فهو يعقب أهلها فيها بأن يخلفهم، فالأرض المقدسة أعطاها الله هذه الأمة، وملكهم إياها، والله هو مالكها، إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [الأعراف:128]، وأهل فلسطين الذين كانوا فيها قبل هجرة اليهود إليها أيضاً أولى بها من اليهود، واليهود حقق الله لهم هذا الوعد فقامت دولتهم الأولى كما ذكرنا عند جهاد داود و سليمان وتطاول ملك الملوك من بني إسرائيل في بلاد الشام فأفسدوا، وأذاقوا أهل الأرض سوء العذاب، فسلط الله عليهم بختنصر والبيزنطيين، فجاسوا خلال الديار، وكان وعداً مفعولاً، وكثير من المفسرين يفسرون هذه الآيات على غير وجهها الذي يشهد الواقع به، ويشهد به التاريخ أيضاً، فالضمائر تتداخل، ونحن نفهم هذه الآيات على غير ما فهمها عليه المفسرون، فهنا قوله تعالى: ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ [الإسراء:6]، الذي نفهمه نحن أن الخطاب للمسلمين لا لليهود، ثم (رددنا لكم) أيها المسلمون (الكرة عليهم) على الروم وفارس، الذين سلطهم الله على بني إسرائيل، لم يقع في التاريخ أن اليهود كانت لهم الكرة على الروم وفارس، ما غلبوا بختنصر ، ولا غلبوا الفرس، ولا غلبوا البيزنطيين أبداً، ولا يمكن أن يأتي الوعد كاذباً، فالوعد إذاً للمسلمين لا لليهود، ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا [الإسراء:6]، فهذا كله خطاب للمسلمين، فلم يكن اليهود قط أكثر نفيراً من الروم وفارس أبداً، لم يكونوا أكثر من البيزنطيين ولا من الفرس، إنما كان هذا للمسلمين، وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [الإسراء:6-7]، هذا تاريخ المسلمين فيه إحسان وإساءة، فإذا أحسنوا فتح الله لهم البلدان، وإذا أساءوا حصل التقلص والنقص، فإذا جاء وعد الآخرة أي: وعد قيام الدولة الثانية ونهايتها، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ [الإسراء:7]، أي: ليسوء اليهود وجوهكم معشر المسلمين وقد فعلو، وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ [الإسراء:7] المسجد الأقصى، كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا [الإسراء:7] أي: ليهلكوا ويهدموا ما علوا (ما) هنا يمكن أن تكون موصولة نسبياً، ويكون العائد محذوفاً، وتقديره: ليتبروا ما علوه تتبيراً، والعائد إذا كان ضميراً موصولاً بفعل متصرف فإنه يقاس حذفه، ويمكن أن تكون (ما) موصولاً حرفياً نائباً عن ظرف الزمان، ويكون المعنى: ما علوا، أي: مدة علوهم، أي: مدة ملكهم، لِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا [الإسراء:7]، ثم جاء الخطاب للمسلمين: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ [الإسراء:8]، وذلك بالتمكين للمسلمين وفتح بيت المقدس، وجلاء اليهود من الشام في الحرب الأولى، فلهم حربان هنالك:
الحرب الأولى قبل نزول المسيح بن مريم، وقبل خروج الدجال ، يقاتل فيها المسلمون اليهود، والمسلمون معسكرهم شرقي نهر الأردن واليهود غربيه، وقد قال: نهيك السكوني وهو راوي هذا الحديث: وما أدري ما الأردن يومئذ؟ وحينئذ يفتح بيت المقدس وفتحه خراب المدينة، وخراب المدينة فتح رومية فتح روما، ويخرج الدجال في الثامنة، أي: في السنة الثامنة بعد ذلك، ثم بعد ذلك الحرب الثانية هي أن يجتمع فلول اليهود بعد أن يشرقوا من أرض فلسطين إلى جهة العراق وإيران فإنهم سيجتمعون على الدجال ؛ لأنه يخرج خلةً بين الشام والعراق فعاث يميناً وعاث شمالاً، فيجتمع عليه فلول اليهود، وفي مقدمته سبعون ألفاً من يهود أصفهان على رءوسهم الطيالسة، فإذا اجتمعوا ذهب بهم إلى المدينة فلم يستطع أن يدخلها، ونزلت مسالحه بسباخها، وصعد هو على جبل من جبالها فيرى المسجد فيقول: ذلك القصر الأبيض قصر محمد، ثم يرجع إلى الشام، وينزل المسيح ابن مريم عليه السلام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق يمينه على ملك، وشماله على ملك وقت أذان الفجر كأنما خرج من ديماس، إذا رفع رأسه تحدر منه الجمان، وإذا طأطأه تقاطر، لا يحل لكافر أن يجد ريح نفسه إلا ذاب كما يذوب الملح في الماء، وإن نفسه ليبلغ ما يبلغ بصره. هذا سلاح الدمار الشامل، تنفس المسيح ابن مريم عليه السلام، فيقتل المسيح الدجال برملة لد أو بباب لد، وهو الآن مطار تل أبيب، وحينئذ يتكلم الشجر والحجر: يا عبد الله! يا مسلم! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود، هذه الحرب الثانية، وسيكسر الصليب فيها، وتسقط الجزية، ويقتل الخنزير، كل ذلك على يد المسيح ابن مريم ومن معه من المؤمنين، فإذاً عرف أن الدعوة التي ادعاها صاحبك ليس لها أي أساس لا من تاريخ، ولا من واقع، ولا من وحي.
السؤال: ما حكم قتل نساء وصبيان العدو الصهيوني؟ وهل هو من المعاملة بالمثل؟
الجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء إلا إذا قاتلن، وعن قتل الصبيان، وعن قتل الرهبان، وعن قتل الشيوخ العجزة إلا من كان منهم له رأي في الحرب، فلا يقصدون لذواتهم، وأما إذا ضربوا في قلعة أو ألقي صاروخ على مدينة فأصابهم فلا حرج؛ لأنهم يبعثون على نياتهم، ولم يقصد أشخاص بأعيانهم، وإنما قصد أهل بلدة، وإثارة الرعب فيهم مقصد شرعي بأية وسيلة تحقق فذلك كاف، كما ضرب عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المنجنيق على أهل اليمامة وفيها النساء والأطفال، ولم يستهدفوا النساء والأطفال إنما قصدوا من بداخل الحصن.
السؤال: ما حكم تفجير المجاهد نفسه داخل العدو الإسرائيلي؟
الجواب: أنه وسيلة من وسائل الجهاد، والجهاد واجب، وما لا يتم الواجب إلا به واجب، فإذا لم يجد الإنسان وسيلةً للجهاد إلا ذلك تعينت، فإن الله حرم أن يقتل الإنسان نفسه ولكنه ذكر علةً لذلك الحكم والحكم يدور مع العلة حيث دارت فإنه قال: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا [النساء:29-30]، ومفهوم الآية: أن من فعل ذلك إيماناً واحتساباً فله الجنة؛ لأنه هنا قال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا [النساء:30]، هذه العلة المفعول لأجله علة قطعاً إجماعاً، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا [النساء:30]، ومفهومه واضح جداً.
السؤال: ما حكم رفع اليدين في القنوت؟
الجواب: أن القنوت في الفريضة لم يرد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم رفع اليدين، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، فالأصل أن يقتصر الإنسان على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أعرف أي حديث لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف في أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في الدعاء في الصلاة، لا في الوتر، ولا في الفجر، ولا في أي قنوت من القنوت، ورد عن عمر بن الخطاب في سنن الدارقطني : أنه كان يرفع يده في الصبح فوق رأسه ويقول: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إنا نستعينك ونستغفرك.
وقد أخرجه البيهقي أيضاً في السنن، وهو أثر موقوف على عمر رضي الله عنه.
وأما قنوت الوتر فلم يرد عن أحد من الصحابة رفع اليدين فيه، وإنما ورد عن واحد من التابعين وهو إبراهيم النخعي أخرجه عنه عبد الرزاق في مصنفه، و ابن أبي شيبة ، فالأصل عدم ذلك؛ لأن الصلاة توقيفية في الأصل، وأصلاً يفعل فيها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم روي عنه عدد من الهيئات في ركن من الأركان فلا حرج في أي هيئة فعلتها، وما لم يرد عنه فلا خير فيه.
السؤال: ما حكم المظاهرات والاحتجاجات المؤيدة لإخواننا في غزة؟ وهل هناك أثر يدل عليها من السنة؟
الجواب: أن التعبير عن مناصرتهم وولائهم واجب، فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَهمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:51-56].
وما لم يرد نهي فيه، ولم يتحقق المطلوب إلا به تعين، وأما الآثار فقد ورد ما يدل عليها كخروج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من دار الأرقم في مسيرتهم إلى الكعبة، وقد خرجوا صفين يقود أحدهما حمزة بن عبد المطلب ، ويقود الآخر عمر بن الخطاب عند إسلامه، وهذا تظاهر وإعلاء لكلمة الله، ونصرة لدينه، ومثل ذلك الخروج إلى العيد فهو سنة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بإخراج العواتق والحيض وربات الخدور يشهدن الخير، ويكثرن سواد المسلمين، فتكثير سواد المسلمين لا يقع في البيوت، وحتى في المساجد لا يقع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى الصحراء لإظهار هذه الشعيرة، هذا الخروج هو الذي يرهب العدو، فإذا خرج الناس في الشارع، وخرج العواتق والحيض وربات الخدور، وخرج أنواع الناس، فإن ذلك فيه تكثير لسواد المسلمين، وزيادة لأعدادهم، وإرهاب لعدوهم، وقد أمر الله بإرهابهم بكل وسيلة، وَأَعِدُّوا لَهمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، وهذا المستطاع، فما يستطيعه الإنسان من إظهار القوة يجب عليه، وأنتم تعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء في عمرة القضية أمر أصحابه أن يرملوا في الأشواط الثلاثة الأول، وأن يضطبعوا ليروا المشركين من أنفسهم قوةً وقال: ( رحم الله امرأً أراهم من نفسه اليوم قوة )، فكان ذلك سنةً إلى اليوم في طواف القدوم، ومثل ذلك الإضرابات ونحوها من الاحتجاجات، وقد ثبت أن الإمام مالك بن أنس رحمه الله ترك التدريس والتكلم في العلم حينما عطل حد من حدود لله، وذلك أن بيتاً من أهل المدينة كان فيه شيخان كبيران ولهما ولدان، فالولد الكبير كان عاقاً بهما، والولد الصغير كان براً بهما، فكانا يحبان الولد الصغير ويكرهان الكبير، فحسده الكبير، فذهب به إلى جب في المدينة فرداه فيه فقتله غيلةً، فأخذ فأقر بقتله أخاه، فلما أراد أمير المدينة أن يقتله جاء والداه فقالا: ليس لنا ولد سواه فنحن نسامحه ونعفو عنه، لا نريد أن يقتل ولدانا، فقال مالك : يجب الحد لأنه قتله غيلةً، وليس لهما حق في دمه؛ لأن الغيلة ليس لولي الدم حق فيها، فلما امتنع أمير المدينة من أن يقتله قال مالك : والله لا أتكلم في العلم حتى يقتل، فتحركت المدينة كلها حتى قتل، فكان ذلك إضراباً ولو في صورة إضراب عن واجب، فيجب عليه أن يتكلم في العلم، وما أراد الإعراض عن ذلك مطلقاً، لكن أراد الضغط عليهم، والضغط يحصل بهذا، وهو يعلم أنه ستترتب عليه النتيجة.
ومثل ذلك ما فعل العز بن عبد السلام لما خرج من مصر على حمارين جعل على أحدهما كتبه وعلى الآخر امرأته، فخرج أهل مصر في أثره جميعاً مسيرةً عجيبة، فدخل الوزير على الملك وقال: على من تريد أن تكون ملكاً؟ فقد خرج أهل مصر كلهم في أثر العز بن عبد السلام ، فتبعه حتى رده واسترضاه.
السؤال: أهل الباطل من اليهود والنصارى يشتغلون بتخطيط لتدمير الإسلام وأهله، والمسلمون أهل الحق لا يعملون لنشر الحق إلا قليلاً، فما تعليقكم على ذلك؟
الجواب: أن الله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36].
فهذا محفز للمسلمين ليبذلوا على الأقل ما يبذله هؤلاء، فإذا عرفنا أن اليهود دينهم الذي ينصرونه بأنفسهم، ويريدون بناء دولة إسرائيل الكبرى من أجله، ويضحون من أجله بالبروتوكولات والدماء والأموال مبناه على أن الرب فقير وبخيل وضعيف، تصارع مع يعقوب فصرعه يعقوب وخنقه، فشرط عليه أن لا يعذب أحداً من ذريته إلا أياماً معدودات، من يقتنع بأن الرب الذي يعبده فقير وبخيل وضعيف لماذا يعبده؟ رب لا يعطي شيئاً يده مغلولة، وهو فقير لا يملك شيئاً وهم أغنياء، وهو ضعيف يصرع ويخنق لماذا يعبد إذاً؟ هذا مبنى عقيدة اليهود، كلهم يعتقدون هذا، وكذلك النصارى وما يبذلونه الآن من أجل دينهم، والمجلس العالمي للكنائس ميزانيته كبيرة جداً، مع ذلك دينهم مبناه على أن الواحد ثلاثة، وأن الثلاثة واحد، وأن الرب لما تكاثرت عليه ذنوب عباده أنزل لهم ولده الوحيد الذي هو هو ليقتلوه ويصلبوه فيكون ذلك تكفيراً لسيئاتهم.
السؤال: هل قتل ولد الرب تكفيراً للسيئات أو زيادة فيها؟
الجواب: هذا لا يقتنع به مجنون، وهو مناف للعقل والفطرة، ومع ذلك هو الذي يضحون من أجله ويبذلون، فجدير بنا نحن ونحن على الحق الذي لا ريبة فيه ولا مرية أن نبذل مثلما يبذلون.
السؤال: هذا يقول: ما القول فيمن يقول: إن قوتنا لا تكفي، فيمكن للأمريكان تدمير البلاد ومرافقها قبل أن نصل إلى غزة للجهاد؟
الجواب: هذا هو الخنوع والمذلة والهوان.
من يهد يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام.
في بلادنا خرج نفر يسير سبعة أشخاص في سرية ضد الفرنسيين، فلما طلعت الشمس التقى الجمعان فقال أحد السبعة: لا قبل لنا اليوم بهذا الجيش الكبير جيش النصارى، فرفع رجل كبير السن عمامته عن رأسه وقال: أليس لهم أرواح ويخافون عليها؟ قال: بلى، قال: فما لأرواحنا يخاف عليها وأرواحهم لا يخاف عليها؟ فثبتوا ونصروا عليهم، والله تعالى حكى حكاية إقرار، فقال: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249]، وما تساوي أمريكا في قدرة الله جل جلاله، إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:41]، (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ))[الحج:65]، وقد ذكرنا أخذه الوبيل للأمم السابقة، فهل أمريكا خير من عاد وثمود وقوم نوح وقوم لوط وقوم موسى ؟ فهذا النوع من التفكير إنما هو من عمل الشيطان، ولا بد إذا أحس به المسلم أن يراجع إيمانه، وأن يكثر من الاستغفار؛ ليزيل عنه رجز الشيطان.
السؤال: هذا السؤال عن الجهاد في أفغانستان والعراق؟
الجواب: نعم، الجهاد في كل جهة يغزو فيها الكفار المسلمين، ويحتلون فيها أرضهم، وهو يجب على أهلها أن يدفعوهم، ويجب على غيرهم أن يساعدوهم، ولكن المتعين منه هو ما يكون في أهم جهة، ففي كتب الفقه الجهاد في أهم جهة، وأهم جهة الآن للمسلمين هي غزة، وقد سمعنا كلام أهل أفغانستان وأهل العراق، وتمنيهم الوصول إلى غزة وجهادهم عن أهلها، فأهم جهة الآن هي بلاد فلسطين وما يحصل فيها، ثم بعد ذلك هذه البلاد الأخرى، ولا يشغل بعضها عن بعض، يلزم أن يتركوا من يجاهد العدو هنالك، ولكن يلزم أن تكون قوة المسلمين الكبرى ومالهم وسياستهم متجهةً الآن إلى هذه الأزمة الخانقة، فإذا تجاوزها ذهبوا إلى أهم جهة بعدها.. وهكذا.
السؤال: هذا السؤال عن حكم الروافض؟ وما الذي يجب علينا فعله، وقد رأيناهم في يوم عاشوراء يمارسون بعض الطقوس الغريبة إلى آخره؟
الجواب: أن الروافض معناهم: الشيعة الذين يرفضون إمامة أبي بكر و عمر و عثمان ، فليس كل الشيعة روافض، فمن كان يرفض إمامة أبي بكر و عمر و عثمان فهو رافضي، ومن لم يكن كذلك لا يدخل في اسم الروافض، وأصل خلاف الشيعة ونشأته كان خلافاً سياسياً، فقد اختلف المسلمون في أيام عثمان رضي الله عنه في آخر أيام عثمان في شأن السياسة والحكم على ثلاثة أقوال، فذهب بعضهم إلى انحصار الخلافة في أسرة واحدة وهي أسرة علي بن أبي طالب ، وهذا مذهب الشيعة في البداية، وهو الذي يمثله الكميت بن زيد في قوله:
ألا إن الأئمة من قريش ولاة الحق أربعة سواء.
علي والثلاثة من بنيه هم الأسباط ليس بهم خفاء.
فسبط سبط إيمان وعدل وسبط غيبته كربلاء
وسبط لا يذوق الموت حتى يقود الخيل يقدمها اللواء
تغيب لا يرى عنهم زماناً برضوى عنده عسل وماء
والمذهب الثاني: الذين عمموا الخلافة في المسلمين جميعاً وهم الخوارج، ولذلك يقول أحدهم:
ألم تر أن الله أظهر دينه فصلت قريش خلف بكر بن وائل.
والمذهب الثالث: هو المذهب المتوسط والذي حصر الخلافة في قبيلة واحدة وهي قريش، وهذا مذهب أهل السنة ، ثم بعد ذلك أطرت المذاهب فأصبح مذهب التشيع مربوطاً بعقائد وأدياك وملل، وليس ملةً واحدةً ولا مذهباً واحداً، فجاء أفكار غريبة عن المسلمين أصلاً مثل فكرة الرجعة وهي الرجوع إلى الحياة بعد الموت في الدنيا قبل البعث، وهذه فكرة منافية للقرآن؛ لأن الله يقول: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:100-101].
ثم جاءت فكرة تكفير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا عدداً لا يحصل بهم التواتر لشيء، فيكون القرآن غير متواتر، ومن هنا يمكن ادعاء أن بعض القرآن حذف أو كتب.
ثم جاءت بعد ذلك فكرة عصمة الأئمة وهي خطر أيضاً، فمن المعلوم أن ( كل الناس خطاءون، وخير الخطائين التوابون )، وأنه لا وحي بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عصمة لأحد بعده، وجاءت بعد ذلك فكرة عداوة أهل السنة، واستباحة دمائهم وأعراضهم، ومعها كثير من البدع مثلما يحصل في يوم عاشوراء مما ذكره الأخ، فيوم عاشوراء يوم أنجى الله فيه موسى من فرعون وجنوده، وقد صامه النبي صلى الله عليه وسلم، وصامه أصحابه؛ شكراً لله على نجاة موسى: ( نحن أولى بـموسى من اليهود )، وهو يكفر ذنوب سنة، وقد قتل فيه الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما مظلوماً هو وسبعون من آل بيته قتلوا بكربلاء مظلومين ظلماً عدواناً، وكان قتلهم كارثةً وجريمةً شنعاء في التاريخ، والذين قتلوهم رفع عليهم السيف فقتلوا وقطعوا، ولم ينج منهم أحد تقريباً، لم يعرف أحد شارك في قتل الحسين إلا وقد قتل، وقد رأت أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها يوم عاشوراء بالمدينة وهي صائمة في وقت الظهيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده قارورة فقالت: يا رسول الله! ما تفعل بها؟ قال: أجمع بها دم الحسين ، أي: رؤيا في المنام، فعرفت أنه قتل.
وهذه الجريمة لا تبيح مخالفة الشرع، ولا منابذته، ولا الاعتداء على من فيها، وهي جريمة مختصة بمن اقترفها وفعلها، ولم يرض بها أهل السنة، ولا أحبوا من فعلها، ولا رضوا بذلك أبداً، ولا ناصروه، وهم يكرهونها ويكرهون من فعلها، ويبرءون إلى الله، فكيف تعد عليهم؟ وكيف تحسب عليهم وهم لم يشاركوا ولم يفعلوا، ولم يقروا ولم ينصروا؟
وأيضاً ما يقع فيها من ضرب الخدود، وشق الجيوب، وأعمال الجاهلية التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كله من البدع المضلة، وقد سرى إلى بعض أهل السنة أيضاً أمور مبتدعة تحصل بين أهل السنة، ليست من شأن الروافض ولا من شأن الشيعة أن تحصل في السنة، يرون أن التوسعة على العيال، وزيارة العلماء، والمسح على رءوس اليتامى، والتكحل، وأمور أخرى يعدونها اثنتا عشرة خصلةً قد نظمها علي الأجهوري رحمه الله في قوله:
في يوم عاشوراء عشر تتصل بها اثنتان ولها فضل نقل
صم صل.. إلى أن يقول:
ولم يرد منها سوى اثنتين صوم وإطعام بدون مين.
أما الصوم فصحيح ورد وثبت، وأما الإطعام الذي ذكره فلم يرد، والحديث الذي فيه موضوع وهو: أن من وسع على عياله لم يزل في عيشة مرضية. الحديث موضوع، وقد نظمه بعض العلماء، فقال في ذلك:
صيام عاشوراء أتى فضله في سنة محكمة ماضية
ومن يوسع يومه لم يزل من عامه في عيشة راضية
لكن الحديث الموضوع لا يحتج به، فهذه الأمور التي دبت أيضاً إلى أهل السنة هي من بقايا ورواسب البدعة التي لا بد من إزالتها، ويوم عاشوراء يصام شكراً لله على نجاة موسى ، وإذا تذكرنا ما حصل للحسين بن علي وآل بيته فإننا والله نحزن لذلك، ونكره من فعله، ونكره هذا الفعل الشنيع، ونحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته ونعزهم ونجلهم ونواليهم، ونبرأ إلى الله سبحانه وتعالى ممن ظلمهم أو اعتدى عليهم، ولكن لا يحملنا ذلك على مخالفة السنة.
أقول قولي هذا وأستغفروا الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر