إسلام ويب

الأخوة في الدينللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أقام النبي صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام، ووطد فيها بين المسلمين بروابط الأخوة في الدين، فصاروا كالجسد الواحد، لا يفل حدهم الأعداء، ولا تجافي ألفتهم الشحناء والبغضاء، وضربوا أروع الأمثلة في التضحية والفداء، فما أحرانا بأن نقتدي بهم، وخاصة في عصرنا الحاضر.

    1.   

    المبادئ والأصول التي بنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة المؤمنين

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بُعث رحمه للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    نحمد الله تعالى الذي جمعنا مرةً أخرى في هذا المكان المبارك في هذه الأيام المباركة التي هي أعظم أيام السنة، وما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله منه في هذه الأيام، وهذا فضل عظيم للمرابطة في المسجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة ومحاولة تدارس ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله من القرآن والسنة، ولا بد لمن يستحضر هذه المعاني من الإخلاص لله ومن حضور النية لأن لا يضيع العمل، فإن كثيراً من الأعمال يُحبطها الله وتذهب حين لا يكون أصحابها مخلصين لله، وحين لم يقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحققوا نيتهم في ذلك، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرءٍ ما نوى )، وقد أخرج مالك في الموطأ ( من خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانماً ).

    أما الموضوع الذي طُلب الحديث فيه فهو موضوع مهم من الأصول والمبادئ التي بنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعته عندما آمن به المؤمنون الذين اختارهم الله له في مكة، فإنه صلى الله عليه وسلم بنى عمله على خمسة أركان:

    مبدأ الربانية

    الركن الأول: الربانية، وهي الاتصال بالله تعالى وقصد وجهه الكريم والتوكل عليه بالشأن كله، وعدم الاعتماد على النفس والبراءة من الحول والقوة، فالاتكال الكامل على الله سبحانه وتعالى داخل في نطاق الربانية.

    مبدأ التربية وأنواعها

    والأصل الثاني من هذه الأصول الخمسة: هو التربية، فقد ربى الذين آمنوا به بمكة تربية مغايرة لما كان عليه المجتمع، وهذه التربية تشمل ثلاثة أنواع:

    تشمل التربية العقلية بزيادة العلم، والتربية الروحية بزيادة التقوى وحسن الخلق، والتربية البدنية بزيادة التحمل والخبرة والمهارة.

    مبدأ الإخاء ونماذج منه

    ثم بعد ذلك الركن الثالث من هذه الأركان: هو الإخاء، فقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين به إخاءً عظيماً جعلوه عوضاً عمن كان يؤازرهم من ذويهم وأقاربهم.

    فهذا مصعب بن عمير رضي الله عنه لما أسلم به في ذلك الوقت وشحنه الله بهذه الشحنة الإيمانية كانت أمه من تاجرات مكة الغنيات، وكانت تنفق عليه إنفاقاً بدون محاسبة، وكان أجمل فتىً بمكة، فلما أسلم آذته أمه وحبسته بين أربعة جدران، وسلطت عليه رجالاً يجلدونه وينشرونه بالحديد، فلم يصده ذلك عن دينه، وقالت له: أنا أمن الناس عليك فقد أعطيتك وأعطيتك، فقال: كلا والله فأمن الناس عليّ من هداني الله به من الضلالة وأنقذني به من النار(يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم).

    وهذا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يقول لأمه وهي قد أضربت عن الطعام والشراب لما أسلم قال لها: يا أماه لو كان لكي مائة نفس فخرجت نفساً بعد نفسٍ على أن أرجع عن هذا الدين ما رجعت عنه.

    وكذلك غيرهم من الذين خرجوا، فهذه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط و حمنة بنت جحش رضي الله عنهما تحملان قربة فيها ماء مهاجرتين من مكة إلى المدينة مهاجرتين إلى الله ورسوله ليس لهما زاد إلا ماءٍ في قربة تحملانها.

    فهذا الإخاء استمر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد آخى بين المهاجرين أنفسهم وبين المهاجرين والأنصار وبين الأنصار أنفسهم، وكانوا يتوارثون بإخوة الإسلام في أول العهد حتى أنزل الله تعالى: وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا [الأحزاب:6]، وذلك أن الله سبحانه وتعالى قسم التركات، فقال: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ [النساء:7]، فجعل لأخوة الدين سهماً آخر وهو الوصية، فقال: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا [الأحزاب:6]، وهذا المعروف هو الوصية، فكانوا يوصون لهم كما في حديث ابن عباس في صحيح البخاري : ( كان المهاجري يرث الأنصاري والأنصاري يرث المهاجري بإخوة الإسلام، حتى نزل: (( وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ )) قال: فكانوا يوصون لهم ).

    وهذا الإخاء الذي رباهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حصل به اندماج كامل فذهبت عنهم عادة الجاهلية وتفاخرهم بالآباء، وأصبحوا جمعياً يوقنون أنه لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى، الناس سواسية كأسنان المشط، أكرمهم عند الله أتقاهم، وتفاضلهم إنما هو بتقوى الله جل جلاله والتقرب إليه.

    مبدأ الأخذ بالأسباب

    ثم بعد ذلك الركن الرابع من هذه الأركان: هو الأخذ بالأسباب، فلم يترك النبي صلى الله عليه وسلم أي سببٍ يؤدي إلى النصر إلا أعمله، سواءً كان معروفاً عند أهل مكة أو كان منقولاً من حضارة أخرى، فكتب إلى كل جبارٍ يدعوهم إلى الإسلام، وأخرج السرايا والبعوث وخرج هو في الغزوات، وسابق بين الخيل المضمرة، وعلم أصحابه كثيراً من أنواع الحرف الحربية، وكذلك استورد فكرة الخندق من حضارة فارس وفكرة الخاتم من حضارة الروم، وفكرة المنبر من حضارة الحبشة.

    والركن الخامس من هذه الأركان: التدرج والمرحلية، فلم يُقدم النبي صلى الله عليه وسلم على مغامرة ولا على مخاطرة قط، ففي العهد المكي مكث ثلاثة عشرة سنة هو وأصحابه يتحملون أنواع الأذى في الأنفس والأموال وبالأقوال وبأنواع الأذى في كل شيء، وصُودرت حرياتهم وحُوصروا لمدة ثلاث سنوات في الشعب، ومع ذلك لم يكسر أي صنم ولم يقتل رمزاً من رموز الشرك بمكة، وكان قادراً على ذلك فكان معه في دار الأرقم أربعون هم خيرة رجال مكة، وكانت دار الأرقم على الصفا وعلى الصفا صنم اسمه "إساف"، وعلى المروة صنم اسمه "نائلة"، فلم يكسر النبي صلى الله عليه وسلم أي صنم من هذه الأصنام.

    بل الأغرب من ذلك أنه في عمرة القضية وكانت في ذي القعدة من العام السابع من الهجرة خرج له المشركون عن مكة ثلاث ليالٍ فدخلها هو وأصحابه آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين كما وعدهم الله ذلك، ولم يبق معهم فيها مشرك، وكان يطوف بالبيت وعلى البيت إذ ذاك ثلاث مائة وستون صنماً، فلم يكسر منها صنماً واحداً، وكان كلما ازدادت الطاقة يزداد الإنتاج، فعندما بلغ المقاتلون من أصحابه ثلاث مائة كانت معركة بدر، وعندما بلغوا عشرة آلاف كان فتح مكة، وعندما بلغوا ثلاثين ألفاً أو سبعين ألفاً دانت الجزيرة العربية كلها لدين الله، وخرج إلى الروم في غزوة تبوك، فكلما ازداد العدد وازدادت الطاقة ازداد الإنتاج والتوسع في نصرة دين الله ونشره.

    مبدأ التخطيط والكتابة

    وقد اعتمد كذلك التخطيط والكتابة كما في صحيح البخاري من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أحصوا لي من دخل في دين الله )، وفي رواية: ( اكتبوا لي من نطق بالإسلام، فقلنا: يا رسول الله! أتخاف علينا ونحن ما بين ألف إلى ألف وخمس مائة؟ )، فهم يظنون أن هذا بمجرد الخوف عليهم، وليس الحال كذلك بل إن القائد لا يمكن أن يعلن الحرب في عدة جبهات حتى يعرف عدد أفراده ومن يقاتل معه، ولا يمكن أن يُقدم على خُطة حتى يعرف من لديه من المستعدين؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم امتحن أصحابه في الاستعداد، ففي صحيح البخاري : أنه كتب لـابن جحش كتاباً وناوله إياه مختوماً، فقال: ( اذهب أنت ورهطك ) أي الصحب الذي عينهم معه ( حتى تصلوا إلى بطن نخلة أو إلى مكان كذا وكذا، ثم افتح الكتاب فأنفذ ما فيه ) فذهب ابن جحش وأصحابه بالكتاب المختوم لا يدورن ما فيه، طاعة لله ورسوله، وانقياداً تاماً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى وصلوا إلى المكان الذين عينه لهم ففكوا الكتاب فلما قرأه ابن جحش استرجع معناه قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم قال: أما أنا فصائر إلى ما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أراد أن يسير معي فليفعل، فقالوا: والله لا نتخلف عنك، فخرج ابن جحش في سريته.

    ومثل ذلك امتحانه لـحذيفة ليلة أرسله إلى الأحزاب فعممه بعمامته وقال: ( لا تُحدث حدثاً حتى ترجع إليّ )، وأمره أن يأتيه بأخبار المشركين، فخرج حذيفة من الخندق بتسلق وصعوبة حتى وصل إلى المشركين في الليلة الظلماء، فبحث عن الخيمة الكبرى التي تجتمع فيها قيادتهم حتى دخل فيها، وبدأوا نقاشهم فشعروا أنه يمكن أن يكون فيهم من ليس منهم لأن الليلة ظلماء والرياح شديدة عاصفة، فقال لهم صاحب رأي منهم: ليمسك كل رجلٍ من يليه ويسأله من هو؟ فبادر حذيفة فأمسك من عن يمنيه ومن عن شماله، فقال الذي عن يمينه معاوية، وقال الذي عن شماله صفوان، ودارت الدائرة وبقي حذيفة لم يسأله أحد، ثم خرج بعد أن أعلنوا قرارهم بالانسحاب والهزيمة خرج فإذا أبو سفيان يركب بعيره كلما أراد أن ينهض رجع إلى الأرض، فأراد أن يطير رأسه بسيفه وهو في يده، فتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تُحدث حدثاً حتى ترجع إليّ )، فأمسك عن هذا القرار الذي ظاهر الأمر أنه مفيد جداً، ولكنه فقيه تفقه بتربية رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    الأخوة بين المؤمنين

    فهذه العناصر الخمسة التي ربى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وكونهم عليها بمكة منها عنصر مهم يسمى عنصر الإخاء، وقد ركزه الله بين المؤمنين في الدنيا وأخبر عن بقاءه في الآخرة، فقال تعالى: إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وقال تعالى: وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ [التوبة:71]، وبين أن هذا النسب نسب الدين أقوى من نسب الطين وأنه حاكم عليه، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَهمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ [التوبة:23-24].

    تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة للأخوة فيما بينهم

    وقد رسخ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الإخاء بينهم ترسيخاً عجيباً إذا نظرنا إلى أثره فيما بينهم رأينا العجب العجاب، فهذا سلمان الذي هو رجل من فارس يتدخل لـأبي الدرداء وهو رجل من الأنصار في شئونه الخاصة لأنه أخوه في الدين، فيدخل سلمان بيت أبي الدرداء فيرى أم الدرداء متبذلة لا تلبس جديداً ولا تطيب، فيقول لها: ما شأنكِ؟ كأنك محدة، أي كأنكِ في عدة، فتقول: إن أخاك أبا الدرداء يصوم النهار ويقوم الليل، فيأتي سلمان لتغيير هذه العقلية لدى أبي الدرداء، فيخرج معه من صلاة العشاء إلى بيته فيدخل أبو الدرداء مخدعه يريد أن يبدأ قيامه لليل كعادته، فيقول له سلمان: نم الآن، فلما كان نصف الليل أيقضه فقال: قم الآن، وهكذا في الصيام فيتدخل له في شئونه، فهي إخوة حقيقية.

    وإذا نظرنا إلى ترسيخ النبي صلى الله عليه وسلم لها بنفسه سنجده يعمل مع سلمان في زراعة النخل ليقضي دينه الذي كاتبه به اليهود، فيغرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده النخل هو وأصحابه ليحقق هذا الإخاء بنفسه، ويخدم الناس جميعاً، فكانت الأمة السوداء تأتيه فتأخذ بيده صلى الله عليه وسلم فتذهب به حتى يقضي لها حاجتها. ( ويأتي الأعرابي البادي فيجذبه بطرف ثوبه حتى يؤثر في صفحة عنقه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فيقول يا رسول الله! مر لي بشيء من مال الله الذي في يدك، فيبتسم ويقضي حاجته )، ( ويأتي رجل من الأعراب وقد أقيمت الصلاة وصُفت الصفوف وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيقف أمام الصف فيقول: يا محمد! علمني مما علمك الله، فينصرف إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من محرابه ويقف عنده ساعة يضع يده على منكبه ويعلمه ثم يرجع إلى محرابه ويحرم للصلاة ). ويأتي آخر وكان عهده بالناس يتكلمون في الصلاة كما كان ذلك مشروعاً في صدر الإسلام فيقف في الصف ويحرم بالصلاة فيعطس فلم يشمته أحد، ( فيقول: ما لكم لا تشمتونني؟ فيصمته الناس ويضربون أفخاذهم، فيقول: واثكل أمياه! ما لكم تصمتونني؟ فلما سلم دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فوضع يده على منكبي فوالله ما ضربني ولا كهرني ولا رأيت قبله ولا بعده معلماً أحسن تعليماً منه، فقال: إن هذه الصلاة لا يصلح لها شيء من كلام الناس، إنما هي لذكر الله وقراءة القرآن ). ويأتي أعرابي آخر فيبول في طائفة المسجد، فيرى أن المسجد مثل غيره حيث لا يُفرق الأعراب فيجلس في طائفة المسجد ليبول فيصيح الناس به، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تزرموه ) أي لا تقطعوا عليه بوله حتى يكمله، ثم يأمر بذنوب من ماء فيراق على بوله ثم يناديه فيقول: ( إن هذه المساجد لم تبن لهذا، وإنما بُنيت لإقامة الصلاة ). وهذا التعامل النبوي الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعامل به الناس كان يشمل به الكبير والصغير والذكر والأنثى والغريب والحاضر، فلم يكن أحد يشعر أنه غريب معه، كان الإنسان إذا رآه فجأة هابه فتداخله الهيبة والرعب، فإذا عرفه وجده ألطف الناس وأشدهم تواضعاً وأشدهم حياءً كما وصفه جابر : ( كان حياؤه أشد من العذراء في خدرها )، ولذلك ( كان يمر على الصبيان يلعبون فيسلم عليهم ويمسح على رؤوسهم )، ( ويمازح ولا يقول إلا الحق )، وهذا الإخاء ربى عليه أصحابه فتآخوا في ذات الله جل جلاله، وهم ربوا عليه كذلك أتباعهم من بعدهم، وتربى عليه أتباع أولئك فتسلسل في القرون الأولى من المسلمين، وأخذوا بلوازمه ومقتضياته، فهذا الإخاء يقتضي حقوقاً.

    أركان الإخاء بين المؤمنين

    فالإخاء يقوم على ركنين:

    هما إزالة الكلفة وتحقيق الألفة، فإزالة الكلفة معناه ألا يتظاهر الإنسان لإخوانه بما ليس فيه، لا يتظاهر بالغنى وهو فقير ولا يتظاهر بالفقر وهو غني ولا يتظاهر بالقوة والشجاعة وهو على خلاف ذلك، ولا يتظاهر بالحاجة وهو على خلاف ذلك.

    ثم بعد ذلك تحقيق الألفة: فلا بد من حصول الألفة بين المؤمنين.

    مقتضيات الأخوة بين المؤمنين وحقوقها

    وشُرعت لذلك أحكام كثيرة: كتسوية الصف ( عباد الله! لتسوّن بين صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم، لينوا في أيدي إخوانكم ).

    وكذلك الزكاة التي شرعها الله لتحقيق الإخاء لما فيها من التكافل الاجتماعي، وكذلك الصوم لأن الإنسان يحس فيه بمرارة الحرمان يرحم المرحومين إذا مُنع هو الطعام والشراب، وتذكر بطاقته واختياره تذكر المحاصرين في غزة و المسجونين في السجون الظالمة الآثمة وهم محرومون من غير قصدٍ منهم، وهكذا فيرحم هو ( ومن لا يرحم لا يُرحم )، وكذلك الحج فهو مؤتمر عام للمسلمين يجتمع فيه قاصيهم ودانيهم من مشارق الأرض ومغاربها ليحققوا هذا الإخاء، فيطلع بعضهم على أوضاع بعضٍ ويجد نفسه مع إخوانه في خندقٍ واحد يتألم لآلامهم ويفرح لأفراحهم، ويعلق أمله بآمالهم، فكل ذلك من مقتضيات هذا الإخاء.

    ومن مقتضياته حقوق الإخوة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تشمته إذا عطس، فمن حق المسلم عليه إذا عطس فقال: الحمد لله، أن يشمته فيقول: يرحمك الله! فيقول الآخر: يهديكم الله ويصلح بالكم، أو يقول: يغفر الله لنا ولكم.

    وكذلك عيادته إذا مرض، واتباع جنازته إذا مات، وكذلك إجابة دعوته إذا دعا، وكذلك من هذه الحقوق أيضاً حقوق الطريق العامة المشتركة بين الإخوة المسلمين جميعاً، وفيها يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس في صحيح مسلم : ( إياكم والجلوس في الطرقات، فقلنا يا رسول الله! ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها، فقال: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟! قال: غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر )، فهذه من الحقوق العامة التي يبذلها الإنسان للمسلمين جميعاً. كذلك من حقوقها ما يتعلق بالمال كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن رجلاً صاحب إبلٍ أتاه فسأله فقال: هل في إبلي حق غير الزكاة؟ فقال: نعم، إذا أوردت، معناه في يوم وردها، تحتلبها للمحتاجين على الماء وتعطي من أوبارها ومن ألبانها ومن لحومها ) فهذا حق غير حق الزكاة الواجب فيها، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( الناس شركاء في ثلاثة في الماء والنار والكلأ )، فهذه ثلاثة أمور تحقق حق الإخوة؛ لأن الناس يشتركون فيها جميعاً لا يمنعها أحدٌ أحداً، فالجالس على فضل الماء يمنعه من أبناء السبيل من الثلاثة الذين يخاصمهم الله جل جلاله يوم القيامة، وكذلك النار، فمن طلب ما يوقد به النار فذلك حقه ولا يستطيع أحد أن يمنعه منه، وكذلك الكلأ وهو نبات الأرض الذي أنبت الله فيها للبهائم فهذا حق مشترك ولا حمى إلا لله ورسوله، لا يمكن أن يُحمى منه مكان فيمنع إلا ما كان حمىً لله ورسوله -أي: مكان حفظ إبل الصدقة وخيل الجهاد في سبيل الله، فهذا مكان يمكن أن يحمى، ولكن ما سوى ذلك فلا يُحمى فيه.

    1.   

    أنواع الأخوات التي يتآخى عليها الناس

    وهذه الأخوة هي إحدى الأخوات التي يتعايش الناس بها، فالناس جعلهم الله لنفسٍ واحدة، ولو شاء لجعلهم كما ينبت الشجر كل منهم له أصله، ولكنه جعلهم جميعاً من أصلٍ واحد وهو آدم عليه السلام، فهو أب لأبيضهم وأسودهم وذكرهم وأنثاهم ولأولهم وآخرهم، لهم أب واحد يصدرون عنه جميعاً، مما يدل على أن نسبهم لا يمكن أن يقع به التفاضل، فهم جميعاً يرجعون إلى نسبٍ واحد، وكذلك مما يقتضي تراحمهم لأنهم في الأصل من أسرة واحدة تربوا في أحضانها، وقامت بشئونهم وتربيتهم وهي أسرة آدم و حواء، لكن الأخوات الأخرى التي يتأخى عليها الناس ستة:

    أخوة النسب

    الأخوة الأولى: أخوة النسب، فالأقارب قد يتعصب بعضهم لبعض ويعطيه أكثر من حقه وينصره ولو كان مظلوماً، ويدافع عنه بالباطل، وهذا قد كان من تعصب أهل الجاهلية ومن شأنهم، فقد كان البعض أهل نجدٍ عند بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وادعاء مسيلمة الكذاب الرسالة يقولون: (كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر) فهم يعرفون أنه كذاب ويقرون له بذلك، ولكنه من ربيعة فهو أحب إليهم من صادق مضر، لأن مضر وربيعة أخوان بينهما وبين ذريتهما تنافس وتكاثر، ومثل ذلك ما كان يقع من حمية الجاهلية وأبيتها، فهذا النوع من الإخاء وهو الإخاء على أساس النسب إخاء ضعيف؛ لأن أول عروة بشرية هي أسرة آدم حصل فيها الانقطاع بين أخوين وهما: هابيل و قابيل ، وتعرفون تنويه الله بهذه القصة وضربه للمثل بها، فقد قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة:27-30]، وهذا يدل على أن أخوة النسب قد تكون ضعيفة أمام المصالح وأمام الحسد، فيعقوب عليه السلام يقول ليوسف عليه السلام: يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا [يوسف:5]، وتعرفون ما حصل ليوسف عليه السلام مع إخوته، وهم أبناء الأنبياء وتربوا في حضن النبوة، ومن أفضل السلالات على وجه الأرض، وكذلك فإن كثيراً من الإخوة يقع بينهم الحسد والغيلة، وقد حصل ذلك في كثيرٍ من العصور واشتهرت قصة الفتى الذي كان براً لأبويه، وكان أخوه عاقاً بهما، وكانا في المدينة في أيام مالك بن أنس ، فكان الوالدان يكرمان البر ويجفوان العاق، فحسد العاق أخاه البر، فذهب به إلى بير فرداه فيها حتى مات، وكان ذلك غيلةً، فأفتى مالك بقتله فجاء أبواه فقالا: ليس لنا ولد سواه وقد مات ولدنا الآخر فلا نريد أن نفقدهما معاً، فتردد أمير المدينة في ذلك، فقال مالك: والله لا أتكلم في العلم حتى يقتل، فأضرب مالك عن الكلام في العلم فتحركت المدينة كلها حتى قُتل ذلك الشاب العاق القاتل، وهذا النوع كثير، وهو يدل على أن أخوة النسب ضعيفة.

    أخوة السبب

    الأخوة الثانية: أخوة السبب، وهي في أبلغ صورها تتجلى في النكاح، فالصهر جعله الله مع النسب: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا [الفرقان:54]، وله حق كحق النسب، كما أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي ذر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنكم ستفتتحون مصر وهي أرض يُنكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم نسباً وصهراً )، وهذه الصهارة لها أثر لا محالة لأنها سبب لجلب المودة، كما قال الله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21]، لكنها كثيراً ما تنقطع، وكم نرى من تفكك الأسر والطلاق المفاجئ بل والتحريم ومخالفة أوامر الشرع، كما قال ابن عباس للرجل الذي أتاه فقال: طلقت امرأتي مائة مرة، فقال: الثلاث تكفيك والباقي رد عليك وقد عصيت ربك وحمقت في تطليق امرأتك.

    والتفكك الأسري وبالأخص في هذا الزمان منتشر وكثير وهو من الظواهر التي تلفت الانتباه، فهذا يدل على أن الرابطة السببية كذلك ضعيفة.

    أخوة اللون

    الأخوة الثالثة: هي رابطة اللون، فالمشتركون في لونٍ واحد قد يتعصب بعضهم لبعض، ولكن ذلك أيضاً ضعيف لأن الأسرة الواحدة تختلف ألوان أولادها، فقد ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن امرأتي أتت بولد أسود يُعرض بقذفها، فقال: ألك إبل؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها؟ قال: حمر، قال: فهل فيها من أورق؟ قال: نعم، قال: فلمن تنسب ذلك؟ قال: لعله عرق نزعه، فقال: لعل ابنك هذا نزعه عرق )، فقلما يتحد الأخوان في لونٍ، وتفاوت الناس في اللون أمر راجع إلى التغذية وإلى البيئة وإلى ما يتعرض له الإنسان من أشعة الشمس، فليس له أي أساس يقتضي تعصباً؛ لأننا عرفنا أن الناس لأبٍ واحد وأمٍ واحدة، إذا اختلفت ألوانهم باختلاف البيئة أو باختلاف العمل أو السهر أو التعرض لأشعة الشمس فهذا ليس مدعاة للتفرقة ولا ليفخر بعضهم على بعض.

    أخوة الوطن

    الأخوة الرابعة: الوطن فهو أيضاً مما يتأخى عليه الناس، فكل قومٍ سكنوا وطناً وانتسبوا إليه فسيجدون في أنفسهم حزازة وحمية لذلك الوطن وأهله، ولكن هذه الأخوة أيضاً ضعيفة؛ لأننا نشهد من بداية التاريخ إلى الآن الهجرات الجماعية والفردية، بل هذا المجتمع كله مهاجر، فآدم و حواء أهبطهم الله إلى الأرض مهاجرين وليسا من أهلها في الأصل، وكل بلدٍ لاقى بالإنسان فإنه سيبحث عن متسعٍ يعيش فيه، كما قال الشنفرى:

    أقيموا بني أمي صدور مطيكم فإني إلى قومٍ سواكم لأميلُ

    فقد حمت الحاجات والليل مقمرٌ وشُدت لطيات مطايا وأرحلُ

    وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى وفيها لمن خاف القلى متعزلُ

    لعمرك ما في الأرض ضيق على امرأ سرى راغباً أو راهباً وهو يعقلُ

    ولي دونكم أهلون سيد عملس وأرقط زهلول وعرفاء جيئلُ

    هم الرهط لا مستودع السر ذائعُ لديهم ولا الجاني بما جر يُخذلُ

    وإنما يُحب الإنسان وطنه بسبب بعض المنافع التي أحرزها فيه، وبسبب الأنس الذي حصل له فيه، كما قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله:

    وحبب أوطان الرجال إليهمُ مآرب قضاها الشباب هنالكا

    إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهمُ عهوداً مضت فيها فحنوا لذلكا

    فهي ذكريات وعهود، وكثيراً ما يخرج الإنسان من وطنه فيجد في وطنٍ آخر ما يلائمه ويأنس به؛ ولذلك يقول الشيخ محمد سالم رحمة الله عليه:

    أزف الرحيل فقربا أجمالنا ثم المياه فقدما لرحالنا

    إنا إذا بلد جفا ونأى بنا حملت لآخر ندبنا أثقالنا

    وقد يألف الإنسان مكاناً ولا يألف ساكنيه أيضاً كما قال الشيخ محمد سالم حفظه الله وشفاه:

    قل النفوس وحبها أجناسها وبلادها واستجلبوا إيناسها

    نهوى أناساً ما تُلائم أرضهم ونحب أرضاً لا نلائم ناسها

    فإذا أتينا الأرض لم نتناسهم وإذا أتينا الناس لم نتناسها

    كالظبية الأدماء نغص عيشها ألا تضم قرينها وكناسها

    لم نسخ عن ذاك الخليط ولا نرى ذاك الخليط لفضله عن ناسها

    والتعلق بالأرض يحسبه بعض الناس من الدين، ويروون في ذلك حديثاً وهو: ( حب الوطن من الإيمان )، ولكن الصاغاني ذكر أن هذا الحديث موضوع، بل إن العجلوني في كشف الخفاء ذكر أن حب الوطن كثيراً ما يكون منافياً للإيمان، كالنفر الثلاثة من أولاد قريش الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم منعهم حبهم لوطنهم من الهجرة، فتوفتهم الملائكة ظالمي أنفسهم، وأنزل الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:97].

    أخوة المصالح

    والأخوة الخامسة هي: أخوة المصالح، فكثيراً ما يرتبط الإنسان بآخر على أساس العلاقة المادية، والمصالح المشتركة، فيقع بينهما إخاء وألفة بسبب ذلك، لكن هذه الإخوة أيضاً ضعيفة؛ لأنه إذا تعارضت مصالحهما لا بد أن يختلفا، وقد قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

    أحبب حبيبك هوناً ما فعسى أن يكون بغيضك يوماً ما، أبغض بغضيك هوناً ما فعسى أن يكون حبيبك يوماً ما.

    أخوة اللغة

    والأخوة السادسة هي: أخوة اللغة، فاللغة نعمة من عند الله سبحانه وتعالى يتفاهم الناس بها، وهي عامل توحيد بينهم، ولكن سهولة تعلم اللغة يقتضي ألا تكون هذه الأخوة قوية، فكثير من الذين يتكلمون الآن بلغات غير لغاتهم الأصلية أبدعوا فيها وأصبح بعضهم أفصح من بعض أهلها، والنظر إلى سيبويه وهو فارسي وقد أتقن العربية حتى أصبح مضرب المثل فيها، وأصبح الناس الآن جميعاً عيالاً على كتابه في اللغة، والفصحاء من أولاد العربية يأخذون منه ويتعلمون من كتابه في زمانه وفيما بعده، وفيه يقول ابن حزم الأندلسي:

    والعرب قد تحذف الأخبار بعد إذا إذا عنت فجأة أمر الذي دهما

    وربما نصبوا للحال بعد إذا وربما رفعوا من بعدها ربما

    فإن توالى ضميران اكتسى بهما وجه الحقيقة من إشكاله غمما

    لذاك أعيت على الأفهام مسألة أهدت إلى سيبويه الحث والغمما

    قد كانت العقرب العوجاء وأحسبها قدماً أشد من الزنبور وقع حما

    وفي الجواب عليها هل إذا هو هي أوهل إذا هو إياها قد اختصما

    فغاض عمراً عليٌ في خصومته يا ليته لم يكن في أمرها حكما

    كغيض عمرو علياً في خصومته يا ليته لم يكن في أمرها حكما

    فأصبحت بعده الأنفاس باكيةً لكل طرس كدمعٍ سح وانسجما

    وليس يخلو امرؤ من حاسدٍ عظم لولا التنافس في الدنيا لما عظما

    والغبن في العلم أشجى محنة عُلمت وأبرح الناس شجواً عالماً هظما

    وكثيراً ما يقع هذا فيتقن الإنسان لغة من اللغات ويصبح مبرزاً فيها، بل العرب المستعربة أشهر من العرب العاربة، فإسماعيل عليه السلام لم يكن عربي اللغة والمنشأ، ومن ذريته العرب المستعربة ومنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أفصح الناس جميعاً، فهذا يدل على أن عامل اللغة عامل ضعيف في التوحيد لسهولة تعلم اللغات ولعدم خصوصيتها.

    الآية القرآنية التي أشارت إلى أنواع الأخوات وأقوى هذه الأنواع

    فكانت الإخوة الدينية قاضية على كل هذه الأخوات، وهذه الأخوات أشار الله إليها في آية سورة التوبة التي ذكرنا: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ [التوبة:24] هذه أخوة النسب وَأَزْوَاجُكُمْ [التوبة:24] هذه أخوة السبب وَعَشِيرَتُكُمْ [التوبة:24] هذا يشمل نوع من أنواع الأخوة يسمى الاشتراك في نمط العيش، فكل قومٍ لهم نمط معين يلبسون الدراعة مثلاً أو ملحفة أو لهم نمط من أنماط العيش في طريقة حياتهم، فيتآخون ويتآلفون على أساسه، ولكن هذه الأخوة ضعيفة، وقد أشير إليها هنا وَعَشِيرَتُكُمْ [التوبة:24]، ويُشار بها أيضاً إلى اللغة لأن اللغات العشائر موحدة، وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا [التوبة:24]هذه المصالح المشتركة، وكذلك وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا [التوبة:24] وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا [التوبة:24] وهذه أخوة الوطن، وهذه الأخوات جميعاً حكم عليها لصالح أخوة الدين، فقال: أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ [التوبة:24]، فأخوة الدين تخف كلما خف الدين، فالدين يخلق ويجد في النفوس، ويرق ويستد، وأخوته تابعة له، فكثيراً ما تتقطع عرى الصلة بين المسلمين، فتقع بينهم النفرة وقد حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في وصيته التي أخرج البخاري في الصحيح: ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض )، وكما قال صلى الله عليه وسلم: ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يكذبه )، وكذلك: ( لا يخذله ) وفي الرواية الأخرى: ( بحسب امرءٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ).

    1.   

    أسباب النفرة والقطيعة بين المؤمنين

    وكذلك فإن الله حرم كلما يؤدي إلى النفرة والقطيعة، فذكر ثلاثة عشر سبباً من أسباب النفرة والقطيعة في سورة الحجرات وحرمها جميعاً؛ ولذلك يمكن أن نعتبر سورة الحجرات الدستور الاجتماعي للمسلمين؛ لأن فيها ضوابط العمل الاجتماعي بين المسلمين أنفسهم، ففيها ثلاثة عشر سبباً من أسباب الشحناء حرمها الله جمعياً وقضى عليها.

    سوء الأدب

    فأول سبب هو: سوء الأدب، فمن كان سيء الأدب لا بد أن يجد نفسه شاحناً، وأن تكون بينه وبين غيره مشكلة، وقد حرم الله ذلك وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2] إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [الحجرات:3] إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات:4] وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحجرات:5].

    عدم التثبت في نقل الأخبار

    الظلم والاعتداء

    السخرية من الآخر

    اللمز للآخرين

    وكذلك من هذه الأسباب: اللمز، وهو الغمز في الناس والتنبيه على معايبهم وما يكتمونه، وقد حرمه الله فقال: وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ [الحجرات:11]، وهذا النهي هو في غاية التحذير لأنه جعل أخاك المسلم بمثابة نفسك، فإذا لمزته وغمزت فيه فإنما تلمز نفسك وتغمز فيها، وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ [الحجرات:11].

    التنابز بالألقاب

    ثم بعد ذلك: التنابز بالألقاب، وهو أن يسمي الإنسان إنساناً باسم يكرهه، فهذا سبب للقطيعة والنفرة، وقد حذر الله منه فقال: وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11].

    سوء الظن بالناس والتجسس والغيبة

    ثم ظن السوء بالناس، وقد حذر الله منه فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12].

    ثم التجسس والتحسس ونقل الأخبار بقصد الإفساد وإفشائها، وقد حذر الله منه بقوله: وَلا تَجَسَّسُوا [الحجرات:12].

    ثم الغيبة: وهي ذكرك أخاك بما يكره، وقد حذر الله منها تحذيراً بليغاً فقال: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ [الحجرات:12].

    التفاخر بالأنساب وادعاء الإنسان ما ليس له والمن

    ثم بعد ذلك التفاخر بالأنساب، وقد حرمه الله بقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].

    وكذلك ادعاء الإنسان ما ليس له، سواءً كان ذلك في الماديات أو في المعنويات، وقد حذر الله منه بقوله: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحجرات:14].

    وكذلك المن، وقد حذر الله منه فقال: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17].

    فهذه أسباب للقطيعة والنفرة، وقد حرمها الله جميعاً، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم أسباباً أخرى نهى عنها أيضاً، فقال: (لا تجسسوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا يبيع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً)، وكذلك قال: (لا يخطب أحدكم على خطبة بعض، ولا يسم على سومه)، وكذلك: ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تلقي الجلب وتلقي الركبان وبيع الحاضر للبدوي ) لما في ذلك من حصول النفرة والشحناء؛ لأن الإنسان يحس بالغبن ويحسد من استغنى وتنول، فكل ذلك حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ضرره.

    1.   

    الحث على الأخوة والترغيب فيها

    وهذه الإخوة لا بد أن نزرعها في أنفسنا وأن نراجعها وأن نمتحن أنفسنا فيها، فالإنسان إذا كان يرحم ويحس أن للآخرين حقاً عليه فإنه لا بد أن يبذل من نفسه خيراً ولو كان دعاءً ولو كان ابتسامة ولو كان كلمة تخفيف، وقديماً قال الشاعر:

    فلا بد من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجعُ

    فمجرد التوجع ولو لم يواسك الإنسان بماله ولم يرك من نفسه شيئاً ينفع؛ لأنه يداوي بعض جراحك واحساسك بالإقصاء في المجتمع، والناس محتاجون إلى من يبتسم في وجوههم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: ( تبسمك في وجه أخيك صدقة )، ويحتاجون إلى من يحسن الخلق في التعامل معهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: ( ألا أخبركم بأحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً )، وكذلك في الحديث الآخر: ( أحاسنكم أخلاقاً الموطأون أكنافاً الذي يألفون ويُألفون )، وكذلك فهم محتاجون إلى من يواسيهم من ذات يده ولو كان ذلك شيئاً يسيراً، فالنبي صلى الله عليه وسلم يوصي أبا ذر وهو من فقراء المهاجرين يقول له: ( إذا طبخت لحماً فأكثر مرقه ثم تعاهد جيرانك )، مما يدل على أن الإنسان لا يكون مؤمناً وهو شبعان وجاره جائع، ولا بد أن يستشعر الإنسان حقوق إخوانه، فيعود مريضهم إذا مرض وهذا حق واجب وهو متدرج فأهله غير متساوين فيه كما قال العلامة محمد مولود رحمة الله عليه:

    عيادة المريض مما يجبُ بها ابتداءً يطلب الأقاربُ

    فإن تهاونوا بها فالصاحبُ فإن بها استخف فالأجانبُ

    وكذلك اتباع الجنائز ولو لم يعرفها الإنسان، فإن المسلم أخو المسلم، وقد ورد في الحديث الذي أخرجه أحمد وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من ولي قبر أخيه فحسنه وجمله بنى الله له بيتاً في الجنة )، وفي الحديث الصحيح الذي في الصحيحين: ( من شهد جنازة امرءٍ مسلم فكان في جنازته حتى دفنه رجع بقيراطين من الأجر كل واحدٍ منهما مثل جبل أحد، فإن صلى عليه ورجع رجع بقيراطٍ واحد )، والقيراط وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مثل جبل أحد.

    كف الأذى عن أخيك المؤمن

    وكذلك حق كف الأذى، وهو حق مبدئي أولي فإذا لم تستطع أن تنفع فعلى الأقل كف أذاك عن الناس، وتصدق عليهم بأن تكف أذاك عنهم، فمن تمام رجولة الإنسان ومن تمام مروءته أن يتعفف وألا يظهر فقره للناس أبداً ليكف أذاه عنهم، وفي يوم الجمل لما قُتل طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه على جنازته فمسح عنه التراب وهو يبكي ويقول:

    فتىً كان يدنيه الغنى من صديقه إذا ما هو استغنى ويبعده الفقرُ

    فتىً كان يعطي السيف في الروع حقه

    إلى أن يقول:

    وتشقى به الجزرُ

    فتىً لا يعد المال رباً ولا ترى به نخوة إن نال مالاً ولا كبرُ

    وقديماً قال المقنع الكندي :

    يعاتبني في الدين قومي وإنما ديوني في أشياء تكسبهم حمدا

    ألم يدر قومي كيف أوسر مرةً وأعسر حتى تبلغ العسرة الجهدا

    فما زادني الإقتار منهم تقرباً ولا زادني فضل الغنى منهمُ بعدا

    أسد به ما قد أخلوا وضيعوا ثغور حقوق ما أطاقوا لها سدا

    وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جدا

    أراهم إلى نصري بطاءً وإن همُ دعوني إلى نصرٍ أجبتهمُ شدا

    ولا أحمل الحقد القديم عليهمُ وليس زعيم القوم من يحمل الحقدا

    لهم جُل مالي إن تطاول بي غنىً وإن قل مالي لم أكلفهمُ رفدا

    وقد أثنى الله تعالى على المهاجرين بهذا التعفف، فقال في وصفهم: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273]، الجاهل بأحوالهم الذي لا يطلع على تفاصيل أمورهم يحسبهم أغنياء مما يرى من تعففهم واكتفائهم بما لديهم، وهم في أشد الحاجة والفقر، يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273].

    واجب النصيحة للمسلمين والرحمة بينهم

    والإخوة تقتضي كذلك النصح الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة، قلنا لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)، فتقتضي الرحمة واللين مع المسلمين، فلا بد من إلانة الجانب للمسلمين جميعاً كما أوصى الله رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقد قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ [آل عمران:159]، وكما قال الله تعالى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ [الشعراء:215].

    وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة هي صفة الرحمة، فقال: ( من لا يرحم لا يُرحم )، وقال: ( الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء )، وقد كتب الله على نفسه الرحمة، وهذا يقتضي الحرص على الاتصاف بها: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54]، وهي من صفات الله التي هي للتعلق والتخلق، فيتعلق بها لندعو الله بأسمائه ومنها الرحمن الرحيم، ونتخلق بها أي نحاول أن نتصف بما يلق في حقنا نحن من الرحمة؛ لأنها محبوبة عند الله جل جلاله.

    وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أثرها في الأمة فقال: (لن تزال أمتي بخيرٍ ما دام كبيرها يرحم صغيرها، وصغيرها يوقر كبيرها)، وهذه الرحمة فيما بين الناس أثرها على الإنسان نفسه عظيم لأنه سيرحمه الله بها، وقد قال الحكيم:

    ارحم ولي جميع الخلق كلهمُ وانظر إليهم بعين الرفق والشفقة

    وقر كبيرهمُ وارحم صغيرهمُ وراع في كل خلقٍ حق من خلقه

    صفة الرحمة لله ولرسوله وللصحابة والتابعين

    والرحمة وصف الله بها محمد صلى الله عليه وسلم وحده فقال: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، ووصفه بها مع أصحابه ومتبعيه فقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]، ووصف بها الذين يرتضي جهادهم من عباده فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54]، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم من صفات الخوارج أنهم يتشددون مع أهل الإيمان ويتساهلون مع أهل الكفر، فيعاملون أهل الكفر باللين ويعاملون أهل الإسلام بالشدة والفَظاظة والغلظة.

    حاجة المسلمين اليوم إلى الأخوة في الدين

    وما أحوج المسلمين اليوم إلى التراحم، فالأمم الأخرى تتحكم في مصائرهم ومصالحهم وثرواتهم وتسلط عليهم من يغتصب حقوقهم، فلا بد أن يرجعوا إلى دينهم وأن يتراحموا فيما بينهم وأن يقوم بعضهم بحق بعض، وإذا حصل ذلك فإن الله سينصرهم على أعدائهم لا محالة؛ لأنه تعهد لهم بالنصر إذا رجعوا إليه، فقال: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا [الإسراء:8]، وكل من عاد إلى منهج الله لا بد أن ينصره الله، وقد أخرج أبو داود في السنن وغيره من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تبايعتم بالعينة ورضيتم بالزرع وأخذتم أذناب البقر وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)، فهذا يقتضي الرجوع الآن إلى الدين، ومراجعة ما نحن فيه من الأخلاق وما نحن فيه من التعامل، وأن نحسن تعاملنا فيما بيننا وأن نتآخى وأن ينصف بعضنا بعضاً، والانصاف من شأن الأشراف، ولولا الانصاف لما استطاع الناس التعايش فهو أمر لا بد منه؛ فلذلك إذا راجعنا الأخوة الإسلامية عقيدةً وراجعناها تطبيقاً في هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه راجعناها عقيدةً في كتابنا وسنة رسولنا كما سمعتم، وراجعناها تطبيقاً في الهدي النبوي وفي هدي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان كما سمعتم، ورجناها بمقتضى العقل والحكمة كما سمعتم في أشعار الحكماء من العرب، لا بد أن نراجع أيضاً فائدتها في واقعنا الذي نعيشه، وسنجد أن هذه الشعوب إنما تؤلف بينها كلمة واحدة وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وأن هذه الرابطة ينبغي أن تكون أحب الروابط إلينا، وأذكر الشيخ محمد علي رحمة الله عليه لما جاء هنا أول داعٍ يدعو إلى رابطة العالم الإسلامي عند إنشائها وهو الشيخ محمود الصواف رحمة الله عليه و محمد محمود الصواف رحمة الله عليه وجاء إلى أبي تلميت وكان في مجلس من العلماء والكبار فطلب بعضهم من الشيخ أن يمتثل أبيات في هذا الموضوع، فقال:

    إنا برابطة الإسلام نرتبطُ وباللذي قد أتانا منه نغتبط

    إذ الروابط أقواهن رابطة الإسلام فارتبطوا بالحق واغتبطُوا

    وكل من حاد عنها حابط عملاً حيران في شرك الإشراك يختبطُ

    وهو الذي يقول أيضاً فيما يتعلق بالوحدة الوطنية بين المسلمين في هذا البلد يقول:

    فصفنا لاتحاد الدين متحدُ كالعين ما كان يغني لون

    أبيضها عن لون أسودها في ماله يردُ

    هذا بذاك محوط فهو حاجبه وليس إلا عليه الدهر يعتمدُ

    ولا بذاك يرى ما ليس يمكنه طبعاً يراه إذا ما كان ينفردُ

    فنحتاج إلى تحقيق هذه الإخوة فيما بيننا أجمعين، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا أجمعين من المتحابين فيه والمتآخين بعقيدة الإسلام، وأن يجمع قلوبنا على الحق، وأن ينصرنا على أعدائنا أجمعين، وأن يؤلف بين قلوبنا، وأن يصلح ذات بيننا.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه..

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767956091