بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى بين الدين لعباده أتم بيان، فأرسل به أبلغ البشر، واختار له أفصح الألسنة، وأنزله بأكمل الكتب وأتمها بيانا، ثم عهد إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بتبيين ما أنزل إلى الناس بياناً شافياً لأفعاله وأقواله وسننه، فأدى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحسن الوجوه، وبينه أتم بيان، وشهد الله عز وجل له بذلك، فقال: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ [الذاريات:54]، فقد أدى الذي عليه، أدى الأمانة وبلغ الرسالة وأدى ما أمره الله به على أحسن الوجوه وأتمها، كيف لا؟ وقد اختاره الله لذلك من بين الخلائق جميعا، واصطفاه وانتقاه من لدن آدم إلى نهاية البشر، وعصمه من الخطأ والزلل، وغفر له ما تقدم وما تأخر، وشرفه على الثقلين كافة الإنس والجن، وجعل رسالته خاتمة لجميع الرسائل، مصدقة لما بين يديها من الحق، مهيمنة على الجميع، شاهدة على الناس كلهم، وأكمل به رسالات الرسل إلى أهل الأرض، فجعله خاتم النبيين وإمام المرسلين، فلا يحتاج الناس بعد بيانه إلى بيان، لكنه في غمرة وفوضى الأيدولوجيات والمذاهب وانتشارها بين الناس، وبالأخص عندما يتخذ الإعلام وسيلة حرب، فيقصد به غزو الناس في عقائدهم، والتأثير على مقدساتهم، وشغلهم وملءُ فراغهم بما لا علاقة لهم به.
ويقصد به كذلك تحييد قادتهم عن هموم أمتهم، وانتزاعهم عن مكانهم اللائق بهم، فقادة الأمة مكانهم أن يقودوها إلى الأمام لا أن يقودوها إلى الخلف، وأن يقدموها حتى تأخذ مكانها الذي تستحقه بين الأمم، وقد سمعتم في سورة آل عمران قول الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، فالخيرية موجودة في الأمة، والتقهقر والتراجع الذي يحصل ليس لذات الأمة وإنما هو من أجل السياسات المتبعة في قيادتها.
في هذه الغمرة وفي مثل هذه الأوقات تسمعون كثيراً من المفاهيم المشاعة التي تؤثر على النفوس، ويتمسك بها الناس دون أن يدركوا أبعادها وما يقصد بها.
فمن المفاهيم الشائعة في الإعلام والتي شغلت فراغ الناس مفهوم الإرهاب مثلاً، وهو مفهوم لم يتفق أهله ومشيعوه على تفسير له، بل إن أكاديمية دراسات الأمنية التابعة للجامعة العربية قد عدت أكثر من مائتي تفسير للإرهاب كلها متباينة.
ومؤتمر وزراء الداخلية العرب الذي انعقد في تونس قديماً لتحديد مفهوم الإرهاب لم يتوصل إلى أي مفهوم، فهو من الأمور التي لا تعرف كالغول والبوم والعنقاء:
البوم والغول والعنقاء ثالثها أسماء وأشياء لم تخلق ولم تكن
وكذلك الحال في مفهوم حقوق الإنسان الذي شغل أيضاً وقتاً كبيراً من وقت الناس، وكثرت الدراسات فيه والمؤلفات والكتب، وتكلم عنه كثير من أنواع الناس في مختلف الأيدولوجيات والشرائح، هو أيضاً غير محدد، فسمع كل يوم من الانتهاكات التي يقوم بها الذين يدعون أنهم الراعون لحقوق الإنسان ما لا حصر له ونشاهدها كذلك ونعرف أن المكاييل مختلفة وأن المعايير متباينة، وأن الإنسان إذا كان مسلماً ليس له حقوق، وليس له احترام.
فإذا كان قتل الأبرياء في العراق وإبادتهم وكان تحطيم البيوت على الأطفال الرضع والشيوخ الركع، في فلسطين، غير مخالفٍ لحقوق الإنسان، وغير انتهاك لحرمته، فمتى تكون حرمة الإنسان موفورةً وبأي شيءٍ ترعى، وما هي حقوق الإنسان حينئذ؟
وكذلك مفهوم الحرية الذي هو من المفاهيم الشائعة، فهذا المفهوم الذي ينادي به كثير من الناس، وأصبح من المصطلحات المحبوبة لدى الناس، وكل إنسان يتغنى بالحرية وينشدها، ويرى أنها هي الحق المقدس لكل إنسان، هي أيضاً كما نرى في هذه الأيام تكال بمكيالين أو أكثر، فالدولة التي صدرت عن ثورتها وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وهي فرنسا، التي تزعم أنها هي مهد الحضارة الغربية وقائدة النهضة في هذا العصر، تتدخل لحريات الفتيات لمنعهن من ارتداء أي ملابس؛ لأنها ارتضاها ربهن لهن؛ ولأنها جاء بها هذا الدين الخاتم القاضي على كل الأديان.
وأنتم تعلمون جميعاً أنه لو كان للفتيات زيٌ مخالف للحشمة مخالف للحياء، مبدٍ لما حرم الله إبداءه لما اعترضت على ذلك دولة فرنسا، وبهذا تعلمون أن هذه المفاهيم تشملها الضبابية، ويشملها عدم الوضوح، وأن الخديعة الكبرى العالمية الحاصلة في هذه المفاهيم قد انخدع بها كثير من المسلمين، وأصبح أكثر أولاد المسلمين يتغنون بمفاهيم لا يدركون أبعادها ولا ما وراءها، فهم يمجدونها على أساس أن غيرهم قد مجدها، ويتغنون بها على أساس أن غيرهم قد تغنى بها، وإذا رأوا بعض الرفاهة التي تعيش فيها الشعوب الغربية ورأوا وسائلهم لتنظيم حياتهم، كالتبادل السلمي على السلطة عن طريق تحكيم صناديق الاقتراع، ورأوا عدالتهم في توزيع ثرواتهم فيما بينهم، ظنوا أن هذا المفهوم هو الذي يتغنى به، وهو الذي ينبغي أن تطالب به الشعوب جميعاً .
ولكن الواقع أن تصرفاتهم مع غيرهم منافية لتلك التصرفات، فالديمقراطية التي ينادون بها ويجعلونها أكبر إنجاز أنجزته البشرية في مجال الحكم، لما أدت إلى ارتفاع شأن الإسلام في الجزائر قضوا عليه، ولما أدت إلى ارتفاع شأنه في تركيا قضوا عليه، وهكذا في كل بلدٍ من البلدان، لا يمكن أن يتركوها إذا كانت تؤدي إلى ارتفاع شأن الإسلام، ويتضح لكم جلياً أنهم هنا يكيلون بمكيالين، ويعيرون بمعيارين، فالديمقراطية التي تؤدي إلى الوصول إلى مصالح الغرب، واتباعهم وجعلهم الأسوة والقدوة الصالحة الحسنة هي التي يمجدها الغرب، والديمقراطية التي تقدم أية حضارة أخرى، وتبينها ولو كانت تلك الحضارة مسالمة مراعية للأمن ليس فيها أي اعتداء، ولا أي ضرٍ بالبشرية، كحضارة الإسلام التي لم يعرف العالم حضارةً أقوم ولا أسلم منها، وهي التي جاءت بالسلم والأمن وراعت للناس جميعاً حقوقهم، وليس فيها تطرف، وليس فيها إرهاب بمعنى الاعتداء.
ليس فيها أي اعتداء بل فيها صيانة النفس والعرض والمال، والحفاظ على مقدسات الناس وأديانهم حتى لو كنا نعتقد أنها غير معتبرة شرعاً، نترك بينهم وبين ما يعتقدونه، وبين ممارسة ما يدينون به، ونضمن لهم أمانهم في كنائسهم وبيعهم، ونحفظهم ونقاتل دونهم، حتى يقتل رجالنا في سبيل الدفاع عن أهل الذمة، وهذه ما يشهد به جميع العالم.
فعندما احتل الصليبيون بيت المقدس سارت الخيل في بحار الدم، من كثرة من قتلوا من المسلمين، وبعد مضي خمس وتسعين سنة، لما انتزع منهم بيت المقدس وحرر على يدي صلاح الدين الأيوبي لم تقطر قطرة دم صبراً من غير مقاتل في القدس، ولما جاء الرهبان يبكون وقد أغلقوا كنائسهم، قال لهم القائد المظفر: ارجعوا إلى كنائسكم ومارسوا عباداتكم، فنحن لا نتعرض للرهبان نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الرهبان والنساء والأطفال والشيوخ الكبار، أربعة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلهم في الحرب: الرهبان رجال الدين لا يتعرض لهم، والنساء لا يتعرض لهن ولا تقتل المرأة إلا إذا قاتلت، والشيوخ الكبار لا يقتلون إلا إذا أعانوا برأي، والذراري والأطفال لا يقتلون أبداً.
فهذا ديننا الذي يتضح جداً من خلال هذه المقارنة القليلة البسيطة في واقعة واحدة البون الشاسع بينه وبين ما لدى الآخرين، ويعلم به أنه هو دين الأمن والأمان والسلام، ودين العدل والإنصاف، وقد قال الله فيه: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [العنكبوت:46]، فعلمنا كيف نجادلهم؟ فذكر الضوابط التي منها أن يكون ذلك بالتي هي أحسن، ليس فيه فظاظة ولا غلظة ولا مصادرة للرأي، وليس فيه احتكار للحق، وفيه بداءة بالمتفق عليه قبل المختلف فيه، وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ [العنكبوت:46]، ثم بعد ذلك فيه تميزنا نحن، فإن كانوا لا يعرفوننا فنحن نعرف أنفسنا، فلنا قيمنا وأخلاقنا: آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [العنكبوت:46]، هذا تميزنا عنهم.
فإلهنا وإلههم واحد، لكنهم غير مسلمين به ونحن مسلمون به، وكذلك في التعامل مع الكفار من المشركين يقول: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]، ويقول: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا [المائدة:2]، فنهانا عن الاعتداء حتى على الأعداء المانعين لنا من البيت الحرام، وإن كانوا ليسوا أهله، فأهله هم المؤمنون، وليسوا أولياءه، فأولياؤه بينهم الله تعالى الذي جعله أول بيت بني على الأرض للعبادة، وأول بيت وضع للناس، فقد جعل الله تعالى أولياءه أهل الإيمان: وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [الأنفال:34]، ومع ذلك أمرنا بالعدل مع الذين حالوا بيننا وبينه، الذين ردوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه محرمين، وهم يرون الهدي عليه العفاء، ويعلمون أنهم ما جاءوا للحرب، ويعلمون أنهم أهل الصدق والأمانة والإخلاص جاءوا معظمين لحرمات الله، يريدون العمرة والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والتحلل، فمنعوهم من ذلك وحالوا بينهم وبين الوصول إلى الكعبة، ومع هذا خاطبهم الله هذا الخطاب، فقال: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا [المائدة:2]. وفي مجادلتهم يقول: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24]، وهذا غاية الإنصاف، فنحن لا نشك أننا على هدىً، وأنما عندنا هو الحق الذي يرضي الله، لكن مع ذلك في خطابنا للخصوم لا بد أن نتنزل فنقول: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24].
فلذلك نحتاج إلى بيان هذا الإسلام الذي ندعو إليه في غمرة هذه الرؤى المتباينة، وهذه المفاهيم المضطربة، وهذه الأيدولوجيات المتعارضة، لا بد أن نبين هذا الإسلام الذي ندعو إليه ولا يقصد ببيانه الحد والرسم والتعاريف المنطقية، ولا يقصد ببيانه كذلك إحصاء ما فيه من الشعب، وبيان ما فيه من الواجبات والسنن والمندوبات والمحرمات والمكروهات والمباحات، إنما يقصد به المفهوم الأيدولوجي للإسلام الذي ندعو إليه، وهذا الإسلام الأيدولوجي إنما يتحدد ويتبين ببيان أساليب هذا الإسلام، وأساليب الدعوة إليه وطرق معاملته للآخرين، فهذا الإسلام الذي ندعو إليه دين من عند الله وليس من عند الناس، فهذه أول خاصية تميزه أنه من عند الله لا من عند الناس، فالناس يمكن أن يشرعوا من القوانين ما شاءوا، ويمكن أن يكون ذلك بشفافية وصدق، وأن تأتي أكثرية البرلمانات على تشريع معين، لكنهم لا يعلمون النتائج المستقبلية، فهم يجهلون مآلات الأمور:
وأعلم علم اليوم والأمس ولكنني عن علم ما في غدٍ عمي
فيمكن أن يشرعوا شيئاً يوافق المصلحة اليوم، لكنه سيكون كارثة غداً، والإسلام ليس كذلك فهو من عند الملك الديان العليم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية، وعلمه بالغد كعلمه بالأمس ولا فرق، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
ومن هنا فلا يمكن أن يقارن بأي تشريع ولا بأي قانون ينتجه أهل الأرض، فقوانين أهل الأرض مبناها على مقتضى علمهم وعلى ما وصلوا إليه من العلم، وهذا العلم قاصر ناقص: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، ودليل ذلك أن الإنسان يتوقع أن شيئاً ما مصلحة له فيرغب فيه غاية الرغب، ويتعلق فيه غاية التعلق، فإذا وصل إليه ندم غاية الندم ورأى أن الجهود المبذولة فيه لم يكن يستحقها، وإذا لم يصل إليه ووجد بديلاً عنه حمد الله أنه لم يصل إليه، وحمد ذلك البديل ورأى أنه هو الأجدى به والأولى له.
ومن هنا نعلم أن الله تعالى حجب مآلات الأمور ومستقبلاتها عن الناس، فالله تعالى خاطبنا في الإسلام بنوعين من أنواع الخطاب:
أحدهما: قدري كوني، وهو قدر الله، تعبدنا بجهله، وسيرنا على مراده.
والخطاب الثاني: تشريعي تعبدي، وهو الخطاب التشريعي تعبدنا الله بعلمه وأمرنا به.
فالخطاب الكوني القدري لا يتعداه بر ولا فاجر، والخطاب التشريعي يقف عنده البر ويتعداه الفاجر، فلذلك نحن نعلم ارتباط الخطابين؛ لأنهما من عند الله وكل من عند ربنا.
فالذي شرع لنا الأحكام لم يخلها عن الحكم، ولم يعطلها عن المصالح، وربطها بها ربطاً عجيبا، ومن هنا فلا يمكن تجزئتها ولا فصل بعضها عن بعض، فالقيم الخلقية هي التي تبنى عليها القيم الاقتصادية، ولو أراد إنسان أن يقيم اقتصاداً مفصولاً عن الخلق والقيم لما استطاع ذلك ولما أمكنه، فالذي حرم الربا وحرم الغش، هو الذي حرم الكذب وأوجب الأمانة، فهي قيم خلقية بها تربط القيم الاقتصادية.
ولذلك لو قدر أن أي ملك من الملوك أو رئيس من الرؤساء أراد تحريم الربا، أو أراد فرض الناس على نوع من المعاملات، دون أن يمهد لذلك بالقيم الخلقية، فإن الناس لن يطيعوه، وسيحتالوا على مخالفة ذلك القانون والخروج من عهدته وعدم التعرض لعقوبته، إما بالرشوة وإما بالوساطة أو غير ذلك من الوسائل.
لكن إذا كان الإنسان يعلم أنه على نفسه بصيرة، وكان مراقباً على نفسه، ويعلم أن معه من لا يفارقه، وأنه في حال خلوته كحال جلوته، وأنه بيدي الخالق الملك الديان، وهو أقرب إليه من حبل الوريد، لا تخفى عليه خافية، ولا تحجب عنه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره، ويعلم أنه أيضاً تحت رقابة الملائكة الكرام الكاتبين: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12]، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، ويعلم أنه تحت رقابة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، تعرض عليه أعماله فيـأتي يشهد بها يوم القيامة: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]، فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، ويعلم أنه تحت رقابة الناس أهل الإيمان الذين هم عدول الله سبحانه وتعالى وشهداؤه، فلا يخفى عنهم ما يخفيه من أحوله وأموره:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ولو خالها تخفى على الناس تعلم
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105]، فإنه حينئذٍ لن يتصرف إلا تصرفاً يرضيه أن يراه.
فلا تكتب بكفك غير شيءٍ يسرك في القيامة أن تراه
لن يتصرف إلا تصرفاً يعلم أنه سائر إلى أحد الكفتين، إما إلى كفة الحسنات أو إلى كفة السيئات، وإذا استزله الشيطان فوقع في مخالفة ذلك ندم غاية الندم، وتاب غاية التوبة وأناب غاية الإنابة، وسعى للتكفير، وقد يكون إقباله على الله بعد وقوعه في الذنب أعظم من إقباله فيما لو لم يقع فيه؛ لأن الانكسار الذي يقع بالتوبة سيكون أعظم وأهم مما كان قبل التوبة.
فالتائبون قد أثنى الله عليهم وبدأ بذكرهم قبل ذكر غيرهم من العابدين بأنواع القرب الأخرى، فقال: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:112]، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له )، وإذا كان المسلم بهذا الحال وتحت هذه الرقابات، وهو يعلم أن مصيره قطعاً مرتبط بما يقدم عنه في هذه الرقابات، ويعلم أنه لا يظلم شيئا، حتى لو لم يكن عمله الصالح إلا قصاصةً قدر الظفر كتب فيها: لا إله إلا الله، فهو يعلم أنها ستوضع في الكفة وتوزن ببقية أعماله، ولذلك إذا رآها قال: ( يا رب! ما تغني هذه عن هذه السجلات! فيقول: إنك لا تظلم شيئاً، فتوضع لا إله إلا الله في كفة والسجلات في كفة، فطاشت السجلات ورجحت: لا إله إلا الله ).
إذا كان المسلم يوقن بهذا ويعرفه، فتصرفه ليس ناشئاً عن خوف العقاب الدنيوي، ولا هو ناشئ عن الرقابة الدنيوية التي يمكن أن يحتال عليها أو يتخلص منها، فلا هو يسعى للتخلص من العقوبة بالرشوة أو بالخيانة أو بالكذب أو بالإخفاء بأي وجه من الوجوه، بل يأتي طائعاً إذا وقع في ذنب فيقول: يا رسول الله طهرني، كما فعل ماعز بن مالك الأسلمي رضي الله عنه قال: ( يا رسول الله! أصبت حداً من حدود الله فطهرني )، وفي رواية ( فأقم علي الحد، فأعرض عنه فجاءه مرة أخرى فأعرض عنه، فجاءه ثالثة فأعرض عنه، حتى أتاه رابعة، فقال: لعلك غمزت، لعلك لمست، لعلك قبلت، كل ذلك يقول: لا، فأقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحد )، وهو مستسلم لهذا الحد طائع به.
وكذلك حال الغامدية التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته أنها اقترفت حداً من حدود الله وتريد أن يطهرها منه، فلما رجمت لعنها بعض أصحابه فنهاهم، فقال: ( لقد تابت توبةً لو تابها صاحب مكسٍ لغفر له )، فتوبتها توبة عظيمة، وفي الحديث الآخر: ( لو قسمت على خمسين من أهل المدينة لكفتهم، وما تجد أعظم من أن تجود بنفسها لله )، أي: توبتها هي أقصى درجات التوبة أن تجود بنفسها لله، فتطهر من ذنبها بالرجم حتى تموت.
ونجد هذا الحال أيضاً لدى الحارث بن سويد بن الصامت ، الذي قتل المجذر بن زياد والده سويد بن الصامت في حرب بعاث، فلما أسلم هو والمجذر حال الإسلام بينهما، فلما كان يوم أحد ووقع الناس فيما وقعوا فيه، رأى المجذر خالياً فضربه فقتله، ولم يشعر به أحد، فنزل جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن الحارث قتل المجذر ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني عمرو بن عوف وليس معه أحد من المهاجرين؛ لئلا يظن أنه يتعزز عليهم بقريش أو بالمهاجرين أو بغيرهم، جاء بعزة الله ورسوله: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8]، فلما استقبلوه في مجلسهم دعا عباد بن بشر فقال: ( اضرب عنق الحارث بن سويد بن الصامت )، وهو ابن عمه، فجرد عباد سيفه وأراد قتل ابن عمه دون أن يراجع ودون أن يسأل، وهو أحب الناس إليه، فقال الحارث : ( يا رسول الله! على ما تقتلني، فو الله ما نافقت منذ أسلمت، وإني لأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله؟! فقال: ما قتلتك على النفاق إنما أقتلك بالمجذر بن رياد فقد قتلته غيلة، فقال: صدقت، أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، ومد عنقه، فضرب ابن عمه عنقه، ففصل رقبته عن رأسه ).
هذا الدين الذي يكون مع الإنسان في كل أحيانه، ويحول بينه وبين المعصية في كل الأوقات ويمنعه من الاعتداء في أي أمرٍ من الأمور، دون أن يحس برقابة، فلا هو يفكر في شرطة ولا يفكر في أجهزة، ولا يفكر في قانون وعقوبة، إنما يفكر في رقابة الملك الديان، لا يمكن أن يقارن بقوانين أهل الأرض التي يضعونها ويرتبون عليها العقوبات التي إذا ردعت شخصاً واحداً فسيحتال عليها عشرة.
كذلك فإن هذا الدين الذي ندعو إليه من خصائصه: الربانية، وأن كل أموره يقصد بها وجه الله الكريم، ويتعبد بها لله، فالإنسان المؤمن الصادق إذا تكلم عن حكم معناه أنه أذن له بالكلام من عند الملك الديان، فهو يتكلم بما أمر به ولو أدّى ذلك إلى قطع عنقه، فهو مستعد لكل شيءٍ في سبيل إيصال كلمة الله، ويتذكر ما قال موسى عليه السلام: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84]، فهو مستعد أيضاً ليحل أزرار قميصه لاستقبال الرصاص، ويقول: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84]، ومستعد للقيام بكل أمرٍ يرضي الله سبحانه وتعالى، حتى لو أدى إلى فقده لوظيفته، وفقده لماله، وفقده لجاهه، وفقده لكل مكانته، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، ولذلك قال الله تعالى في وصف المنافقين: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور:48-52].
ومن هنا لم يبقَ للهوى سلطان على الإنسان حين يتحلى بالربانية، فالإنسان قبل أن يتحلى بالربانية له شخصيته وهواه، فما مالت إليه نفسه ورأى أنه مصلحة له بادر إليه ولو كان فيه مضرة بالغير، ولو كان غير مسموح له به، لكن إذا اتصف بالربانية، فإن الهوى لا يساوي عنده شيئا، يصبح هواه تبعاً لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا هو مقام المحبة: ( فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه )، أي: كان لا يسمع إلا ما رضي الله له سماعه، ولا يبصر إلا ما رضي الله له إبصاره، ولا يتحرك إلا بما أذن الله له بالحركة فيه، فكل جوارحه تابعة لأحكام الله.
ومن هنا فإن هذه الربانية تقتضي من الإنسان إعمال عقله، وتفكيره قبل الإقدام على الأمر، فمن لا يتصف بالربانية يستزله الهوى ويستزله الشيطان، ويتصرف على غير حكمٍ، ومن اتصف بالربانية لا بد أن يعلم الحكم أولاً، ثم يزن الأمور بميزان الشرع، فإذا كان الأمر مأموراً به شرعاً بادر إليه، وإذا كان منهياً عنه شرعاً نفر منه، وإذا كان مأذوناً فيه بين بين، وزنه بعد ذلك بميزان المصلحة والمضرة، فما كانت مصلحته أرجح فعل ذلك أيضاً استحلالاً للحلال، فهو من العبادة لله.
ومن هنا لا يشرب ولا يأكل ولا ينام ولا يعاشر أهله، إلا وهو يطلب في ذلك ثواباً عند الله سبحانه وتعالى، ( حتى ما تجعله في فيّ امرأتك )، ( وفي بضع أحدكم صدقة )، كل ذلك يفعله تقرباً لله سبحانه وتعالى: إني لأحتسب في نومتي ما احتسب في قومتي.
ومن هنا لن يكون تصرفه جميعاً إلا مرتبطاً بقناعته وعقيدته، بخلاف الذين يقتنعون بكثير من القناعات في رؤوسهم فيخالفونها في تصرفاتهم وآرائهم، وإني لأعرف عدداً من الناس من الذين يبادرون إلى إجابة نداء الله، فيشهدون الصلاة في المسجد في الصف الأول متطهرين، ويبادرون كذلك فيما أحسبه واعتقده إلى زكاة أموالهم عندما يحين وقت الزكاة، ويصومون رمضان مع المسلمين، ويقرؤون القرآن ويكثرون الذكر، ولكن هذا لا يتجاوز هذا الحد، فهم مع ذلك أعداء لتحكيم كتاب الله وشريعته، لا يفهمون الإسلام الذي ندعو إليه، هذا الفهم الشمولي الرباني المتصل بقناعة الإنسان وشخصيته.
وأذكر أن أحد القضاة من أهل الورع في هذه البلاد حدث عن زميل له، قال: فلان من أهل التعبد والنسك، ولكنه عدو لتطبيق الشريعة.
وأذكر أنني ذات يوم في الحرم في رمضان، وأظن أن ذلك كان في العشر الأواخر رأيت رجلاً يتجه إلى القبلة جالساً عند الكعبة وبيده المصحف، وهو يقرأ القرآن صائماً بعد العصر، فقلت: لعل الرجل تاب وأناب، فيمكن الآن أن يكون تغيرت مفاهيمه فجلست إليه، فإذا هو ما زال على ما كان عليه، يظن أن الإسلام الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أمر تاريخي وتراث، ولم يعد اليوم يستطيع أن ينفذه هو ولا أن يعمل به كما كان.
فهذا النوع من الخطأ في المفاهيم هو الذي جعلنا بحاجة إلى بيان مفهوم الإسلام الذي ندعو إليه، كيف تكون مقتنعاً بالصلاة والصوم والزكاة والذكر وقراءة القرآن، والقرآن الذي تقرؤه يأمرك بشيء لا تطبقه ولا تفعله، فيا رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه.
كم من إنسان اليوم من أبناء المسلمين ينكر بعض المعلوم من الدين بالضرورة، فينكر مثلاً الجهاد في سبيل الله، وهو يقرؤه في القرآن ويعلم أنه شريعة نزلت، لكنه هو لضعفه وخوره وعدم فهمه لمفهوم الإسلام الذي هو الاستسلام الكامل لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يظن أنه متحكم، فيأخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن القرآن ما يوافقه ويترك ما يخالفه، ومن هنا يحكم نفسه في الإرجاء والتأخير، يؤخر ما شاء ويقدم ما شاء، كأنه هو الحكم على القرآن، والقرآن هو الحكم على الناس.
ومن المؤسف جداً أن ينعق مؤتمر لمنظمة إسلامية كبرى يحضره قادة الأمة الإسلامية ليتمخض هذا المؤتمر الكبير عن إلغاء مفهوم الجهاد أو عن تغيير مناهج الدراسة في الإسلام، حتى لا يكون فيها شيء يتعلق بتاريخ الأمة وجهادها، بل ما هو أعظم من هذا، أن يخرج رئيس من رؤساء الأمة الإسلامية على الناس، فيريد إلغاء بعض آيات القرآن، أو وزير تعليم فيقول على تلفزيون دولته: كتاب فيه وَاضْرِبُوهُنَّ[النساء:34]، لا يمكن أن ندرسه للأولاد. فهذا النوع قطعاً فيه مروق وخروج وعدم فهم لأصل الإسلام، ما معنى الإسلام إذاً؟ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ [البقرة:93]، إذا كان إيمانه يقتضي منه رد شيء على الله فما هو الإيمان إذاً، وما هو الإسلام؟ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
ومن المؤسف كذلك أن يكون الرجل ما دام غير موظف وظيفة كبيرة، يكون بين المسلمين كأفراد المسلمين يصلي معهم في الجماعة، ويشهد معهم الصلاة ويحافظ على السنن: يوفر لحيته، ويقوم بأعماله، فإذا عين في وظيفة سامية من وظائف المسلمين وارتزق من بيت مالهم تغير عليهم، فلم يشهد معهم الصلاة وغير هيئته وغير حالته.
أين إسلامك يا أخي! الذي كان يدعوك إلى الالتزام قبل وظيفتك، هل الوظيفة غيرت الأحكام، هل غيرت شرع الله، هل غيرت قناعتك من أنك وافد على الله، محمول على الرقاب إلى الدار الآخرة، وأنك ستفد إلى الله حافياً عارياً أغرل، ليس معك إلا عملك، هل نسيت العرض عليه والوقوف بين يديه: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18]، يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ [الطارق:9-10]؟
إن هذا من المؤسف جداً وهو مثال من الأمثلة التي يمكن ضربها لبيان خبط الناس خبط عشواء في مفهوم الإسلام الذي ندعو إليه.
كذلك فإن كثيراً من الناس في مقابل هذا يرون أن الإسلام يقتضي منهم التشدد على الناس، وعدم معاملتهم بالتي هي أحسن والفظاظة والغلظة، وأن الإسلام يقتضي منهم السيطرة على عقليات الآخرين وعلى أفكارهم والتحكم في أمورهم، وهذا بعيد كل البعد عن منهج الإسلام.
وأولى الناس بالإسلام هو محمد صلى الله عليه وسلم: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ [البقرة:285]، ثم بعد ذلك: والمؤمنون: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ [البقرة:285]، هو أول من آمن، إذاً لا أحد أولى منه بالإسلام، إذا كان كذلك فلننظر إلى صفاته وأخلاقه، فهي التي تمثل الإسلام: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، ألم يقل الله له في كتابه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، ألم يقل له في كتابه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159]، ألم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله هو الخالق الرازق الحي القيوم، وإني لأرجو أن ألقى الله غداً وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في نفس أو مال )، أليس كان يقول: ( إنما أنا بشر مثلكم وأنتم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيءٍ من مال أخيه فإنما أقتطع له جمراً من النار ).
إن تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورحمته بالمؤمنين، وحرصه على مصالح الناس مما شهد الله له به في كتابه، فقد قال تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].
فإذا كنت يا أخي! تريد مفهوم الإسلام الحق، وتريد أن تتخلق به فتخلق بما وصف الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، لا يمكن أن يأتيك علم أصح ولا أقوى ولا أولى بالاتباع من هذا العلم الذي نزل به الروح الأمين على قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم، لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ [التوبة:128]، وهذا غاية في التواضع، فهو بينكم ومن أنفسكم بين ظهرانيكم، يكلمكم بلغتكم؛ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ [التوبة:128]، لا يريد العنت والمشقة، يريد التيسير والتبشير، ويكره التنفير والتعسير قال عليه الصلاة والسلام: ( إنما بعثتم مبشرين لا منفرين، وميسرين لا معسرين )، وفي الآخر: ( بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسر، وتطاوعا ولا تختلفا )، فهذه توجيهات الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال: ( إن منكم منفرين فما رأيته في موعظة أشد منه غضباً من يومئذ )، فلذلك لا بد يا أخي! إذا كنت تريد مفهوم الإسلام الصحيح في التعامل مع الناس أن تتذكر قول الله تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء:53]، وأن تتذكر قول الله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، فهذه توجيهات ربك الكريم يخاطبك بها، ولست أحرص على الإسلام من محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ بل هو أولى منك بالإسلام، وهذا عمله وهذا هديه.
ولذلك فإن الصحابي الذي تكلم في الصلاة قال: ( بأبي هو وأمي ما رأيت قبله ولا بعده معلماً أحسن منه، فو الله ما ضربني ولا كهرني، وإنما وضع يده على منكبي، فقال: إن هذه الصلاة لا يصلح لها شيء من كلام الناس، إنما هي لذكر الله وقراءة القرآن )، فهذه تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وهذا هديه.
يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: ( خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي لشيء فعلته لمَ فعلت، ولا لشيء تركته لمَ تركت )، وقالت عائشة رضي الله عنها: ( والله ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأةً ولا صبياً ولا خادماً، ما ضرب أحداً قط، ولم يكن يغضب لنفسه ولا ينتصر لنفسه، إنما كان يغضب لغضب الله إذا انتهكت حرمات الله )، فغضبه كله لله، ورضاه كله لله، ولم يكن ينتصر لنفسه أبداً.
وعندما وقف عليه رجل فقال: ( إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله، ابتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه، وقال: رحم الله أخي موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر )، وهذا غاية التواضع، فهو قد أوذي بهذا وصبر، لكنه مع ذلك أراد التنويه بشأن موسى ، فقال: ( رحم الله أخي موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر ).
إن الذين يريدون الإسلام تشدداً وتطرفاً، ومعاملة للآخرين بالغلظة والفظاظة لم يفهموا هذا الإسلام ولم يأخذوا به كما أخذ به محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
فمحمد صلى الله عليه وسلم كان يمر على الصبيان يلعبون فيسلم عليهم، وكان إذا دخل بيت أبي طلحة يقول: ( ما فعل النغير يا أبا عمير )، فيسأل الصبي الصغير عن نغر كان يلعب به، والنغر: طائر صغير، فيخالط الصبيان الصغار ويرحمهم، ويسأله عن لعبه، ويستشير الناس جميعاً في الأمر حتى إنه استشار بريرة رضي الله عنها، وكانت تأتيه الأمة السوداء فتأخذ بيده حتى يقضي لها حوائجها، وكان يخدم الناس، فقد غرس بيده نخلاً من النخل الذي كاتب عليه اليهود وسلمان .
وكان يعمل مع أصحابه حتى رئي الغبار ببطنه، وهو يحمل الحجارة في بناء المسجد، وكان يحفر معهم الخندق، وكان صلى الله عليه وسلم كذلك يخصف نعله ويخيط ثوبه، كل ذلك يفعله بيده، يكون في مهنة أهله، أي: في خدمة أهله، حتى إذا سمع النداء، أي: نداء الصلاة خرج إلى المسجد، فلذلك لا بد من التخلق بأخلاقه، حتى نفهم الإسلام فهماً صحيحاً، وقد قالت عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ( كان خلقه القرآن )، فما جاء الأمر به في القرآن ستجده في فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله، وما جاء النهي عنه في القرآن ستجده مجتنباً له بالكلية.
فلا تحتاج إلى أن تسأل، بل عليك أن تراقب وتنظر، فخلقه القرآن وهديه هو هذا التوازن والاعتدال، فهو متوسط في الأمر كله، وكان يحب الأيسر فالأيسر من الأمور، ( وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً ولا قطيعة رحم )، وكان صلى الله عليه وسلم في جهاده للعدو، وهم أعداؤه وأعداء دينه، وهم الذين أخرجوه من بلده الذي هو أحب البقاع إليه من قبل، ومع ذلك يلتمس العذر، وإذا قاتلهم ففروا وهربوا لم يرد إبادتهم ولا إهلاكهم جميعاً، وعندما احتبست به راحلته في الحديبية، قال: ( ما خلأت القصوى وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، والله لأن تسألني قريش خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أجبتهم إليها ).
وعندما قال سعد بن عبادة رضي الله عنه: وبيده اللواء يوم فتح مكة: اليوم ذلت قريش وخربت، فلم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة حتى جاءه ضرار بن الخطاب فأنشد بين يديه:
يا نبي الهدى إليك لجا حي قريش ولات حين لجاء
حين ضاقت عليهم سعة الأرض وعاداهم إله السماء
والتقت حلقة البطان على القوم ونودوا بالصيلم الصلعاء
إن سعداً يريد قاصمة الظهر بأهل الحجون والبطحاء
خزرجي لو يستطيع من الغيظ رمانا بالنسر والعواء
وغر الصدر لا يهم بشيء غير سفك الدماء وسبي النساء
قد تلظى على البطاح وجاءت عنه هند بالسوءة السوآء
إذ ينادى بالذل حي قريش وابن حرب بدا من الشهداء
فلئن أقحم اللواء ونادى يا حماة اللواء أهل اللواء
ثم ثابت إليه من بهم الخزرج والأوس أنجم الهيجاء
لتكونن بالبطاح قريش فقعة القاع في أكف الإماء
فانهينه فإنه أسد الأسد لدى الغاب والغ في الدماء
إنه مطرق يريد لنا الأمر سكوتا كالحية الصماء
نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة فانتزع منه اللواء وأعطاه ولده قيس بن سعد ، وكان هذا أحكم تصرفٍ وأبلغه، فلو أعطاه رجلاً من قريشٍ لكان هذا تفريقاً بين المؤمنين وإثارة للشحناء والبغضاء، ولو أعطاه رجلاً آخر من الأوس لكان ذلك إحياءً للخصام بين الخزرج والأوس، ولو أعطاه رجلاً آخر من الخزرج لكان ذلك إفساداً للنظام الاجتماعي حين يعزل سيد قبيلة فيعطي من هو دونه لواءهم، فلذلك أعطاه ولده، ففهم قيس توجيه النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يحتاج إلى كلام، فحمل اللواء فغرزه في المكان الذي غرزه فيه أبوه في الأبطح، وقال: اليوم عزت قريشاً وعمرت.
وعزها بالإسلام طبعاً، فهذا لا يضره هو ولا ينقص شيئاً من مكانته، فهذا التصرف الحكيم من النبي صلى الله عليه وسلم يدلنا على أنه لم يقاتل الكفار من أجل إبادتهم؛ بل إن النصوص الشرعية مصرحة ببقاء التدافع بين الحق والباطل، فلا يقصد أبداً بالجهاد في سبيل الله القضاء على الكفار، ولا يقصد إزالة الكفر من الأرض، هذا ليس ممكن وغير صحيح، لو أراده الله لما كفر أحد على ظهرها.
فجهادنا لأعداء الإسلام لا نقصد به إبادتهم، وإنما نقصد به دفع شرهم، ودفع كفرهم، ودفع تأثيرهم، ودفع حيلولتهم بين الناس وبين الدين؛ ولهذا قال الله: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ [البقرة:251]، وقال: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا [الحج:40].
فإذاً لا يقصد بالدعوة ولا بالجهاد إدخال جميع الناس في الإسلام، ولا إبادة جميع الكفار، هذا غير ممكن، ستبقى الدنيا مسرحاً لهذا الصراع الأبدي المستمر بين الحق والباطل، فيصول الباطل صولة ثم يهزم، ويعلو الحق ولا يعلى عليه، والعاقبة معروفة، فهي للمتقين دائما، ولكن ذلك إنما تأتي النتيجة النهائية فيه والفصل الحاسم عندما ينادي المنادي وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59]، عندما يخرج بعث النار إلى النار فحينئذٍ يأتي الفصل النهائي، أما قبل ذلك فلا بد أن تبقى الموجات، يوم لنا ويوم علينا.
ولهذا فإن أبا سفيان قال لـهرقل عندما سأله عن النبي صلى الله عليه وسلم: هل حاربتموه؟ قال: نعم، قال فما الحرب بينكم وبينه؟ قال: الحرب بيننا وبينه سجال، فهذا ما أخبر القيصر بأنه حال حرب الأنبياء فقال: كذلك أمر الإسلام حتى يتم.
فمن هنا يعلم أن التشدد الذي يريد بصاحبه العجلة، ويريد أن يقضي على الأعداء دفعة واحدة، ويريد أن يغير الواقع كله بجرة قلم، هذا ليس من مفهوم الإسلام الذي ندعو إليه ولا هو منه، فنحن مكلفون لله، ولا نعمل إلا على وفق تكليفنا، ونعلم أنه لم يكلفنا إلا بما نطيق: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، ومن هنا لا نتعلق بالمستحيل، ولا نطمح إلى ما لا نبلغه، بل قصارى أمرنا أن نتعلق بما نستطيع, وأن نفعل المستطاع:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع
ورحم الله عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة، أتاه ولده فقال: يا أمير المؤمنين! لقد وليت أمر أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم وما زلنا نرى فيها كثيراً من البدع والمحدثات، فقال: يا بني ألا يرضيك أن يكون أبوك كل يومٍ في إحياء سنة وإماتة بدعة، فهذا الفقه، فـعمر بن عبد العزيز يعلم أنه لن يقضي على كل الفساد الذي جاء خلال فترة طويلة من السنوات بيوم واحد ولا بساعة واحدة، بل سيكون ذلك بالتدريج والتقسيط، وترتيب الأولويات، والبداءة بالباب المفتوح قبل الباب المغلق، وامتثال ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فأنتم تعلمون أن المستعجلين يظنون أن أول ما أنزل من القرآن: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، وهذا عكس الواقع، فأول ما أنزل من القرآن: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5]، وآخر ما أنزل منه من الأحكام: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، وقد بين الله الحكمة في ذلك فقال: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا [الإسراء:106]، وقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [الفرقان:32-33].
أعرف رجلاً من الحكماء كان حوله رجل من الصالحين الذين صلحت أحوالهم في أواخر أيامهم، وحسنت خواتمهم وأقبلوا على الله جادين، وكان هذا الشيخ الكبير الجاد التائب من الذين يقومون الليل ويصومون كثيراً من الأيام، ويقرءون القرآن، والعلم، ويشتغلون بما يعنيهم، ويغضون أبصارهم وجوارحهم عن المعاصي، وما رأيناه إلا مشتغلاً بالطاعة، ولكن كان له ولد صغير، فكان شديداً عليه يؤدبه تأديباً شديداً على الكبيرة والصغيرة، فكان هذا الحكيم يقول له: أيها الشيخ! أنت تريد من هذا الولد أن تكون بدايته نهايتك أنت، وهذا غير متصور، تذكر أنت السنوات التي مرت عليك وأنت في الجانب الآخر.
لا شك أن النصيحة مطلوبة وأن اختصار المسافات وذكر التجارب مطلوب، لكن لا بد أن يدرك الإنسان أن ذلك أيضاً بحسب الإمكان، فهذا الطبيب إذا عرف أن هذا الفيروس يقضي عليه مثلاً: نصف كيلو من هذه المادة الفعالة، هل يريد من المريض أن يشرب نصف كيلو من المادة الفعالة من الحبوب في وقت واحد، سيوزعه على جرعات، هذه جرعه في ثمان ساعات، وجرعة ثانية في ثمان ساعات، وجرعة أخرى في ثمان ساعات وهكذا.
المضاد الحيوي لو استعلم الإنسان منه؟ أكبر من جرعته وضاعفها فسيضر به ضرراً بليغاً، فلذلك لا بد أن تكون دعوتنا كالجرعات الطبية، وأن لا يظن الإنسان أنه سيقدم كل مفاهيمه، وكل ما اقتنع به وكل علمه للناس في دفعة واحدة، ولا يظن أيضاً أنه يستطيع أن يشرح لهم ويقنعهم بكل ما يريد إقناعهم به في جلسة واحدة، هذا غير صحيح.
والكلام الذي نتكلم به إذا استوعب الناس وفهموا نسبة ثلاثين بالمائة منهم فقد نجحنا، والبقية سيستوعبها بعض الناس لا محالة، لكن حتى لو لم يستوعبها أحد فليس هذا إخفاقاً بل هو نجاح، وهذا الكلام الذي نقدمه في أي درس من الدروس نسبته أيضاً لا يمكن أن تصل إلى واحد بالمائة مما نريد أن يقتنع به الناس، فلذلك لا بد من الأخذ بالتقسيط والتدريج، فالله تعالى قادر على أن يخلق الإنسان على تمام أشده، وتمام خلقته كأنه في سن الأربعين، قادر أن يخرجه من بطن أمه وله لحية وشارب، وقد تم خلقه وتكاملت أعضاؤه؛ ولكنه أراد لحكمته هذا التدريج والتقسيط، فيخلقه من ضعف، ثم بعد الضعف القوة، ثم بعد القوة الضعف والشيبة، ويأتي به بالتقسيط في هذه المراحل التي بينها في قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:12-16].
فلهذا لا بد أن تدرك يا أخي! أنه لو اهتدى الناس جميعاً لتعطلت دعوتك، وكانت طاقتك مهدرة، ليس فيها وجه تصرفها فيه، ومن هنا فخذ الوقت الطويل والنفس الواسع لتبليغ ما اقتنعت به ولأدائه، وأعلم أنه لن يستوعب عنك في جلسة واحدة، ولا تستطيع أنت تبليغه في الجلسة الواحدة، وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلت: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا، فقال: إنه قد كان فيمن قبلكم يؤتى بالرجل فيوضع المنشار على مفرقه فيفرق به فرقتين، ثم يؤتى بأمشاط الحديد فيمشط بها ما دون عظمه من جلد ولحم، لا يصده ذلك عن دينه، والذي نفس محمدٍ بيده! ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوماً تستعجلون ).
وكذلك ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيءٍ من الدلجة ).
وكذلك ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن لعينك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعطي كل ذي حق حقه )، فلذلك لا بد أن يدرك الإنسان أن الاستعجال صاحبه لا يمكن أن يصل إلى مراده؛ بل أحسن حالاته إذا انكفأ على نفسه وأيس من الناس وأصيب بإحباط، لكنه لم يتراجع ولم يقع فيما وقع الناس فيه، وهو عرضة لأن يقع فيما وقع فيه الناس، وفيما ينكره عليهم، بل كثيراً ما تكون العاقبة نسأل الله السلامة والعافية، أن تزل قدم بعد ثبوتها، وينصرف الإنسان الذي كان يدعو على الخير ويستعجل فيه، إلى مقابله نسأل الله السلامة والعافية.
وكم شاهدنا من الذين كانوا يتشددون في أمور الدين، من الذين تراجعوا فأصبحوا من المتحللين الذين لا يحرمون حراماً، ولا يحلون حلالاً، نسأل الله السلامة والعافية.
فلذلك من دواعي الثبات على الدين والاستقامة عليه أن يأخذه الإنسان بما أخذه به رسول الله صلى الله عليه وسلم دون تشدد، وأن يوغل فيه برفق، وأن يعلم أن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
كذلك لا بد أن نعلم أن هذا الإسلام الذي ندعو إليه: دين رحمة ورفق ويسر، فلا بد أن تدعو الناس من واقع حرصك عليهم وسعيك إلى هدايتهم، ونصيحتك لهم، ولا ترد أبداً أن تتشفى بهم، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم للمقداد بن عمرو خطر ذلك، فعندما سأله قال: ( أرأيت لو أن رجلاً من المشركين حمل على المسلمين فأنكى فيهم فقتل فقاتلته فضربني فقطع يدي اليمنى، فلما رفعت عليه السيف لأقتله قال: أشهد أن لا إله إلا الله أأكف عنه؟ قال: إن قتلته بعد أن قال: ما قال كنت كحاله قبل أن يقول ما قال )، فهذا تحذير بليغ من النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين من أن يتشفوا لأنفسهم.
فهنا المقداد بين أنه كحال الرجل الذي قطعت يمينه، ورفع السيف على هذا لينتقم منه، فقال: لا إله إلا الله، فقال: ما قالها إلا عائذاً من السيف، فأنكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحال إنكاراً شديداً، بهذا المستوى من التنفير، وهذا يدلنا على أن الداعي إلى الله سبحانه وتعالى لا بد أن يحرص على هداية الناس واستقامتهم، وأن لا يحرص على شيءٍ لنفسه، وإذا حرص على شيءٍ لنفسه فلم يدع إلى الله، وإنما دعا إلى نفسه، إنما هو قائل يقول: اعرفوني اعرفوني وقد عرفوه، ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم تحذيراً بليغاً من النفر الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة: ( رجلٌ علمه الله العلم، فعلم الناس فلما مات دعاه فعرفه نعمته عليه فعرفها، فقال: فما فعلت فيها؟ قال: يا ربي! علمت فيك العلم، فقال الله: كذبت، وقال الملائكة: كذبت، إنما علمت ليقال: عالم، وقد قيل، فيؤمر به فيسحب على وجه فيرمى في النار، ورجل قاتل حتى قتل، فدعاه فعرفه نعمته عليه فعرفها، فقال: فما فعلت فيها؟ فقال: يا ربي! قاتلت فيك حتى قتلت، فيقول الله: كذبت، ويقول الملائكة: كذبت، إنما قاتلت ليقال: شجاع، فقد قيل، فيؤمر به فيسحب على وجهه فيرمى في النار، ورجل آتاه الله من أصناف المال ما آتاه، فلما مات دعاه فعرفه نعمته عليه فعرفها، فقال: فما فعلت فيها؟ فقال: يا ربي! لم أترك وجهاً تحب أن ينفق فيه المال إلا أنفقته فيه، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، إنما أنفقت ليقال جواد فقد قيل، فيؤمر به فيسحب على وجهه فيرمى في النار )، فلذلك لا بد أن يحرص الإنسان على ألا يدعو إلى نفسه، وأن يريد وجه الله، وأن يكون ربانياً في تصرفاته، إذا غضب فغضبه لله، وهو مربوط بما أذن الله فيه، فلا يتجاوز ولا يتعدى في الغضب، وقد قال الله تعالى حتى في التعامل مع المشركين في سورة النحل: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:126-128]، والغريب في الأمر أن من كان صادقاً مع الله سبحانه وتعالى إذا غضب لغضب الله لا يغضب الناس عليه؛ لأنهم يعلمون أنه محق، وأنه صاحب حق، وإذا كان الإنسان يريد شيئاً لنفسه إذا غضب، ولو كان ذلك في مجال مخالفة لا يحمل الناس ذلك على الصواب.
ولذلك فإن هارون الرشيد رحمه الله قد أراد أن يمتحن مالك بن أنس رضي الله عنه في هذه المسألة، فدس سائلاً يسأل مالك بن أنس عن مال الخليفة، فقال: شر مالٍ يؤخذ من غير حله، ويوضع في غير محله، فأرسله فسأل ابن أبي ذيب فقال: خير مال هو مال الله جاء من الجهاد في سبيل الله، وأخذ من العدو لوجهه، فأرسله إلى أبي حنيفة فسأله، فقال: الخليفة أدرى بماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ فلم يقبل أن يجيبه، فأرسل بثلاث أعطيات، قال: اذهب بهذه إلى مالك فإذا أخذها فاقتله، وبالأخرى إلى ابن أبي ذيب فإذا ردها فاقتله، وفي الأخرى إلى أبي حنيفة ولا تحاسبه إن ردها فاقبل منه، وإن أخذها فاتركه، فكل واحدٍ على حسب اجتهاده، فهؤلاء الأئمة الأعلام كلٌ رأى اجتهاداً وبين وجهاً.
وقد ذكرت القصة التي ذكرها العدوي في شأن علماء المالكية الأربعة، الذين اجتمعوا عند ملك تونس، ودعاهم إلى مائدته وعليها ألوان الطعام في عامٍ هو عام جدبٍ وحرب، والناس يشكون فيه من الجوع، فلما جيء بألوان الطعام، امتنع أحد العلماء من الأكل منه، فقالوا: ما لك لا تأكل؟ فقال: هذا مال يدعى إليه الكبراء ويمنع منه الفقراء، وهو مال الله الذي للجميع فيه حق فامتنع من الأكل منه، وآخر أكل منه لقمة أو لقمتين فقلل وانتهى، والثالث أكل منه أكلاً سريعاً شديداً حتى شبع، والرابع قال: أنا صائم، ولكن أريد نصيبي منه يحمل إلي إلى بيتي، فلما خرجوا اجتمعوا فقال: الذي امتنع قال: لقد عرفت أنكم ستجاملون في الحق ولا يحل أن نسكت عليه جميعاً، فأردت أن أقوم بفرض الكفاية في ذلك بالإنكار، وقال الذي أكل قليلاً قال: هذا نصيبي من بيت المال، وقال الذي أكل كثيراً قال: هذا مال يستعين به هذا الظالم على ظلمه، فأردت أن أضاره فيه وأن انتقص عليه منه، وقال الذي ادعى أنه صائم وطلب أن يحمل إليه إلى بيته قال: هذا مستهلك من مالٍ، ويجب استخلاصه وأداؤه إلى مستحقيه، وقد وجدت حيلة لاستخلاصه، فأردت أن أوزعه على طلبة العلم إذا حمل إلي إلى بيتي، فكان هذا الأخير أفقههم.
فلذلك لا بد أن ندرك أيضاً في الإسلام الذي ندعو إليه أنه دين سعة وتسامح، فهذا الدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما هو بين واضح كل البيان لا يختلف فيه اثنان، وهذا أمه لا يختلف فيه المسلمون، أمه أي: جمهوره وأغلبه، ومنه ما أراد الله سبحانه وتعالى وقوع الإجمال والخفاء فيه لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى، وذلك أن كل أهل عصرٍ لا بد أن يبقوا مقترنين بهذا الدين، ويبقوا مقترنين بالكتاب والسنة، ولو جاء الكتاب على شكل قانون ومواد مرقمة لاستوعبه الأولون، ولم يبقَ للآخرين فيه جهد، ولم يبقَ لهم فيه مزية، فجاء القرآن منه ما هو بين محكم، ومنه ما هو متشابه، ومنه ما هو مجمل، فالمتشابه والمجمل يزول عنه الخفاء بحسب الزمان، وعلى حسب مراتب عقول الناس ومستوياتهم العلمية، فلذلك ما خفي منه، وما كان محلاً للاجتهاد، واختلفت فيه الأنظار والآراء ينبغي أن يعذر بعض الناس فيه بعضاً.
وما كان حاسماً محسوماً بالنص فهذا لا بد أن يكون محل اتفاق من الجميع، ومن هنا فإن الله سبحانه وتعالى أرشدنا إلى حل التنازع برده إلى الله ورسوله، فقال: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59]، فإذا اختلف اثنان في حكم شرعيٍ اجتهادي، فاستطاع أحدهما أن يقنع الآخر بالدليل فبها ونعمت اتفقا؛ لأن هذا الآخر لم يتكلم عن هوىً، ولم يرد الانتصار لنفسه، وإنما أراد طلب الحق وإذا عرف الدليل أخذ به، وإذا لم يستطع إقناعه فتمسك كل واحد منهما بدليله فالحمد لله، لا يفسد هذا للود قضية، وكل واحد منهما يظن بالآخر ظناً حسناً، ويرى أنه لو علم أن الحق في غير ما أمسك به لأخذ بالحق ولترك ما هو عليه، لكن الله شرح صدره لما هو عليه، ورأى أنه الحق، ومن هنا فأنا أحسن به الظن وأعلم أنه يلتمس الحق ويقصده.
وإذا حصل هذا فسيزول كثير من الخلاف بين المسلمين في الجزئيات التي يختلف فيها، وهذا هو الإنصاف الذي يدعو إليه هذا الدين.
وقد قال أحد الحكماء:
لو عمل الناس على الإنصاف لم ترَ بين الناس من خلاف
لو أنصف الناس استراح القاضي وراح كل عن أخيه راضي
إن هذا الإسلام الذي ندعو إليه يغطي كل احتياجات الناس، فليس مختصاً ببعض جوانب الحياة دون بعض، فالذي يرى أن الإسلام الذي ندعو إليه هو التعبد ونريد من الناس فقط أن ينصرفوا عن هذه الدنيا، وأن يفروا منها ويعطلوها، وأن يتركوها لكلابها وأولادها، وأن لا يكون لهم أي مشاركة في شأنها، هؤلاء لم يفهموا الإسلام الذي ندعو إليه.
والذين يريدون كذلك الإغراق في أمور الدنيا وإيثارها على الآخرة، واستغلال كل ما أباحه الله فيها دون زهد فيها، فهؤلاء أيضاً لم يفهموا الإسلام الذي ندعو إليه.
نحن ندعو إلى الإسلام الذي يغطي كل أمور الناس في دنياهم وآخرتهم، والذي يرتب أولوياتهم، والذي يضمن مصالحهم، والذي ينظم علاقاتهم، والذي يبين ما للحاكم من حق، وما للمحكوم من حق، والذي يضبط الناس في مجال الاقتصاد ومجال السياسة ومجال الاجتماع، ومجال الثقافة، ومجال التعليم، ومجال الإعلام، ومجال القضاء، ومجال الإفتاء، وينظم كل الأمور ولا تند عنه نادة، ولا تشرد عنه شاردة، هذا هو الإسلام الذي ندعو إليه بشموله وإحاطته بكل جوانب الحياة، ولا نقبل تجزئته، ونعلم أن تلك التجزئة إنما هي مؤقتة، وإنما هي عن قصور وعدم استيعاب.
فالذي يريد مثلاً أن يستفتي وهو حاج، يستفتي في أحكام الحج وهو حريص عليها كل الحرص، ويقول: هل لزمني دم وقد فعل كذا، هل لزمتني فدية وقد فعلت كذا؟ وتراه حريصاً على السؤال في الحج، أليس جديراً به أن يسأل كذلك في أحكام الربا، هل يجوز له أكل الربا، أليس أكل الربا أعظم من مجرد مخالفة في الرمي وقعت عليه حصاة دون المرمى؟
إن هذا من العجائب وهي تشهد في هذا الموسم، وإذا خرج أحد منكم في الحج، سيرى من كثيرٍ من الحجاج حرصاً على تعلم الأحكام المتعلقة بالحج، يسأل أحدهم يقول: أنا دخلت منىً في الوقت الفلاني؟ وأنا وقعت علي حصاة دون المرمى؟ وأنا لم أنته من الرمي إلا في الوقت الفلاني؟ وهكذا يسألون عن تفصيلات الأمور، وهم مع ذلك يأكلون الربا، لا يسألون عن حكمه، ويأتون الغيبة لا يسألون عن حكمها؟ ويمشون بالنميمة لا يسألون عن حكمها؟ بل الأعظم من ذلك يعطلون حدود الله ويظلمون الناس، ويوالون أعداء الله، ويعادون أولياءه ولا يسألون عن حكم ذلك، ولا عن شيء من تفصيلاته، ما حال هؤلاء إلا كحال الخوارج الذين أتوا إلى نهر دجلة فلقوا عبد الله بن خباب بن الأرت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فامتحنوه على مقتضى رحلتهم، فلم يجبهم إلى ما دعوه إليه، فأضجعوه على شاطئ النهر فذبحوه فاستطال دمه حتى قطع النهر، فجلسوا يختصمون تحت ظل نخلة، فقال لهم رجل منهم: إن هذه النخلة لرجل من اليهود ذميٍ، وقد استبحتم ظلها دون استئذانه فاستأذنوه أو أعطوه أجرته في مقابل جلوسكم تحت ظل النخلة، فلما أتى اليهودي قال: عجبا لقومٍ يستحلون دم عبد الله بن خباب ويتورعون عن ظل نخلة لرجل يهودي.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يا أهل العراق عجباً لكم، تسألون عن حكم قتل الذباب في الحرم، وتقتلون الحسين بن علي بن أبي طالب إن هذا النوع من الخطأ في المفاهيم، وعدم ترتيب الأولويات يوقع الناس في أمور عجيبة جداً، ويبتعد بهم كثيراً عن هذا الإسلام وهذا الدين الذي ارتضاه الله لهم.
فالعجلة فيه تقتضي من الإنسان أن يسمع ما أعد الله للمجاهدين في سبيله من الأجر، فتتعلق نفسه بالجهاد دون أن يتقن الصلاة، فتراه حريصاً على الجهاد وحريصاً على الدعوة وحريصاً على الاستشهاد، لكن إذا جئت إلى صلاته هل تراها موافقة لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل في صلاته، وإذا رأيت صيامه وأعماله كلها لا تجدها موافقة لذلك الهدي، وأنت تعلم أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، وأنه آخر درجة من درجات السلم لا يمكن أن يصل إليه الإنسان قبل أن يصل إلى الدرجات الأخرى من السلم، إن على الإنسان إذا عرف هذا أو استوعبه أن يكون حريصاً على شعب الإسلام كلها، وأن يتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ : ( ادعهم إلى كبير الإسلام وصغيره )، وأن يحاول تطبيق كل ما أتاه من عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه المرضي لله، وأن يكون حريصاً كل الحرص على الصدق والإخلاص، وأن لا يكون عمله مشوباً بهوىً أو بإرادة ذاتية لنفسه، فهذا ما يبطل العمل ويفسده، وعليه أن يعلم أن الرياء بالعمل أو التسميع به هو مما يبطله ويقضي عليه حتى لو كان مثل الجبل في الثقل.
عليه كذلك أن يجتهد في ألا ينفر الناس عن الدين، وأن يعلم أن قطاع الطرق ليسوا بالذين يقفون على الطرق فيمنعون الناس من الجواز والمرور، وإنما هم الذين يمنعون الناس من سلوك الحق والهداية، فيقطعون عليهم طريق الهداية، يمنعونهم من الاستقامة والالتزام، فهؤلاء هم قطاع الطرق الذين حذر نبينا صلى الله عليه وسلم من حالهم، فقال: ( إن منكم منفرين )، فحذر غاية التحذير من هذا النوع من التصرف.
إننا لا نستطيع أن نوفي هذا الموضوع حقه في مثل هذه الجلسة المختصرة والوقت قد أزف، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما سمعنا وقلنا، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجعلنا أجمعين من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعلنا من الذين يدركون بالإشارة ما لا يدرك بالعبارة، وأن يفتح لنا مفاتح الخير، وأن يعلمنا هدي رسولنا صلى الله عليه وسلم، وأن يلزمنا التمسك بسنته عند فساد أمته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر