إسلام ويب

الإسلام عقيدة وشريعةللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الله عز وجل قد أرسل الرسل إلى خلقه لإقامة الحجة عليهم، وأنزل عليهم شرائع تنظم علاقاتهم مع الله، وعلاقتهم فيما بينهم، فبينوا لهم الحكمة من خلقهم وبينوا لهم أنواع التوحيد وأنواع الشرك وحذروهم من المخالفة وما جزاء من خالف منهم.

    1.   

    الاستقامة على الإسلام عقيدة وشريعة

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فإن الله عز وجل قد أرسل الرسل إلى خلقه لإقامة الحجة عليهم, وأخبر عما أرسلهم به بقوله جل من قائل: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48], وفي صحيح البخاري معلقاً عن عبد لله بن العباس رضي الله عنهما أنه فسر هذه الآية فقال: شرعةً ومنهاجاً، سبيلاً وسنةً.

    فالسبيل: هو الشريعة ومعناه: الأحكام التي تنظم علاقات العباد مع ربهم، وعلاقاتهم فيما بينهم.

    والسنة: هي العقيدة التي يؤمنون بها ولا تتعلق بالعمل الظاهري. وهذا المصطلح كان شائعاً في صدر الإسلام, وقد دأب المؤلفون الأوائل على تسمية العقيدة بالسنة, ولذلك قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى لما سئل عن مالك و ابن عيينة قال: إن مالكاً إمام في السنة والحديث، وإن ابن عيينة إمام في الحديث. فـمالك إمام في السنة والحديث معناه إمام في العقيدة وفي الحديث, و ابن عيينة إمام في الحديث, ولكن لعل بعض أمور العقيدة وتفاصيلها قد لا يكون متخصصاً فيها, ولذلك ألف كثير من المؤلفين كتباً بعناوين السنة، منهم عبد الله بن الإمام أحمد ألف كتابه: السنة, جمع فيها بعض الآيات والأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفاصيل العقيدة, وكذلك ألف الحميدي أبو بكر عبد الله بن الزبير الأسدي المكي القرشي شيخ البخاري ، أول من حدث عنه في صحيح, وتلميذه سفيان بن عيينة ألف كتاباً سماه: أصول السنة, وهو ملحق بآخر مسنده مطبوع في آخره, وكذلك ألف اللالكائي كتابه: شرح أصول السنة، ويقصد به جمع عقائد أهل السنة والجماعة.

    وكثير من المؤلفين يعقدون كتاباً للاعتصام بالسنة في كتبهم ويقصدون بذلك العقائد، مثل: البخاري في صحيحه عقد كتاباً في آخره للاعتصام بالسنة، والمقصود بذلك التمسك بالاعتقاد.

    وأما السبيل: فهو الصراط الذي يسير الناس عليه وينظم علاقاتهم بربهم وعلاقاتهم فيما بينهم، وهو المحجة البيضاء التي تركنا عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك, وهي مثال للصراط الأخروي, الذي هو جسر منصوب على متن جهنم، عليه كلاليب كشوك السعدان، يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم، فناجٍ مسلمٌ ومخدوش مرسل، ومكردس في نار جهنم.

    وكذلك هذا الصراط الدنيوي وهو صراط الله المستقيم الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم, هو أيضاً دقيق كالصراط الأخروي وعليه كلاليب وامتحانات, ولا يمكن أن يسلم الشخص في سلوكه من المحن؛ لأن الله تعالى يقول: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3], فهذا الصراط الدنيوي بقدر استقامة الشخص عليه يكون ثباته على الصراط الأخروي.

    فالذي يثبت عليه ولا ينحرف يمنة ولا يسرةً ويستقيم على المنهج الذي لا يرضي الله سواه, ويسلك سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم, يرجى أن يثبته الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27], والذي لا يمسك نفسه فتغلبه يمنةً تارةً ويسرةً تارةً أخرى، ويدخل في بنيات الطريق, فهذا يخشى عليه عدم الثبات على الصراط الأخروي.

    ولذلك كان في ختام الوصايا العشر التي أوصانا الله تعالى بها في خواتيم سورة الأنعام، وهي من آخر السور التي نزلت بمكة، التي ليس بها كثير من التشريع وإن كان فيها بعضه، وهي ملخصُ كل ما نزل بمكة من القرآن.

    فالمكي من كتاب الله تعالى اثنتان وثمانون سورة, وملخصها كان في سورة الأنعام, ولذلك نزلت دفعة واحدة, وكان من ملخصها هذه الوصايا العشر التي في آخرها من قوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [الأنعام:151]، إلى قوله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].

    وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ( خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خطاً، وخط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وخطوطاً عن شماله، ثم وضع أصبعه على الخط الأول فقال: هذا صراط الله مستقيماً, وأشار إلى الخطوط الأخرى فقال: وهذه سبل على كل واحدة منها شيطان يدعو إليه, ثم قرأ هذه الآية: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153] ).

    1.   

    الحكمة من إرسال الرسل

    إن إرسال الرسل كان لحكمة بالغة؛ لأن الله قد علم أن الصنف البشري لا يمكن أن يصل إلى كل ما يكفل مصالحه الدينية والدنيوية بمجرد عقوله القاصرة.

    فأرسل إليه الرسل لإقامة الحجة ولبيان المحجة, فجاءوا مبشرين ومنذرين؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل, وكان كل نبي يبعث بشريعة آنية، مؤقت بتاريخ معين في علم الله تعالى لا تصلح لما بعده, وذلك حسب التطور البشري إلى أن وصلت البشرية إلى نضجها واستكملت مراحل حياتها ومرت بكل التجارب, فأرسل الله إليها محمداً صلى الله عليه وسلم, على فترة من الرسل واقتراب من الساعة وجهالة من الناس, ففتح الله به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وجاء بهذا الدين الذي كان كل الأديان إعداداً له.

    1.   

    بعض مظاهر ومزايا دين الإسلام

    وظهرت مزايا هذا الدين في عدة أمور:

    شمولية الإسلام

    منها: أن الرسل السابقين لم تكن رسالتهم عامةً شاملةً لجميع البشر؛ بل كان النبي يبعث إلى قومه خاصةً, ولهذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أوتيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي، وعد منها أنه قال: وكان النبي يبعث إلى قومه خاصةً وبعثت إلى الناس عامةً ), فهو رسول إلى الأحمر والأسود والأبيض، وإلى كل الصنف البشري والجن أيضاً.

    تدرج شريعة الإسلام

    وكذلك من هذه المظاهر: أن الرسل كانت شرائعهم تدفع إليهم دفعة واحدة، ولا يقع فيه التدريج والتفاوت؛ لأنها في علم الله تعالى لا تصلح إلا لمدة محصورة من الزمن, وهذه الشريعة نزلت في ثلاث وعشرين سنة بالتدريج، ولذلك قال الله تعالى: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا * قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:106-109], ويقول تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [الفرقان:32-33].

    وقد سلم الله تعالى التوراة لموسى دفعة واحدة في الألواح مكتوبة، ولهذا قال الله تعالى: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ [الأعراف:145].

    وكذلك نزل الإنجيل دفعة واحدة، ونزلت الكتب كلها دفعة واحدة ولم يكن فيها نسخ.

    نسخ الإسلام لبقية الشرائع

    واختصت هذه الشريعة بظاهرة النسخ؛ لأنها الشريعة الخاتمة التي لن يأتي بعدها نبي، ولن يقع فيها تعديل ولا تغيير بعد أن توضع عليها اللمسات الأخيرة, وهذا ما حصل فعلاً، فقد أنزل الله تعالى على رسوله الله صلى الله عليه وسلم يوم الحج الأكبر يوم الجمعة وهو بعرفة في التاسع من شهر ذي الحجة، في العام العاشر من الهجرة, قول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3], فلا يمكن أن يتغير شيءٌ من شريعة هذا الدين ولا من عقيدته ولا أن يتبدل.

    المعجزة المعنوية في القرآن

    كذلك من هذه المظاهر أن الرسائل السابقة كانت معجزاتها مادية لا تقوم بها الحجة إلا على من رآها أو من نقلت إليه تواتراً, كناقة صالح عليه السلام لو لم ترد في القرآن لما آمنا بها؛ لأننا لم نشاهدها ولم تنقل إلينا بالتواتر, وإنما نؤمن بها الآن؛ لأن الله حدثنا بها في القرآن, وإلا فلا علم لنا بها.

    وكذلك معجزات عيسى عليه السلام أنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله, ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله, لو لم يرد هذا في القرآن لما صدقناه؛ لأننا لم نره ولم ينقل إلينا تواتراً, وهكذا كل المعجزات السابقة كانت مادية إنما تقوم به الحجة على عدد محصور من البشر.

    أما هذه الشريعة التي يراد لها البقاء والاستمرار، فكانت معجزتها معجزة معنوية تقوم بها الحجة على كل من سيأتي.

    ولذلك قال الله تعالى: لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19], ومن بلغ هو الذي فصله الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ( إن هذا الدين سيبلغ ما بلغ الليل والنهار ), فسيصل هذا الدين إلى نهاية جميع أهل الدنيا، وستقوم عليهم الحجة به وذلك هو الإظهار الذي تعهد الله به لنبيه صلى الله عليه وسلم في قوله: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33], فأظهره على الدين كله, وبذلك جعله مهيمناً عليه, فنحن الآن نشهد على الأمم السابقة بسبب هذا الكتاب الذي لدينا، وهو المعجزة التي تحدى الله بها الثقلين الإنس والجن أن يأتوا بسورة من مثله.

    فأقصر السور في كتاب الله هي سورة الكوثر، وهذه السورة يتحدى الله تعالى بها جميع الخلائق أن يأتوا بسورة من مثلها، في أي غرض شاءوه، وبأي لغة شاءوها، وبأي أسلوب شاءوه، وتبقى الحجة قائمة والتحدي قائماً إلى أن يرفع الله القرآن.

    وما زالوا حتى الآن متحدين بهذه، ولن يستطيعوا أن يأتوا بسورة من مثله,لم يستطيع أحد في غابر الزمان ولن يستطيع في باقيه, قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]، فإذاً هذه المعجزة الباقية دليل على بقاء هذه الشريعة واستمرارها.

    كذلك من الشرائع السابقة ما كانت تختص رسالة صاحبها رسالة النبي الذي جاء بها بإصلاح بعض الأمراض الاجتماعية الموجودة، ولا تكون ناسخةً للشريعة السابقة عليها، فمثلاً:

    شريعة لوط لم تكن ناسخةً لملة إبراهيم، وإنما كانت للتركيز على إصلاح بعض المظاهر الاجتماعية السيئة، مثل عادة اللواط التي جاء لوط على نبينا وعليه السلام ليمحوها من الأرض، وليحذر أهل الأرض منها وينذرهم الله تعالى ويذكرهم به.

    وكذلك رسالة شعيب لم تكن أيضاً ناسخةً لرسالة إبراهيم شريعته، وإنما جاء أيضاً لمكافحة ظلم الناس في المال، كخسران الميزان وبخس الناس أشياءهم, ولذلك حارب هذه الظاهرة وبغضها إلى أهل الأرض ما استطاع، وأقام عليهم الحجة لله تعالى في ذلك.

    أما هذه الشريعة فجاءت متناولة لكل شيء, وحتى الأمور التي استحدثت في بعض الشرائع ولم تكن في أصلها وقصرتها على بعض الجوانب دون بعض، كما أحدثه الرهبان من الذين يدعون اتباع عيسى حيث غيروا شريعته وبدلوها، واستحدثوا فيها الرهبانية وابتدعوها ما كتبها الله عليهم, فقصروا ديانة عيسى على ما يفعله الرهبان في الأديرة وما يتعبدون الله به في خصائص أنفسهم، وهذا مخالف لأصل الشريعة؛ لأن عيسى جاء رسولاً إلى بني إسرائيل مجدداً للدين، وهؤلاء قصروا الشريعة على بعض جوانبها؛ فلذلك آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، وهذا ما دعا به داعيهم، فقال: دعوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله. وهذا مخالف لما جاء به عيسى؛ لأن الله تعالى هو أغنى الشركاء عن الشرك, ولا يمكن أن يتقاسم خلقه بينه وبين غيره.

    ولذلك نعى الله تعالى على هذا عن المشركين في سورة الأنعام في قوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الأنعام:136], فإذاً حكم الله تعالى على ظاهرة التجزئة التي تجعل بعض الدين لله، وبعضه للمخلوقين بأنها أسوء حكم، ولذلك قال: سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الأنعام:136], ساء صيغة مبالغة في الذنب، فلا يوصف بها إلا ما وصل إلى الدرجة القصوى من الذنب.

    انقسام الشريعة إلى عهدين

    وكذلك من مظاهر كمال هذه الشريعة: أنها انقسمت إلى عهدين: عهد مكي، وعهد مدني, والقرآن الكريم وسوره مائة وأربع عشرة سورة، نزلت منه اثنتان وثمانون سورة قطعاً بمكة, ونزلت عشرون سورة قطعاً بالمدينة, واختلف في اثنتي عشرة سورة، ترددت بين المكي والمدني، بعضها نزل بعضه بمكة وبعضه بالمدينة، وبعضها تكرر نزوله نزل مرتين, فهذا يقتضي كمالاً فيما يتعلق بالعقيدة والشريعة.

    فعصر مكة كان التركيز فيه على العقيدة؛ لأن الناس إذا لم يبنوا على دافعٍ عقديٍ يقتنعون به، لا يمكن أن يمارسوا شعائرهم، ولا أن يطبقوا شرائعهم بمجرد دافع النفس أو المال أو الشهرة؛ لأن هذا لا ينفع ولا يغني عند الله شيئاً، فالله تعالى لم يكلفنا إلا بالإخلاص؛ ولهذا قال: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5].

    فلم يأمر الله تعالى بعبادة دون عقيدة, ولم يأمر أيضاً بعقيدة لا تدعو إلى شيء, فالاعتقاد الذي لا يؤدي إلى عمل اعتقاد باطل, ولهذا يسمى فلسفة أو سفسطة، فالسفسطة هي الحكمة الملبسة، معناها القناعات يقتنع به الشخص لا تدعوه إلى أي عمل, فالفيلسوف الذي يفكر كثيراً من التفكير ويتعب نفسه ويجهدها، ثم لا يصل إلى نتيجة عملية عمره ضائع ومحكوم عليه بالإفلاس.

    والجاهل الذي يبتدع في دين الله تعالى ويسعى ويجهد نفسه للتعبد بما لا يرضي الله تعالى, هذا أيضاً مغبون في صفقته في الدنيا والآخرة, ولهذا بكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما ذهب إلى الشام، فرأى الرهبان ينعزلون في الأديرة يبكون ويتقربون لله تعالى, فبكى رحمةً بهم، وتذكر قول الله تعالى في خواتم سورة الكهف: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103-104], هؤلاء يحسبون أنهم يحسنون صنعاً؛ لأنهم يتعبدون ويتقربون إلى الله تعالى, ومع ذلك ضل سعيهم في الحياة الدنيا؛ لأنهم لم يشاركوا في ملذاتها وشهواتها, وضل سعيهم في الآخرة؛ لأن أعمالهم باطلةً.

    ولذلك عندما يردون يوم القيامة, حينئذٍ يحق عليهم قول الله تعالى وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47], ويحق عليهم قول الله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23], ويحق عليهم قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36], فلذلك نجدهم الآن المنصرون مثلاً: يتعبون أنفسهم وينفقون أموالهم، ويسافرون الأسفار الشاقة، ويجهدون أبدانهم في سبيل دعوتهم الباطلة، ومع ذلك يظنون أنهم يحسنون صنعاً، وأعمالهم كلها باطلة، ولن تجد استجابةً مثمرة في الدنيا، ولن تجد يوم القيامة إلا أن تكون حسرةً عليهم ووبالاً.

    1.   

    محاربة الإسلام للشرك بجميع أنواعه

    أما تمام هذه الشريعة فعلى هذا الترتيب الذي ذكرناه، في البدايات كان التركيز على الإصلاح العقدي، وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم لمكافحة أنواع الشرك الموجود على الأرض في ذلك الوقت.

    الشرك في الربوبية

    والشرك أنواع متعددة: منه الشرك في الربوبية، معناه أن يعتقد الشخص أن للعالم خالقاً بارئاً فاطراً مدبراً غير الله تعالى، وهذا الشرك نادر قليل الوقوع؛ لأن البشرية لها عقول, وتعلم أن هذه السماء لا يمكن لبشر أن يخلقها, وأن هذه الأرض التي فيها قطع متجاورة تسقى بماءٍ واحد ويختلف نباتها، فهذه القطعة الواحدة متر واحد تبرز فيها نخلة ذات ثمرٍ حلوٍ وعلقمة ذات ثمرٍ مر, ولم يبرزا إلا من قطعة أرضية واحدة مسقاة بماءٍ واحد, فهذا يدل على أن الطبيعة لا أثر لها، وهذا الرد الصريح هو المذكور في قول الله تعالى: وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ [الرعد:4], فهذا أدل دليلٍ على فساد ما يدعيه الطبائعيون.

    وكذلك الذين قد يغترون بأنفسهم وسلطانهم من الطغاة الجبابرة فيدعي أحدهم دعوى هو أول من يكذبها, ولذلك إذا قامت عليه الحجة بهت وانقطع في أول كلامه.

    وانظروا إلى قصة إبراهيم مع الملك، حيث قال إبراهيم: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة:258]، قال الملك: قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258]، قال إبراهيم: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة:258]، ينقطع هنا في أول وهلة.

    كذلك فرعون عندما قال: أنا ربكم الأعلى، عندما قامت عليه أبسط حجة، أتاه موسى بتسع آيات بينات, فلما رأى أولاها، وهي اليد التي أخرجها من كمه، فإذا هي بيضاء مضيئة من غير علة، ارتاع فرعون من هذا، فقال كما حكى الله عنه: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى [غافر:36-37], الذي لا يستطيع أن يصعد إلى السماء دون سلم، معناه أنه لا يستطيع أن يبنيها، فهذا أدل دليلٍ على أن الدعوة التي يدعيها لا تصل إلى أعماق قلبه، ولا يؤمن هو بها.

    إذاً هذا النوع الأول من أنواع الشرك, وهو قليل إن وجد، وإنما يوجد في المجتمعات المتخلفة التي عقولها ناقصة إلى حدٍ كبير.

    شرك الوسائط والوسائل

    القسم الثاني من أقسام الشرك: هو شرك الوسائط والوسائل، ومعناه شرك الدعوة، أن يكون الشخص يعلم أن الله هو الذي خلقه وسواه وهو الذي خلق السموات والأرض ومن فيهن, ولكنه يريد أن يجعل له واسطة يتقرب إليه بتقديرها أو إجلالها أو تشفع له عنده، وهذا هو ما كان عليه المشركون وقت بعثة محمد صلى الله عليه وسلم, فالرسول صلى الله عليه وسلم وجد الكعبة وعليها ثلاثمائة وستون صنماً، ومع ذلك يخاطبه الله تعالى فيقول: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87], وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25], وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، أنت تملكه وما ملك. فإذاً هم مقرون بأن هذه الآلهة التي يعبدونها من دون الله هي مملوكة لله.

    ولكن قالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3], فكان أحدهم يصنع إلهاً من التمر، فيعبده ثم إذا جاع أكله وعدل إلى إلهٍ آخر, وهذا كان يفعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه, قبل أن يهديه الله للإسلام, وهذا يدلنا على أن البشر لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، وأن الهداية من عند الله.

    وعمر بن الخطاب من أرجح الناس عقلاً، ومن أولاهم بالتبصر وباجتهاد الصواب, ومع ذلك عندما لم تباشر الهداية قلبه في حال كفره وشركه، كان يصنع إلهاً من التمر ويسجد له ويعبده؛ ثم بعد ذلك يأكله إذا جاع ويصنع إلهاً آخر, لكن لما حلت الهداية في قلب عمر قال للحجر الأسود: ( أما إني لأعلم إنك لحجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك )؛ لأن عمر قد تغيرت حياته وانتقل مما كان فيه من الجاهلية الجهلاء بهداية الله التي حلت في قلبه, وليس باكتساب من عمر ولا بعلاقة بينه وبين الله, إنما بسبب هذه الهداية التي كتبها الله له وحلت في صدره.

    يقول طارق بن شهاب وكان من كبار التابعين، فقد أدرك عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسلم يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدرك شيئاً من حياته، ولذلك لم يكن من الصحابة وكان من كبار التابعين، يقول: سمعنا بظهور محمدٍ صلى الله عليه وسلم على مكة، فهربنا فراراً منه إلى نجد، وكنا نأخذ حجراً فنعبده، فإذا رأينا حجراً أحسن منه رمينا بأول وعبدنا الآخر، فإن لم نجد حجراً جمعنا تراباً واحتلبنا عليه شاةً فإذا يبس جعلناه صنماً فعبدناه.

    وهذا الآن أبسط العقول ينكر هذا وأنتم كذلك والحمد لله؛ لأن فطرتكم فطرة توحيد، تعلمون علم اليقين أن هذا من السفاهات التي لا يصل إليها إلا العقول الضعيفة جداً، ولكن الواقع أنه ما زال الآن في هذه الأرض التي عم كثير منها نور التوحيد، ووصلت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم, ما زال في كثيرٍ منها بعض الناس الذين يعبدون الأصنام حتى الآن.

    أيضاً هذا الشرك وإن كان متفاوتاً، فهذه الدرجة منه مخرجة من الملة، ولذلك أصلاً الكفار الذين جاء إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم, ذكرنا أنهم لم يكونوا يشركون في الربوبية، وإنما كانوا يشركون فقط في الدعوة.

    ولذلك كانت أكثر آيات التوحيد في القرآن متعلقة بشرك العبادة والدعوة فقط, سبعمائة وثلاثة وستون آية كلها متعلقة بشرك الدعوة في القرآن، ومنه سور كاملة تتعلق بشرك الدعوة، مثل: سورة الزمر مثلاً من أولها إلى آخرها تتعلق بشرك الدعوة بالله تعالى.

    كذلك المثلثة وهم النصارى، حتى الآن ما يعبدونه ليس إلا أصناماً من دون الله؛ لأنهم يعبدون الثالوث، ويزعمون أن الإله ملفقٌ من ثلاثة عناصر، وهي: الابن، والأم, وروح القدس، ويجعلون روح القدس قد حل فيه جسم عيسى، وبذلك يجعلون هذه أصناماً من دون لله تعالى, ولذلك قال الله تعالى في الرد عليهم في كتابه: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57].

    فعيسى وأمه من يملك لهما من الله شيء إذا أرد أن يهلكهما؟ لا أحد, فهما من عباد الله الصالحين الذين يرغبون فيما يرضي الله تعالى ويخافون من سخطه, فلذلك يخافون من سخط الله تعالى ويرغبون في طاعته ومرضاته, لذلك قال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57].

    ومن الشرك في الدعوة شرك دون هذا, ولذلك بعضه مخرج من الملة وبعضه لا يخرج منها, فمن المخرج من الملة منه الذبح لبعض الوجهاء لقصد التقرب إليهم, وكذلك الذبح للقبور, وكذلك الذبح لبعض الأحجار أو النصب وتعظيمها بأي شيء من العبادة, وهذا ثبت في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من يفعله, وهو شرك أكبر مخرج من الملة.

    ومما ليس مخرجاً من الملة من هذا: ما يفعله بعض الناس من التوسل بذوات عباد الله تعالى والتقرب بهم إلى الله, فنحن نعلم أن الله أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، وأنه وحده المدبر الحي القيوم الذي لا يموت, وهو وحده الإله الذي لا يصمد إلا له، ولا تطلب الحوائج إلا منه, ولا يرغب إلا فيما عنده ولا يرهب إلا مما عنده, لكن بعض الناس قد يصل إلى قصور في تصور نفسه وتصور علاقته بربه, فيظن أنه لا يستطيع أن يسأل الله تعالى مباشرةً, وسؤال الله تعالى عبادة, وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الدعاء هو العبادة ), وروي عنه في حديث آخر فيه مقال: ( الدعاء مخ العبادة ), فالدعاء إذاً لا يصرف منه شيء إلا لله, ولذلك أنكر الله على من يدعو سواه، فقال في آيات سورة فاطر: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14], ونعى على الذين يدعون الملائكة، وذكر أنهم سيكونون خصومهم يوم القيامة, ونعى على الذين يدعون عيسى وأمه في هذه الآية: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَب [الإسراء:57].

    فبذلك تبين أن هذا إنما هو من ضعف الإيمان, ومن عدم معرفة لله تعالى, فالذي يعرف الله تعالى حق المعرفة لا يسأل حاجةً إلا منه, ولذلك يقول أحد العارفين:

    لا تسألن بني آدم حاجةً وسل الذي أبوابه لا تحجبُ

    فالله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب

    فلذلك من أراد أن يتخذ وساطةً عند الله تعالى، أو أن يتقرب إليه بذوات عباده الذين خلقهم وفطرهم وسواهم ورزقهم جاهل بالله تعالى, ليس عارفاً لله, فلذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم لما دخل عليه الأعرابي كما في صحيح البخاري وقال: ( يا رسول الله! إنا لنستشفع بك على الله وبالله عليك، فقال: ويلك اعرف ما تقول، إن الله أجل وأعظم )، فرد عليه هذه الدعوة وعرفه بربه، وأخبره بأن الله لا يستشفع عليه بأحد من خلقه.

    شرك التشريع

    كذلك من أنواع الشرك: شرك آخر كافحه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو شرك التشريع، وشرك التشريع معناه أن ينظر إلى الكبراء على أنهم يطاعون في معصية الله، ويقلدون في خلاف شرع الله, وهذا ما كان حاصلاً فعلاً حتى في اليهود والنصارى الذين كانوا يدعون في ذلك الوقت الديانة، وأنهم أهل كتاب، أنزل الله تعالى فيهم في كتابه في سورة التوبة اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:1]، فهؤلاء كانوا يأمرونهم بالمنكر فيطيعونهم، وينهونهم عن المعروف فيطيعونهم, فلذلك اتخذوهم آلهةً من دون الله؛ لأن التشريع من خصائص الألوهية، ولا يمكن أن يشرع إلا الإله الخالق البارئ وحده, وتشريع أي قانون شرعه مخلوق، فهو دين غير دين الله، دين جديد ليس هو دين الله.

    فكل قانون أرضي هو دين غير دين الله, ولهذا نبه الله على هذا في كتابه في قوله في سورة يوسف: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [يوسف:76], ما هو دين الملك؟ هو قانونه الذي سطره وعمل به, فإذاً الدين يطلق على القانون, وكل رئيسٍ أو ملكٍ أو أميرٍ قنن قانوناً غير شرع الله، فإنه أتى بدينٍ جديد غير دين الله.

    ولذلك كان هذا صريحاً في هذه الآية: مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [يوسف:76], هذا الشرك كان موجوداً في ذلك الوقت، فكافحه الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نفاه, وأنزل الله عليه: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57], وأنزل عليه أن هذا التشريع كله من عند الله، وأن الرسول إنما يطلب منه بيانه، بقول الله تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44], فإذاً هو تنزيل من رب العالمين، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ [الشعراء:193]، على قلب محمد صلى الله عليه وسلم, فلا يصلح لأن يعارض بأي تقنينٍ جديد، ولا يحتاج إلى إكمال ولا تتميم: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].

    شرك المجتمعات

    كذلك من أنواع الشرك الذي كافحه الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت سائدة في ذلك الوقت: شرك المجتمعات، ومعناه: أن يكون الشخص يتأثر بعادات مجتمعه ويتبعه ويقلده في كل شيء، ويخاف من الرأي العام, وهذا من السنن الكونية أن كل قوم أرسل إليهم رسول يتشبثون الشبهة, وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23], هكذا يقولون دائماً, وهذه الشبهة تحول بينهم وبين اتباع الرسل، وهو كذلك في كل عصر من العصور تحول دون اتباع الدعوة إلى منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكثير من الناس يتربى في بيئة معينة يعلم هو أنها فيها أخطاءً كثيرة، ويعلم أنها غير معصومة لا يدعي لها العصمة, ويعلم أن كل أحدٍ يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولكن هذه الشبهة يلقيها الشيطان في مخه، فيقول: كيف أترك ما كان عليه آبائي وأسعى إلى شيءٍ جديد؟ ولا يعلم أن هذه الشبهة هي شبهة المشركين الذين دعاهم الرسل هي نفسها الشبهة, وإن كان تأثر الناس بها متفاوتة، فهو قد يستطيع أن يشعر بهذا في بعض الأمور، مثلاً هو يقلد آباءه في أمرٍ دعوي، ولكن لا يقلدهم في أمرٍ دنيوي، هو تراه يكتسب من أوجه الكسب التي لم يكن آباؤه يكتسبون بها, ويسعى هو مثلاً للتوظيف ويسعى للسيارات، يمتلك السيارات بل الطائرات، وهذه لم تكن عند آبائه، كيف ترفض تقليد آبائك في أمور الدنيا وتريد تقليدهم في أمور الدين فقط؟ ألا تعلم أن هذا من العلمانية ومن التفريق بين الدين والدولة.

    إذاً هذه الشبهة ضعيفة ويتشبث بها كثير من الناس وهي من الغلط الفاحش. والمنهج الصحيح أن نعلم أن الرجال لا يحكمون، وأنهم هم الذين يعرفون بالحق وأن الحق لا يعرف بهم.

    فلذلك نتحاكم في كل جلل وجليل إلى كتاب الله المعصوم؛ لأنه ليس بين أيدينا معصوم غير كتاب الله وغير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه, فإذا حصل أي خلاف أرجعناه إلى الله ورسوله, وهذا المنهج الذي رضي الله لنا وبينه بقوله: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83], أولي الأمر منهم: هم الذين يستنبطونه منهم؛ لأنه بين، فقال: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83], معناه هم العلماء الذين يعرفون ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

    فقوله: (( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ )) يشير إلى الظروف العادية التي يعيشها الناس, وقوله: (( أو الخوف )) يشير إلى الظروف الاستثنائية التي تحصل في حال الفتن والحروب، وضيق العيش ونحو ذلك, وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ [النساء:83], أي: جعلوه فوضى فكل شخص يؤخذ رأيه فيه، وهذا يقلد هذا وهذا يقلد الآخر، وهكذا حتى تقع التحزبات والآراء المختلفة، وتكن الأمور حينئذٍ يحكم فيها الرويبضة، ويوسد الأمر إلى غير أهله، وهذا هو رفع الأمانة الذي حدث به الرسول صلى الله عليه وسلم أنه من أمارات الساعة، فسألوه: ( ما رفع الأمانة يا رسول الله؟ قال: أن يوسد الأمر إلى غير أهله ), فهذا يحصل عند رفع العلم.

    ولذلك أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أن الله لا يرفع هذا العلم انتزاعاً، ولكن يرفعه بموت أهله, فإذا مات العلماء اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فاستفتوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا ).

    فلهذا المنهج الصحيح والصواب ألا نتحاكم إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وأن نعلم أن كل أحدٍ يؤخذ من قوله ويرد، كما قال الإمام مالك رحمه الله: ما منا من أحدٍ إلا وهو راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر وحده.

    والشافعي رحمه الله أيضاً كان على نفس المنهج، ولذلك قال: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، وقال: إذا صح الحديث فهو مذهبي.

    وروي أيضاً عن مالك رحمه الله تعالى أنه قال: ما وجدتم من قولي موافقاً لشرع الله، موافقاً لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوه، وما لم تجدوه كذلك فاضربوا به عرض الحائط.

    وكذلك أبو حنيفة قال هذا, و أحمد بن حنبل قاله، وهم أئمة الدين الذين اتفقت الأمة على أنهم حصلوا على القدر المطلوب من العلم, وعلى القدر المطلوب أيضاً من التبصر والفهم, وجمعوا بين أمرين هما: الصبر، واليقين، الذين إذا جمع الشخص بينهما كان إماماً، والله تعالى يقول: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24]؛ لأن الصبر هو الذي يكافح الشخص به الشهوات, واليقين هو الذي يكافح الشخص به الشبهات, فإذا نجا الشخص من الشهوات والشبهات كان أستحق لقب الإمامة, مع أن لقب الإمامة لقب عظيم شرف الله به إبراهيم, فقال تعالى: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124], أي: وهذا بعد أن امتحنه وابتلاه، وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة:124], أي: نجح في هذا الامتحان, قال: قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، هذه جائزة الامتحان هي هذا الوسام العظيم من رب العالمين, ولكن همة إبراهيم كانت عليةً، فقال وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124], يريد أن تبقى الإمامة متسلسلة في ذريته, فبماذا أجابه ربه؟ قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124], من كان منهم على منهجك وطريقك فيمكن أن ينال هذا اللقب، لكن الظالمين منهم لا يدخلون في هذا العهد ولا يستحقونه، ولا ينالهم عهد الله هذا.

    إزالة الرسول لجميع مظاهر الشرك

    إذاً كان هذا في المجال العقدي، وكافح الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الظواهر السيئة حتى صرفها بالكلية، فكان منها ما يصعب علاجه ويحتاج إلى وقتٍ لإزالته، كالأصنام مثلاً لم يستطع إزالتها عن الكعبة إلا يوم فتح مكة، في العام الثامن من الهجرة، بعد أن مكث إحدى وعشرين سنة، وهو يجاهد بعد البعثة, إحدى وعشرين سنة يجاهد من أجل تنحيتها ولم يتمكن من ذلك إلا قبل موته بسنتين, في العام الثامن من الهجرة, أزالها وأرسل سرايا تهدم الأصنام التي ليست داخل مكة, أرسل خالد بن الوليد ليقطع العزى وليهدم مناة واللات، فهدمها خالد بن الوليد ومن معه, وصعد علي بن أبي طالب رضي الله عنه فوق الكعبة فكسر بقية الأصنام, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إلى بعضها بقدح في يده، فيقول: ( قل جاء الحق وزهق الباطل ), وينكسها حتى تكسرت الأصنام والأنصاب، وزال كل الشرك من جزيرة العرب, وأيضاً زال من النفوس, فالمهم ليس فقط أن يزول الشرك الظاهري, بل المهم أن يزول الشرك من القلوب والنفوس حتى لا تعتاد عليه؛ لأن كثيراً من الناس قد يتربى في بعض الأحيان في بعض البيئات على بعض الأمور الشركية التي يراها بسيطةً، يظن أنها ليست ذات شأن كبير, وهذا ما يحصل فعلاً, ولهذا قال الله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:105-106], يجد شيئاً من الشرك في نفسه، إما للرياء، والرياء شرك أصغر, واختلف هل هو مبطل للعمل أو لا؟ العمل الذي رؤي به، ليس محبطاً لكل الأعمال، ولكن للعمل فقط الذي رؤي به، هل يحبطه الرياء أو لا؟ هذا محل خلاف؛ لأنه ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك, فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ), فهذا يدل على أن هذا النوع من الشرك وهو الرياء شرك خطير؛ لأن الله أرسل إلينا الرسل كما أخبرنا بشريعة وإخلاص؛ ولذلك قال: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5], وخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [الزمر:11-15], فهذا يقتضي إزالة هذا النوع من الشرك, ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ منه فيقول: ( اللهم أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم ).

    كذلك الشرك التشريعي الذي ذكرناه لا يزال في بعض الأحيان يوجد لدى بعض الناس, فيطيع المخلوق في معصية الخالق، والمخلوق لا يطاع في معصية الخالق، حتى ولو كان أباك أو أمك أو أقرب الأقارب إليك، فإنه لا يغني عنك من الله شيئاً, والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( يا فاطمة بنت محمد! إني لا أغني عنك من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب ! إني لا أغني عنك من الله شيئاً ), فالرسول صلى الله عليه وسلم يتبرأ من هذا، ويريد منا أن نعرف الله حق المعرفة، وأن نوحده حق التوحيد حتى لا يقع أي التباسٍ ولا شك في الذهن، بمجرد حصول هذا في الذهن.

    التقرب إلى الله بما شرع

    كذلك في بعض الأحيان يقع من بعض الناس التباس فيما يتعلق بالوسيلة والتقرب، فنحن نعلم أن العباد متفاوتون في تقريب الله عز وجل لهم واصطفائه لهم: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75]، وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ [النحل:71]، والرزق منه الرزق الأخروي, وهم متفاوتون في الأعمال الصالحة، منهم الصالحون ومنهم الطالحون, وهذا ما أخبر به الجن عن أنفسهم، قالوا: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا [الجن:11]، لكن لا يتقرب إلى الله عز وجل إلا بما شرع, لماذا؟ لأن المخلوق يمكن أن تنفعه وأن تضره, فلذلك يمكن أن تقدم إليه منفعةً دون أن تستشيره في ذلك, ويمكن أن ترفع عنه ضرراً دون أن تستشيره في ذلك؛ لأنك يمكن أن تنفعه وأن تضره, أما الله فيقول كما رواه عنه رسوله الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: ( يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ), فإذا كان لا يمكن أن نبلغ ضره ولا أن نبلغ نفعه، فكيف نتقرب إليه إلا بشيء بينه لنا ووضحه؟ إذاً لا يمكن أن نتقرب إليه إلا بما شرع.

    فإذا كان الأمر كذلك فهنا إذا أردنا قضاء حوائجنا، فلا شك أن الوجهة التي ينبغي أن نتوجه إليها هو سؤال الله تعالى والرغبة إليه, والرغبة إليه ودعاؤه من تحقيق العبادة له, ولذلك من لا يسأل الله تعالى عند أي رغبة وعند أي حاجة، فإنه مصاب بمرض في قلبه يحول بينه وبين التوفيق لهذه العبادة العظيمة, ولذلك كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعوهم يسألون الله كل شيء حتى الملح للطعام.

    كان هذا في مجال الاعتقاد الذي هو الطرف الأول مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

    وتلخيصاً له فإن التوحيد الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم والرسل من قبله ينقسم إلى قسمين: توحيد في العلم والخبر, وتوحيد في الطلب والقصد.

    أما التوحيد الذي في العلم والخبر، فهو ما أخبر الله به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم.

    وأما التوحيد الذي في القصد والطلب، فهو أن لا تطلب حاجةً إلا منه وألا يدعى سواه، وألا يرغب إلا إليه، وألا يخشى إلا منه.

    1.   

    تنظيم الشريعة لشئون الخلق الدينية والدنيوية

    أما القسم الثاني: فهو الشريعة، والشريعة معناها ما ينظم علاقات العباد مع ربهم وما ينظم علاقاتهم فيما بينهم, أما علاقاتهم بربهم فقد شرع الله فيها العبادات التي بينها الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفصل أحكام صلاتها وزكاتها وصيامها وحجها وجهادها، وأيمانها ونذورها، وذبائحها، وهذه هي العبادات: الصلاة والزكاة والصوم والحج والاعتكاف والأيمان والنذور والجهاد والذبائح.

    كذلك ما ينظم علاقات العباد فيما بينهم وهو المعاملات، وهي التي فصلها الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أحكامها، فبين أحكام النكاح، وأحكام البيوع، وأحكام العقود كلها.

    وكذلك بين علاج الأمراض الاجتماعية التي تؤدي إلى الإخلال بأحد الضروريات التي لا بد منها، وهي: الدين، والعقل، والبدن، والمال، والعرض والنسب. وبين لنا علاج هذه الأمراض التي تخل بأحد هذه وهي المسماة بالحدود.

    وكذلك بين لنا ما يفصل النزاعات والخصومات بين الناس وهو القضاء, فكل هذه هي الشريعة، وكل هذه الأحكام بتفاصيلها هي الشريعة.

    ولا شك أن هذه الشريعة تنقسم إلى قسمين: قسمها المتعلق بالحقوق حقوق الله تعالى يسمى بالدين، وقسمها المتعلق بالمعاملة الظاهرة، الذي يرفع إلى القضاة ويحكم فيه بالأحكام يسمى بالشرع, وبعض القضايا يفصل فيه بين الشرع والدين, وبعضها يكون الموقف منه موحداً.

    فمثلاً: لا شك أن قضايا الأنكحة بعضها يُدّيّن فيه الشخص، معناه يوكل إلى دينه, وبعضها يرفع إلى القضاة فيحكمون فيه بأحكامهم, وبعضها يكون مما يفرق فيه بين القضاء والفتوى، فيعتبر فيه جهة الشرع وجهة الدين كل ذلك باعتبارٍ محدد.

    فهذه الشريعة لم تترك شيئاً من مجالات الحياة إلا بينته بأوضح تبيين, ولذلك ثبت أن سلمان الفارسي أتاه يهودي فقال: ( يا سلمان ! إن نبيكم قد بين لكم كل شيءٍ حتى الخراءة )، والخراءة معناه: الخروج إلى الخلاء أو إلى الغائط, فقال سلمان : ( نعم أمرنا ألا نستقبل القبلة ببولٍ ولا غائط، وأن نستجمر ثلاثاً ), فهذا بيان من سلمان ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك أي شيءٍ إلا بين حكم الله تعالى فيه, وهذا يقتضي عموم الشريعة وشمولها لجميع الميادين.

    تنظيم الشريعة للجانب السياسي

    فمن أحكامها ما يتعلق بجانب السياسة، وبجانب العلاقة بين الراعي والرعية، وهو ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، وورد فيه كثير من الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم, وورد أيضاً في القرآن بعض الآيات المبينة له, ومنها ما يتعلق بالعلاقات العامة، ومعناه علاقة المسلمين بالكفار، وهو مبين أيضاً في كثير من الآيات والأحاديث، مثل قوله تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة:8-9], وكما في قوله تعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة:36], وآيات السيف وآيات الجهاد كلها من هذا القبيل.

    تنظيم الشريعة لعلاقة المسلم بأخيه المسلم

    وكذلك ما يبين علاقات المسلم بالمسلم، كعلاقة الوالد بالولد كما في قوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء:36], وكما في قوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23], والأحاديث الكثيرة الواردة في ذلك المجال, وكذلك ما يبين علاقات الأزواج فيما بينهم، وقد ثبت فيه من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشيء الكثير.

    تنظيم الشريعة للميدان الاقتصادي

    وكذلك ما يختص بالميدان الاقتصادي، فيبين ما يحل من التعامل وما يحرم، وأوجه كسب هذه الأمة وما تنتفع به، فالنظرية العامة لذلك تحريم أكل المال بالباطل: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188], يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172], وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل مال امرئ مسلمٍ إلا عن طيبة نفسٍ منه ), وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا ).

    وكذلك بيان أن المال لله تعالى، وأن من جعل ما تحت يديه إنما هو وكيل ينتظر العزل في كل حين، وأنه يتصرف تصرف الوكيل، والوكيل معزول عن غير النظر، وهذا ما بينه الله تعالى بقوله: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7], وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث.

    وكذلك منه ما يبين ما يحل من التعامل وما يحرم، مثل قوله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275], وكذلك أوجه اكتساب هذه الأمة وانتفاعها وهو ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ( جعل رزقي تحت ظل رمحي ), فهذه الأمة ليس تقدمها بالتكنولوجيا، وليس تقدمها بالثورة الزراعية، ولا بالثورة الصناعية, ولا يمكن أن تسعى وراء الأمم في ذلك، فلو نازعنا الآن أمريكا مثلاً والدول الصناعية في صناعتها لما وصلنا إلى مستواها, وكذلك لو نازعنا الدول الزراعية الكبرى، كالولايات المتحدة والصين مثلاً في الزراعة لما وصلنا إلى مستواها, لكننا لم نكلف بهذا، فرزقنا ليس فيما هنالك ( جعل رزقي تحت ظل رمحي )، رزق هذه الأمة بالجهاد في سبيل الله, فلذلك إذا تركته ورجعت إلى الزرع أو اكتساب أمور الدنيا سلط الله عليه الذل، كما في حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا تبايعتم بالعينة ورضيتم بالزرع، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم ), فهذا بيان لأوجه عز هذه الأمة، وأوجه اكتسابها ومن أين ترزق.

    تنظيم الشريعة لجوانب الأخلاق

    وكذلك فيه أمور أخرى، وأحكام أخرى تفصيلية تتعلق بالأخلاق، وتبين أن إطارها العام هو الرحمة، وأن الرحمة صفة من صفات الله كتبها على نفسه, وطلبها من عباده؛ ولذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء )، وهذه الرحمة كتبت على كل شيء، كما ثبت في حديث أبي ذر و شداد بن أوس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ).

    وكذلك بيان للأخلاق الاجتماعية العالية، وبيان للمنهج السلوكي المرغوب, وانظروا إلى قول الله تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:63-70], فهذا أبلغ الأخلاق وأحسنها وأولاها بالاتباع وأقومها، وهو المنهج الصحيح الذي بينه لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم, فلذلك لا يتعلم الخلق ولا التعامل إلا في سبيله, فالدين المعاملة, والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تزال أمتي بخير ما دام كبيرها يرحم صغيرها، وصغيرها يوقر كبيرها ), فهذا التعامل بين الناس بالتي هي أحسن وبالإنصاف وبالعدل، هو الأصل الخلق التشريعي الذي جاءت به هذه الشريعة الكاملة الشاملة.

    1.   

    دور العلماء في تبيين أحكام الشريعة

    لا نستطيع استقصاء الجوانب التي تدخل في مجال الإسلام شريعةً, أي: التي بينها الإسلام تشريعاً، ولكن الذي نجزم به ونقوله: أنه ما من شيءٍ إلا ولله حكم فيه، سواءً كان ذلك الحكم صريحاً في كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غير صريح، يستنبطه الذين يستنبطونه منهم، يستخرجه العلماء, ولذلك كان من فضل الله تعالى ولطفه بهذه الأمة أن استخرج لها من العلماء من قعدوا لها قواعد أصول الفقه التي هي علم اقتصاد الشريعة.

    فعلم اقتصاد الدنيا علم الاقتصاد: وهو العلم الذي يمكن من خلاله تغطية الحاجيات غير المحدودة من الموارد المحدودة.

    وعلم أصول الفقه: هو العلم الذي يمكن من خلاله تغطية النوازل التي لا حصر لها من النصوص المحصورة, فنصوص القرآن لن تزداد بآية، هي الآن في العد المدني الذي لدينا ستة آلاف ومائتان وأربع عشرة آية، لا يمكن أن تزاد بآية ولا أن تنقص منها آية, والأحاديث, أحاديث الأحكام الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا تجاوز عشرة آلاف بالكثير, وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي وصلت إلينا تقريباً لا تتجاوز مائة ألف حديث بالكثير.

    ومع ذلك فهي محتوية على جميع الأحكام، متناولة لكل شيء، إما بالصريح وإما بالتضمين، وإما أن يكون في دلالتها المختلفة.

    وأهل العلم هم الذين يستنبطون ما لم يرد بالتصريح، وأما ما ورد بالتصريح فلا يحتاج إلى أهل العلم فيه.

    فلذلك كانت النصوص تنقسم إلى أقسام: فمنها ما هو قطعي الدلالة والورود، وهذا لا يحتاج الناس فيه، من كان يعرف العربية فلا يحتاج فيه إلى العلماء؛ لأنه كل شخص منا يعرف معنى قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:1-3]، هل فيكم أحد يجهل معنى قول الله تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:3]؟ لا، كل من يعرف العربية يعرف معنى هذه، ولا يحل له أن يقلد فيها أحداً؛ لأن الله هو الذي تكلم بهذا، وهو الذي أمرنا بالإيمان به، وأعطانا من العقول ومن الفهم ما نفهمه به، ونظير هذا من القرآن كثير.

    لكن من النصوص أيضاً ما يكون غير قطعي الدلالة، فيكون محتملاً لعدة احتمالات، وهذا حينئذٍ لا بد أن نحتاج فيه إلى أهل العلم، الذين يعرفون لنا الراجح من تلك الاحتمالات ويستطيعون الجمع بين ما يوهم التعارض منها, فإذاً إذا جاء النص صحيحاً صريحاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء كان من القرآن أو من السنة، فلا يحتاج فيه إلى العلماء، فمن وصل إليه قامت عليه الحجة به، ولا يحل له إن يقلد فيه أحداً، إذا فهمه من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، صحيحاً صريحاً لا نقاش فيه، مثل قول الله تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:3-4].

    فإذا جاء النص لا يدري الشخص هو صحيح أم لا؟ مثلاً حديث لم يعرف الشخص درجته، ولم يدرِ هل هو واصل إلى درجة الصحة أو لا؟ ولكن معناه واضح، ويحتاج فقط إلى من يصححه له، لكن لا يحتاج إلى من يشرحه له؛ لأن معناه واضح, وتفسير الواضحات من الفاضحات، فإذا جاء النص عن الرسول صلى الله عليه وسلم معناه واضح جداً، كالشمس في رابعة النهار, فالرسول أبلغ منا، وهو أفصح الناس, فإذاً كلامه واضح، وكل من يعرف العربية يفهمه, لكن هل هو صحيح عنه أم لا؟ فنحتاج هنا إلى العلماء نسألهم: هل هذا الحديث صحيح، فإذا قالوا: صحيح انتهى دورهم ونعمل نحن به؛ لأنه ليس لأن العلماء قالوه؛ وإنما لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله.

    وقد يأتينا من النصوص ما لا يكون صريحاً، ويكون في دلالته إشكال، حينئذٍ نحتاج إلى العلماء، لكي يفسروا لنا معنى قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ [المائدة:106], مثلاً، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ [المائدة:106], هذه الآن الآية نحتاج فيها إلى بيان فنذهب إلى العلماء فنسألهم عن قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [المائدة:106-107], هذا نحتاج في دلالته إلى العلماء؛ لأنه ليس كل أحد يستطيع فهمه, فنذهب إلى العلماء ونسألهم ويفسرونه لنا, فإذا أشكل على بعضهم لن يشكل على جميعهم، ولا يمكن أن يشكل شيء من القرآن على كل الناس؛ لأنه جاء بياناً، وما لم يبين منه بينه الرسول صلى الله عليه وسلم بفعله، مثلاً: الصلاة، جاءت إجمالاً في القرآن, أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة, ولكن بينها الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ).

    كذلك الحج جاء إجمالاً في القرآن: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97], لكن بينه لنا الرسول صلى الله عليه وسلم في تطبيقه، وقال: ( خذوا عني مناسككم ), فبين لنا مناسكنا في الحج, إذاً البيان الشافي الكافي لن يعقب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا حصل إشكال فأهل العلم الذين هم ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم يبينوا لنا هذا الإشكال وتحل المشكلة.

    1.   

    سنة الابتلاء والمجاهدة

    الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل ), ولا شك أنه لا يمكن أن يستقيم الشخص على دين الله ما لم يمتحن ويبتلَ, ولذلك كان طريق الدعوة وهي مجاهدة الشخص لنفسه، وأنتم تعلمون أن الجهاد أربع عشرة مرتبةً, ولذلك كان ذروة سنام الإسلام، فهو أربع عشرة مرتبةً: أوله جهاد النفس، وهو أربع مراتب: أولاً: أن يجاهد الشخص نفسه على تعلم ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم, وهذا جهاد صعب، وكثير من الناس ينقطع دون أن يتعلم، ويكون صالحاً للتعلم، ولكن الشيطان يحول بينه بينه، إذاً فهذه المرتبة الأولى.

    والمرتبة الثانية: مجاهدتها على العمل بما تعلمه ولو آية واحدة، كلما تعلم حكماً واحداً، أو دقيقةً واحدةً مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا وطبقها، إذاً هذا يحتاج إلى جهاد عظيم أيضاً؛ لأن كثيراً من العلماء قد لا يعمل بما تعلم، فيكون حينئذٍ قامت عليه الحجة بما تعلم, ولذلك قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (إن أخوف ما أخافه هذا القرآن، ألا تبقى آية آمرةً إلا جاءتني فقالت: أتيتك آمرةً فلم تأتمر بي، ولا آية زاجرة إلا أتتني فقالت: أتيتك زاجرةً فلم تنزجر بي)، وهذه هي المرتبة الثانية.

    والمرتبة الثالثة: جهاد النفس على الدعوة إلى ما تعلمه الشخص وعمل به؛ لأن ملة محمد صلى الله عليه وسلم ملزمة للدعوة, لا يمكن أن يكون الشخص من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم وهو لم يدع, فحياة الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث وعشرون سنة منها وهي ما بعد البعثة كلها دعوة وجهاد, لم ينزع قلادة سيفه من عنقه إلا بعد أن مات.

    فقضية جهاد النفس على الدعوة إلى ما تعلمه الشخص وعمل به هذا واجب، أقام الرسول صلى الله عليه وسلم الحجة فيه، في آخر عهدنا به في حجة الوداع التي ودع الناس فيها فقال: ( بلغوا عني ولو آية ), وكذلك قال الله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108], فلا يمكن أن يكون الشخص ممن اتبعه إلا إذا كان على سبيله, وسبيله هو أن يدعو إلى الله.

    المرتبة الرابعة: من مراتب جهاد النفس هي جهادها على تحمل الأذى في سبيل الدعوة، على الصبر على ما يلقاه الشخص من الأذى في سبيل الدعوة.

    وهذه المراتب الأربع هي وصية لقمان لابنه في سورة لقمان :

    أولها: العلم في قوله: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].

    ثانياً: العمل: في قوله يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لقمان:17].

    ثالثاً: الدعوة: في قوله: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ [لقمان:17].

    رابعاً: الصبر: في قوله: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17], إذاً فهذه الأربع هي مراتب جهاد النفس.

    وبعدها جهاد الشيطان، وهو فقط في مرتبتين: جهاده فيما يلقيه من الشهوات، وجهاده فيما يلقيه من الشبهات.

    فجهاده فيما يلقيه من الشهوات عدةٌ في الصبر؛ لأن الصبر هو الذي يمنع من الوقوع في شهواته, والصبر ثلاث شعب: الصبر عن معصية الله, والصبر على طاعة الله, والصبر على قدر الله.

    ثم جهاده فيما يلقيه من الشبهات, والشبهات هي ما يشبه الحجة وليس بحجة, يلقيه الشيطان من السوسة، ومن الانحرافات، وجهاده فيها باليقين، أي: اليقين بالله, ومن جمع بين الصبر واليقين كان إماماً, وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].

    ثم بعد هذه جهاد المنافقين والكفار، وجهاد المنافقين أربع مراتب: جهادهم بالنفس, وجهادهم بالمال, وجهادهم باللسان, وجهادهم بالقلب.

    وجهاد الكفار أيضاً بالنفس والمال والقلب واللسان, فهذه أربع مراتب للمنافقين وأربع للكفار, فالجميع أربع عشرة مرتبة، وهي مراتب الجهاد في سبيل لله، من استكملها فقد وصل إلى ذروة سنام الإسلام.

    التحذير من مخالفة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم

    من تمام الحديث الماضي أننا كنا نتكلم فيما هو تاريخ فيما مضى، في وقت بعثة محمد صلى الله عليه وسلم, وما جاء به في شدة هذا الدين وفي بدايته, لكن إذا عرضنا هذا على واقعنا, فإننا سنجد كثيراً من الاختلاف بين ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم, والمنهج الذي طبقه وبين ما نعيشه.

    لذلك فإن أبسط مقارنة بين حياتنا وبين حياة محمد صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا به واتبعوه, تبين لنا هذا الاختلاف وهذا البون الشاسع, وتبين لنا أيضاً أنه يجب علينا أن نرجع إلى ما تركنا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم رغم كل العوائق والعلائق، وأن نحاول إصلاح أنفسنا قبل أن يفوت الأوان, فأنتم الآن في خيارٍ من أمركم وفي صحة وسعة تصرف, وها هو كتاب الله ينطق بينكم, وها هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتهدوا لأنفسكم في العود إلى ما ترككم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، قبل أن تردوا عليه الحوض فتضربوا ضرب غرائب الإبل، ويحال بينكم وبينه فيقول: ( يا رب! أمتي أمتي, فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك, فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: سحقاً سحقاً سحقاً ).

    إذاً احذروا واعلموا أن هذا لا شك واقع، وأنكم ستردون الحوض على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأنه لا يمكن أن يصل إليه إلا من استمسك بهذا المنهج الذي تركه عليك, وأن من غير وبدل سيذاد عنه كما تذاد الإبل الضلل, فاجتهدوا لأنفسكم في وسيلة نجاتكم من عذاب الله تعالى.

    وتذكروا أن هذه الأعمار هي حجة عليكم قد قامت, وأن هذه الشريعة التي نزلت إليكم واختاركم الله لها وجعلها ختاماً لشرائعه، وجعل كل الأديان السابقة إعداداً لها مسئولية في أعناقكم.

    وأنكم قد بايعتم ربكم وعاهدتموه على أمرٍ ليست لكم الخيرة فيه، ولا لكم حق التراجع عنه, وخاطبكم الله به في التوراة والإنجيل والقرآن فقال: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111].

    واعلموا أن الله تعالى قد أخبر عن تعامل الناس مع هذا العهد والوعد الذي أخذ عليهم، فقسمهم إلى قسمين: قسم وفوا بما عاهدوا الله عليه، وهم الصادقون, وقسم نكصوا على أعقابهم ولم يفوا لله بما عاهدوه عليه، وهم المنافقون, وفيهم يقول الله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الأحزاب:23-24], وعلم بقوله: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الأحزاب:24] أن المقصود هنا: النفاق العملي لا النفاق العقدي؛ لأن النفاق العقدي شرك بالله تعالى، والله يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48], والنفاق العملي: هو عدم الوفاء لله بما عاهده الناس عليه, وعدم الصدق مع الله هو النفاق العملي، وهو المذكور في هذه الآية.

    واعلموا أن الصادقين قد اختارهم الله تعالى لقيامهم بهذه المهمة، فبالإضافة إلى كونها كانت تكليفاً أصبحت تشريفاً لهؤلاء؛ لأنهم وفوا بما عاهدوا الله عليه, ولذلك شهد الرسول صلى الله عليه وسلم قبل موته بثمانية أيام بشهداء أحد، فوقف عند رءوسهم وقال: ( إني شهيد على هؤلاء بأن صدقوا ما عاهدوا الله عليه ), فهؤلاء الصادقون هم الذين أمرنا الله أن نكون معهم، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119], وهم الذين وصفهم وبينهم لنا بقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15].

    نسأل الله تعالى إن يجعلنا من الصادقين في تعاملنا مع الله، وأن يوفقنا لما يرضيه عنا، وأن يأخذ بنواصينا إلى الخير أجمعين، وأن يستعملنا في طاعته، وأن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وأن يجعلنا في قرة عين نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، وألا يجدنا حيث نهانا، وألا يفقدنا حيث أمرنا, ونسأله تعالى أن يجعلنا من جنوده المخلصين الذين لا يخافون فيه لومة لائم، وأن يجعلنا سلماً على أوليائه، حرباً على أعدائه، وأن يجعل ولاءنا فيه وله، وأن يجعل عداءنا فيه إنه سميع مجيب.

    وأسأله تعالى أن يجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وأن لا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً.

    وأسأله جل وعلا أن يجعلنا في مجلسنا هذا من الذين تتنزل عليهم الرحمة، وتحفهم الملائكة، ويذكرهم الله فيمن عنده.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767956992