إسلام ويب

البيوع الفاسدةللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن القاعدة في التحريم هي الضرر الواقع فما من شيء حرم إلا بسبب ضرره، ومن تلك المحرمات الربا الذي جعل الله له عقوبات متعددة وعظيمة. من أضرار الربا تدمير الاقتصاد الإسلامي، وجعل ثروات المسلمين نهبة للأعداء وكذا نقص العمل والإفساد في الأرض، وزرع الشحناء والعداوة وغيرها من الطوام وله صور كثيرة متعددة.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى ما حرم شيء إلا لضرره الماحق بالناس، ولا أمر بشيءٍ إلا لمصلحة تتعلق بالناس، فهو سبحانه وتعالى الغني الحميد: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، ولا يمكن أن يبلغ إليه عباده بنفع ولا بضر؛ ولذلك قال فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الصحيح: ( يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ).

    إنه سبحانه وتعالى حرم على عباده الربا، وقد كان تحريمه في الأمم السابقة، وحرمه في كل الشرائع، ولم تختلف في ذلك؛ لما يتعلق به من الضرر الماحق.

    الجشع والاستغلال وزرع الشحناء

    فمن الآثار المترتبة على الربا: أنه يؤدي إلى الجشع والطمع وإيثار الدنيا على الآخرة، وهذا ضرر عظيم جداً، مؤدٍ إلى زوال الإيمان، نسأل الله السلامة والعافية.

    فالذي يمارس الربا ويحبه، دائماً يؤثر الدنيا على الآخرة، كذلك فإن من الآثار السيئة المترتبة على الربا، أنه يؤدي إلى الشحناء والبغضاء بين الناس، فإن الذين يأكلون الربا يستغلون الناس أبشع الاستغلال، ويؤذونهم باستغلالهم، وبذلك تحصل البغضاء والشحناء بين الأغنياء والفقراء، فيمقت الفقراء الأغنياء؛ لأنهم يستغلون عرقهم، ويستغلون ضعفهم، ويحسد الفقراء الأغنياء كذلك؛ لأنهم قد استأثروا عنهم بما أوتوا من أمور الدنيا.

    الاتكالية ونقص العمل

    كذلك من الآثار السيئة المترتبة على الربا: أنه سبب أيضاً للاتكالية ونقص العمل، فالله سبحانه وتعالى جعل الإنسان خليفة في الأرض، وهيأ له وسائل الرزق، وأسباب التصرف في هذه الأرض، وأمره بالسير في مناكبها، والابتغاء من رزقه، ولا يمكن أن يحقق الإنسان ذلك، إلا إذا عمل واجتهد وبذل الأسباب، أما إذا اتكل الإنسان على ما أوتي فإن تلك المصالح ستتوقف بالكلية.

    الإفساد في الأرض وكون المال دولة بين الأغنياء

    كذلك من الآثار السيئة المترتبة على الربا: أنه يقتضي أن يزداد الأغنياء غنىً، والفقراء فقرا، فيتكدس المال في أيدي جلة قليلة من الناس، فيكون دولة بين الأغنياء من الناس، على حساب الآخرين، وهذا ضرر ماحق بين.

    وكذلك من آثار الربا السيئة: أنه أيضاً مقتضٍ لانفصام العرى، والإفساد في الأرض، فهو سبب لقطيعة الأرحام، وسبب لتمزيق الوشائج كلها، ومن أجل ذلك أنزل الله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23]، ومن أجل هذا رتب الله الوعيد الشديد على الربا، فآذن مقترفه بحرب من الله ورسوله، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم كذلك بعدد كبير من أضراره، وآثاره الأخروية، فمنها: أنه ينفق المال في بداية أمره، فتنفق السلعة بالربا، ثم بعد ذلك يمحق المال في الدنيا، ثم يحرق صاحبه في الآخرة.

    العقوبات المترتبة على أكل الربا وما يتعلق به

    ومنها ترتب اللعنة عليه، فقد: ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء ).

    ومنها كذلك ما بينه الله في كتابه بقوله: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ [البقرة:275]، وقد اختلف في تفسير هذه الآية فقيل: قيامهم من القبور عند البعث، مثل قيام المجانين الذين يتخبطون، وهذا تعذيب لهم، فيحشرون بما هو فضيحة لهم في المحشر، لا يقومون من مضاجعهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، أي: كما يقوم المجنون، وبذلك يبعثون مجانين يوم القيامة، نسأل الله السلامة والعافية، وقيل المعنى: أنهم في الدنيا لا يتحكمون في تصرفاتهم؛ لشدة حبهم للدنيا، وشجعهم بها، فيهم يتصرفون تصرف المجانين، يغلقون أبواب الخير، ويفتحون أبواب الشر، وقد اشتهر اليهود عليهم لعنة الله، بالحرص على الربا، وهم الذين أشاعوه وأذاعوه في الأرض، وقد رتب الله على ذلك كثيراً من العقوبات التي عاقبهم بها، فمنها تحريم ما كان حلالاً، ومنها كذلك تعرضهم لأنواع المقت والأذى، فقد قال الله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:160-161]، وقال تعالى: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]، فهم المفسدون في الأرض، ومن إفساده فيها، أنهم الداعون لانتشار الربا، ولذلك فهم في عصرنا الحديث، مرجع الربا كله، فهذه البنوك التي أصبحت مؤسسات الربا في العالم، أول من أقامها وجعل الاقتصاد متعلقاً بها هم اليهود، ولذلك فهم يسعون دائماً لأن يستحوذوا على أموال الناس، فيضعوها في هذه البنوك؛ لتكون تحت أيديهم، فهم يستغلونها حتى لو لم تمكث في البنوك إلا دقائق محصورة، فإنهم يربحون منها بذلك لزيادة الثقة بالبنك، أو لزيادة التصرف في أثمان العملات ارتفاعاً وانخفاضاً، إلى غير ذلك من أنواع ما يدبرونه ويديرونه من المكائد للاقتصاد العالمي، وهم لا شك أعداء البشرية، ولا يأتي تصرفهم إلا بشر، ولذلك فإن الربا، قد انتشر في زماننا هذا انتشاراً عظيماً، وقد أخبر بذلك من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قفد أخبر أن: ( أياماً بين يدي الساعة ينتشر فيها الربا، فمن لم ينل منه ناله من غباره )، وهذا ما نشهده اليوم، فلا يستورد ملبوس ولا مأكول ولا مشروب، ولا تشترى سيارة، ولا يبنى بيت، إلا وللربا تدخل في ذلك، وكل هذا من المصائب العظيمة.

    منافاة الربا لاستجابة الدعاء

    ومن آثار الربا السيئة في الدنيا: أنه منافٍ لاستجابة الدعاء، فإن الذين يتفشى فيهم الربا، يدعون الله فلا يستجيب لهم، وقد كان المسلمون في العصور السابقة إذا جاء القحط، أو غلت الأسعار، رفعوا أيديهم إلى الله بالضراعة فأزال عنهم ما هم فيه.

    واليوم يرفع الناس أيديهم بالضراعة، لكن نظراً لتفشي الربا وانتشاره بينهم، لا يستجاب لهم، ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك )، فلذلك لا بد أن تنتشر الفواحش كلها إذا انتشر الربا؛ لأن: ( كل لحم نبت من حرام، فالنار أولى به )، والذين يعيشون بالربا، لا يتوقع أبداً أن تكون أعمالهم صالحة مخلصة لوجه الله، بل لا بد أن تكون سيئةً؛ لأن السيئة تدعو إلى السيئة، والمال إذا جمع من حرام، لا يمكن أن يصرف إلا في الحرام، فلا يمكن أن ينفق في سبيل الله، وكل هذه الأضرار المتفشية نشهدها مما حتم علينا، ونحن قد ابتلينا بهذا العصر أن نتدارس خطر الربا في كل الأوقات، وألَّا نمل لمدارسته، وأن يحذر بعضنا بعضاً منه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر كثرة أنواعه، فقال: ( إن من الربا سبعين باباً، أدناها أن يغشى الرجل أمه على قارعة الطريق ).

    فأنواع الربا كثيرة جداً، وقد ذكر ابن الحاج المالكي صاحب المدخل، أنواعاً عجيبةً من الربا يقع فيها الفقهاء وحدهم، فكيف بمن دونهم، فقد ذكر رحمه الله، أن الفقهاء يدرسون أحكام البيوع فيذكرون شروطها وأركانها وجزئياتها، ويفصلونها في مجالسهم ومدارسهم، لكنهم لا يشترون أية حاجة بأنفسهم، بل يرسلون الجارية والغلام والغر إلى الأسواق، وهم يعلمون أنهم لا يعرفون أحكام البيع والربا، ويعرفون أن الأسواق ينتشر فيها الجهلة، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من لم يكن فقهياً أكل الربا، شاء أو أبى.

    فلذلك إرسال الناس الجهال إلى الأسواق للاشتراء، هو مشاركة في الربا.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088560543

    عدد مرات الحفظ

    777336963