بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى ما حرم شيء إلا لضرره الماحق بالناس، ولا أمر بشيءٍ إلا لمصلحة تتعلق بالناس، فهو سبحانه وتعالى الغني الحميد: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، ولا يمكن أن يبلغ إليه عباده بنفع ولا بضر؛ ولذلك قال فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الصحيح: ( يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ).
إنه سبحانه وتعالى حرم على عباده الربا، وقد كان تحريمه في الأمم السابقة، وحرمه في كل الشرائع، ولم تختلف في ذلك؛ لما يتعلق به من الضرر الماحق.
فمن الآثار المترتبة على الربا: أنه يؤدي إلى الجشع والطمع وإيثار الدنيا على الآخرة، وهذا ضرر عظيم جداً، مؤدٍ إلى زوال الإيمان، نسأل الله السلامة والعافية.
فالذي يمارس الربا ويحبه، دائماً يؤثر الدنيا على الآخرة، كذلك فإن من الآثار السيئة المترتبة على الربا، أنه يؤدي إلى الشحناء والبغضاء بين الناس، فإن الذين يأكلون الربا يستغلون الناس أبشع الاستغلال، ويؤذونهم باستغلالهم، وبذلك تحصل البغضاء والشحناء بين الأغنياء والفقراء، فيمقت الفقراء الأغنياء؛ لأنهم يستغلون عرقهم، ويستغلون ضعفهم، ويحسد الفقراء الأغنياء كذلك؛ لأنهم قد استأثروا عنهم بما أوتوا من أمور الدنيا.
كذلك من الآثار السيئة المترتبة على الربا: أنه سبب أيضاً للاتكالية ونقص العمل، فالله سبحانه وتعالى جعل الإنسان خليفة في الأرض، وهيأ له وسائل الرزق، وأسباب التصرف في هذه الأرض، وأمره بالسير في مناكبها، والابتغاء من رزقه، ولا يمكن أن يحقق الإنسان ذلك، إلا إذا عمل واجتهد وبذل الأسباب، أما إذا اتكل الإنسان على ما أوتي فإن تلك المصالح ستتوقف بالكلية.
كذلك من الآثار السيئة المترتبة على الربا: أنه يقتضي أن يزداد الأغنياء غنىً، والفقراء فقرا، فيتكدس المال في أيدي جلة قليلة من الناس، فيكون دولة بين الأغنياء من الناس، على حساب الآخرين، وهذا ضرر ماحق بين.
وكذلك من آثار الربا السيئة: أنه أيضاً مقتضٍ لانفصام العرى، والإفساد في الأرض، فهو سبب لقطيعة الأرحام، وسبب لتمزيق الوشائج كلها، ومن أجل ذلك أنزل الله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23]، ومن أجل هذا رتب الله الوعيد الشديد على الربا، فآذن مقترفه بحرب من الله ورسوله، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم كذلك بعدد كبير من أضراره، وآثاره الأخروية، فمنها: أنه ينفق المال في بداية أمره، فتنفق السلعة بالربا، ثم بعد ذلك يمحق المال في الدنيا، ثم يحرق صاحبه في الآخرة.
ومنها ترتب اللعنة عليه، فقد: ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء ).
ومنها كذلك ما بينه الله في كتابه بقوله: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ [البقرة:275]، وقد اختلف في تفسير هذه الآية فقيل: قيامهم من القبور عند البعث، مثل قيام المجانين الذين يتخبطون، وهذا تعذيب لهم، فيحشرون بما هو فضيحة لهم في المحشر، لا يقومون من مضاجعهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، أي: كما يقوم المجنون، وبذلك يبعثون مجانين يوم القيامة، نسأل الله السلامة والعافية، وقيل المعنى: أنهم في الدنيا لا يتحكمون في تصرفاتهم؛ لشدة حبهم للدنيا، وشجعهم بها، فيهم يتصرفون تصرف المجانين، يغلقون أبواب الخير، ويفتحون أبواب الشر، وقد اشتهر اليهود عليهم لعنة الله، بالحرص على الربا، وهم الذين أشاعوه وأذاعوه في الأرض، وقد رتب الله على ذلك كثيراً من العقوبات التي عاقبهم بها، فمنها تحريم ما كان حلالاً، ومنها كذلك تعرضهم لأنواع المقت والأذى، فقد قال الله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:160-161]، وقال تعالى: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]، فهم المفسدون في الأرض، ومن إفساده فيها، أنهم الداعون لانتشار الربا، ولذلك فهم في عصرنا الحديث، مرجع الربا كله، فهذه البنوك التي أصبحت مؤسسات الربا في العالم، أول من أقامها وجعل الاقتصاد متعلقاً بها هم اليهود، ولذلك فهم يسعون دائماً لأن يستحوذوا على أموال الناس، فيضعوها في هذه البنوك؛ لتكون تحت أيديهم، فهم يستغلونها حتى لو لم تمكث في البنوك إلا دقائق محصورة، فإنهم يربحون منها بذلك لزيادة الثقة بالبنك، أو لزيادة التصرف في أثمان العملات ارتفاعاً وانخفاضاً، إلى غير ذلك من أنواع ما يدبرونه ويديرونه من المكائد للاقتصاد العالمي، وهم لا شك أعداء البشرية، ولا يأتي تصرفهم إلا بشر، ولذلك فإن الربا، قد انتشر في زماننا هذا انتشاراً عظيماً، وقد أخبر بذلك من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قفد أخبر أن: ( أياماً بين يدي الساعة ينتشر فيها الربا، فمن لم ينل منه ناله من غباره )، وهذا ما نشهده اليوم، فلا يستورد ملبوس ولا مأكول ولا مشروب، ولا تشترى سيارة، ولا يبنى بيت، إلا وللربا تدخل في ذلك، وكل هذا من المصائب العظيمة.
ومن آثار الربا السيئة في الدنيا: أنه منافٍ لاستجابة الدعاء، فإن الذين يتفشى فيهم الربا، يدعون الله فلا يستجيب لهم، وقد كان المسلمون في العصور السابقة إذا جاء القحط، أو غلت الأسعار، رفعوا أيديهم إلى الله بالضراعة فأزال عنهم ما هم فيه.
واليوم يرفع الناس أيديهم بالضراعة، لكن نظراً لتفشي الربا وانتشاره بينهم، لا يستجاب لهم، ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك )، فلذلك لا بد أن تنتشر الفواحش كلها إذا انتشر الربا؛ لأن: ( كل لحم نبت من حرام، فالنار أولى به )، والذين يعيشون بالربا، لا يتوقع أبداً أن تكون أعمالهم صالحة مخلصة لوجه الله، بل لا بد أن تكون سيئةً؛ لأن السيئة تدعو إلى السيئة، والمال إذا جمع من حرام، لا يمكن أن يصرف إلا في الحرام، فلا يمكن أن ينفق في سبيل الله، وكل هذه الأضرار المتفشية نشهدها مما حتم علينا، ونحن قد ابتلينا بهذا العصر أن نتدارس خطر الربا في كل الأوقات، وألَّا نمل لمدارسته، وأن يحذر بعضنا بعضاً منه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر كثرة أنواعه، فقال: ( إن من الربا سبعين باباً، أدناها أن يغشى الرجل أمه على قارعة الطريق ).
فأنواع الربا كثيرة جداً، وقد ذكر ابن الحاج المالكي صاحب المدخل، أنواعاً عجيبةً من الربا يقع فيها الفقهاء وحدهم، فكيف بمن دونهم، فقد ذكر رحمه الله، أن الفقهاء يدرسون أحكام البيوع فيذكرون شروطها وأركانها وجزئياتها، ويفصلونها في مجالسهم ومدارسهم، لكنهم لا يشترون أية حاجة بأنفسهم، بل يرسلون الجارية والغلام والغر إلى الأسواق، وهم يعلمون أنهم لا يعرفون أحكام البيع والربا، ويعرفون أن الأسواق ينتشر فيها الجهلة، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من لم يكن فقهياً أكل الربا، شاء أو أبى.
فلذلك إرسال الناس الجهال إلى الأسواق للاشتراء، هو مشاركة في الربا.
وللربا إطلاقان في الشرع:
الإطلاق الأول: إطلاق عام على كل بيع حرمه الله، فالربا ضد البيع، يدل على ذلك قول الله تعالى: وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، فجعل الربا مقابلاً للبيع، فكل ما لا يحل من البيوع ومن العقود، فهو ربا.
أما الإطلاق الثاني: فهو إطلاق الربا على عقود مخصوصة حرمها الشارع، وهذه العقود عند جمهور أهل العلم، ترجع إلى أصلين، هما ربا الفضل، وربا النساء، أما ربا الفضل: فهو الذي يحصل فيه الربا بالزيادة، وأما ربا النساء فهو العقد الذي تحصل فيه الزيادة في الوقت والزمن، بالتأخر عن أن يكون يداً بيدٍ فيما لا يحل التعاقد عليه إلا يداً بيد، وزاد الشافعية نوعاً آخر من أنواع الربا يسمونه ربا اليد، وعموماً هو داخل في القسمين السابقين على الراجح، فمذهب الجمهور أن الربا في إطلاقه الخاص لا يطلق إلا على هذين القسمين، ربا الفضل وربا النساء، وقد يجتمعان معاً، فيحرمان في الطعام والنقد في الجنس الواحد، فلا يحل فيه ربا الفضل، ولا ربا النساء، أما في الجنسين، فيحل ربا الفضل ولا يحل ربا النساء، لما أخرجه مسلم في الصحيح، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، سواء بسواء، فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد )، فعند اختلاف الجنس، يسوغ ربا الفضل، ولا يسوغ ربا النساء.
ومن المعلوم أن الأنواع المنتشرة اليوم من الربا، في أغلبها إنما تدور على ربا النساء، فهو المنتشر في صفقات الناس، وتعاملهم، وكذلك فإن ربا الفضل قد يحصل فيما يتعلق ببيع العملات، وبيع النقود بعضها ببعض في الجنس الواحد، فاحتجنا إذاً إلى معرفة أحكام البيع وأحكام الربا، فأقول: إن الأصل في العقود كلها الإباحة، إلا ما حرمه الشارع، وقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمانية وخمسين نوعاً من أنواع العقود، وهي التي تسمى بالبيوع المنهي عنها، وما حرمها إلا للضرر العظيم المترتب عليها، وهذه العقود التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضها يدخل في الربا بإطلاقه الخاص، وبعضها لا يدخل فيه، فما كان منها راجعاً إلى الفضل، أو النساء، فهو داخل في الربا بمفهومه الخاص، وما كان منها خارجاً عن الفضل والنساء، فهو داخل في الربا بمفهومه العام، ولكنه لا يدخل بمفهومه الخاص.
ومن المعلوم أن في العقود أربعة أركان هي: العاقدان، والمعقود عليهما، والإيجاب والقبول، أي: الصيغة، ويمكن أن تذكر على وجه البسط، فيقال: ستة أركان، البائع والمشتري والسلعة والثمن، والإيجاب والقبول، ويمكن أيضاً أن يختصر فيها على ثلاث فيقال: العاقدان ركن، والمعقود عليهما ركن، والصيغة ركن.
فالعاقدان يشترط لهما ملك ما يعقدان عليه، ويشترط لهما كذلك، التمييز، أي: عقل التمييز، والبلوغ والحرية، والرشد، وهذه الثلاثة، إنما هي للزوم العقد، وإذا عقد فاقدها، فأقر ذلك الولي، وليه فهو ماضٍ نافذ.
ويشترط للمعقود عليهما ستة شروط، وهي:
أولاً: الطهارة، فلا يحل العقد على ما كان متنجس العين، أو كان متنجساً نجاسةً عارضة.
وكذلك الشرط الثاني: الانتفاع، أي: أن يكون منتفعاً به شرعاً، فما لا نفع فيه شرعاً، لا يحل العقد عليه.
وكذلك الشرط الثالث: أن يكون مباح الاستعمال، فإن كان منهياً عنه لذاته، فإنه لا يحل العقد عليه كبيع الكلب، وحلوان الكاهن، ومهر البغي، وغير ذلك مما حرمه رسول الله صلى عليه وسلم.
الشرط الرابع من شروط المعقود عليه: أن يكون معلوماً، فإن كان مجهولاً، لم يحل العقد عليه؛ لما في ذلك من الغرر، وقد نهى رسول الله عليه وسلم عن عقد الغرر.
الشرط الخامس من هذه الشروط: أن يكون مقدوراً على تسليمه وتسلمه، فإن كان معجوزاً عنه، كحمام البرج، وكالمغصوب الذي هو تحت يد غاصبه، فإنه لا يحل العقد عليه حينئذٍ.
الشرط السادس من هذه الشروط: أن يكون المعقود عليه مما يحل التعامل فيما بينهما، فإن كان المعقود عليه سلعة هي من جنس الثمن، بينهما الربا، فذلك العقد باطل؛ لأدائه إلى الربا المحرم، فلا بد أن يكون الثمن والمثمن ليس بينهما ربا.
أما الصيغة، فمن شروطها توارد الإيجاب والقبول على محل واحد، فإذا قال: بعتك هذه السيارة بمليون، فقال: قبلت منك هذا البيت بمليون، فإن العقد غير صحيح؛ لعدم توارد الإيجاب والقبول على محل واحد.
الشرط الثاني من شروط الصيغة: اتصال الإيجاب بالقبول، فإن فصل بينهما بما يعد فاصلاً، كانقضاء المجلس ونحو ذلك، لم يصح العقد، كما إذا تبايع في مجلس فقال البائع: بعتك هذه السيارة بمليون، فسكت حتى انقضى المجلس، ثم قال: قبلتها، فإن العقد غير صحيح، إلا إذا وافق البائع من جديد، لما حصل من الانفصال بين الإيجاب والقبول.
ومن شروط الصيغة كذلك: استمرار اتصاف العاقدين بالأهلية السابقة، إلى انقضاء العقد، فإذا قال البائع: بعتك هذه السيارة بمليون، ثم مات، أو جن، قبل قبول الآخر، فإن العقد لم يصح؛ لأنه هو لم يعد أهلاً للعقد.
فهذه هي شروط البيع وأركانه، وكل بيع اختل فيه ركن من الأركان أو شرط من هذه الشروط، فهو باطل شرعاً لا يحل الإقدام عليه، ولا يترتب عليه أثره.
ثم بعد هذا لا بد أن نعلم أن الشارع وسع الربح في السلع؛ لأنها إنتاج ينتجه الإنسان، فينتفع به في استغلال الأرض، والانتفاع بخيراتها، وضيّق في الأثمان، فإن الأثمان في الأصل ما وضعت إلا لتكون وسيطاً في التبادل، ولا تحقق مصلحة من المصالح الأربع، التي تضمن الله بها لآدم في الجنة، وهي أصول المنافع، فإن الله تعالى يقول: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى [طه:118-119]، فهذه هي أصول المنافع الأربع: أولاها: المأكولات، ثم بعدها: المشروبات، ثم بعدها: الملبوسات، ثم بعدها: المسكونات، أي: إن قوله: وَلا تَضْحَى [طه:119]، أي: لا تبرز للشمس، يتضمن المسكونات، فهذه أصول المنافع، والنقود لا تحقق شيئاً من هذه المنافع بذاتها، فلا تؤكل ولا تشرب، ولا تلبس ولا تسكن، لكنها وسيط في التعامل والتبادل، ومن أجل ذلك ما وسعت الشريعة في الربح منها، إنما وسعت في الربح مما ينتجه الإنسان، ومما يحقق للناس مصلحةً ويفيدهم في أقواتهم ومساكنهم ومشاربهم، وملابسهم في هذه الأرض.
ثم إن مما انتشر في هذه الأزمنة من الربا، ما يتعلق بالصرف، فالصرف: هو بيع نقدٍ بنقدٍ، وقد ضيق فيه الشارع غاية التضييق لما ذكرنا، فهو أضيق العقود؛ لأن الصرف لا يقصد منه الربح في الأصل، إذ لو قصد منه الربح لذاته، لانتقل النقد عن أن يكون وسيطاً في التبادل إلى أن يكون سلعة مطلوبة بذاتها، وهذا الحاصل اليوم عند الناس، فقد أصبحت النقود بمثابة السلع لدى كثير من الناس، وما تشهدونه من الاختلال في أسعار العملات، بارتفاع سعرها وانخفاضه، كله بسبب خروجها عن الأصل الذي وضعه الشارع لها، فقد جعلها الناس بمثابة السلع التي تباع وتشترى، ويقصد فيها الربح، وهذا خارج عن الحكمة الشرعية، فلذلك لا بد أن تعاد النقود إلى محلها، وأن يعلم أنها وسيط في التبادل، وإن أعيدت إلى الذهب والفضة اللذان هما الأصل في تبادل النقود، فذلك أولى لا محالة، والوسائط التي جعلت في عصرنا هذا بديلاً عن الذهب والفضة، والمرجع فيها إلى مصداقية الجهة التي تخرجها، فزيادة أسعارها، إنما هو مصداقية الدولة التي تطبعها وتوقع عليها، فلذلك تزداد مصداقية الناس في عملات الدول ذات الاقتصاد القوي، وتضعف لديهم المصداقية لنقود الدول ذات الاقتصاد الضعيف، ولذلك من العملات ما هو سهل، ومنها ما هو صعب، فالعملات الصعبة هي الرائجة في كل مكان التي يرغب في إنتاج البلد الذي أصدرها، وذلك الإنتاج يشمل السلع والبضائع التي ينتجها ذلك البلد ويصدرها، ويشمل كذلك الخدمات التي تطلب لدى ذلك البلد كالسياحة والسكنى والدراسة والاستطباب، والعلاج، وغير ذلك، فكل هذا من المؤثرات التي تقتضي ارتفاع سعر العملة، أو انخفاضها.
ومن المؤامرات العجيبة التي شهدها زماننا هذا، المؤامرة العالمية على العملات، وعلى النقود، فقد حصلت هذه المؤامرة من قبل على الفضة، بدل أن كانت رائجة، وكانت ثمناً من الأثمان، لم يعد لها اعتبار في السوق العالمية، وعزف عنها الناس بالكلية، وما ذلك إلا لأن اليهود رأوا انتشار معادن الفضة في أماكن مختلفة من العالم، ولم يقدروا على احتوائها، فسعوا إلى تهبيطها في الأسواق، وتنقيص قيمتها، فلم يعد لها اليوم أي اعتبار في الأسواق العالمية، بخلاف الذهب، فإن اليهود حين احتووا على مكنوزات الناس من الذهب، وبالأخص في أوروبا وأمريكا وضعوا أيديهم عليه، فجعلوا الذهب هو المعيار للقوة الشرائية في العالم، ومكثوا على ذلك زماناً، إلى عام ألف وتسعمائة وثلاثة وسبعين، حيث اعتيض عن قيمة الذهب بالدولار الذهبي، الذي هو العملة الأمريكية، ثم بعد هذا أصبحت العملات لا تضمن بالذهب أصلاً، فقد كانت العملات أولاً، نشأتها تضمن بما يقابلها من الذهب فلا يصدر البنك المركزي لأية دولة من النقود بأرقام السحب التي يوافق عليها صندوق النقد الدولي، إلا ما كان مغطىً بالذهب، ثم بعد هذا زال الغطاء الذهبي، ولم يبقَ له اعتبار، عندما أدرك اليهود أن بعض بلاد المسلمين فيها مناجم كبيرة للذهب، كما حصل في جزيرة العرب، وفي بعض البلاد الشرقية من البلاد الإسلامية.
إن هذه المؤامرة ليست مختصة بالمسلمين، بل قد تضرر بها العالم كله، وبالأخص البلدان الأفريقية، فقد أصبحت في عداد البلاد الفقيرة مهما حصل، فلم يعد مخزونها من الذهب ذا قيمة، ولم يعد يغطي عملاتها، وليس لديها من الصناعات ما يدخلها في عداد الدول المنتجة، وليس لديها مصداقية سياسية في العالم، ما يقتضي ارتفاعاً لأسعار عملاتها، فلذلك أصبحت من المتطفلين على موائد اللئام، وأصبح شعوبها محكوماً عليهم بالفقر، وهذا كله من مؤامرات اليهود، وخفاياهم التي لا يطلع عليها إلا من درس أساليب الاقتصاد العالمي.
إن اليهود جعلوا للتعامل العالمي في الاقتصاد دائرةً نصفها ربويٌ دائماً، فنصفها لا بد أن يكون فيه رباً.
والنصف الثاني إذا استطاع الإنسان خلوه من الربا، في خاصة نفسه، لم يستطع ذلك عند جيرانه وإخوانه، فضلاً عن أن يستطيع ذلك في بلده ودولته.
ومن هنا فقد أصبح كثير من الناس في مثل هذه الوضعية، ينهزم أمام هذا الواقع، فإما أن يبيح الربا عياناً بياناً، نسأل الله السلامة والعافية، ويتذرع لذلك بالضرورات، وأن الناس بحاجة إليه.
وإما أن ينهزم من وجه آخر، فلا يبيحه صرفاً، لكنه يرى أنه مما عمت به البلوى، وأنه أصبح سائداً ومن لم يشارك فيه أقصي، ولم يكن له وجود في العالم، وكل هذه الذرائع غير مقبولة شرعاً، ولا هي مبيحه لاقتراف ما حرم الله سبحانه وتعالى الذي رتب عليه الوعيد الشديد بحرب من الله ورسوله.
إن علينا عباد الله أن نتقي الله في أنفسنا، وأن نحذر ما حرم علينا ربنا سبحانه وتعالى، وبالأخص فيما هو تحت أيدينا، ونقدر على إزالته، فنحن نعلم أن نصف الدائرة الربوية في الاقتصاد العالمي ليس بأيدينا، لكن الذي بـأيدينا في داخل البلدان الإسلامية، ينبغي أن نحرص على ألا يكون فيه للربا أثر، فإن اليهود قد عرفوا الحيل، وعرفوا أن كثيراً من الناس ينخدعون بالمظاهر والدعايات، ومن أجل ذلك، فإن دور الربا تكون أكبر الدور، وأنا ما زرت مدينة من العالم إلا وأطول بناية فيها وأعظمها، هي بنايات الربا، وهذا واضح معروف، فبنايات الربا، هي أطول البنايات، وهي أحسنها في كل بلد من البلدان، ويقصد بذلك الدعاية له؛ لينظر الناس إلى أن هؤلاء الذين يأكلون الربا، قد أحرزوا المكاسب، وأصبحوا قدوةً للناس، فيقتدي بهم المغرورون المحبون للدنيا، المؤثرون لها على الآخرة، ويظنون أن عقوبة هؤلاء قد تأخرت، وبذلك يشكون في أصل الوعيد الذي جاء من عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
إن فشو الربا وانتشاره في البلدان الإسلامية، أدى إلى النتائج السابقة مجتمعةً وزاد عليها نتائج أخرى سيئة، فمن هذه النتائج: أن اقتصاد البلدان الإسلامية أصبح في أيدي اليهود، وأصبح نهباً ينتهبه أعداء الله، وأعداء ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أن يقام مصنع، ولا أن تقام شركة ذات رأس مال معتبر، إلا ويودع رأس مالها في البنوك الربوية، يربح منه اليهود.
بل الأنكى من ذلك أن الدخل القومي للبلدان الإسلامية، لا يمكن أن يستغل داخل البلاد الإسلامية، بل لا بد أن يصرف إلى البنوك اليهودية في سويسرا وأمريكا وبريطانيا واليابان، ومن هنالك يربح منه اليهود أضعافاً مضاعفة بالربا، فيستغلونه غاية الاستغلال.
ومعلوم أن تمويل أي مشروع، لا يمكن أن يصرف في وقت واحد، بل لا بد أن يأتي على دفعات، ولكن في بلدان العالم الثالث كما يسمى، لا بد أن توضع تغطيات المشاريع في البنوك الربوية؛ لتستغل دفعاتها التي لا تستغل حالاً في الربا، وليربح منها اليهود والنصارى.
ومن العجيب أن البنك الإسلامي للتنمية التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، كانت له ودائع عظيمة من أموال المسلمين في البنوك الربوية الغربية، فأفتى العلماء بأن لا يأخذوا الربا الذي يرتب عليها، ويسمى بالفوائد فتركوه للبنوك، والبنوك في قوانينها أن كل فائدة لم يأخذها صاحبها تحال إلى مجلس الكنائس العالمي، فربحت تلك الأموال ربحاً مضاعفاً، وكانت فوائدها بمليارات الدولارات، وصرفت كلها لمجلس الكنائس العالمي، فأقام بها مشاريعه في تنصير المسلمين، وبناء الكنائس في بلاد الإسلام، والرحلات التنصيرية التي تجوس الديار، وتفسد في الأرض كما تشاهدون، بالإضافة إلى ما يصل إلى اليهود من نصيب الأسد منها، مما يعينهم على بناء دولتهم واغتصاب مقدسات المسلمين، وأذاهم، وبعد فترة جاءت تهنئة من مجلس الكنائس العالمي، إلى البنك الإسلامي للتنمية، أنه قد مول لهم مشاريعهم، فأرسلوا إليه بتهنئة، فتعجلت إدارة البنك وبحثت عن سر ذلك، فوجدت أن تلك الفوائد التي أمتنعت عن أخذها، صرفت لمجلس الكنائس العالمي، فندموا حيث لا ينفع الندم، بعد أن تحقق هذا، والحال أن اليهود والنصارى ينتزعون من بلاد الإسلام خمسة وثمانين بالمائة من خيراتها، ويتركون فقط خمسة عشر بالمائة يتصدقون بها على أهل الأرض العاملين فيها، الذين يستغلونها، فكلما تسمعون من القروض والمشاريع التي تمول للدل الإسلامية، إنما تمول برباً مضاعف مضروب في الزمن، فتبقى الشعوب دائماً مستذلهً برق الدين، وقد أخرج البيهقي في المعرفة من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الدين رق )، فالدين إنما هو بمثابة الرق؛ لأن الإنسان المدين لا يستطيع أن يتصرف، ولذلك فالبلدان الإسلامية الفقيرة، مشاريعها التي تمول، إنما يسيرها مندوبون من البنك الدولي، فيأخذون نصف التمويل راتباً لهم، ويسيرون النصف الآخر على مرادهم فيحققون به أهدافهم، ويقيمون به المشاريع التي تخدم دينهم، وقناعاتهم، ويفسدون به في الأرض.
إن هذا الفساد المستشري حان الأوان بأن ينتبه له المسلمون، وأن يعلموا أن خيرات بلادهم نهبت، وأخذت بالكلية، وليس نهبها فقط من هذه السنة، أو التي قبلها، بل منذ قرن من الزمان، والمؤامرة قائمة، تنهب الخيرات وتنهك، ومن العجيب أن كثيراً من زعماء المسلمين يتبجحون ببعض المشاريع الخفيفة الضعيفة، التي لا تساوي شيئاً من المشاريع الإنتاجية في بلاد الغرب، ويظنون بذلك أنهم قد قدموا الكثير لشعوبهم، والواقع أن الأوروبيين والأمريكان، إذا سمعوا ذلك، جعلوه هزواً، ولعباً، فإذا سمعوا الافتخار بطريق من الطرق المعبدة في بعض البلدان الإسلامية الفقيرة، وإعلانات الرؤساء لذلك الإنتاج ضحكوا غاية الضحك؛ لأن هذه لا تساوي شيئاً مما عندهم، وهي جزء يسير مما يتصدق به، وقد أثقلوا كاهل الدول بالشروط التي وضعوها عليها، وبالربا المضاعف الذي هو ديون على مائة وخمسين سنة قابلة، لا تتحرر منها هذا الدول.
وقد قرأت تقريراً عجيباً صدر في بريطانيا قبل سنتين أو ثلاث، عما يسمى بالنهر الاصطناعي الذي أقيم في ليبيا، وأخذت به المياه من الصحراء، ونقلت بأنابيب ضخمة، وافتخرت به الدولة غاية الافتخار، كأنها أنجزت منجزاً عجيباً من منجزات الدنيا، وهذا النهر في التقرير الذي قرأته، ربحت منه الشركات الأوروبية ربحاً عجيباً، فإنتاج الأنابيب من عندها، واستيرادها من عندها، وتركيبها من عندها، والخبرة خبرتهم، والمهندسون منهم، والسيارات التي تستغل من صناعتهم، والماكنات التي تستغل من صناعتهم، ولم يشارك الليبيون فيه بشيء، إلا أن الماء الذي كانت تختزنه الأرض لهم وتحفظه، قد نهب وأضيع، وذهب هباءً منثورا.
فهذا من الإفساد البين في الأرض، حيث أنفقت الأموال الطائلة في غير فائدة، وأهدرت مياه البلاد، التي هي ثروة من ثرواتها الطبيعية التي تحتاج إليها الشعوب في المستقبل، والأوروبيون يقولون إن الحرب القادمة، ستكون حرب مياه.
ومثل هذا: ما يحصل أيضاً في بلادنا وغيرها، فكثيراً ما تسمعون الإعلان عن قيام شركة للتنقيب عن النفط، أو لاستغلال معدن من المعادن، ثم ماذا يكون الأثر؟ سمعتم من قبل شركة الذهب في بلادنا وشركة النحاس كذلك، وتسمعون الصفقات التي تقيمها سْليم أيضاً في الحديد، ثم ماهي الآثار؟ وماذا جنت البلاد من ذلك؟
أذكر أن ثلاثة طلاب موريتانيين كانوا في فرنسا، فقفزوا فوق حاجز مترو، ودخلوا بدون تذاكر، فأمسكهم الحرس، ليوقفهم ويسألهم، فهذه مخالفة قانونية، لماذا تقفزون فوق الحواجز؟ فقالوا: فرنسا ليس فيها حديد، وهذا منهوب من بلادنا، فسكت الحرس وأطلق سراحهم.
إن الحديد الذي عمروا به بلادهم، هو منهوب من عندنا هنا، وكذلك النحاس، وكذلك النفط، وكذلك كل الخيرات نهبوها من البلاد الإسلامية، وعمروا بها بلادهم.
إن هذا شيء يسير جداً مما ينكشف، ومما يقرون به من مكايدهم، ومؤامرتهم، ونحن لا يزيدنا هذا عداوة لهم، بل عداوتنا معهم عداوة دينية أقرها الله في كتابه وبينها، وقد قال تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، وقد بين الله سبحانه وتعالى أن حربهم لنا مستمرة، فقال: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [البقرة:217]، فهي حرب أبدية مستمرة بين الحق والباطل، ولكن الحق فيها يحتاج إلى أهله الناصرين له، الذين يؤثرون الآخرة عن الأولى، ويجزمون بوعد الله سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول: وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ [الحج:40]، ويقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7].
ومن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، كما أخبر بذلك عن نفسه، وأن زعماء الدنيا يخذلون من نصرهم، فيستغلون الناس؛ لأخذ أصواتهم، ولأخذ أموالهم، ومشاركاتهم، حتى يستغلوا في نصرتهم، ثم يتخلون عنهم بعد ذلك، ونحن نشاهد هذا في كل مدننا وقرانا، وفي كل أنحاء العالم الإسلامي، يستغل الزعماء الشعوب، فيبذل الإنسان لهم عرق جبينه، وماء وجهه، ونطق لسانه، ويتعب في نصرتهم، ثم إذا استغنوا عنه رموا به في القمامة، وجعلوا مكانه غيره، وهكذا.
وكم هم أولئك الذين اتخذوا أبواقاً وطبولاً في فترة من الفترات، ثم استغني عنهم، ولم يبقَ لهم بعد ذلك أي أثر، ولم يذكرهم بعد هذا ذاكر، ولم يشكرهم شاكر.
إن الله سبحانه وتعالى لا يخذل من نصره، ولا يتخلى عنه بحال من الأحوال، فمن نصر الله، لا بد أن ينصره، وإن تركنا للربا، هو تحقيق لواجبنا الشرعي، وهو كذلك تحقيق لبيعتنا مع الله على نصرة دينه؛ لأن فيه حرباً على أولئك الكفرة الفجرة، فبمجرد تركنا نحن للتعامل مع الربا، فإنما نحارب أعداء الله، ونحارب أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمجرد استغنائنا عن بنوكهم، وشركاتهم ومؤسساتهم، نحاربهم بذلك؛ لأنهم إنما استغلونا من خلال هذه الوسائل، فبقدر استغنائنا نحن عنها، بقدر حربنا لهم، وحربنا لهم هي حرب مقدسة دينية.
إن علينا عباد الله: أن نستغني عن مؤسسات أعدائنا، التي لا نجني منها إلا الضرر، وانتهاك ما حرم الله علينا، واستغناؤنا عنها فيه الحرية لنا، وفيه استغلال خيرات بلادنا بما يكفي، وفيه أيضاً طاعة ربنا سبحانه وتعالى.
إن علينا أن نعلم أن المؤسسات والبنوك التي تنتشر في بلادنا رأس مالها، ولو كان في أيدي أشخاص من أبناء جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، هو لليهود والنصارى، فلا تظنوا أبداً أن البنوك التي تسمى بأسماء أشخاص تعرفونهم، هي ملك لأولئك الأشخاص أبداً، إنما يملكها الذين أقاموا أولئك وكلاء عنهم فقط، يبتزون بهم الشعوب، ويمتصون بهم خيرات الأرض، وبذلك يعلم أنها جميعاً استثمارات للكفرة في بلاد الإسلام، وأنها يلزم الاستغناء عنها، إن أبواب الربا كثيرة لا يمكن أن نأتي على جمهورها، فضلاً عن أن نأتي عليها جميعا، ولكن من أمثلة ما ينتشر من الربا، ما يتعلق بصرف العملات، وتحويلها، فإن الناس اليوم قد تساهلوا في هذا الباب، وانتشر بينهم، وقد جعل له الشارع بدائل مغنية عنه، لكن الناس يذهبون إلى ما حرم الله، ويتركون ما أحل، فتحويل العملات من بلد إلى بلد من المعروف اليوم ما فيه من المخاطر، وما يتعرض له من يحمل نقوداً معه في سفر، من المسائلة والتضييق، إذا لم تصادر منه وتنتزع، وبذلك لا بد أن يبحث عن وجه التحويل.
ومن الوجوه السائدة اليوم: الصرف غير الناجز، صرف النقود في الذمة، كمن يأتي إلى تاجر هنا فيدفع إليه نقوداً من العملة الموريتانية، ويعطيه مقابلها دولارات في مكان آخر، فهذا من الربا البين؛ لأنه صرف في الذمة، وإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وبين أنه من الربا، إلا يداً بيد، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب من يصارف على ما في جيبه، إذا كان أحد النقدين في اليد، والآخر في الجيب، فهذا يعتبر نسيئةً يضرب عليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، فلذلك لا بد أن نعرف الخطر في هذا الباب، وأن نعلم أن الوجه الشرعي البديل أحد أمرين:
الأمر الأول: أن لا نعقد العقد طرفاً، بل أن نعقده قرضاً، وذلك إذا تفشت الأمانة بين الناس، وحصلت الثقة بينهم، فالذي يملك الأوقية ويريد شراء البضائع من الخارج ويحتاج إلى اليورو، أو الدولار في الخارج، يقرض التاجر الأوقية هنا، قرضاً، ويقضيه التاجر بالعملة الصعبة في الخارج، فهذا لا حرج فيه شرعاً، وهو قرض إن كان البادئ فيه صاحب العملة السهلة، كان ذلك حسن قضاء، وإن كان البادئ فيه صاحب العملة الصعبة، كان ذلك حسن اقتضاء، وكلاهما مندوب في القرض، فالقرض يندب فيه حسن القضاء وحسن الاقتضاء.
وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثنياً برباع، وقال: ( أعطوه فإن خيركم أحسنكم قضاء )، كما في حديث أبي رافع في الصحيحين.
كذلك الوجه الثاني: هو السفسجة، وهذه الكلمة منقولة من الفارسية في الأصل، ومعناها: الائتمان، أي: عقد من عقود الوديعة، تدفع فيه نقودك لإنسان تأتمنه عليها، فيكتب لك رسالة إلى وكيله في البلد الذي تنتقل إليه؛ لتستلم منه مقابل نقودك، وهذه هي عقد أمانة مثل الوديعة، لكن يحل أخذ الأجرة عليها ككل الودائع، فالوديعة من العقود الجائزة، وكل عقد جائز يجوز أخذ الأجرة عليه، فكل ما يجوز بدون مقابل، ويجوز بالمقابل، يمكن أن يعقد عقد تبرع، ويمكن أن يعقد عقد معاوضة، كالوديعة والعارية ونحو ذلك، كلها يمكن أن تؤخذ عليها أجرة، ويمكن أن تكون بدون مقابل، والسفسجة هي نوع من الوديعة يجوز أخذ المقابل عليه، ويجوز أيضاً أن يتصدق به الإنسان فيجعله دون مقابل، وبذلك ينتفع الشخصان معاً، فصاحب العملة الموريتانية انتفع؛ لأنه نقلت له هذه العملة إلى الخارج، فأصبحت عملة صعبةً يمكن أن يشتري بها البضائع، والتاجر الذي يملك العملة الصعبة في الخارج، أيضاً استفاد؛ لأنه أخذ مقابل عملته من الأوقية الموريتانية، وهي متردية، فمما يدل على أنه سيربح منها في مقابل العملة الصعبة، وإذا أخذ على ذلك عمولةً مثلاً بمثل، ولو اختلف العيار، فعيار أربعة وعشرين، وعيار واحد وعشرين، وعيار ثمانية عشر، كلها ذهب، ولا يحل بيع بعضها ببعض، إلا يداً بيد.
فكل هذه الأمور تقتضي التنبه لها، والحرص على عدم التجاوز فيها، كذلك من الربا المنتشر بين الناس، ما نشهده نحن اليوم من بيع الطعام قبل قبضه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حرمه، فكثير من التجار الوسطاء، يشترون من المؤسسات الكبيرة طعاماً كثيراً، وليست لديهم مخازن يضعون فيها ذلك الطعام، وليس لديهم طاقة لنقله، واستيعابه، فيبيعونه وهو في مكانه عند التاجر الذي اشتروا منه، أو عند الشركة التي اشتروا منها، وهذا من الحرام البين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم بيع الطعام، قبل أن يحوزه التجار إلى رحالهم، وقبل أن يجري فيه الصاعان، وحرم بيع الطعام قبل قبضه، فكثير من الناس يشترون من سوني ماكس مثلاً: السكر، ولكنهم يبيعونه بمجرد أوراق، فلا ينقلونه من مخزن سوني ماكس؛ لئلا يكلفهم النقل والتعبئة والحضانة واستئجار المخزن، فيبيعونه للتجار ليأخذوه من سوني ماكس، ويحيلونهم على سوني ماكس مباشرةً، وهذا من الربا البين الحرام، وهو منتشر كثيراً بين الناس.
والشرع في مثل هذه العقود لن يريد أن يكون المال دولة بين الأغنياء، بل أراد أن ينتفع العمال بحمله وكيله، ووزنه، وأن ينتفع ملاك العقار من تجاره، وأن ينتفع أصحاب السيارات وأصحاب وسائل النقل والحمر الأهلية، وغير ذلك، باستئجارهم لنقله، حتى يكون هذا المال مشترك بين الناس جميعاً فالمال مال الله، ليس مال الناس، وإنما ائتمن الناس عليه، فلا بد أن يكون لكل شريحة حظها ونصيبها، ولا يمكن أن يستغنى عن ذلك بأية وسيلة أخرى.
كذلك من أنواع الربا المنتشر بين الناس، القروض التي يتحايل بها على الفوائد، فإن كثيراً من الناس لديه نقود، يريد أن يستغلها بربح مضمون، والربح المضمون غير جائز، فإذا أراد الإنسان أن يدفعها إلى آخر ليعمل بها، بمقابل ربح مضمون علم أن ذلك من الربا، فيحتال على ذلك بأن يجعلها سلعة من السلع اسمنتاً أو ورقةً أو غير ذلك من البضائع، وما ذلك إلا حيلة من حيل الربا، لا خير فيها بوجه من الوجوه، وعلى الإنسان أن يتقي الله، وأن يعلم أن القرض إنما نقصد به ابتغاء مرضات الله، وليس مثل العقود التي تطلب منها الأرباح، وفيها المكايسة، فلا يمكن أن يـأخذ الإنسان عليه مقابل، فهو بمثابة نافلة من الصلاة أو الصيام، كيف يأخذ على ذلك مقابل، عليه أن يرغب فيما عند الله، وأن يعلم أن ما عند الله خير وأبقى، وإذا زال الجشع عن الناس، والحرص على الدنيا، فإن القرض سيتنشر؛ لأن فيه مزيتين، إحداهما: أنه لا يطلبه إلا محتاج إليه.
والثانية: أنه أقل منةً من الهبة، فهاتان مزيتان عظيمتان في القرض، وانتشاره بين الناس فيه خير كثير، لكن لا بد أن يكون القرض من غير ربا، ومن غير زيادة بوجه من الوجوه، فكل قرض جر نفع فهو ربا.
كذلك فإن كثيراً من الناس يستعملون نوعاً من الحيل يسمونه في لهجة العامية بالمثلية، وهي صفقة يقرض فيها الإنسان قرضاً صورته صورة السلم، يدفع إلى آخر نقوداً، في مقابل بضاعة محددة لستة أشهر، وتكون النقود التي دفعت، فيها ربح سيربح منها هو؛ لأن قيمة تلك البضاعة لو ثبتت على ما هي عليه الآن، ستكون أكثر من تلك النقود، وهذا لا يقصد به في الأصل السلم؛ لأنه لا يريد تلك البضاعة، إنما يريد النقد فقط، ولذلك سيشتري منه البضاعة، أو من غيره بالتورق، إنما السلم هو ما قصدت فيه البضاعة لذاتها، وكان صاحبها راغباً فيها ويريدها.
أما الذي يعقد لأي بضاعة فذلك متحايل على الربا، يريد بذلك أن يربح المال ربحاً مضموناً، وأن يكون ذلك استغلالاً للآخرين وطاقاتهم.
إن هذه العقود منتشرة كثيرة الدوران بين الناس.
ومثلها أيضاً: ما يكثر بين النساء مما يسمى بالصندوق، وهو أن تدفع كل امرأة من مجموعة من النساء ألفاً مثلاً، فيجعلنها في صندوق قرضي، فيقرضن ما تحصل في هذا الشهر لإحداهن، وفي الشهر القادم لأخرى، وفي الشهر الذي بعده لأخرى، سواءً كان ذلك على وجه التحديد بأن حدد ذلك أمراً متعارفاً عليه من قبل، أو كان على وجه القرعة، فكل ذلك محرم؛ لأنه سلف جر نفعاً، فهذه التي دفعت ما أقرضت إلا لتقرض، وأسلفني على أن أسلفك أم من أمهات الربا.
ومثل ذلك من العقود المنتشرة أيضاً، ما يحصل بين الناس كثيراً وبالأخص كبار التجار من ربا الجاهلية، فإن كثيراً منهم يتحمل ديوناً لمدد طويلة، كتمويلات كبيرة لمشاريع، فإذا أراد الدائن الربح منها فرض عليه فائدةً راجعةً إلى الزمن؛ لأنهم يقدرون أن العملة ستنخفض مع الزمن، فيريدون مقابلاً لذلك الانخفاض، وهذا من ربا الجاهلية، فإنهم كانوا يقولون: إما أن تقضينا، وإما تربي لي، إذا حان الأجل، فإما أن يقضيه دينه كما هو، وإما أن يربي له فيزيد في المدة، والزيادة في الذمة هي من ربا الجاهلية، الذي كان سائداً فيها.
وعكس ذلك صورة أخرى تنتشر أيضاً بين التجار وهي: ضع وتعجل، وهذه كثيراً ما يقوم بها مكاتب التخليص، والوسطاء الذين يستغلون ضعف الناس المعجوز عنها، فإنهم يرون الدين الذي ما زال مؤجلاً يمكن مع طول مدته، أن تنخفض العملة، فينتقص قيمة الدين، فيبيعون ذلك الدين المؤجل بعاجلٍ أقل منه، فهذا من الربا البين الذي لا يجوز.
هذه إذاً بعض المعاملات الربوية المنتشرة فيما يتعلق بالنقود والتجارات بين الناس، وإذا تجنبناها وتركناها فإن بدائلها الشرعية خير لنا، وفيها كذلك تخلص من كيد أعدائنا، وتحرر من ربقة الاستعمار الذي نشكو من ربقته جميعاً.
نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر