بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فإن هذا الكتاب الكريم هو أحدث الكتب بالله عهداً وأهداها سبيلاً وأوضحها حجة، ختم الله به الكتب المنزلة إلى البشر، وجعله تبياناً لكل شيء، وعصمه وحفظه، فتولى حفظه بنفسه ولم يكله إلى الناس: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، وقد بين الله فيه لهذه الأمة خبرها وخبر من قبلها وخبر ما يأتي بعدها، وبين فيه ما يحتاج إليه الناس في معاملتهم مع الله وفي معاملتهم فيما بينهم، وكذلك في معاملتهم مع أنفسهم، وهذا الجانب الأخير هو موضوعنا الذي سنتحدث فيه اليوم وهو التربية من خلال القرآن.
ز ذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل ابن آدم نكتة العالم؛ فخلق له ما في الأرض جميعاً، وجعله خليفته في هذه الأرض، وكرمه تكريماً كبيراً فخلق آدم بيمينه ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وجعله خليفته في الأرض، ثم كرم ذريته بعد ذلك فقال: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [الإسراء:70].
وقد جعل الله هذا الجنس البشري مؤلفاً من ثلاثة عناصر هي: الروح؛ التي هي نفخة غيبية من أمر الله، والبدن؛ الذي أصله من تراب، والعقل؛ الذي شرف الله به الإنسان على غيره من سائر الحيوان، وهذه العناصر الثلاثة مجتمعة هي الإنسان، وعلى أساسها رتب الله الدين؛ فجعله ثلاثة عناصر هي: الإيمان؛ وهو لمصلحة العقل، وهو مقتضاه، والإسلام؛ وهو لمصلحة البدن، وهو مقتضاه كذلك، والإحسان؛ وهو لمصلحة الروح، وهو مقتضاها.
وهذه العناصر الثلاثة كلها يقبل الإنسان فيها النمو والزيادة؛ فبالإمكان أن يزداد الإنسان تربية لروحه ونماءً لها وارتفاعاً بها عن سفاسف الأمور، وبالإمكان أيضاً أن يزداد عقل الإنسان بالتجربة وبالعلم وبزيادة الإدراك، وبالإمكان كذلك أن يزداد بدن الإنسان مهارة وخبرة وإتقاناً للأمور، فهذا التفاوت العظيم بين أجناس الناس إنما هو بحسب هذه التربية.
والتربية تفعلة من: رباه.. يربيه؛ إذا أوصله إلى كماله شيئاً فشيئاً، والعرب تستعمل من هذه المادة أربعة أفعال، يقولون: رباه.. يربيه؛ إذا أوصله إلى كماله، ومنه قول الشاعر:
وربيته حتى إذا تم واستوى كمخة ساق أو كمتن إمام
قرنت بحقوه ثلاثاً فلم يزغ عن القصد حتى بصرت بدمام
ويقال: رببه.. يرببه كذلك، ومنه قول أمية بن أبي الصلت الثقفي :
بيضاً مرازبة غلباً أساورة أسداً ترببن في الغيضات أشبالا
ويقال: ربته.. يربته، ومنه قول الشاعر أيضاً:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بجمهور حزوى حيث ربتني أهلي
بلاد بها نيطت علي تمائمي ومزقن عني حين تم بها عقلي
ويقال أيضاً: ربه.. يربه، لكن هذا الفعل الأخير أكثر إطلاقه على القيادة والسياسة؛ فيقال: ربه؛ إذا ساسه وقاده، ومنه يقال: فلان رب هذا البيت، وقال عبد المطلب للأشرم صاحب الفيل عندما سأله؛ فقال: (لا أراك تتكلم عن هذا البيت الذي به شرفك وشرف آبائك، وإنما تتكلم عن الإبل؛ فقال: أنا رب الإبل وللبيت رب سيمنعه).
ومن هذا الإطلاق قول صفوان بن أمية بن خلف رضي الله عنه يوم حنين عندما قال له أخوه: لقد انهزموا، ووالله لا يرد منهزمهم إلا البحر؛ قال: (اسكت! بفيك التراب؛ فلا أن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن) أي: أن يقودني رجل من قريش خير من أن يقودني رجل من هوازن.
والله سبحانه وتعالى هو الرب وهذا الاسم مشتق من التربية التي ذكرنا؛ فهو موصل كل شيء إلى كماله؛ فهو الذي خلقه بدءاً وهو الذي أنعم عليه بعد نعمة الخلق بنعمة التدرج والحياة؛ فكل ذلك هبات منه سبحانه وتعالى، ولا يستغني شيء عنه في أية لحظة من اللحظات؛ فأفضاله ونعمه سائرة مع الزمن لا يستغني عنها أي كائن في أية لحظة من لحظاته؛ فلذلك كان رب كل شيء سبحانه وتعالى.
والرب إما أن تكون فعلاً بمعنى فاعل، بمعنى راب لجميع الخلائق، أو أن تكون فاعلاً حذفت منها الألف، ويقع ذلك في المضعف من فاعل، وفيه يقول ابن مالك رحمه الله:
... وينحذف بقلة مضاعفاً منه الألف
ففاعل إذا كان مضاعفاً يحذف منه الألف قليلاً، كشت وفذ وعم، كلها بمعنى فاعل، وكذلك رب على هذا التبويب.
وربى الشيء بمعنى نما وزاد؛ ومنه قول الله تعالى:
وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الحج:5]، اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الحج:5] أي: نمت وارتفعت، فكذلك يقال: ربى الإنسان في هذا المكان بمعنى تم فيه خلقته بعد مروره بمراتب الخلق وتدرجه فيه، ومن ذلك قول الشاعر في وصف حديقة:
ربت وربى في كركمها ابن مدينة يضل على مسحاته يتركل
ثم إن هذه التربية يحتاج إليها الإنسان أكثر من حاجة غيره إليها؛ فهو أحوج الكائنات إلى هذه التربية، وذلك أنه هو الذي امتحن بالتكاليف وسلطت عليه الشهوات؛ فهو محتاج إلى السيطرة على هذه الأمور وبالأخص عندما يدرك ميزه وانفصاله عن هذه الأجناس التي منها خلق؛ فشتان بين بذر الإنسان في حال الحياة الآن وبين التربة التي هو منها في الأصل، وشتان بين عقله كذلك وبين إدراك سائر الحيوانات البهيمية، وشتان بين اختراعه وإتقانه للأمور وبين الجنس الذي هو منه وهو جنس الحيوان؛ فلهذا احتاج الإنسان إلى أن يدرك نموه وأن يتابعه.
وتربية الإنسان تمر بثلاث مراحل:
فالمرحلة الأولى ليس للإنسان فيها مشاركة، لا في التخطيط ولا في التنفيذ، وهي تربية الطفل الصغير؛ فلا هو مخطط للتربية وأسسها ولا هو منفذ، بل يخطط له أبواه وأهله وينفذ عليه مربيه كذلك ما أراده من الخطط؛ وحينئذ يكون الإنسان تابعاً لغيره مقلداً له محاكياً له في تصرفاته وذهابه وإيابه وحركاته.
والمستوى الثاني من التربية يكون الإنسان فيه مشاركاً فيخطط له غيره وينفذ هو، وذلك بعد انتقاله من حال الصبوة إلى حال الرجولة في بداية نشأته؛ فهو يحاكي الآخرين دون أن يملى عليه ذلك؛ ولهذا تجدون كثيراً من البالغين في أول بلوغهم يحاكون ما رأوا ويتخلقون بكثير من الأوصاف التي لو راجعوا فيها أنفسهم ما اقتنعوا بها؛ ولهذا يقول الناس: إن أصل عادة التدخين وغيرها من العادات السيئة هو مجرد المحاكاة في سن البلوغ، عندما يبلغ الإنسان سن البلوغ يرى شيئاً يفعله الناس فيتبعهم عليه ولو لم يقتنع به، ولو فكر بمقتضى العقل لعرف أن هذا ليس قدوة ولا أسوة، ولا فيه مصلحة له، لكنه يجد نفسه مضطراً للمحاكاة في هذه المرحلة.
والمرحلة الثالثة يكون فيها الإنسان مخططاً ومنفذاً؛ فهو القائم بالتربية، وهذه المرحلة تستمر مع الإنسان بقية عمره، فالإنسان كلما اقترب إلى الدار الآخرة ازداد من الخير، وكل يوم تطلع فيه الشمس يزداد علماً وعملاً وتقوى وورعاً وخلقاً؛ فيرجى له الخير كما قال الشاعر:
ورج الفتى للخير ما إن رأيته على السن خيراً لا يزال يزيد
أما إذا كان كلما ازداد به العمر بقي إيمانه في ترد وتناقص، وخلقه كذلك في تراجع، وبدنه كذلك لم يكتسب أية مهارة؛ فهو كَلٌّ على غيره؛ فإن الإنسان حينئذ يلتحق بغيره من سائر الحيوانات؛ فيحتاج إلى راع يقومه بالضرب وغيره من أنواع الرعاية التي تحتاج إليها البهائم.
إن هذه التربية التي يحتاج إليها الإنسان جاء كثير من تفاصيل أمورها في القرآن؛ فقد بين الله سبحانه وتعالى أسس التربية العقلية بزيادة العلم؛ فقال تعالى: وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ [النحل:78]؛ فهذه وسائل العلم جعلها الله للإنسان ليزداد علماً بعد أن خرج من بطن أمه لا يعلم شيئاً، وبينها أيضاً في قوله: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10]؛ فهذا هو أساس زيادة العقل، فالإنسان بما منحه الله من هذه الحواس يدرك ما حوله ويفهم الأمور؛ ولهذا يزداد إيماناً كلما ازداد تدبراً وتفكراً؛ فآيات الله تنقسم إلى قسمين:
إلى آيات مسطورة وهي ما سطره في كتابه من كلامه، وآيات منظورة وهي ما أبدعه في خلقه من الدلائل على صنعه سبحانه وتعالى.
وهذه الآيات تتعاضد دليلاً على الإيمان، كما قال سبحانه وتعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190-191]، وكما قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53]؛ فهذه الآيات المنظورة تتعاضد مع الآيات المسطورة ليزداد الإنسان إيماناً ويقيناً؛ فهذا إبراهيم خليل الله قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ [البقرة:260] أي: اجمعهن إليك، ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا [البقرة:260]؛ فأراه الله المنظورة العجيبة التي تزيد المؤمن إيماناً ويقيناً، وهذه الآيات ليست هي سبب الإيمان بل هي سبب زيادته فقط، فإن الإيمان منحة ربانية يهبها الله لمن شاء من عباده، ولو رأى من لم يرد الله له الإيمان كل آية من الآيات لما آمن ولا صدق، إنما يكون الإيمان منحة ربانية ونوراً قدسياً يقذفه الله في قلب العبد، لكنه يحتاج إلى نمو وزيادة وتربية؛ فيزداد بعد ذلك فهو قابل للزيادة من أصله لكن لا بد أن يكون في الأصل منحة ربانية تحصل في القلب، كما قال تعالى: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، وكما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [يونس:99-100]؛ فالذين لا يعقلون أي: الذين صرفهم الله عن الإيمان ولم يرزقهم إياه ولو رأوا كل آية لما آمنوا؛ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ [يونس:100]، وهؤلاء هم الذين يجعل الله عليهم الرجس والران فيقذفه في قلوبهم فلو رأوا كل آية لما آمنوا بها، كما قال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام:109-111]؛ فهؤلاء لو رأوا كل آية لما آمنوا.
ومن أوضح الأمثلة على ذلك أن بني إسرائيل من اليهود عليهم لعنة الله أراهم الله من الآيات البينات الشيء الكثير؛ فعندما رأوا موسى تلقي به أمه في البحر وهو وليد فلا يغرق، ويلتقطه فرعون وجنوده ثم يمنع من سائر المراضع فلا يقبل أية مرضع إلا أمه، ويرون المحبة التي جعل الله عليه لا يقع عليه بصر أحد إلا أحبه؛ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه:39]، ويرون القوة التي جعل الله فيه، وهي عجيبة خارقة للعادة، ثم بعد هذا يأتي مؤيداً بالمعجزة بعد بعثه؛ فيدخل يده في جيبه فيخرجها بيضاء من غير سوء، وفي يده عصاه يرميها فتكون حية تسعى، وينهزم أمامه كل السحرة فتتلقف عصاه كل ما يأفكونه، ويرونه يضرب بهذه العصا البحر فينفلق فيكون اثني عشر فرقاً، كل فرق منها كالجبل العظيم، ويكون قعره يبساً طريقاً؛ كما قال تعالى: طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى [طه:77]، ويرونه عندما ظمئوا يضرب الحجر الصلد فيتفجر منه اثنتا عشرة عيناً لكل بطن من بني إسرائيل عين يشربون منها، ويرون الحجر يجري بملابسه وهو يطرده بعصاه، ويقول: (ثوبي حجر.. ثوبي حجر) ويرون من المعجزات على يديه الشيء الكثير؛ مع ذلك عندما خرج من البحر مروا على قوم يعبدون آلهة لهم فقالوا: يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138].
كذلك عندما اختار منهم سبعين رجلاً لتلقي التوراة عن الله عز وجل وقد كتب له الله التوراة بيمينه في الألواح، تفصيلاً لكل شيء؛ فسلمه إياهاه وقد شهد على ذلك سبعون رجلاً من خيرة بني إسرائيل فوجدهم قد ارتدوا وعبدوا العجل بعده، ثم عندما أمرهم بالسجود والتوبة وأن يقولوا: (حطة) أي: أن يسألوا الله حط الذنوب عنهم لم يقولوا: (حطة) وإنما قالوا: (حبة في شعرها) يقصدون بها الحنطة، وسجدوا على أطراف جباههم ولم يسجدوا السجود الذي أمروا به فنتق الله الجبل ورفعه فوق معسكرهم، حتى ظنوا أنه واقع بهم وهم يشاهدون هذا ثم صعقوا فماتوا جميعاً، ثم أحياهم الله بعدما ماتوا ورد الجبل إلى مكانه؛ ومع ذلك لم يزالوا يؤذون موسى، ولم يؤمنوا ولم يصدقوا رغم كل ما رأوه من الآيات البينات؛ ولذلك قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ [الصف:5].
بعد هذا رأوا عيسى بن مريم ولد من غير أب ورأوا أمه تحمله وهي عذراء بكر لم يمسها بشر، تحمله ضحوة وتلده وقت الظهيرة، تأتي إلى جذع نخلة ميتة؛ فتهزها فتتساقط عليها رطباً جنياً، ويجري تحتها نهر سري من الماء العذب لم يكن في تلك المنطقة مثله، فتأتي تحمله فيقولون لها: لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا [مريم:27]، وهم يعلمون أنه لا يشبه ذلك، فتقول: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا [مريم:26]، وأشارت إلى عيسى وهو يرتضع الثدي فانتزع فمه من الثدي ووضع مرفقه على الأرض ونظر إليهم وقال: إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم:30-33]، ويرونه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيكون طيراً بإذن الله، ويخبرهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم؛ مع كل هذا لم يؤمنوا.
وطلبوا منه مائدة تنزل من السماء؛ فاستجاب الله دعوته فأنزل عليهم المائدة أربعين يوماً تنزل في وقت الظهيرة يحملها الملائكة فلا يطلب أحد طعاماً ولا فاكهة إلا وجده فيها، حتى إذا صدروا عنها جميعاً وشبعوا ترتفع المائدة إلى السماء لتأتي مثل ذلك الوقت من الغد؛ فمع هذا يكفرون ويحاولون قتله وصلبه.
ويرون النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخذ عليهم العهود والمواثيق إذا هو خرج أن يتبعوه وينصروه وقد أقر الله أنبياءهم جميعاً على ذلك؛ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران:81-82]، ورأوا ما جاء به من الآيات والمعجزات البينات وهو رسول الأميين، ومع هذا أظهره الله على الدين كله؛ فكل ما أنزل في التوراة أو في الإنجيل أو في الزبور من الأحكام والعظات أظهره الله عليه، فيبينه لهم وهم مع هذا ينكرون ويأتون بزيادات يزعمونها من التوراة وليست منها، ويحذفون منها ما كان فيه وصف النبي صلى الله عليه وسلم ويحذفون منها آية الرجم؛ لأن الله لم يشرفهم بهذا النور الرباني، الذي هو نور الإيمان.
وفي المقابل تجدون الذين يشرفهم الله بهذا النور ولو كانوا من أجهل الناس وأبعدهم عن الحق يرتفعون ويسمو بهم هذا النور سمواً عجيباً؛ فسحرة فرعون الذين كانوا شر أهل الأرض وأخبثهم عملاً يقفون في وجه الدعوة ويناصبون أنبياء الله العداء ويمجدون الطاغية ويعتبرونه إلههم الذي يعبدونه ويعتمدون على السحر واستخدام الجن؛ في لحظة واحدة يقذف الله الإيمان في قلوبهم فيخرون سجداً لله دون أن يعلموا السجود، وعندما يهددهم جبار الأرض بأنه سيقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وأنه سيصلبهم في جذوع النخل يقولون: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى [طه:72-76]، كل هذا تعلموه في هذه اللحظة الواحدة من آثار هذا النور الذي قذفه الله في صدورهم، فأدركوا الفرق الشاسع بين أمور الدنيا وأمور الآخرة؛ فقالوا: إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:72] وأدركوا الفرق الشاسع بين حال أهل الإيمان في الجنة وحال أهل الكفر في النار، وأدركوا الفرق الشاسع بين من يعبد الله وبين من يعبد من لا يملك له حياة ولا موتاً ولا نشوراً، تعلموا كل هذا العلم العجيب في لحظة واحدة.
وكذلك الذين هدوا لهذا الطريق فإن الله يهديهم للطيب من القول ويهديهم إلى صراط الحميد كما قال الله تعالى: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ [الحج:24]، يهديهم الله إلى الطيب من القول، فيجريه على ألسنتهم وعلى أفواههم، ويهديهم كذلك إلى صراط العزيز الحميد، فيوفقهم لعبادته ويصطفيهم ويجتبيهم لذلك.
ولهذا قال الله تعالى: اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ [الشورى:13]؛ فالذين يجتبيهم الله من خلقه يختارهم اختياراً عجيباً فيسمع أحدهم نبأة أو صيحة أو كلمة واحدة يتأثر بها تأثراً بالغاً، وهذه هي تربية العقول؛ زيادة الإيمان، وزيادة العلم.
كان راكب ذات ليلة يسير في أرض، اليمن يقرأ سورة النساء فمر حول دير فيه راهب والراكب يقرأ قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا [النساء:47] ؛ فسمع الراهب هذه الآية فقذف الله في قلبه الإيمان فجعل يده على وجهه يخاف أن يمسخ إلى قفاه، وأقبل مسرعاً إلى المدينة ليؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا الراهب سمع هذا التهديد الرباني: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا [النساء:47]؛ فبادر للاستجابة وخاف هذا التهديد الخوف الذي يستحقه كل مؤمن أن يحصل له إذا سمع تهديداً من ديان السماوات والأرض.
كذلك الحال بالنسبة للمهديين الذين يقذف في قلوبهم هذا النور فتتغير حياتهم تغيراً عجيباً؛ فقد كان في سالف الزمن فتية صغار حدثاء الأسنان قد تربوا في النعمة من أبناء الملوك، لم يفقدوا شيئاً مما يرغبون فيه من أمور الدنيا وأصبحوا ذات يوم على لهوهم ولعبهم فقذف الله في قلوبهم الإيمان وزادهم هدى؛ فآمنوا بربهم وازدادوا هدىً؛ فاعتزلوا قومهم وما هم عليه من الفجور والانكباب على أمور الدنيا؛ فأصبحوا مضرب المثل في الإيمان، ألا وهم أصحاب الكهف، الذين قال الله فيهم: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ [الكهف:13-15]، معناه: هلّا يأتونا عليهم بسلطان بين؟ فهداهم الله سبحانه وتعالى وزادهم من العلم والإيمان حتى كانوا مضرب المثل في الإيمان.
وكذلك الحال بالنسبة لـآسية بنت مزاحم امرأة فرعون التي كانت في بيت الملك والنعمة، لكنها قذف الله في قلبها نور الإيمان فكملت، وحصلت على مقام الكمال، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( كمل من الرجال كثير وكمل من النساء أربع .. )، وعد منهن آسية بنت مزاحم هذه؛ فقد كملت ووصلت إلى أعلى مقام في التربية، ليس ذلك ناشئاً عن نسب ولا حسب، بل هي في بيت طاغية أهل الأرض، لكن مع هذا ضرب الله بها المثل لأهل الإيمان؛ فقال: وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ [التحريم:11].
وكذلك الحال بالنسبة للذين صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به في بداية دعوته؛ فكثير منهم من الشباب الصغار الذين لا يجدون مضايقة في هذه الدنيا ولا أي إشكال، تولي عنهم هموم الدنيا، لكنهم لم يأنسوا بذلك ولم يرضوا به حين قذف الله في قلوبهم الإيمان فتخلصوا من كل ما كانوا فيه؛ فهذا مصعب بن عمير رضي الله عنه لم يكن بمكة شاب أكثر نعيماً منه، كان إذا لبس لباساً جديداً فخرج به على الناس يستحي أن يخرج به مرة أخرى، وكانت أمه أغنى تاجرة بمكة؛ فكانت تغدق عليه من مالها؛ فلما أسلم ربطته في سلاسل الحديد بين أربعة جدران وكلفت به الأشداء من العبيد يضربونه ويعذبونه؛ لعله يرجع عن دينه؛ فما وجدوا فيه يوماً ولا ليلة أية ليونة، بقي مصعب صامداً على ما آمن به وصدق؛ فهو لا يريد إلا الزيادة في هذا الإيمان والزيادة في هذا الخير، ولا يرضى أبداً بالرجوع إلى النار بعد إذ أنقذه الله منها؛ فذاق حلاوة الإيمان، وحين عذب في الله سبحانه وتعالى ازداد إيماناً ويقيناً، كما قال الله تعالى: وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22]، فاختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم أول سفير في الإسلام إلى المدينة، وأقام هو اللبنة الأولى لدولة الإسلام، ونجح في دعوة شباب أهل المدينة للدخول في الإسلام وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيه اللواء بعد ذلك؛ فهو حامل لواء المؤمنين يوم بدر وهو حامل لوائهم قبل أن يستشهد يوم أحد.
وكذلك الحال في حق سعد بن أبي وقاص وهو سعد بن مالك بن أهيب الذي كان من أعز فتيان قريش ومن أشجعهم وأذكاهم؛ فلما أسلم أضربت أمه عن الطعام وبقيت ثلاثاً لا تأكل ولا تشرب حتى كادت تموت، قال سعد : فدنوت منها فكلمتها في أذنها فقلت: (يا أماه! لو كان لك مائة نفس فخرجت نفساً بعد نفس على أن أرجع عن هذا الأمر قدر إصبعي هذه ما رجعت، فاحيي أو موتي).
وأوذي في الله كذلك أنواع الإيذاء فصمد وصبر، فيقول عن نفسه كما أخرج البخاري في الصحيح: (والله إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ولقد رأيتنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم وما لنا زاد إلا ورق السمر وهذه الحبلة، وإن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خلط، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام؛ خبت إذاً وضل سعيي).
وكذلك الحال في حق عتبة بن غزوان رضي الله عنه وهو مهندس الإسلام الذي كان يخطط المدن إذا أراد الخليفة أن يبني مدينة كما أراد عمر أن يبني كوفة الجند وأراد أن يبني البصرة؛ فأرسل عتبة بن غزوان ليخطط هذه المدن، تخطيطاً معمارياً جيداً؛ فقسمها أرباعاً وجعل كل جيش من جيوش المسلمين في ربع منها، ونظم أمورها على أبدع تنظيم، فهذا الفتى الذي هو مهندس الإسلام كان في الشعب يقول: (ولقد رأيتني وأنا في الشعب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما منا أحد إلا وهو يشد حجراً على بطنه من الجوع، ولقد خرجت ذات ليلة لقضاء حاجتي فوقعت يدي على شيء فإذا هو بردة فنفضتها فاقتسمتها أنا و سعد بن مالك ائتزرنا بها، ثم والله الذي لا إله غيره لقد رأيت أولئك النفر وما منهم أحد إلا وهو وال على مصر من الأمصار).
إن هؤلاء الذين قذف الله في قلوبهم هذا الإيمان لموه وربوه حتى بلغوا به الكمال، فكلما أنزلت آية من كتاب الله زادتهم إيماناً وكلما أنزلت سورة ازدادوا إيماناً ويقيناً، وكلما جاء تكليف من النبي صلى الله عليه وسلم زادهم إيماناً، وكلما جاءت عبادة من عند الله ابتدروها وبادروا إليها فازدادوا إيماناً ويقيناً، لا يمكن أن يبقى مستوى أحد منهم في الدون ولا يرضون بذلك، يتنافسون تنافساً عجيباً في ازدياد القرب والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بكل ما يتقرب به إليه من الطاعات.
إنها تربية القرآن لزيادة العلم وزيادة النور الإيماني في القلب، إن هذا القرآن كما وصفه الله تعالى: يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، فكل ما يحتاج إليه الإنسان من العلم قد تضمنه القرآن إما تصريحاً وإما تلويحاً وإما إشارة وإما عبارة؛ فكل ذلك في كتاب الله عز وجل، فهو متضمن لكل العلوم، وقد جعله الله سبحانه وتعالى على صغر حجم المصحف الذي يحويه حاوياً لكل العلوم التي يحتاج إليها الناس في أمور دينهم ودنياهم؛ فتكون الآية الواحدة منه مثاراً للتفهم والتدبر حتى يستنبط منها الكثير من الأحكام، ثم جعل الله هذه الفاتحة وهي خطبته ملخصاً لكل العلوم التي فيه؛ فهذه الفاتحة هي ملخص علوم القرآن كلها.
ولذلك فإن هذا العلم الذي تناوله هذا الكتاب العزيز وأتى به تفصيلاً لم يأت على طريقة الكتب السابقة في السرد والإلقاء وإنما جاء على طريق الإجمال ليتنافس فيه الذين يستنبطونه من أهل العلم من هذه الأمة؛ فقد أعد لهم هذا القرآن ليستنبطوا ويستدلوا ويتدبروا؛ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].
إن طريقتهم في التربية العقلية في القرآن هي ما رآه أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله وهو من كبار التابعين، قال: أخبرنا الذين كانوا يعلموننا القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر منهم عثمان و علياً و أبياً و ابن مسعود و ابن عباس و أبا هريرة ، قالوا: ما كنا نقرأ عشر آيات فنتجاوزها حتى نتعلم ما فيها من العلم وحتى نعمل بها؛ قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل. يزداد الإنسان علماً وإيماناً وعملاً كلما ازداد بعشر آيات من القرآن.
ثم إن هذه الطريقة التي سلكوها تفاوتوا بها في الفضل؛ فبقدر حفظ الإنسان للقرآن تكون مزيته في المؤمنين وتقديمه بينهم، يقول عمرو بن سلمة رحمه الله: (قد كنت عندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم طفلاً صغيراً؛ فكنت أتلقى الركبان أسألهم عن القرآن) أي: يتلقى الركبان القادمين من المدينة يسألهم عن القرآن، (وكل ما جاء راكب حفظت منه بعض القرآن حتى كنت أحفظ أهلي لكتاب الله، فوفدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يتخذوا إمامهم أقرأهم لكتاب الله؛ فوجدوني أقرأهم لكتاب الله فجعلوني إمامهم؛ فقالت امرأة من القوم: غطوا عنا سوأة إمامكم؛ فاشتروا لي ثوباً فما فرحت بشيء فرحي بذلك الثوب!) وكان طفلاً صغيراً يؤم الناس؛ لأنه أقرؤهم لكتاب الله، فهذه مزيته ومنزلته؛ فكلما ازداد الإنسان علماً بكتاب الله عز وجل وفهماً فيه وتدبراً؛ كلما ازدادت مزيته بالإيمان؛ ولهذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواءً فأقدمهم سلماً )، وفي رواية: ( فأقدمهم سناً ).
كذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي هي الحكمة وبيان القرآن قد كان يتفاوت الناس فيها أيضاً في المزية والمنزلة وزيادة الإيمان والعلم بقدر ما يحفظونه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فبقدر رواية الرجل أو المرأة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم تكون مزيته في المؤمنين ومنزلته بينهم، حتى إن الرحلة يرحل فيها إلى الإنسان من المكان النائي البعيد في طلب عدد يسير من الأحاديث عنده، وأذكر في ترجمة بعض الشيوخ من أهل نيسابور أنه لم يكن عنده إلا مائة وخمسون حديثاً لكن كانت الرحلة إليه، كان الناس يرحلون إليه في طلب مائة وخمسين حديثاً فقط، وكذلك فـأبو بكر القطيعي رحمه الله ألف كتابه الذي يسمى بــ(جزء ألف دينار) وهذا جزء صغير جمع فيه أحاديث قليلة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وروايته، لكنه كان يسمى "ألف دينار" فمن روى هذا الحديث كأنما يملك ألف دينار.
وهكذا الحال بالنسبة للذين رووا وأنفقوا أوقاتهم في تحمل هذه السنة، يقول الإمام مكي بن إبراهيم شيخ البخاري رحمه الله: (لقد كتبت بإصبعي هاتين عن ستين من التابعين، ولو علمت أني يحتاج إلي لكتبت عن أكثر) ولم يكن يعلم أن الأمة تحتاج إليه، لكن نظراً لإخلاصه وإتقانه احتاجت إليه الأمة فكان أمير المؤمنين في الحديث أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري تلميذه، وكانت ثلاثياته في الصحيح من روايته في أغلبها؛ فهذه المزية هي تفاوت العلم والتربية بزيادة ما يتعلمه الإنسان من الكتاب والسنة وزيادة فقهه بالدين.
كذلك الحال بالنسبة للتربية الروحية؛ فقد كانت العناية بها في القرآن بالغة، فقد جاء عدد من الآيات التي تبين أسس الأخلاق وأسس التعامل فيما بين الناس؛ فقد قال الله تعالى في وصف نبيه صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وقال: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ [آل عمران:159]؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أدبني ربي فأحسن تأديبي )، ولم يزل يأتيه في القرآن: افعل.. و لا تفعل؛ حتى أتم الله له مكارم الأخلاق؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )، وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:36]، وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا * وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراء:23-27]؛ فهذه الآيات تضمنت أسساً عجيبة في التعامل والأخلاق، كلها راجعة إلى التربية الروحية.
وكذلك في مجال التعبد والمعاملة مع الله سبحانه وتعالى جاء كثير من الآيات التي تنظم هذا الجانب وتبينه منها آيات التعبد ومنها آيات المواعظ، وآيات المواعظ في القرآن تربو على الألف، وفي القرآن ما يزيد على ألف آية في الوعظ فقط؛ مما يدل على العناية بالتربية الروحية، فالله سبحانه وتعالى يخاطبنا بالمواعظ المفصلة العجيبة في كتابه ويبين لنا ما يزيل عن الإنسان كل ما فيه من الأمراض والآفات؛ فإذا قرأ الإنسان قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:6-8] اتعظ موعظة عجيبة، وإذا قرأ بعدها قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6] بلغ غاية الموعظة، وهكذا إذا قرأ قول الله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:106-107]، أو قرأ قول الله تعالى: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:105-108]، أو نحوها من الآيات؛ فإنه سيتأثر تأثراً بالغاً وهذا دليل الإيمان وهو تحريك هذا الضمير الذي قد اختفى أو استكن في قلب المؤمن، اذكروا قول الله تعالى: اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23] من قرأها وتدبرها عرف أثر هذا القرآن في تحريك هذا الضمير الإيماني المستكن في القلوب.
وهذه التربية الروحية لم يجعلها الله على مستوى واحد في القرآن، بل في القرآن ما هو خطاب للصالحين من عباد الله وفي القرآن ما هو خطاب للطالحين وفي القرآن ما هو خطاب للمتوسطين، كل ذلك موجود في كتاب الله؛ فالله سبحانه وتعالى يخاطب الطالحين من عباده فيقول: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ المُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر:53-61]؛ فهذا خطاب للذين أسرفوا على أنفسهم وطغوا وبغوا وتجبروا وتكبروا في هذه الأرض لئلا يقنطوا ولا ييأسوا من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وفيه إقالة لعثراتهم وتحريك لعبراتهم ومستكنات ضمائرهم؛ ليتوبوا إلى الله وليؤوبوا وليبدلوا سيئاتهم حسنات لعل الله يتوب عليهم.
ثم إنه سبحانه وتعالى في خطابه للذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً في كتابه يأتي بالوعد والوعيد والترغيب والترهيب، وتشتمل عليها آيات متناسقات في أسلوب متماسك معجز محكم.
وفي خطابه للذين اتقوا أيضاً زيادة أخرى في الإيمان وتحريك للاستمرار على طريق الحق: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ [الأحزاب:1]، فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود:112].
إذاً لم تبق شريحة من شرائح الناس إلا جاء ما يربيها تربية روحية في كتاب الله.
كذلك الحال بالنسبة للتربية البدنية؛ فهي أيضاً ذات عناية واهتمام بالغ في كتاب الله؛ فلم يهمل الله سبحانه وتعالى في كتابه ما يتعلق بتنمية هذه الجوارح واستغلالها فقد جعل الله الإنسان خليفة في الأرض وسخر له كل ما فيها وهيأ له أسباب الانتفاع بكل ذلك ولهذا أرشده إلى نواميس هذا الكون وأمره بالتحرك فيه باستخراج خيرات هذه الأرض واستغلالها فقال تعالى: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك:15]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51]، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172] ).
وكذلك فإنه سبحانه وتعالى أثنى على الذين يعملون أيديهم وأبصارهم وجوارحهم في الخير فقال تعالى في ثنائه على أنبيائه: أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ [ص:45]، وليس المدح هنا بمجرد الأيدي والأبصار؛ فكل إنسان من أولي الأيدي والأبصار، لكن الثناء إنما هو بإعمال الأيدي والأبصار واستغلالها فيما يرضي خالقها سبحانه وتعالى.
وكذلك عدد من الآيات بينت للإنسان وسائل العيش في هذه الحياة وأنواع المكاسب، وهي آيات كثيرة، سواءً منها ما يتعلق بالامتنان في الخلق أو ما يتعلق بالتشريع؛ فمن أمثلة ما يتعلق بالامتنان بالخلق قول الله تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [النحل:8-9]، وكذلك ما كان في التشريع مثل قوله تعالى: وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275].. ونحو ذلك من الآيات التشريعية في المعاملة؛ فكل هذا مما يبين عناية القرآن بهذه التربية.
وأن أسس كل هذه التربية مأخوذة منه، ويكفي لبيان احتواء القرآن على أسس التربية كلها أن أحد علماء المسلمين أخذ من قول الله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] بين هذين السورين فقط: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] أخذ اثنتين وسبعين منزلة هي منازل السائرين إلى طريق الحق، اثنتان وسبعون منزلة فقط بين قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]؛ فبهذا يتبين للإنسان أسس التربية في هذا الكتاب الذي يهمله الناس ولا يأخذون منه شيئاً ويعرضون عنه ويتركونه وراءهم ظهرياً، مع أنه ما نزل لهذا؛ فلم ينزل إلا ليكون منهجاً لحياة الناس يزدادون به إيماناً ويقينا وعلماً وتقوى وورعاً وخلقاً وعبادة؛ فإذا أهملوه وتركوه فإن ذلك من رفعه ويوشك أن يسرى عليه فيمحى من القلوب والمصاحف؛ فقد حان أوان ذلك، من هنا لا بد أن ندعو دعوة صريحة إلى الرجوع إلى كتاب الله عز وجل والتمسك به وتدبره آناء الليل وأطراف النهار، وأن يتمسك المؤمن بحبل الله المتين وصراطه المستقيم؛ فإذا عرض له أي سؤال أو جاءه أي أمر؛ بادر إلى القرآن، كالذي عنده ملجأ - حصن - إذا جاءته أية أزمة خرج إلى الحصن فدخل فيه.
هذا القرآن حصن وسور مانع؛ فينبغي أن نرجع إليه في كل أمورنا، إذا عرض لنا أي أمر من أي الميادين، سواءً كان من أمور الدين أو من أمور الدنيا ينبغي أن نرجع فيه إلى القرآن، ونعتصم بحبل الله جميعاً؛ فهذا الذي يمنع التفرق وهو الذي يقتضي الهداية التي لا ضلال بعدها، إما إذا كان كل إنسان من الناس يرجع إلى مراجع أخرى غير كتاب الله عز وجل فمن يرجع إلى القرآن؟! هل سيترك ظهراً وراء الظهور؟! وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30].
فلا بد إذاً من الرجوع إلى كتاب الله عز وجل وتدارسه وتدبره، وأن يكون ذلك عادة أهل الإيمان وأن يلتمسوا منه النفحات القدسية والهداية الربانية التي تأتي بهداية القلوب وزيادة الإيمان، وحتى بزيادة الخبرة حتى في أمور الدنيا؛ فهو سبيل للهداية بكل أمر، أياً كان، وما من مصلحة إلا وقد تضمنها هذا القرآن.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك لنا في القرآن العظيم وأن ينفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأن يهدينا إلى صراطه المستقيم، وأن يوفقنا لما يرضيه عنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر