بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإن الغفلة تنقسم إلى قسمين: غفلة محمودة، وغفلة مذمومة.
والغفلة المحمودة هي غفلة الإنسان عن حقوقه وحظوظه الدنيوية، فإذا غفل الإنسان عن بعض حقوقه وتجاوز عنها، علم أن فلاناً ظلمه فعفا عنه، وعلم أن فلاناً أخذ من حقه فتغافل عنه، وعلم أن له حقاً في مكان كذا فلم يذهب إليه، ولم يطلب حظ نفسه في كل شأنه، فهذه غفلة محمودة؛ ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( دعوا الناس في غفلاتهم يرزق الله بعضهم من بعض )، فغفلاتهم التي يتركون فيها هي غفلاتهم الدنيوية عن حظوظهم وحقوقهم، وهذا إنما هو فيما لا ضرر على الإنسان فيه.
أما ما فيه ضرر على الإنسان فإن الضرر لا يزال بالضرر، فإذا كان الإنسان محتاجاً إلى حقه حاجةً ماسة، ثم سامح فيه رغم الحاجة فليس ذلك من الغفلة المحمودة، بل هو من التجني على النفس المذموم.
أما الغفلة المذمومة فهي أكثر وأكبر، وهي داء عضال يصيب الإنسان؛ ولذلك نهى الله رسوله صلى الله عليه وسلم عن الاتصاف بها، فقال: وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ [الأعراف:205]، فالغفلة المذمومة هي الغفلة عن العرض على الله عز وجل، وعن مراقبته ورؤيته، والغفلة عن شريعته وملته، والغفلة عن أوامره ونواهيه، والغفلة عن تدبيره لهذا الكون وعن آياته البينات، والغفلة عن مواعظه الدائمة التي هي تذكير للإنسان، والغفلة عن مشاهد القيامة وما يسبقها من الأشراط، والغفلة عن الموت، فهذه غفلات كلها مذمومة، وهي داء عضال يصيب الإنسان إذا تودع منه وقذره الله جل جلاله فإنه يشغله عن الله جل جلاله بأدنى الأشياء وأتفهها، فيتعلق بأدنى الأسباب كتعلق المشركين بما يشبه بناء العنكبوت كما وصف الله ذلك، مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41].
فالذين يعرضون عن الله سبحانه وتعالى يسلطهم على أنفسهم فيكونون عبيداً لأخس العبيد وأرذلهم وأدناهم، لا يتعلقون إلا بأبخل الناس وأفقرهم وأقلهم إيماناً بالله تعالى، وأقلهم صلةً به، وأقلهم عقلاً وإدراكاً، فهم يعبدون أنفسهم لمن لا يملك لنفسه ولا لغيره حياةً ولا موتاً ولا نشوراً، قال تعالى: وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73]، ولذلك قال ابن الجوزي رحمه الله: أشد الناس بلاءً: المحجوبون عن الله جل جلاله، وأشد المحجوبين بلاءً الذي لا يشعر بأنه محجوب، فالذي لا يشعر أنه محتاج لزيادة الإيمان، ولا يشعر أنه محتاج لزيادة العلاقة بالله، ولا يشعر أنه محتاج للتذلل للباري جل جلاله، ولا يشعر أنه محتاج لتعظيم الله في أوامره ونواهيه، ولا يشعر أنه محتاج لتعلم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا غافل عن الله غفلةً قد أماتت قلبه فطبع عليه بطابع النفاق.
والقلوب تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
قلب حي، وهو الذي يعتبر ويتدبر ويتذكر، ويتعرف إلى الله جل جلاله بآلائه ونعمه التي لا تحصى، قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، وقال سبحانه: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53]، وصاحب القلب الحي يتذكر المواقف التي أنعم الله بها عليه، يتذكر عندما كان مريضاً فشفاه الله، وعندما كان ضعيفاً فقواه الله، وعندما كان فقيراً فأغناه الله، وعندما كان فريداً فأعطاه الله عدداً وأهلاً وأولاداً، عندما كان صغيراً فكبره الله، يذكر كثيراً من نعم الله التي لا تحصى، ويعرف أن الله سبحانه وتعالى أنعم عليه بتوجيه قلبه إليه، وقد فتح الأبواب وأذن له بولوجها، وأذن له أن يسجد لله جل جلاله في الوقت الذي منع فيه كثيراً من الخلائق لذلك، فالذين شرفهم الله هم الذين يسجدون له، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج:18]، والذين لا يسجدون لله جل جلاله ما منعهم من ذلك إلا أنه هو حال بينهم وبين ذلك، فلم يرتض منهم الخير، فأنتم تعلمون جميعاً أن الله لا يرضى لعباده الكفر، وأنه يكره السيئات ويمقتها قال تعالى: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً [الإسراء:38]، لكن أقواماً يكره الله طاعاتهم كما يكره معصيتهم، ولذلك قال فيهم: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة:46-47].
والقلب الحي هو الذي يتعلق بالله سبحانه وتعالى، ويريد المزيد من فضله، ولا يمكن أن يصل إلى مستوى يقول: قد قضيت أربي مما عند الله، وانتهيت مما لديه، بل هو راغب فيما عند الله دائماً، يرجو في هذه الحياة أن يزيده الله قرباً إليه وتوثيقاً لطاعته، وأن يستعمل جميع جوارحه وبشره وشعره وملابسه وكل ما آتاه في طاعته ومرضاته، يريد أن يكون ليله ونهاره طاعةً لله، وأن تكون حياته محراباً كبيراً للتعبد لله، وأن يكون مع الله في كل ساعاته آناء الليل وأطراف النهار، لا يغفل عنه ولا يحجب فيه لحظة من اللحظات، كما قال عبد الحق الإشبيلي رحمه الله: الحمد لله الذي أذن لعباده بطاعته فخروا بين يديه متذللين، ولوجهه معظمين، لم يغلق بينه وبينهم باباً، ولا أسدل دونهم حجاباً، ولا خفض أوديةً ولا رفع شعاباً.
صاحب القلب الحي يرغب كذلك في أن يؤدي حق الله، وعبادته لا يطلب بها حظ نفسه، وكثير من مرضى القلوب إذا صلى فإنه يفعل ذلك يريد الغنى والصحة، ويريد قضاء المآرب، وإذا تصدق يريد بذلك شفاء مرضاه، وقضاء حوائجه، وإذا دعا يريد بذلك قضاء حوائجه، لكن صاحب القلب الحي يريد بكل عبادته أداء حق الله جل جلاله، فهو يعلم أن الله يستحق العبادة، وأن السموات التي هي أكبر منا والجبال والبهائم والأشجار والأنهار والمياه كلها تخر لله سجداً مع ظلالها ساجدةً لله جل جلاله، فلذلك يرغب في أن يوفق لأداء حق الله جل جلاله، ومن هنا فهو يحب كل من سجد لله، وكل من أحب الله، وكل من أطاع الله، وكل من عمل عملاً صالحاً محبةً شديدةً لحبه لأداء حق الله، فيرغب في الاتصال بمن يحب الله، ومن يؤدي حق الله، فأنتم الآن تحبون جبريل وميكائيل وإسرافيل ومحمداً صلى الله عليه وسلم حباً شديداً، لماذا؟ لأنهم أحبوا الله وعبدوه عبادةً لا تستطيعونها، وأنتم تعلمون أنه يستحقها، فأنتم تحبون أن يعبد الله حق عبادته؛ لأنه يستحق ذلك، وتحبون أن يشكر ويحمد حق حمده، وتعرفون أنكم عاجزون عن ذلك، ولذلك تحبون ملائكة الله الكرام الذين قال الله عنهم: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، وقال عنهم أيضاً: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، وتحبون أنبياء الله الكرام الذين عصمهم الله من المعصية، ومحضهم للطاعة، وتحبون الصالحين من عباد الله الذين شغلهم الله بعبادته، ولم يشغلهم بأهوائهم وأعراض الحياة الدنيا، تحبون الذين نفضوا قلوبهم من الحياة الدنيا فأقبلوا بقلوبهم متوضئةً مغسولةً على الله جل جلاله فطهرها وبيضها، تحبون الذين يشغلون أوقاتهم بما يعنيهم، ويقبلون على الله تعالى بحسن إسلام، قال صلى الله عليه وسلم: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، فهذا هو القلب الحي الذي صاحبه لا يغفل عن الله جل جلاله، وهو معه في كل أوقاته، فهو معه في وقت السراء إذا جاءته نعمة لم تشغله عن الله جل جلاله، وهو معه في وقت الضراء إذا أصابته بلية لم تشغله عن الله جل جلاله، وهو معه في وقت الأمر ينتظر مجيء الأمر فهو ينتظر غروب الشمس ليبادر لأداء صلاة المغرب، وينتظر غروب الشفق ليبادر لصلاة العشاء، وينتظر طلوع الفجر ليبادر لصلاة الفجر، وينتظر زوال الشمس للمبادرة إلى صلاة الظهر، وينتظر دلوكها للمبادرة إلى صلاة العصر، وهذه الأوقات عنده أعياد هي مواعيد اللقاء بالرب جل جلاله، ومواعيد مناجاته والثناء عليه وسؤاله وعبادته؛ فلذلك يحب هذه الأوقات من عمره حباً شديداً، قال صلى الله عليه وسلم: ( وجعلت قرة عيني في الصلاة ).
يحب رمضان؛ لأنه موسم للطاعة، والإقبال على الله، ويشتاق إليه، ويهفو إليه كما يهفو الصغار إلى الراحة أو إلى الأعياد، فعيده رمضان، بل من عباد الله من ذوي القلوب الحية من يحبون الفاقة والفقر؛ لأنها تقتضي منهم اللجأ إلى الله ومد الأيدي إليه، كما ذكر فروخ رحمه الله عن أحد العارفين أنه قال:
العيد قالوا غد ما أنت لابسه فقلت خلعة ساس ثوبه خلع
أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به يوم التزاور في الثوب الذي خلع
إلى أن يقول:
حب يرى الفاقة الأعياد والجمعا
الفاقة هي بمثابة عيد لديه؛ لأنها تحوجه إلى الله وتذكره به، والجمع أعياد في الأسبوع تذكره بالله، وهو يلتمس ساعة الجمعة، ويعلم أن هذا خير يوم طلعت عليه الشمس، وهو مشتاق إليه في الأسبوع ليتقرب إلى الله جل جلاله، والذي قلبه حي بهذه المثابة لا يمكن أن يغفل عن الله؛ لأنه يشتاق إلى الطاعة قبل أوانها، ويتأهب إليها قبل وقتها، فكيف يغفل عنها إذا دخلت؟ إذا كان مشتاقاً إلى رمضان غاية الاشتياق يريد أن يكون من الذين صاموه إيماناً واحتساباً، ويريد أن يكون من الذين قاموه إيماناً واحتساباً، ويريد أن يكون من الذين قاموا ليلة القدر إيماناً واحتساباً، ويريد أن يكون من الذين يختمون فيه القرآن، ويفطرون المحتاجين من الصائمين، ويريد أن يتصدق وأن يكون معاملاً نفسه بالكرم الذي كان يظهر على النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أكرم الناس في كل الأوقات وفي شهر رمضان يظهر عليه الكرم ما لا يظهر عليه في غيره، كما في حديث ابن عباس : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان يدارسه القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة ).
القلب الثاني: هو القلب المريض، فالقلب المريض صاحبه يتعلق بأمور لا يبلغها ولا يستطيعها، فهو فعلاً من الذين يصلون ولكن صلاته لا تصل إلى قلبه فهو مشغول عن الصلاة، عندما يحرم ويكبر قلبه ليس عند نبضه، فلا يستشعر معنى الله أكبر إذا نطق بها فملأت ما بين السماء والأرض، إذا قرأ الفاتحة لم يتذكر أنه في مناجاة مع الله، وأن الله يجيبه عند كل جملة إذا كان ذاكراً، فالله لا يقبل من قلب غافل لاه، وإنما يتقبل من المتقين، قال تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]، فإذا قرأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] تأثر بذلك تأثراً شديداً؛ لأنه ينتظر جواب الله، والله يقول له: حمدني عبدي، فإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] تأثر بذلك تأثراً بالغاً لعلمه أن الله يجيبه فيقول: أثنى علي عبدي، فإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] تأثر بذلك تأثراً شديداً لعلمه أن الله يجيبه ويقول: فوض إلي عبدي، أو مجدني عبدي، هؤلاء لي ولعبدي ما سأل، فإذا قرأ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] تأثر بهذا المعنى تأثراً بالغاً لعلمه أن الله يجيبه ويقول: هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قرأ بقية الفاتحة تأثر بهذا الدعاء تأثراً بالغاً، وهو يحب أن يحشر مع محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح عليهم السلام، ولا يحب أن يحشر مع عتبة بن ربيعة وأبي جهل وشيبة وغيرهم؛ فلذلك يقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7] يستحضر ذلك بقلبه، وإذا ركع سبح الله وتذكر معنى ما يسبحه عنه، فهو ينزهه عن الصاحبة والولد، وينزهه عن كل نقص كما زعمت اليهود من الفقر والبخل، قال تعالى: وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا [المائدة:64].
وقال سبحانه: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا [آل عمران:181]، فهو ينزه الله عن كل نقص؛ لعلمه أن الرب جل جلاله هو المتصف بجميع صفات الكمال، وأن كل نقص عليه محال، وأنه جل جلاله هو الذي يستحق الثناء تمام الثناء، فلا أحد يستحق أن يثنى عليه بكل كمال إلا الله جل جلاله، فهو المتصف بكل الكمال.
ومن هنا فتسبيحه له معنىً، أي: تسبيحه حي يؤثر في قلبه، وإذا قال: لا إله إلا الله كانت حيةً في قلبه وعلى لسانه؛ لأنه يعلم معناها ويقصده، وإذا قال: الحمد لله، علم أنها تملأ ما بين السماء والأرض، قال صلى الله عليه وسلم: ( سبحان الله، والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض )، وهكذا، فذكره له حياة وله معنىً، وفيه روح تشع، وله نور، فهذا هو ذو القلب الحي، أما ذو القلب المريض فإنه يذكر ولكنه غافل لاه، إذا أحرم اشتغل بأمور دنياه، إما أن يتذكر بعض الأمور التي مضت سواءً كانت ذنوباً أو غيرها فيتذكر بعض المعاصي التي جرت عليه، وقد ذهبت ملذاتها وبقيت تبعاتها، أو يتذكر بعض النعم التي أنعم الله بها عليه لكن لا يتذكر حقها من الشكر وقيدها، أو يتذكر ما يأتي، أو بعض القصص يذكر أنه اليوم كان في السوق ولقي فلاناً ولقي فلاناً من الأمور التي ليست من تكاليفه، ولا مما يعنيه، وهو الآن مشغول عنها بمناجاة الله جل جلاله، ومما يسوءه أن يكون في ملأ وبحضرة الكبراء، ويكون يتكلم ويهذي بما لا خير فيه، ويسوءه أن يرسل كتاباً إلى الملك جل جلاله بما لا فائدة فيه، وهو يعلم أن الملائكة يكتبون عليه، وأن الله يعلم خطرات قلبه، وهو أقرب إليه من حبل الوريد، يعلم ما توسوس به نفسه.
فمريض القلب يصلي مع المصلين، ويذكر مع الذاكرين، ويقرأ القرآن مع القارئين، ولكنه لا يتأثر بذلك، فقلبه ختم عليه، تنبو عنه آيات الله، وتنبو عنه أذكار الله، وينبو عنه كل ما له صلة بالله جل جلاله، فهو هنا في المسجد يصلي ولكن قلبه ليس هنا وروحه ليست هنا، بل هو في أتفه التافهات مشغول بها، فهذا القلب مريض يحتاج إلى علاج، ولو علم صاحبه مستوى مرضه لكان يبذل في علاجه أكثر مما يبذله في علاج بدنه لو مرض.
القسم الثالث: القلب الميت، الذي قد انغلقت مسامه ومسامعه وأعينه دون آيات الله ومواعظه، فلا هو يحس بشيء من هذا الكون، هو مثل البهائم، كما ضرب الله المثل للكفار بذلك: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد:12]، إذا سمع النداء لم يظن أن هذا يعنيه، إذا سمع (حي على الصلاة حي على الفلاح) كأنه ما سمع نداءً، إذا سمع القرآن يقرأ لم يتأثر به، إذا سمع آيات الله أو مر بها يعرض عنها، وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:105-106]، لا يرى تدبير الله لهذا الكون، يأتي بالمطر فتتفتح له مسام الأرض، فيخرج منها النبات الأخرى، ثم بعد ذلك يوزعه الله توزيعاً حكيماً بين البهائم والدواب، وينتفع منه الناس بما شاء، ثم يقبض ما شاء منه، ثم يبقى بعد ذلك مواتاً لا نفع فيه كما قال الله تعالى: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس:24].
وكما قال تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً [الكهف:45]، هو مشغول بطلب المعاش، يباشر ذلك آناء الليل وأطراف النهار، ولا يتذكر أن الذي خلقه قد ضمن له رزقه، قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا [هود:6]، ولا يتذكر أنه كلف بتكاليف أخرى غير طلب الرزق، وأن طلب الرزق تحسنه الفأرة والنملة وجميع الدواب والبهائم، وأن الإنسان ما خلق لهذا بل هو أشرف من ذلك وأكبر، فله مطالب أخرى هي التي ينبغي أن يسمو إليها، وله همة ينبغي أن تعلو حتى تتعلق بما هو أكبر من ذلك، صاحب القلب الميت إذا ذكر بالله جل جلاله أخذته العزة بالإثم عن طاعة الله جل جلاله، ولا يذكر الله جل جلاله عند أوامره ونواهيه، فإذا أتيحت له فرصة ينال بها مكسباً ولو من حرام بادر إليه، وإذا خلا بمحارم الله انتهكها؛ لأنه لا يستشعر أن الله يراه، وقد نبه الله سبحانه وتعالى على هاتين الصفتين من صفات الغافلين، فقال تعالى: وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ * إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف:205-206].
(إن الذين عند ربك) معناه: أنهم غير غافلين قطعاً لأنهم عند الله جل جلاله، (لا يستكبرون عن عبادته)، فإذا أمروا بطاعة الله بادروا إلى ذلك، وإذا ذكروا بالله تذكروا، وهم يعلمون أن أحب الخلق إلى الله وأتقاهم لله وأخشاهم لله محمد صلى الله عليه وسلم قال الله له: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1] فهم مستعدون لأن يقال لهم: اتقوا الله، مستعدون للمبادرة للأوامر إذا سمعوا من يذكر بالله لم يعرضوا عنه؛ لأنهم في حاجة إلى التذكير بالله؛ لأنهم يعلمون أن من هو خير منهم ذكر بالله، فإذا سمعوا من يتكلم ويذكر بالله أقبلوا إليه، وسمعوا كلامه؛ ولذلك قال: لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ [الأعراف:206].
(ويسبحونه) هذا التسبيح يشمل القول، وعمل القلب، وعمل الجوارح، فهو تنزيه لله عن كل ما لا يليق به، فلا بد أن تتذكر عند تسبيحك تنزيه الله عن الصاحبة والولد، وعن الحدود والبلاء، وعن الفقر والبخل، وعن كل نقص أياً كان تنزه الله جل جلاله عن كل ذلك.
(وله يسجدون) فمباشرة العبادة بالبدن أيضاً من عمل هؤلاء الذين حييت قلوبهم ونجوا من الغفلة.
ثم بعد ذلك لا بد يا إخواني أن نعلم أن هذه الغفلات أعظمها الغفلة عن الله، وهي تشمل الغفلة عما يتعلق بالإيمان به جل جلاله، فهذا الرب الكريم نعمه لا تحصى، وآلاؤه في الكونين لا تعد، وتدبيره وحكمته البالغة، ومصير كل شيء إليه، وهو الذي يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [الحج:65]، وهو الذي يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:41]، وهو الذي خلقنا من غير أن نكون مشاركين في ذلك، قال تعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51]، وقال سبحانه: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8].
وهو الذي شرع لنا ما شرع من الأحكام، فما حرمه علينا فلمضرته الساحقة الماحقة بنا، وما أوجب علينا فلنفعه المتمحض في جميع الأوقات، وما ندبنا إليه وسنه لنا فلأن النفع فيه كبير ولكنه قد يعارضه نفع آخر في بعض الأوقات، وما كرهه لنا فلأن له ضرراً يلحق بنا في أوقات كثيرة، ولكنه في بعض الأحيان يكون أسهل من مضرة أخرى، فكل ذلك لحكمته البالغة، فمن لا يغفل عن الله جل جلاله وينظر إلى التشريع، ويفكر في الحكم، لماذا تقول: الله أكبر في استئناف صلاتك؟ لماذا ترفع يديك تنبذ الدنيا وراء ظهرك، لماذا تركع حياءً من الله جل جلاله، لماذا تسجد بين يديه فترفع أسفلك وتحط أعلاك توقيراً لله جل جلاله، وتعظيماً لشأنه، وإجلالاً لوجهه الكريم، لماذا تقرأ القرآن وهو كلام الله جل جلاله محبةً له وإيماناً وتدبراً؟ كل ذلك أنت حاضر له مفكر فيه، فإذا كنت كذلك فالحمد لله أنت غير غافل عن الله في هذا الباب، فلذلك تدبر في آياته سواءً كانت مسطورةً أو منظورة، ترى الرعد والبرق يسبح بحمده، وترى الخلائق الأخرى وهي تسير تحت سلطانه، وترى تدبيره للأشياء كلها، تراه يطلع الشمس من مشرقها، ويغربها من مغربها، ثم يأتي من الغد بتدبيره جل جلاله، تراه يأتي بالقمر من المشرق ثم يغربه إلى المغرب، تراه يزين السماء بالكواكب والنجوم والمجرات العظيمة، تراه يزين الأرض بما يخرج فيها من الشجر والنبات والبنيان، تراه يرفق من شاء من خلقه بما شاء، تراه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فمن هداه فبفضله، ومن أضله فبعدله، فلا تغفل عن شيء من ذلك لأنك تنظر إلى هذا التدبير، وَفِي أَنفُسِكُمْ [الذاريات:21]، فترى آياته في نفسك، وأول ما تعرف به ربك نقض العزائم وما يتصل بنفسك، فأنت تفكر في معاشك، وتسعى للمشاركة في تدبيره، ولكنه كلما اقترب منك كلما رفعت عنه يد التصرف، فأنت في ضروراتك وحاجتك تحتاج إلى المأكل، فتسعى لزراعة الحب مثلاً ورعايته، ثم بعد ذلك إلى طحنه، ثم خبزه، ثم إنضاجه على النار، ثم بعد ذلك لالتقامه ومضغه، ثم بعد ذلك لابتلاعه، ثم بعد ذلك يمر بكثير من المراحل التي أنت في غفلة عنها تماماً، كلما اقترب إليك كلما رفعت يدك عن المشاركة في تدبيره، لما كان بعيداً كنت مشاركاً في الزراعة، ومشاركاً في الطحن، ومشاركاً في الخبز، ومشاركاً في الإنضاج، ومشاركاً في الالتقام إلى المضغ، لكن بعد ابتلاعه رفعت عنه يد التصرف، وسيوزعه الله توزيعاً دقيقاً، فمنه ما يذهب إلى بياض العين، ومنه ما يذهب إلى سوادها، ومنه ما يكون عرقاً، ومنه ما يكون لظاهر الجسد، ومنه ما يكون في الشعر، ومنه ما يذهب إلى الكلى، ومنه ما يكون في الكريات البيضاء في الدم، ومنه ما يكون في الحمراء، يدبره الله ويوزعه توزيعاً عجيباً، لا مشاركة لك فيه أبداً، حتى المعرفة لا تعرف نصيب كل جهة منه من بدنك، هل تستطيع أن تعرف نصيب يدك من غدائك أو من عشائك أو نصيب رجلك؟ لا تستطيع أن تعرف ذلك؛ لأن يدك قد نزعت عنه، وهذا يدلك على أنك وكيل، وأن ما تحت يدك ليس ملكاً لك، أنت تتصرف فيه تصرف الوكيل ينتظر العزل في كل حين، ولذلك قد تعزل بالموت، وقد تعزل بالحبس، وقد تعزل بالفقر، وقد تعزل بغير ذلك من أنواع العزل، والله جل جلاله ملكه قائم وهو قيوم السموات والأرض، ( يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل).
ثم بعد ذلك: من الغفلات عن الله جل جلاله: الغفلات عند الأوامر والنواهي.
فكثير من الناس إذا جاء أمر الله جل جلاله غفلوا عن هذا الأمر فظنوا أنهم بالخيار، أو أنهم يمكن أن يفعلوه الآن، ويمكن أن يفعلوه غداً، أو أنه يمكن أن يفعله غيره فيقوم به، وهذا نوع آخر من الغفلة عن الله جل جلاله، فنحن عبيد له، وأحبنا إليه وأقربنا إليه من استعمله في عبادته، وهذا ما لا نرضى أن يفوقنا فيه أحد، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].
وانظروا إلى الذين يتقرب الناس إليهم من أهل الدنيا من عباد الله كالأنبياء والصالحين ماذا قال الله عنهم أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً [الإسراء:57].
فهم يتنافسون في القرب منه جل جلاله، ويتنافسون في الزيادة في الطاعات، والازدياد منه.
ثم من أنواع الغفلة عن الله جل جلاله الغفلة عنه عند النواهي.
فالإنسان يأتيه شيطان فيخدعه حتى يضع رجله في شراك إبليس فيقع في المخالفة، ثم يظن أن هذه المعصية خفيفة، وأنها لا تتجاوز وقتها هذا، وأنه مباشرةً سيتوب منها، وربما ساءت خاتمته فكانت تلك المخالفة آخر ما يقدم به على الله جل جلاله، وربما قادت تلك المخالفة إلى أكبر منها، فالمعاصي شأنها عظيم جداً، لها ظلمة في القلب، وسواد في الوجه، وبغض في الناس، وكسل عن الطاعة، أصحاب المعاصي يكسلون عن الطاعات فهي شاقة عليهم مشقةً عظيمة، أصحاب المعاصي قلوبهم مغلفة فلا يفهمون شيئاً من آيات الله في هذا الكون، لا يفهمون تدبيره، ولا يتعجبون من آياته، ولا يفهمون كلامه؛ لأنه قد حيل بينهم وبين ذلك.
أصحاب المعاصي يكرههم الناس، حتى من كان معهم في نفس المعصية، من كان مشاركاً لهم في المعصية يكرههم ويحتقرهم؛ لأنه يعلم أنه هانت عليهم أنفسهم حين اشتغلوا بمعصية الباري جل جلاله الذي يستحق الطاعة.
أصحاب المعاصي وجوههم مظلمة، فهم يتخبطون في ظلام، ولذلك لا يدرون ما يصنعون، فتراهم يبحثون عن حبل من الله وحبل من الناس يتمسكون به؛ لأنه ليس بينهم وبين الله حال صحيح، ليس بينهم وبين الله عبادة أخلصوا فيها لله، ليست علاقتهم بالله على ما يرام، فأنتم تعرفون أن من له حاجة ملحة إلى مخلوق من المخلوقين إذا كان سيئ العلاقة به يبحث عن واسطة، فكذلك أولئك الذين ساءت علاقتهم بالله يعرفون أنهم لم يقدموا شيئاً، وأنهم عصوه في وقت أطاعه فيه عباده، وأنهم أدبروا عنه حين فتح الأبواب أمامهم، فولوا أبواب الله ظهورهم، وأنهم لم يشتغلوا بما خلقوا من أجله، فلذلك هم يحتقرون أنفسهم في الواقع.
ثم من أنواع الغفلة عن الله: الغفلة عن بعض طاعاته، فكثير من عباد الله الذين لا يغفلون عنه في الصلاة، ولا في الذكر، ولا في قراءة القرآن، ولا في الصدقة والصيام، لكنهم يغفلون عنه في الدعوة إلى منهجه، ويغفلون عنه في توجيه الناس إلى سبيله، ويغفلون عنه في نصرة دينه وإعلاء كلمته، ويغفلون عنه في رفع لوائه، وهم يرون الألوية ترفع يميناً وشمالاً، ويعرفون أن الذين يرفعونها لا يتقربون بذلك إلى الله، وأن الذين يرفعون لواء الإسلام، ويضحون بأنفسهم، ويقولون: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84]، ويبذلون أموالهم وأوقاتهم وجاههم وصحتهم وراحتهم، ويتخلصون من كل مآربهم من أجل إعلاء كلمة الله، ورفع دينه، والتقرب إليه جل جلاله بنصرة هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، الذي أمرنا الله جميعاً بنصرته، هؤلاء ما فعلوا ذلك إلا لأنهم رأوا أنه واجبهم، وهذا الواجب مشترك بيننا جميعاً، فالرسول صلى الله عليه وسلم مرسل إلينا جميعاً، ولا يرضى أحد منا أن يترك نصيبه من ميراثه والقرب منه والقيام بوظيفته وعمله لأحد، لكن الغفلة هي التي تحول بين كثير منا وبين القيام بهذا الحق، فكثير من الناس يغفلون عن أن عليهم أن ينصروا إخوانهم المؤمنين الراكعين الساجدين في مقابل الذين لا يثقون بهم أبداً، فهم يرون أن هذا الإنسان عاص لله فاجر، يأكل الربا، ويمشي بالنميمة، ويكذب، ويسرق، ومع ذلك ينصر له في مقابل التقي الخفي الذي لا يمارس شيئاً من ذلك، وما ذلك إلا بسبب الغفلة عن الله عز وجل؛ لأنهم غفلوا عن نصرة الله، ونصرة أوليائه، غفلوا عن ولائهم الذي حدده الله في كتابه، فقال تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ [المائدة:55-56].
كذلك من أنواع الغفلة عن الله: الغفلة عن تعلم ما أرسل الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، فكثير من الذين يذكرون الله، ويصلون، ويتصدقون، ويصومون، لكنهم يغفلون عن أن محمداً صلى الله عليه وسلم جاء بأمر عظيم، وجاء بخبر عظيم، قال تعالى: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [النبأ:1-3]، وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، هذا النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون كثير من الناس معرض عنه، فلا يفكر يوماً من الأيام أن عليه أن يتعلم شيئاً مما جاء به هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، أن يتعلم عقيدته، أن يتعلم عبادته، أن يتعلم معاملته، أن يتعلم أخلاقه، أن يتعلم سنته، أن يتعلم ما يزيده حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم لسيرته، هذه الأمور هو في غفلة عنها.
كذلك من الغافلين عن الله جل جلاله الذين يغفلون عن بعض الحقوق التي أوجب الله عليهم، فيغفلون عن القوامة في بيوتهم، فهذا الإنسان كان فرداً فرزقه الله زوجاً وأولاداً، وجعله رب منزل وصاحب قرار، لكنه غفل عن هذه القوامة التي أقامه الله فيها، فلا هو يأمرهم بالمعروف، ولا هو ينهاهم عن المنكر، ولا هو يحول بينهم وبين نار جهنم، ولا هو يتذكر قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
يغفل عن تبرج أهله وبناته، يغفل عن اختلاطهم بالأجانب ومجالستهم لمجالس الريبة، يغفل عن خروج بناته وأهله إلى الحفلات المختلطة، يغفل عن خروجهن من البيت في وقت متأخر من الليل، ولا يدري إلى أي اتجاه يذهبن، يغفل عن تصرفات أولاده، فكل ذلك من الغفلة عن الله جل جلاله.
كذلك من هذه الغفلات: الغفلة عن حق الجار، فالجيران كثيراً ما يغفل الناس عنهم، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما لهم من الحقوق، فالجار المسلم له حقان، والجار الكافر له حق، والجار قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما زال جبريل يحثني على الجار حتى ظننت أنه سيورثه ).
والجار شأنه عظيم، يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره )، وفي الحديث الآخر: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره )، فيغفل عن حق الجار، لا يدري هل جاره جائع أو عار أو ليس كذلك؟ لا يدري هل جاره مريض أو ليس كذلك؟ ولا يدري هل جاره مهموم أو ليس كذلك؟ فهذه غفلة عن الله جل جلاله، ولذلك في الحديث القدسي الصحيح أن الله تعالى يقول: ( أي عبدي مرضت فلم تعدن، وجعت فلم تطعمن، فيقول: يا رب! كيف أعودك وأنت الرب؟ وكيف أطعمك وأنت الرب؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلو عدته لوجدتني عنده، أما علمت أن عبدي فلاناً جاع فلو أطعمته لوجدتني عنده ).
كذلك من الغفلة عن الله جل جلاله: الغفلة عن حقوق هذه الأمة، فكل إنسان منا هو فرد من أسرة كبيرة هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو لهذه الأمة بمثابة الأب، ولذلك قال: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب:6]، فهذه الأسرة الكبيرة أسرة محمد صلى الله عليه وسلم لها حقوق، فلا بد أن تفكر في حقوق الأمة، وأن تفكر أن هذه الأمة الآن في آخر الركب، وأن أولادها هم الذين يرسمون مستقبلها، وهم الذين يحددون موضعها، فإذا كنت من الذين يقومون بحق هذه الأمة فإنك ستبذل قصارى جهدك لرفع شأن هذه الأمة، ورفع الظلم عنها، وتحريرها من كيد أعدائها.
كذلك من الغفلة عن الله جل جلاله: الغفلة عن لقائه، فكثير من الناس لا يدور أمر الآخرة في خلد أحد منهم، يمسي ويصبح لا يفكر في الموت، ولا يفكر أن روحه ستقبض فيتبعها البصر، وأنها سترتفع إلى الله، وأن هذا البدن سيحمل على الرقاب إلى الدار الآخرة، فيوارى ويقدم إلى ما قدم ويبدو له من الله ما لم يكن يحتسب، يغفل عن العرض على الجبار جل جلاله، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18].
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إنكم ملاقو الله حفاةً عراةً غرلاً مشاةً )، كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104].
فالذي يغفل عن الآخرة، ويغفل عن مشاهد القيامة، ولا يتذكر سيره على الصراط وجهنم تحته، ولا يتذكر وقوفه في الساهرة في شدة العرق، وجهنم قد أحاطت به من كل جانب، ولا يتذكر تطاير الصحف والميزان بين يديه له كفتان ولسان، ولا يتذكر أخذ الكتاب إما باليمين وإما بالشمال وراء الظهر، هذا نوع من أنواع الغفلة ابتلي به كثير من الناس، وأصحابه يضحكون بملء أفواههم، ويتصرفون في شئونهم، وهم عاجزون عما ينجيهم بين يدي الله جل جلاله لغفلتهم عنه، ليس من أولوياتهم أمر الآخرة، هم من عبيد الدنيا، تأتي الكوارث والمصائب الشديدة عندهم إذا نقص شيء من رواتبهم، أو فقدوا وظيفةً، أو لم يربحوا في تجارة، فإذا حصلت كارثة من كوارث الدنيا تضعضعوا لها وكانت كارثة لا تتحمل، لكن إذا جاءت مصيبة في الدين ففاتته الصلاة، أو وقع في محرم شرعاً فإنه لا يحس بهذه الكارثة، وقد قال أحد الحكماء:
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم والمنكرون لكل أمر منكر
وبقيت في خلف يزكي بعضهم بعضاً ليدفع معور عن معور
أبني إن من الرجال بهيمةً في صورة الرجل السميع المبصر
فطن لكل مصيبة في ماله وإذا أصيب بدينه لم يشعر
هذا نوع من الغفلة عن الله.
وهذه الغفلات لها مظاهر، فمن مظاهرها: القسوة، فالإنسان الذي يكون جباراً يسطو على الناس، ويبطش يميناً وشمالاً ويظلم هذا، غافل عن الله؛ لأنه لو ذكر الله لخافه.
عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: ( كنت أضرب غلاماً لي بالطريق، فسمعت صوتاً من ورائي يقول: اعلم أبا مسعود ، فنظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اعلم أبا مسعود ! أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام، قلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله، قال: أما إنك لو لم تفعل للفحتك النار ).
الذي يبطش ويظلم ويسطو على الناس، ويعتدي على أموالهم وأعراضهم وأبدانهم ويتكلم فيهم غافل عن الله هذا مظهر من مظاهر الغفلة، لو ذكر أن كل كلمة قالها قد وصلت، وأنها عند الله الآن، وأن كل فعل فعله قد وصل وهو مكتوب، لو تذكر الميزان بكفتيه، وأن هذه الأعمال مباشرةً يضعها في الكفة؛ لاتقاها ولم يقع فيها.
ومن مظاهر الغفلة عن الله جل جلاله: عدم الانتفاع بالموعظة، فالموعظة هي قوت القلوب، والناس فيها أربعة أقسام:
القسم الأول: الذين لا يتحملون سماعها، ويفرون منها كما يفرون من الأسد، وهؤلاء هم الكفرة الفجرة، ولذلك قال الله فيهم: فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:49-51].
وقال فيهم: وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [الأعلى:11-13].
النوع الثاني: الذين يتحملون سماع الذكرى بآذانهم، ولكن آذانهم غير أمينة، فلا توصلها إلى القلوب؛ لأن القلوب قد طبع عليها، وهؤلاء هم المنافقون الذين قال الله فيهم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [محمد:16]، هم كانوا حاضرين للكلام وسمعوه من أوله إلى آخره، لكن لم يبق معهم منه شيء؛ لأنهم طبع على قلوبهم.
القسم الثالث: الذين يتحملون سماع الذكرى بآذانهم من بعض الناس دون بعض فيفصلون فيها، فإذا قام مذكر يعجبهم نسبه أو شكله أو مستواه أو يعرفونه أو هو من أبناء جلدتهم، أو لونه لونهم، أو من قبيلتهم، أو تعجبهم فصاحته وبلاغته ولغته استطاعوا السماع منه؛ لأنه منهم، فإذا قام مذكر لا يعرفونه، أو لا يعجبهم مستواه أعرضوا عنه وخرجوا، وهؤلاء هم مرضى القلوب الذين يعرفون الحق بالرجال، ولا يعرفون الرجال بالحق، أعرضوا عن معرفة الحق بالحق، والتمسوا معرفته بالرجال، فما قاله فلان مرضي يستمع إليه، وما قاله من سواه ليس كذلك، وفي بعض الأحيان يكون الذي أعرضوا عنه خيراً من ملء الأرض من مثل الآخر، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه مر عليه رجلاً من المنافقين كان من الأغنياء من العرب، فسأل أصحابه: ما تقولون في هذا؟ قالوا: رجل من وجوه الناس، جدير إذا خطب أن ينكح، وإذا تكلم أن يستمع إليه، فسكت، فمر رجل آخر من فقراء المهاجرين، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: رجل من عوام الناس وفقرائهم، جدير به إذا خطب ألا يزوج، وإذا تكلم ألا يستمع إليه، قال: هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا ). انظروا إلى الفرق (ملء الأرض) لا نقول: مليون ولا مليونين ولا مليار، بل ملء الأرض بكاملها من مثل هذا.
هذا الإعراض عن موعظة بعض الواعظين هو حال قريش وأهل الطائف لما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31]، معناه: هلّ نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم، عظيم بمعيارهم هم، كـالوليد بن المغيرة وكـعبد ياليل ، فهؤلاء هم العظماء في معيار قريش وأهل الطائف إذ ذاك، لكن الله سبحانه وتعالى اختار محمداً صلى الله عليه وسلم، ورد عليهم في اعتراضهم هذا، فقال: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [الزخرف:32]، لا ينال أحد منهم بصلةً فما زاد عليها إلا بقسمة يقسمها الله، فكيف يعترضون إذاً على تخصيص الله لمحمد صلى الله عليه وسلم بما خصه به من النبوة والرسالة والخلة وغير ذلك مما شرفه به؟
القسم الرابع: الذين يسمعون ذكرى من كل أحد، فهم مشتاقون إليها، إذا سمعوا من يذكرهم بالله اشتاقوا إليه؛ لأنهم يريدون أن يتقربوا من الله، لا يريدون أن يسبقهم أحد إلى مجلس يذكر الله فيه ويثنى عليه، لا يريدون أن يسبقهم أحد إلى مجلس يسمع فيه قال الله قال رسوله، لا يريدون أن يسبقهم أحد إلى مجلس تغشاه رحمات الله، وتتنزل عليه بركاته، وتحفه ملائكته، وتتنزل على أهله السكينة، لا يريدون أن يسبقهم أحد إلى مجلس إذا انفض أهله وارتفعت الملائكة الذين كان يحفونهم سألهم الله جل جلاله: ( ماذا يقول عبادي؟ فيقولون: يحمدونك ويكبرونك ويهللونك )؛ فلذلك يعجبهم سماع الموعظة والذكرى، ويريدون سماعها من كل أحد، لا يفرقون في ذلك، فهؤلاء قلوبهم حية، وهم المبشرون ببشارة الله، فقد قال الله تعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:17-18].
وقال تعالى: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس:11].
وقال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً [الفرقان:73].
وقال تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى [الأعلى:9-10]، أي: من يخشى الله.
وقال تعالى: فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55]، فهؤلاء هم الذين ينتفعون بالذكرى، يحبونها ويعملون بها، ولا تنبؤ عن أسماعهم ولا عن قلوبهم، وتبقى معهم، فإذا حضر أحدهم إلى درس أو موعظة فرجع إلى بيته فاضطجع على فراشه تذكر ما سمع مما يتعلق بالله جل شأنه، ومما يتعلق بشرعه، فعرض ذلك على نفسه فإن كان ممتثل لأمر الله بادر لشكر هذه النعمة فهي نعمة، وإذا كان غير ممتثل بادر للتوبة قبل أن يسخط الله عليه، فانتفع بذكرى.
إن من مظاهر هذه الغفلة كذلك: كثرة الكلام في غير ذكر الله، فهو سبب لقسوة القلب، وقد أخرج مالك في الموطأ و أحمد في الزهد: عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه بلغه: ( أن عيسى بن مريم كان يقول: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسوا قلوبكم؛ فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون. ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلىً ومعافىً، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية ).
كثير من الناس يكثرون الكلام في غير ذكر الله، فيتكلمون في الناس، ويطعنون فيهم، ويتكلمون فيما لا فائدة فيه، فأوقاتهم كلها مشغولة بالكلام الذي لا نفع فيه، وهؤلاء لا بد أن تقسوا قلوبهم، والقلب القاسي بعيد من الله جل جلاله.
كذلك من مظاهر هذه الغفلة: انشغال أصحابها بشأن الدنيا، وعظمتها في نفوسهم، فالدنيا أمر كبير عندهم، يهتمون بشئونها وأخبارها وما يطرأ فيها من جديد، ويتابعون كل ما يحدث فيها من الحركات والسكنات، لا يريدون أن يفوتهم خبر تنشره وسيلة إعلام لا إذاعة ولا تلفزيون، فهم مشغولون بتتبع أخبار الدنيا لرغبتهم فيها ومحبتهم لها، وهؤلاء في الواقع أصبح الخبر هوايةً لديهم، فلو كان الخبر يترتب عليه عمل فلا حرج، وهو مطلوب، وينبغي للعاقل أن يكون بصيراً بأهل زمانه، لكن ما فائدة أن تسمع هذا الخبر من هذا الوجه ومن هذا الوجه، وتسمع هذا التعليق وهذا التعليق، وأن تشغل وقتك به دون أن يكون لك عمل ولا دفع فيه ولا نفع، وقد حصلت قصة ذكرها الجاحظ لشباب كانوا يتعبدون في البصرة، وكانوا من الزهاد العباد، فحصلت مشكلة سياسية كبرى في البصرة، فوجدوا أن الناس غفلوا عن الله واشتغلوا بالسياسة، فأصبح الإمام يتهامس مع المؤذن بشأن السياسة، والشيوخ الكبار إذا أقيمت الصلاة لم يقوموا للصف؛ لأنهم ما زالوا يناقشون أمر السياسة، وأهل السوق مشغولون عن البيع والشراء بأمر السياسة، والذين يسيرون في الشوارع لا يتحدثون إلا بشأن السياسة، فانزعجوا من هذا الأمر، وقالوا: ليس لنا مخرج من هذا الأمر إلا أن نزور فلاناً الزاهد، شيخ كبير منعزل عن الناس في داره يعبد الله ويدع الناس من شره، فذهبوا إليه فأتوه بعد العصر يوم الجمعة، فإذا هو جالس مستقبل القبلة، فلما رآهم تهلل في وجوههم وقال: مرحباً بكم، أنتم الذين كنت أبحث عنهم، أنا من فترة ما سمعت شيئاً من أخبار الناس وما حصل في السياسة وما تجدد فيها، فالتفت بعضهم إلى بعض لأنهم أصيبوا بإحباط كانوا يظنون أن آخر من يسأل عن السياسة هو فلان الزاهد، فإذا هو يحدثهم بما تجدد ويقول: ما سمعت بعد هذا جديداً، ويريد منهم الخبر.
فهذا النوع هو من مظاهر الغفلة، وأن يكبر الشأن الدنيوي عند الناس، فينشغلون به عن الآخرة.
كذلك من مظاهر هذه الغفلة: أن أصحابها أصحاب فرح يضحكون بملء أفواههم، ويسرون بما ينالون من شأن الدنيا، ولذلك يحزنون أيضاً في المقابل إذا فاتهم شيء منها، وأنتم تعرفون قول الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:22-23]، (لكيلا تأسوا) أي: لا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا، (ولا تفرحوا بما آتاكم) بما أعطاكم منها.
من مظاهر هذه الغفلة كذلك: نسيان القرآن، فكثير من الغافلين كانوا صغاراً قد حفظوا كتاب الله، ولكنهم بتقدمهم في العمر نسوه فلم يعطوه جزءاً من أوقاتهم ولم يتدبروه، ولم يراجعوه، ولم يشتغلوا به، ناموا عنه في الليل، وانشغلوا عنه في النهار، فتفلت من صدورهم، وهو أشد تفلتاً من صدور الرجال من الإبل في عقلها، فهذا مظهر من مظاهر الغفلة عن الله؛ لأنهم لو أقبلوا على الله لتشبثوا بكتابه، فهو حبل الله المتين، وصراطه المستقيم، ومن تمسك به عصم، ومن تركه من جبار قصم الله ظهره، فيه خبر ما قبلكم، وفصل ما بينكم، وخبر ما بعدكم، هو الفصل ليس بالهزل، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].
كذلك من مظاهر الغفلة عن الله: الإعراض عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتجد الإنسان قد تغشاه الشيب وجلله وهو لم يقرأ موطأ مالك ، ولا صحيح البخاري ، ولا صحيح مسلم ، وأعرض عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في متناول يده يستطيع أن يقرأها، بل ما هو دون ذلك، فلم يقرأ عمدة الأحكام مثلاً، ولا بلوغ المرام، لم يتلق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، ألا ترضى أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم شيخاً لك لا تريد أن تأخذ شيئاً من علمه بالمباشرة؟ فهذا غفلة واضحة.
كذلك من مظاهر هذه الغفلة التي نعيشها الآن: أن كثيراً من الناس ينهمكون انهماكاً شديداً وإتقاناً شديداً لأمور دنياهم، فإذا جاء أمر الدين أدوه بروح غير حاضرة، ولم يتقنوه أبداً إتقان أحدهم لصنعته، إتقانه لإعداد الشاي، إتقانه لترتيب مكتبه ومكتبته، إتقانه للتسجيل أعظم بكثير من إتقانه لصلاته، هذه غفلة عن الله جل جلاله، لو كان حاضراً لكانت صلاته أحسن أعماله، فالصلاة هي أهم عمله، وهي العهد الذي بينه وبين الله كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري والموطأ: ( خمس صلوات فرضهن الله على العباد في اليوم والليلة، فمن حفظهن وحافظ عليهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن ضيعهن لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه ).
قد أخرج مالك في الموطأ عن عمر رضي الله عنه: أنه كتب إلى عماله: إن أهم أموركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر ).
وكذلك ثبت عنه أنه قال: ( حد ما بين المرء والكفر والشرك ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر ).
وثبت عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: أنه لما طعن وكان الدم ينزف من بطنه جاءه فتىً من الأنصار فقال: يا أمير المؤمنين! الصلاة، فقال: نعم، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.
لا بد من إتقانها إتقاناً عظيماً، ولا بد أن نتعود على ذلك، فنحن الآن نصليها كما كنا نصلي ونحن شباب صغار، وهذا خطأ كبير، أنت في مشيك الآن لا تمش كما يمشي الصغار، وأنت في تنظيمك لأمورك وفي كلامك لا تتكلم كما يتكلم الصغار، الصلاة جديرة بذلك، كلما تقدم بك العمر ينبغي أن تكون صلاتك أحسن وأحسن، بل حتى في أثناء الصلاة، الركعتان الأوليان من الرباعية يشرع فيهما الترسل والهدوء لتطمئن تماماً، وليهدأ قلبك، ولتنال الخشوع، والركعتان الأخريان أخف من الأوليين، فالأوليان فيهما سورتان بعد الفاتحة، والأخريان ليس فيهما ذلك، ولذلك قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لـعمر رضي الله عنه: ( إني لأصلي لهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أركد في الأوليين، وأخف في الأخريين )، (أركد في الأوليين) مع الراكد الذي لا يتحرك، (أركد في الأوليين، وأخف في الأخريين).
لا بد أن نحسن الصلاة، وأن يحاول كل إنسان منا كلما صلى أن يكتسب شيئاً جديداً في هذه الصلاة، أن يكون في صلاته تقدم، فالموظف يحاول أن يتقدم كلما ازدادت مدة وظيفته، فلذلك لا بد أن نحاول نحن أن نتقن وظيفتنا التي هي الصلاة، وأن نحاول إحسانها ما استطعنا، وهكذا كل الأعمال، فإذا جاء رمضان فوجدت عملك فيه مثل عملك في رمضان الماضي تماماً، فاعلم أن هذا مظهر من مظاهر الغفلة؛ لأنك لم تتقدم في الإيمان ولا في الإحسان، أما إذا وجدت نفسك في هذا الشهر أنشط للطاعة، وأرق قلباً وأحيا فالحمد لله هذا دليل على عدم الغفلة.
كذلك من مظاهر الغفلة: الغفلة عن النعم، فكثير من الناس يرغبون في النظر إلى أهل الدنيا وما هم فيه من الزخارف، وما أنعم الله به عليهم من النعم، فينظرون إلى مبانيهم الشاهقة، وسياراتهم الفارهة، وما يتنافسون فيه من أمر الدنيا كأنه شيء كبير، ويغفلون في مقابل ذلك عما فيه أهل الدين من الإقبال على الله، وعبادته، وخشيته، وطاعته، وأن أوقاتهم مملوءة بطاعة الله جل جلاله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( انظر في الدنيا إلى من دونك، وذلك أجدر ألا تزدري نعمة الله عليك، وانظر في الآخرة إلى من هو فوقك )، فالنظر في الآخرة إلى من هو فوقك يعينك على المنافسة، والنظر في الدنيا إلى من هو دونك يقتضي ألا تغفل عن نعمة الله عليك، وقد جاء رجل إلى الحسن البصري يشكو إليه الفقر، فذكر أنه ذو عيال، وأنه مدين، وأن عليه تكاليف كبيرةً في النفقة، وأنه لا يجد مالاً، فقال: ألك عينان؟ قال: نعم، قال: ما دية البصر؟ قال: دية كاملة، قال: ألف دينار، قال: ألك أذنان؟ قال: نعم، قال: ما ديتهما؟ قال: دية كاملة، قال: ألف دينار، قال: أتسمع بهما؟ قال: نعم، قال: ما دية السمع؟ قال: دية كاملة، قال: ألك أنف؟ قال: نعم، قال: فما ديته؟ قال: دية كاملة، قال: ألف دينار، قال: ألك شفتان؟ قال: نعم، قال: فما ديتهما؟ قال: ألف دينار، قال: ألك أسنان؟ قال: نعم، قال: فما ديتها؟ قال: ألف دينار، قال: ألك لسان؟ قال: نعم، قال: فما ديته؟ قال: ألف دينار، قال: ألك يدان؟ قال: نعم، قال: ما ديتهما؟ قال: ألف دينار، ولك رجلان؟ قال: نعم، قال: ما ديتهما؟ قال: ألف دينار، وما زال يعد له حتى تجاوز خمس عشرة ألف دية، وفي الإنسان الواحد خمسة آلاف دينار، وهذا مال عظيم جداً، عشرون ديناراً إذا ملكها الإنسان وجب عليه الزكاة، فكيف بخمسة عشر ألف دينار؟ لا بد أن ننظر إلى نعمة الله علينا، وما خصنا به من النعم، إذا نظرنا إلى ذلك فإننا سننجو من الغفلة، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم عند المنام يتذكر هذه النعم فيقول: ( الحمد لله الذي أطعمنا، وسقانا، وكفانا، وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي )، تذكر الذين لم يكفهم الله دنياهم، ولم يؤوهم، تذكر نعمة الدفع وما دفع الله عنك من أنواع البلايا والرزايا، دفع عنك الكفر والفسوق والعصيان، دفع عنك كبائر الإثم والفواحش، نعمة الدفع عظيمة جداً، ومن غفل عنها فهو غافل عن الله، هذا مظهر من مظاهر الغفلة عن الله جل جلاله.
ومظاهر الغفلة كثيرة، ولا يستطيع المتابعة فيها، وسأصل الآن إلى علاج الغفلة.
والغفلة بما أنها مرض تحتاج إلى علاج، لكن علاجها سهل، فعلاج الغفلة أوله: الإقبال على الله تعالى ومعرفته، فمن عرف الله جل جلاله لا يمكن أن يغفل عنه أبداً؛ لعلمه بمراقبته التامة التي لا يفوتها شيء، فالله هو الشاهد الذي لا يغيب.
ثم بعد ذلك: بتذكر ما عند الله، تذكر ما ترجوه من الله، تذكر الجنة والنار، تذكر ما في الجنة من النعيم المقيم، وأن فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، تذكر ما في النار من الأذى والإهانة والمذلة، وأن أهلها (لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم).
ثم بعد ذلك: تذكر العرض على الله، والوقوف بين يديه دائماً.
ثم بعد هذا: مجالسة الصالحين، ومجالسة الذاكرين الله سبحانه وتعالى كثيراً، فالله تعالى يقول: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28].
فإذا جالست المشغولين بالله وغير الغافلين عنه؛ فإن مجرد النظر إليهم يذكر بالله.
يغنيك إن جئت لحظهم عن اللفظ فانظر واصدق القصد تسعد
وهم أصفياء الله من أصفيائه وهم جلساء الله في كل مقعد
الذين استعملهم الله لطاعته وأنت تراهم كباراً في السن ضعاف الأبدان، مالهم قليل، ولكن مع ذلك وضع الله لهم القبول، ووفقهم للطاعات، ويسر لهم حسن عبادته، ألسنتهم تلهج بالثناء على الله وشكره، وأبدانهم مشغولة بطاعته والعمل الصالح، وقلوبهم مملوءة بالحنان على أمة محمد صلى الله عليه وسلم والدعاء لها ومحبتها والسعي في نفعها آناء الليل وأطراف النهار، لا يرون معصيةً لله إلا ثارت الغيرة في نفوسهم يريدون تغيير معصية الله في أرضه، لا يرون طاعةً لله إلا أعجبتهم وأعجبهم أهلها وأحبوهم، يحبون إعلاء كلمة الله، وارتفاع شأن هذا الدين، ولا يرتزقون بالدين، ولا يتأكلون به، وقد حصلت قصة لرجل من أهل هذه البلاد زار تاجراً من التجار، وقد كان هو من الذين ينتسبون إلى العلم، ويشتغلون بتدريس الناس القرآن، فجاء إلى هذا التاجر يطلب منه أمراً دنيوياً، لكنه بدأ يذم ويعيب بعض المشتغلين بالدعوة إلى الله جل جلاله، فما كان من هذا التاجر العامي إلا أن قال له: يا فلان! أنا أنصحك نصيحة، هذا الدين الذي تعيش به وتأتيني تريد أن أدفع لك على أساسه، أنت تريد أن تخفض رأسه وهؤلاء الذين تعيبهم يريدون رفع رأسك، فمن صالحك أن تتركهم؛ لأنهم يرفعون لك رأس الدين الذي تعيش به، الدين الذي تريد أن تأكل به هم يرفعون لك رأسك.
فلذلك مما يعالج الغفلة عن الإنسان دائماً أن يكون مع الله.
كذلك من علاج الغفلة: تذكر الموت، والموت سيد الواعظين، فليس هو بلاءً محضاً وإنما هو انتقال من دار إلى دار، وتحول من حال إلى حال، والإنسان به يقدم إلى ما قدم، ويبدو له من الله ما لم يكن يحتسب، وضجعته الأولى في قبره عظيمة، وبعدها ضمة القبر التي تختلف منها الأضلاع وتزول منها الحمائم، ثم بعد ذلك سؤال الملكين: منكر و نكير ، وبعد ذلك عرض العمل، والليلة الأولى في القبر شأنها عظيم، ( ليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهما: ليلة يبيت مع الموتى ولم يبت معهم قبلها، وليلة صبيحتها يوم القيامة ).
ثم بعد ذلك: زيارة القبور من المذكرات بالموت المزيلات للغفلة، فأنت في هذه الحياة ترى الناس فيهم ذكر وأنثى، وطويل وقصير، وأبيض وأسود، وغني وفقير، وعالم وجاهل، وموظف ومحروم، وملك ومملوك، لكن عندما تزور المقبرة تراهم سواءً، هل تستطيع أن تميز إذا أتيت المقبرة بين قبر الذكر والأنثى، أو بين قبر الجميل والقبيح، أو بين قبر الأبيض والأسود، أو بين قبر الملك والمملوك، أو بين قبر الغني والفقير، أو بين قبر من كان محروماً ومن كان مرزوقاً، هل تستطيع أن تميز إذا أتيت المقبرة بين قبر من طال عمره ومن قصر عمره؟ لا تستطيع أن تميز شيئاً من ذلك، فإذاً هذه المقابر موعظة وذكرى وعبرة للمعتبرين، تراها فترى أنها تخفي شيئاً كثيراً، فالقبر إنما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار.
ثم بعد ذلك من علاج الغفلة: زيارة المرضى وعيادتهم، فعيادة المرضى تريك ما أنعم الله به عليك من دفع هذا المرض عنك، ودفع عنك ما هو أعظم منه، فتذكرك نعمة الله عليك، وهي حق للمرضى أيضاً، من حقهم أن يعادوا، وأن يخفف عنهم ما هم فيه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعود المرضى حتى مرضى اليهود؛ لأنها موعظة وعبرة.
كذلك مما يزيل الغفلة ويعالجها: السير في مناكب الأرض، والاتعاظ بعجائب خلق الله وبدائع صنعه، فالإنسان عندما يرى تدبير هذا الكون، وتسييره، وتكوير الليل على النهار، وتكوير النهار على الليل، ويرى توزيع هذه الأرزاق بدقة عجيبة، ويرى هذه الكواكب السيارة، ويرى آثار تصرفات الله في عباده، فإن قلبه لا بد أن يحيا وأن ينتفض، فيها مواعظ وعبر عجيبة، وقد قيل لأعرابي: بم عرفت ربك؟ فقال: أثر الأقدام يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ألا تدل على اللطيف الخبير؟
كذلك من علاج الغفلة: سماع الموعظة، فخطبة الجمعة هي موعظة الأسبوع، وإذا تخلف عنها الإنسان لا بد أن يبدأ يخالط قلبه شيء من الغفلة والنسيان، وإذا تخلف عن ثلاث جمع متواليات طبع على قلبه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكنن من الغافلين )، الحديث في صحيح مسلم .
وكذلك في السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا هل يوشك أن يتخذ أحدكم الضبنة على رأس ميلين فتأتي الجمعة فلا يشهدها، والجمعة فلا يشهدها، والجمعة فلا يشهدها ثلاثاً، ثم يطبع على قلبه فيكون منافقاً ).
فلا بد أن تجعل لنفسك زاداً من الموعظة تسمعه ولو في شريط، ولو بتدبر، ولو في قراءة القرآن، ولو في زيارة بعض الصالحين يعظك ويذكرك، لا تستغني عن ذلك أبداً، وإذا فقدته فلا بد أن تخالطك الغفلة.
كذلك مما يعالج الغفلة عن الله جل جلاله، والغفلة عن أوامره ونواهيه: أن تتذكر دائماً البيعة التي بينك وبين الله، فأنت بينك وبين الله بيعة وعهد أكيد أكده الله في التوراة والإنجيل والقرآن، أن تنصر الله جل جلاله وفي مقابل ذلك ضمن لك الجنة، هذه البيعة لا تستطيع أن تقول: إنك تطلب النقالة فيها، ولا تستطيع أن تقول: إنك لم توقع عليها، فهي شاملة لكل مؤمن إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111]، فكل مؤمن ومؤمنة قد وقع على هذه البيعة، هذه البيعة دين عليك، وتصور لو أن أحدكم الآن تحمل ديناً من إنسان ولكنه مكث عشر سنين لم يفكر في سداد هذا الدين يوماً ولا ليلة أو عشرين سنة أو ثلاثين سنة أو أربعين سنة، هل هو أمين؟ هل هو صاحب وفاء ومروءة؟ فكيف بهذا الدين الذي تحملته في بيعتك مع الله، والله غني عنك وعن ديونك وعما عندك، وأنت المحتاج إلى سداد هذا الدين، فلا بد أن تفكر في نصرة الله ورسوله، من العار والعيب عليك أن تمضي سنة كاملة ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً ليس فيها موقف واحد لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه، ليس فيها مشهد واحد تخلص فيه لله، وتريد به نصرة الحق، ليس فيها مشهد واحد تريد أن ترى به من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم والناصرين لدينه، فلا بد أن تفكر في سداد الدين الذي عليك، وأن يكون من أولى أولوياتك وأهم اهتماماتك كذلك مما يزيل الغفلة عنك؛ لأنك تشعر أن عليك دين، والذي يشعر بالدين دائماً، ويشعر أنه قد حان وقته وسداده إذا كان صاحب مروءة فإن ذلك يحركه للعمل والاكتساب، والبحث عن سداد الدين، فأنت الآن عليك دين لله جل جلاله، ولا تستطيع أن تتخلص منه، ولا أن تتنصل منه، ففكر فيه دائماً، فكر في هذا الدين وما بذلت فيه ليزيل ذلك عنك الغفلة.
مما تعالج به الغفلة: الدعاء، فهو يصطرع في السماء مع البلاء، ولا يرد القدر إلا الدعاء، والدعاء هو العبادة، فضراعتك إلى الله ومد اليدين إليه جل جلاله، ومسألته وأنت خاشع له وهو يعلم من باطنك أنك مؤمن مصدق، وأنك محتاج إليه، عندما تستغفره يعلم الله من باطنك أنك تؤمن أن لك رباً يغفر الذنب ويأخذ به، وأنك رضيت لهذا الرب جل جلاله، فهذا الدعاء لا بد أن يزيل عنك الغفلة؛ لأن له أثراً عجيباً في حياة القلوب، وله أثر كذلك في غفران الذنوب، وله أثر كبير كذلك في التسديد والتوفيق، فحاول يا أخي أن تكون من الداعين، حاول أن يكون لك وقت تسأل الله فيه في خلواتك، حاول أن ترفع أيدي الضراعة إلى الله في وقت يغفل الناس عنه فيه، فإن ذلك محي لقلبك، مزيل لدرنك، مؤيد لك في وقت حاجتك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر