بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الله تعالى قد امتن على البشرية بالتنوع، فجعل منها رجالاً ونساءً، وقد بين هذه النعمة في قوله في بداية سورة النساء الطولى:
بسم الله الرحمن الرحيم يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، وهذا التنوع مذر للبشرية، ويحصل به التكامل والتعاون في الخلافة التي جعلها الله تعالى حكمة وجود آدم ، فقد أخبر الله الملائكة بحكمة وجود آدم فقال: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]، و آدم إذ ذاك منجدل في طينته، وهذا الاستخلاف يقتضي أن كل ما في الأرض خلق لبني آدم.
وقد بين ابن عباس رضي الله عنهما أن حكمة ذلك تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
إما انتفاعاً وهو ما في الأرض مما يأكلون ويشربون ويلبسون ويسكنون، فهذا خلقه الله لبني آدم لينتفعوا به في هذه الأمور المحددة.
وإما اعتباراً وهو ما يتعظون به مما في الأرض مما لا نفع فيه ولا ضر، فكثير من الكائنات والمخلوقات في هذه الأرض لا نفع فيها للإنسان ولا ضرراً، فحكمة خلقها لا شك لمصلحة بني آدم؛ لأن الله تعالى يقول: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، فمرجع هذه الحكمة إلى تغذية العقل والقلب وهي الموعظة؛ لأن الإنسان محتاج إليها، ولا يستغني عنها، فإذا انقطع عن الوعظ والذكرى فإن قلبه سيموت، فيحتاج إلى ما يتعظ به من عجائب خلق الله، ولذلك يحفر الإنسان في الأرض أمتاراً فيجد دوداً يعيش فيها يعجب من أين يتنفس، ومن أين يأتيه الماء، ومن أين يأتيه الغذاء، كل ذلك من أمر الله سبحانه وتعالى وفضله ورحمته، وهو موعظة ينتفع بها الإنسان في تدبره وتفكره.
والقسم الثالث ما كان اختباراً لبني آدم وهو ما في الأرض من المضار، كالأمراض والأوبئة والجراثيم والميكروبات والسموم وغيرها من هو ضار للإنسان، فما خلقه الله إلا لحكمة تتعلق بالإنسان ومصلحة له، وهي الاختبار بأن الله يبتليه بهذه الشرور، فإذا آمن بقضاء الله وقدره وصبر على قضاء الله، فإنه سينجح في هذا الامتحان، وإذا تسخط قضاء الله وقدره أو أنكر شيئاً منه، فإنه لا يضر إلا نفسه وقد رسب في الامتحان، فإذاً كل ما في الأرض خلق لمصلحة بني آدم ولا يمكن استغلاله، ولا الانتفاع به على أكمل الوجوه، إلا إذا حصل هذا التكامل والتنوع بين بني الإنسان، فلهذا جعل الله منهم رجالاً ونساءً، وجعل الذرية منقسمةً إلى هذين القسمين، وامتن بذلك على عباده فقال: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49-50]، كل ذلك بتدبير الله سبحانه وتعالى وحكمته البالغة لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].
وبهذا يعلم أن الإنسان لم يشاور في هيئة خلقته، ولا في أي صورة يكون، وقد قال الله تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8]، وقال تعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُدًا [الكهف:51]، وهذه الخلقة التي خلق الله عليها الإنسان جعلها قابلةً للتكاليف التي كلفه بها، فليس شيء من خلقة الإنسان منافية لشيء من التكاليف التي كلفه الله بها، وبهذا يعلم أن التفاضل والتفاوت في الأجناس والخلقة والقوة والعلم والغنى والجمال والضعف وغير ذلك من أنواع التفاضل بين البشر مدته محددة في هذه الحياة الدنيا وبعدها عندما ينطلق الناس إلى الدار الآخرة بالقيامة الصغرى وهي الموت تذوب هذه الفوارق كلها، فلا فرق بين قبر الرجل وقبر المرأة، ولا فرق يوم القيامة بين ذكر وأنثى، فالجميع معروضون على الله، ولذلك قال الله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النحل:97]، فهذا يشمل الذكران والإناث معاً، فالجميع محشورون إلى الله سبحانه وتعالى وافدون إليه، ولكن مع هذا فهذا التنوع يقتضي الخصوصية، وهذه الخصوصية هي التي اقترح الحديث في جانب منها في هذا اليوم وهو أولويات المرأة المسلمة.
وقد عرفنا أن الجميع خلق للاستخلاف في الأرض في هذه الحياة الدنيا، وأنه في القيامة مرجعه واحد ومآله إما إلى جنة، وإما إلى نار، فليس المرجع في القيامة إلى التنوع الجنسي مثلاً، فهذا لا اعتبار له، فالإنسان يوم القيامة يأتي وحده يدافع عن نفسه؛ كما قال الله تعالى: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا [النحل:111]، وهذا يشمل الرجال والنساء، وقال تعالى: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:95]، وهذا يشمل الرجال والنساء، فالجميع محشورون إلى الله، ومجاوزون على أعمالهم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ولكن هذا التنوع له خصائص دنيوية، وهذه الخصائص لا تمنع الاشتراك في بعض الأمور، فمثلاً عقيدة الرجال والنساء واحدة، يجب على الرجال والنساء أن يعتقدوا عقيدة الإيمان وهي الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
وكذلك مصدر التلقي للرجال والنساء واحد، وهو الوحي الذي جاء من عند الله سبحانه وتعالى، فهذا الوحي ليس خطاباً موجهاً إلى الرجال فحسب، أو إلى النساء فحسب، بل الخطاب فيه واحد إلى الرجال والنساء معاً، فإذاً هذا من المجالات المشتركة.
وكذلك أكثر المعاملات والتعبدات مشتركة بين الرجال والنساء، وهي من الأولويات، ويفترق الحكم في بعض الجزئيات، ففي مجال الطهارة مثلاً للنساء خصائص فسيولوجية، فلذلك رتب عليها بعض الأحكام المختصة، وليست تلك الأحكام للرجال وإنما هي للنساء، وكذلك في مجال الصلاة، فللنساء خصوصية في إسقاط ما أسقط الله عنهن من الصلاة، وأنه لم يوجب عليهن الجمعة، ولم يوجب عليهن كذلك الأذان والإقامة.
وكذلك فيما يتعلق بالصوم، فإن الله تعالى أسقط عن النساء أداء الصوم؛ لسبب بعض الموانع الخلقية فيهن، ولم يسقط ذلك عن الرجال، وجعل المسقطات الأخرى مشتركةً بين الرجال والنساء كالمرض والسفر ونحو ذلك.
وأما الزكاة فلا فرق فيها بين الرجال والنساء، فكل من ملك نصاباً وحال عليه الحول وهو في ملكه وجبت عليه زكاته سواءً كان رجلاً أو امرأة.
وأما الحج فهو أيضاً للجميع والخطاب فيه واحد، ولكن النساء يعذرن في بعض الواجبات التي تسقط ببعض الموانع كطواف القدوم مثلاً، وتعجيل السعي بعده، فإذا كانت المرأة متلبسةً بمانع فإن هذا الطواف يسقط عنها، ولا يلزم في مقابله دم، ولا جبر بأية وسيلة أخرى.
وللنساء خصوصية في الحج والعمرة ليست للرجال وهي أن الحج والعمرة جهاد النساء كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سألته عائشة : ( أللنساء جهاد؟ قال :نعم، جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة )، فبين فضل الحج والعمرة بالنسبة للنساء بخصوصهن، أما الرجال فإذا أدوا الفرض، وكان لهم مجال للجهاد في سبيل الله فهو مقدم على تكرار الحج والعمرة، والنساء عليهن تكرار الحج والعمرة ما استطعن إلى ذلك سبيلاً.
ثم ما يتعلق ببقية الأحكام، فما يتعلق منها بأحكام الأسرة قد جعل الله للرجال حظاً على النساء، ومع ذلك آتى النساء من الحقوق مثلما عليهن فقال تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228]، فهذه الدرجة هي القوامة وهي اتخاذ القرار، في إدخالها في العصمة، وإخراجها منها، فهذا القرار إلى الرجال وليس للنساء مشاركة فيه، فالمرأة ليس لها حق في الدخول في عصمة إنسان إلا برضاه وأمره، وليس لها حق في الخروج من عصمة إنسان أيضاً إلا برضاه وأمره.
فالقرار في ذلك إلى الرجال وليس للنساء فيه مشاركة، إلا ما وكل إليهن كما إذا خيرن أو ملكن، أو ما إذا افتدت المرأة لزوجها فهذا حالات نادرة تقع بسبب بعض المشكلات الاجتماعية العارضة.
ثم بعد هذا الأولويات الأخرى لا شك أن كثيراً منها مشترك، كطلب العلم، وكالدعوة إلى الله تعالى، وكتزكية النفس وتنميتها وتربيتها، فهذا من الأولويات المشتركة بين الرجال والنساء، فطلب العلم فريضة على كل مسلم، ولم يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالازدياد من شيء إلا منه، فقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114].
وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إليه في كل يوم، وورد عنه: ( كل يوم لا أزداد فيه علماً، فلا بورك في طلوع شمس ذلك اليوم )، وهذا مشترك بين الرجال والنساء معاً، ومثل ذلك الازدياد من الطاعات والعبادات، ومثل ذلك تزكية النفس وتنميتها، فهذا حق مشترك بين الرجال والنساء، وهو من الأولويات التي ينبغي أن يأخذ كل إنسان منها بقسطه.
وكذلك الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى فهي تحقيق الانتماء لهذا الدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله، فكل من انتسب إلى حزب من الأحزاب، أو إلى قبيلة من القبائل، أو إلى مؤسسة من المؤسسات عليه أن يسعى لانتشارها وانتصارها، وزيادة أفرادها، والنساء اللواتي انتسبن إلى ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضين بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، عليهن أن يسعين لتكثير سواد المسلمين، وزيادة أعدادهم، وزيادة الالتزام بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يبذلن ما يستطعن في ذلك، فهن وافدات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يردن عليه الحوض يوم القيامة، ومن سعت منهن لنصر دينه، ونشره بين الناس ودعت إليه؛ لا شك أنها لا يمكن أن يتساوى مقامها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ومقام من أعرضت ولم تفعل، ولم تدع إلى ما جاء به، ولم تنب عنه في توصيل شيء من رسالات ربه، فالفرق شاسع بين القسمين، والمستوى متباين.
فلذلك نصل إلى ما يتعلق من هذه المسائل بخصوص المرأة، فمن أولوياتها فيما يتعلق بطلب العلم ما يتعلق بالازدياد من هذا المرجع الذي هو الوحي، فهذا الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو العهد بين الله تعالى وبين عباده، ومن أعرض عنه فإن الله تكفل له بالعذاب يوم القيامة، وأن ينسى ويهان، فقد قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:124-127]، فلهذا لا بد أن تكون هذه الأولوية بارزةً في نشاط كل امرأة مسلمه تؤمن بالله واليوم الآخر، ولا تريد أن تنسى يوم القيامة، ولا أن تفد على الله وهي عمياء لا تبصر، فتحتاج إذاً إلى أن تخصص جزءاً من وقتها لتعلم هذا الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بشقيه الكتاب الذي هو كلام الله بلفظه ومعناه، والسنة التي هي من لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين بها ما أنزل الله إليه من الوحي.
ولا بد أن يكون من أولويات المرأة المسلمة أن تأخذ حظها من ذلك فهو ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يرضى العاقل أن يتنازل عن حقه من ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يهمل نصيبه منه، فلنتذكر قول ابن عباس رضي الله عنه وهو طفل صغير ( كان عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم في المجلس، فجيء بشراب فشرب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ناول ابن عباس وكان عن يمينه، وقال: إن شئت أعطيت من هو أكبر منك، يقصد أبا بكر وكان عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: والذي بعثك بالحق لا أوثر بنصيبي منك أحداً ).
فكذلك على المرأة المسلمة أن تقول هذا، أن تقول: والذي بعثك بالحق لا أوثر بنصيبي منك أحداً، فتسعى لنصيبها من ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، وتحرص عليه، وقد جاء أبو هريرة رضي الله عنه إلى أهل السوق في المدينة وهم يصفقون في البيع والشراء، فصاح فيهم: أيها الناس! ثلاثاً؛ حتى اجتمعوا حوله، فقال: هل لكم في نصيبكم من ميراث محمد صلى الله عليه وسلم؟ قالو: وما ذاك؟ قال: إن تركته تقسم الآن بالمسجد، فقالوا: من يرعى علينا متاعنا حتى نأخذ نصيبنا من تركة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أنا أرعاها، فوقف أبي هريرة في السوق فخرج أهل السوق يستبقون إلى المسجد فلم يروا إلا حلقات العلم، فرجعوا إليه فقالوا: ما وجدنا إلا قوماً يتعلمون، فقال: ذلك ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعلى المرأة العاقلة أن تحرص على نصيبها من هذا الوحي، إن استطاعت أن تحفظ القرآن كاملاً، فهذا أفضل المراتب وأكملها، وقد يسره الله للذكر وسهل حفظه على من أراده، وكل من توجه إليه بقلب صادق وسأله الله تعالى فإن الله سييسره له، وأعرف شيخاً كبير السن قد زاد على الثمانين وكان محباً للقرآن، فكان يسأل الله أن ييسر له حفظ القرآن، وقد حفظه، فسألته: كيف حفظت القرآن؟ قال: والله ما خصصت له وقت من يومي، ولكن كنت أسأل الله أن ييسره لي فيسره لي، فقد تجاوز الثمانين من عمره، والله سبحانه وتعالى يقول: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل:20].
ومن المهم من أولويات النساء: أن يحرص عدد منه من الخيرات السابقات بالخيرات على أن تكون سبيلاً لحفظ النساء للقرآن، كما إذا فتحت محضرةً في بيتها أو استأجرت معلماً للقرآن ودعت أخواتها ليتعلمن القرآن وكانت سبباً في ذلك وسبيلاً إليه، فإنها يكتب لها أجر كل من درس وكل من انتفع وكل من عمل، ومثل ذلك ما إذا علمت تجربتها ودعت إليها، فلا شك أن من بينكن عدد من الحافظات لكتاب الله، ومن السهل أن تقدم كل واحدة منهن تجربتها، في شكل درس مختصر في مسجد من المساجد، أو في دعوة من الدعوات أو في مناسبة من المناسبات التي يجتمع إليها النساء، فتبين كيف حفظت القرآن، وما تجربتها في مذاكرتها مذاكرته وما تجربتها في تجديد حفظه، فإن حفظ القرآن ينقسم إلى مرتبتين:
المرتبة الأولى: مرتبة التحصيل.
والمرتبة الثانية: مرتبة التكميل.
أما مرتبة التحصيل فهي أصل الحفظ والتصحيح، أن يكون الإنسان يحفظه عن ظهر قلب، وأن يكون أداؤه له صحيحاً، ونطقه به سليماً، فهذه مرحلة التحصيل، وكل حرف يقرؤه الإنسان له به عشر حسنات، ( وإذا كان لا يتعتع وهو عليه غير شاق فهو يوم القيامة مع السفرة الكرام البررة )، أي: مع الملائكة، وإذا كان يتعتع فيه وهو عليه شاق يؤتى أجره مرتين، كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره.
المرحلة الثانية: مرحلة التكميل وهي تنقسم إلى قسمين:
إلى ما لا يتعلق بمراجعة الحفظ، فالقرآن شديد التفلت من القلوب، وسهل النسيان على كل من أعرض عنه وأنشغل عنه بما سواه، ومما يعين الإنسان على مراجعته وتعاهده أن يتذكر قيمته وفضله، فالإنسان إذا تذكر أنه أوتي كنزاً عظيماً وذخراً جزيلاً، فإنه لن يفرط به بوجه من الوجوه، فإذا عرف قيمة القرآن وأنه أقدس ما على وجه الأرض، وأنه كلام الله، وأن الله قد خصه به ومنحه إياه فإن عليه أن يقول ما قال نبي الله سليمان عليه السلام: فَمَا آتَانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [النمل:36].
يقبل على القرآن يثوره، ويكون من الذين يحافظون على الحال للمرتحل كلما كملت ختمة بدءوا ختمةً جديدة، هذا هو الحال للمرتحل، وصاحبه يرقى يوم القيامة في جنات النعيم فيقال له: ( ارق ورتل واقرأ؛ فإن منزلتك عند آخر آية ترتلها ).
ولا شك أن هذه المراجعة تحتاج إلى وقت وبرنامج، فإذا علمت المرأة التي حفظت القرآن وحصلته أو حصلت بعضه أنها أحرزت خيراً كثيراً، وأن هذا الخير سريع التفلت، فإنها ستخصص جزءاً من وقتها ولوا كان ساعةً من ليل أو نهار لمراجعة ما حفظته منه، وأفضل ذلك ما كان في الصلاة، فما تعود الإنسان على الصلاة به بين يدي الباري جل جلاله من القرآن سيكون أقواه حفظاً، وأقومه بياناً لديه، ولذلك فإن أي واحدة منكن إذا كانت تحفظ القرآن أو كثيراً منه فسألناها الآن أن تقرأ بين أيدينا سورةً من السور، فإن كانت السورة مما تصلي به في صلاتها دائماً سهل عليها ذلك، وإن لم تكن من السور التي تصلي بها صعب عليها ذلك وارتبكت في قراءتها، فلهذا مما يثبت حفظ القرآن: أن يصلي به الإنسان في الفرض والنفل، وأن يراجعه جميعاً في الصلاة، وكذلك جزء من المراجعة في المصحف لما يحصل فيها من التدبر والأمور العجيبة، ومرةً كنا في سجن فخرجنا فسألنا أحد المشايخ من حفاظ كتاب الله المعتنين به فقال: ماذا استفدتم من القرآن في هذه الفترة؟ فذكرت له بعض المسائل العجيبة التي هي ترجع إلى المصحف ولا ترجع إلى الحفظ، منها مثلاً الإعجاز في عدد الآيات وترتيب السور، فقد اطلعنا في السجن على إعجاز عجيب في ترتيب السور من حيث عدد الآيات وعدد الحروف، فمثلاً هذا الحزب الذي أوله سورة الجمعة هو خمس سور: السورة الأولى منه سورة الجمعة، وهي إحدى عشرة آية، والسورة الثانية سورة المنافقون وهي إحدى عشرة آية، والسورة الثالثة سورة التغابن وهي ثمانية عشرة آية، والسورة الرابعة سورة الطلاق، وهي اثنتا عشر آية، والسورة الخامسة سورة التحريم، وهي اثنتا عشرة آية، فالسورتان الأوليان إحدى عشرة آية، والأخيرتان أثنتا عشرة آية، وبينهما سورة في الوسط كانت زائدةً على المستويين كأنها مركز الثقل والتوازن في هذا الحزب وهي سورة التغابن، والحزب الذي يليه أوله سورة الملك وهي ثلاثون آية، وآخر سورة منه سورة نوح وهي بالعد الكوفي أيضاً ثلاثون آية, وبعد السورة الأولى سورة القلم، وهي إحدى وخمسون آية، وبعدها سورة الحاقة وهي إحدى وخمسون آية وبعد ذلك سورة المعارج وهي أربع وأربعون آية، فسورتان متساويتان وسورتان متساويتان، وواحدة جاءت في مركز الثقل والتوازن، وجاءت فيها الانفراد في عدد الآيات، ونظير هذا متنوع متعدد في القرآن وكل من لازم قراءة المصحف بتدبر كشف له منه أشياء كثيرة جداً، سواءً تعلق ذلك بعدد الحروف أو بالكلمات أو بعدد السور أو غير ذلك، وقد لاحظنا من ذلك عجائب تتعلق بالحروف، فبعض الحروف صعبة النطق، فلذلك تكرارها في الآية الواحدة قد يكون محرجاً لبعض الألسنة، فيحذف ذلك الحرف من آية ويؤتى به في موضع آخر منها، ويؤتى بنظيره في آية أخرى، فمثلاً: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ [النحل:61]، هذه في آية سورة النحل، وفي آية سورة فاطر: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [فاطر:45]، فالظاء حرف من الحروف الصعبة، وفي الآية الأولى جاء في أول الموضعين: لَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ [النحل:61]، وفي الآية الثانية جاء في آخر الموضعين: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا [فاطر:45]، فهذا من العجائب العجيبة، ومثل ذلك في سورة آل عمران في قول الله تعالى في قصة زكريا عليه السلام: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ [آل عمران:40]، فهنا قال: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ [آل عمران:40]، والذي استغرب هو الغلام الذكر، ثم قال: قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:40]، فهذا فعل كأنه غير مستغرب ولم يعبر عنه بالخلق، وفي آية في قصة مريم في الآية التي بعد هذه قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [آل عمران:47]، فلم تقل: غلام؛ لأن الجميع مستغرب، فالغلام هو الذكر، والولد يشمل الذكر والأنثى، فـمريم استغربت الجميع قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ [آل عمران:47]، و زكريا أستقب الذكور فقط فقال: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ [آل عمران:40]، وفي جواب زكريا : كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:40]، وفي جواب مريم : كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:47]، فهذا خلق كأنه إبداع جديد، فهذا من العجائب التي إذا تدبر الإنسان وجدها، وهذا مما يثبت معلومات الإنسان في الحفظ، فإذاً هذا هو الجانب الأول من التكميل.
والجانب الثاني منه هو: تدبر المعاني وتفهمها بدراسة التفسير وعلوم القرآن، وهذا من الأولويات التي لا بد أن تجعل المرأة المسلمة جزءاً من وقتها لها، فإذا أخذت كتاباً مختصراً في التفسير مثل تفسير ابن كثير مثلاً، فأرادت أن تختمه خلال مدة محددة فمثلا الكتاب الآن مطبوع في مجلد واحد، وهذا المجلد الواحد إذا أرادت المرأة المسلمة أن تقرأ منه مثلاً كل يوم صفحةً واحدة، فخلال سنتين تكون قد ختمت تفسير كتاب الله تعالى كاملاً، ومثل ذلك التفاسير المختصرة المكتوبة مع المصحف في كل صفحة من صفحاته فصفحات المصحف في أغلب الطبعات ستمائة صفحة، فبالإمكان أن تختم المرأة صفحات التفسير مع المصحف، إذاً كانت تقرأ كل يوم صفحةً واحدة في أقل من سنتين، أي: في سنة وستة أشهر تقريباً، وهذا خير كثير، فالإنسان إذا تعلم مدلول كلام الله، وتفهم معانيه، واستطاع بذلك أن يكون من أهل التدبر والتفسير، فقد أحرز خيراً كثيراً، وهذا من الأولويات التي لا ينبغي التفريط فيها.
ومثل ذلك الازدياد من السنة فعلى المرأة المسلمة أن تجعل من أولوياتها ما يقربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزيدها حباً له واتباعاً له، فمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحصل بتعلم سيرته وشمائله، وتعلم سنته، فإذا أخذت المرأة المسلمة هذه العلوم الثلاثة من العلوم المتعلقة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت لنفسها برنامجاً من كل واحد من هذه العلوم الثلاثة، أرادت مثلاً أن تدرس كتاباً في السيرة خلال هذه السنة مع أخواتها أو في أسرتها أو مع بناتها، أرادت أن تعلمهن فأخذت كتاباً مختصراً في السيرة النبوية مثل تهذيب السيرة لـعبد السلام هارون ، أو مثل الرحيق المختوم للندوي ، أو أي كتاب من الكتب المختصرة الواضحة مثل فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي ، أو مثل فقه السيرة لـمنير الغضبان أو غير ذلك من الكتب المختصرة في السيرة، فتستطيع أن تأخذ خلال السنة اثنين وخمسين درساً وبها تكمل السيرة النبوية في اثنين وخمسين يوماً.
وهذه الدروس مختصرة يطلع فيها الإنسان على حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومشاهده وغزواته، ويتعلم أسماء أصحابه، وأسماء آل بيته، وقد قال البدوي رحمه الله:
وإن عرفت النسب الخطير وسيرةً تكون بهم خبيراً
حتى كأنهم بعين النقص في الصك قد لاحوا لعين الحس
كأن الإنسان يراهم وينظرون إليهم، ونظير هذا في السنة كما قال يحيى بن يحيى التميمي وهو من أصحاب مالك الذين رووا عنه الموطأ ، فقد حدث بحديث وبحضرته أبو زرعة الإمام الرازي رحمه الله، فقال له أبو زرعة : (عمن هذا الحديث يا يحيى ؟! فقال: يا أبا زرعة ! ليس هذا زعزعةً عن زوبعة، هذا مالك ، عن نافعاً ، عن ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما بينك وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ترفع الستر فتراه، كأنه بين يديك)، لا يمكن أن يشك فيه مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا اتصال عجيب بين الإنسان وبين رسول صلى الله عيه وسلم، وأهل الحديث يقولون: كفى بالرجل شرفاً أن يكون اسمه أدنى سلسلة أسماها اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك المرأة إذا كان اسمها أدنى سلسلة أسماها اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الاتصال كاف من الشرف، وهو نسب أشرف من كل الأنساب.
فإذا كان بين المرأة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم إسناد متصل ورجال تعرفهم فلان عن فلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا شرف عظيم ومنزلة رفيعة، وأهل الحديث يقولون: الإسناد نسب الحديث، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، وكذلك متون الحديث ففيها النور والبركة وكلام المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال الترمذي رحمه الله عندما عرض كتابه وهو سنن الترمذي : قال: من كان في بيته هذا الكتاب فكأنما في بيته نبي يتكلم.
فلا بد أن يكون من أولويات المرأة المسلمة أن تطلع على حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تريد بذلك محبته واتباعه وزيادة الإيمان به، فتحرص على تعلم سنته، وتحرص على معرفة الصحيح منها والسقيم، وتحرص على معاني مفرداتها وما يقتضيه التدبر منها من معرفة دلالاتها، والأمر ميسور سهل فهذه السنة النبوية إذا أخذ الإنسان منها أي كتاب ولو كان جزءاً قليلاً فإنه صلة لا بأس بها برسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا قررت كل واحدة من الأخوات مثلاً خلال اثنين وأربعين أسبوعاً أن تحفظ الأربعين النووية وهي اثنان وأربعون حديثاً، أو أرادت زيادة خير فكملت الخمسين بكتاب جامع العلوم والحكم لـابن رجب ، فهذا الكتاب شرح فيه مؤلفه شرحاً مستوعباً كاملاً شاملاً الأربعين النووية وأضاف إليها ثمانية أحاديث، فكملت بها الخمسون خمسون حديثاً، وهذه الخمسون حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شرحها كثير من الأحاديث الأخرى والحكم والعلوم، ولهذا سمى المؤلف كتابه: جامع العلوم والحكم، وهو كتاب متوافر في الأسواق، سهل العبارة كل امرأة يمكن أن تتفهمه وأن تلخصه.
فإذا أرادت المرأة المسلمة أن يكون لها درس أسبوعي من السنه تحفظ فيه حديثاً واحداً من خمسين حديثاً، فخلال خمسين أسبوعاً تجد صلةً قويةً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونور عظيم من نور الله الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك تحفظ هذه الأحاديث، وتتدبر معانيها من خلال هذا الكتاب الجيد، وتطلع على آراء أهل العمل وأحوالهم، وهذا مما يزيدها محبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعنايةً بسنته، وإذا كانت المرأة ذات همة عالية وأحرزت هذا القدر فسيدعوها هذا إلى الزيادة، ولذلك قال أهل الحديث: ما حفظ إنسان صادق حديثاً واحداً إلا دعاه ذلك إلى حفظ عشرة أحاديث، كل من حفظ حديثاً واحداً بإسناده سيدعوه ذلك إلى حفظ عشرة أحاديث، فإذا حفظها فكل حديث يدعوه إلى عشرة فتكون مائة، ثم تدعوه المائة إلى أكثر.. وهكذا.
فلهذا من أولويات المرأة المسلمة وبالأخص في هذا العصر الذي انشغل الناس فيه في أمور الدنيا توافه الأمور، أن يكون لها وقت تتعرف فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال سيرته وسنته وشمائله التي فيها أوصافه الخلقية والخلقية وكل من درس تلك الشمائل الشريفة الكريمة، فسيزيده ذلك حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفةً لخلقة، ومحاولةً للتخلق بهذا الخلق الكريم الذي زكاه الله في القرآن، فقد قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، ثم بعد هذا من أولويات المرأة المسلمة في هذا العصر أن تجعل جزءاً من اهتمامها في تعلم هذه اللغة التي بها الكتاب والسنة، فمن المؤسف أن تكون المرأة المسلمة التي تريد أن تكون معلمةً لأولادها وأهل بيتها لا تميز بين منصوب ومرفوع ومجرور، فمن المؤسف جداً أن يقع منها هذا، فالأمر سهل، فنحن لا نريد أن تكون متخصصةً ولا أن تدرس كتاب سيبويه ، ولا كتاب السرافي ، ولا كتاب أبي علي الفارسي ، بل يكفيها من ذلك أن تطلع على مختصر ابن آجروم ، وأن تدرك من خلاله تمييز الكلمات، بأن تميز بين الاسم والفعل والحرف، وأن تعرف المرفوع والمنصوب والمجرور والمجزوم، وهذا خير كثير تستطيع به أن تتفهم معاني كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ومختصر ابن آجروم ميسر سهل بالإمكان أن تأخذ كل مجموعة من النساء على أنفسهن أن يتعلمنه فيجعلن له وقتاً من كل أسبوع، ربع ساعة من كل أسبوع لدراسة باب واحد من هذه المختصرات، وكل إنسان يستطيع شرحها، فالصفحات قليلة محصورة، وبالإمكان أن تدرس كل امرأة مع أخواتها صفحةً واحدةً مثلاً في كل أسبوع صفحة واحدة، هذا لا يأخذ إلا ربع ساعة، ونحن نعلم أن كثيراً من النساء يضيع كثير من أوقاتهن في الجلسات، وفي الحديث في سوالف الأمور ومواضيها، والأمور التي قد يكون فيها كذب، وقد يكون فيها غيبة، وقد يكون مشي بالنميمة، كثير من الأوقات تضيع في غير طائل، وبالإمكان أن يتلافى ذلك، وأن يتدارك، فهذه الأولويات والواجبات تأخذ الوقت وتنظمه.
كذلك من أولويات المرأة المسلمة: ما يتعلق بقيامها بشئون بيتها ورعايتها لمن ائتمنها الله عليها في بيتها، وهذا البيت ينقسم إلى قسمين إلى بيتها الذي نشأت فيه وتربت فيه وهو بيت والديها وهما من أولى الناس برعايتها وعنايتها وخدمتها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما لهما من الحق، وأوصى الله عليهما وأوصى بالإحسان إليهما في كتابه، فقال تعالى: وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء:36].
وقال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا [الأحقاف:15]، وقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، فالعناية بشئون الوالدين وبرهما وأداء حقهما وبالأخص في حال كبرهما وضعفهما من أولويات المرأة المسلمة، فإن الرجال يشغلون بتحصيل النفقات، وبما هم مشغولون فيه من أمور الدنيا التي لا يستطيع النساء السعي فيها، فإذا كانت المرأة ترعى الوالدين فسيكون إخوتها على استعداد لتوفير ما هم بحاجة إليه، فتقوم هي بالعناية لوالديها ورعايتهما، وبالأخص في حال كبرهما وضعفهما، كما قال أمية بن الأسكر رضي الله عنه:
يا ابني أمية إني عنكما غان وما الغنى غير أني مرعش فاني
يا ابني أمية إلا تشهدا كبري فإن نأيكما والثكل مثلان
إذ يحمل الفرس الأحوى ثلاثتنا وإذ فراقكما والنأي سيان
أمسيت هزءاً لراعي الضأن أعجبه ماذا يريبك مني راعي الضان
انعق بضأنك في نجم تحفره من المواضع واحبسها بجمدان
إن ترع ضأناً فإني قد رعيتهم بيض الوجوه بني عمي وإخواني
فإذا كبرا في السن فإن عقولهما ستتراجع، وأخلاقهما ستتراجع، وأبدانهما تضعف، فيحتاجان إلى رعاية وعناية، فما كانت الأم تقوم به من نظافة المنزل ستضعف عنه، وما كانت تقوم به من رعاية سمعة البيت ومروءة أهله ستضعف عنه، فتحتاج بنتها إلى أن تقوم بذلك، وأن تؤديه على الوجه الصحيح، ولتتذكر أنها كانت صغيرةً عند والديها، وكانا يؤملان منها الكثير من الخير، وهي الآن قد كملت قوتها، وكمل عقلها، وقد ضعف وضعفت قوتهما وعقلهما، فاحتيج إليها فعليها أن لا تكون مخيبةً للأمل.
والبيت الثاني هو البيت الذي هي شريكة في بنائه وتأسيسه وهو بيت الزوجية، فمن واجباتها رعايته وعنايته والعناية به، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنن أنه قال: ( لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها )، وأقل ما يجزئ في ذلك أن تخصص يوماً من الأسبوع للعناية بشئون البيت، فتعتني بنظافته، ورعايتها فيه من الأملاك، والأواني والملابس وغير ذلك، فاليوم الواحد إذا برزت فيه العناية بالبيت، وليس معنى ذلك أن لا تخرج منه، بل المقصود أن يكون فيه تركيزها وعنايتها في هذا اليوم بشؤون البيت، يوم واحد في الأسبوع فإن ذلك كافٍ إن شاء الله، ويحصل به البر والمطلوب والرضا الذي يقتضي استمرار بناء هذا البيت وترتيبه.
وكذلك من أولويات المرأة المسلمة: (تربية الأولاد)، وهذا أمر شاق صعب، وبالأخص في زماننا هذا؛ لكثرة ما يعتريه من الشواغل، ولكثرة ما يأخذوا منه الأولاد من أوجه التلقي الأخرى، فالولد يأخذ من المدرسة، ويأخذ من الشارع، ويأخذ من التلفزيون، ويأخذ من الأصحاب، ويأخذ من المسلسلات والجرائد والمجلات.. وغير ذلك، فهذه الوسائل جميعاً هي التي تكون الرأي العام لدى الولد والبنت، فالأم إذاً مزاحمة زحاماً قوياً، وبالأخص ما يتعلق بوسائل الإعلام؛ لما فيها من الألوان والدعايات، والتخصص في أوجه لفت الانتباه، ولفت الأنظار، فأهل الإعلام يأتون بالصور والألوان والعناوين المثيرة، وقد درسوا وتخصصوا فيما يتعلق بلفت الانتباه، يعرفون ما يلفت انتباه الكبار، وما يلفت انتباه الصغار، وما يلفت انتباه النساء، وما يلفت انتباه البنات الصغيرات.
فتحتاج الأم إذاً إلى عناية خاصة بتربية الأولاد؛ وذلك على وجه تكون فيه محبةً مشفقةً، وتظهر محبتها للأولاد حتى لا يقع الانفصام، فنحن نعلم أن كثيراً من نسائنا كن يربين الأولاد في هذا المجتمع بطريقة ليس فيها إظهار للمحبة، فالولد لا يشعر أن أمه تحبه إلا إذا كان عاقلاً جداً، ومنتبهاً لكثير من تصرفاتها، وإلا فأقوالها لا تدل على ذلك، وأفعالها لا تدل عليه؛ لأنها لا تخاطبه إلا بالكلام الشديد، ولا توجه إليه النصائح على وجه المحبة والإرشاد، فهذا النوع من الأساليب البدوية لم يعد الوقت قابلاً له، فالناس الآن قد انتقلوا إلى حياة الحضارة، وأصبح التلقي متنوعاً؛ فتحتاج الأم إلى أن تصحب أولادها صحبةً حقيقية، فيها كثير من المودة والرعاية والعناية؛ حتى تباشر تربيتهم على الوجه الصحيح.
فمن أهم ما يتعلق بالتربية اختيارها للوسائل الأخرى التي تشاركها في تكوين الرأي العام للولد والبنت، فإذا كانت هي مشاركةً لاختيار ما يدرسه الولد وما يقرؤه، وكانت مشاركةً لاختيار الأصحاب الذين يصاحبهم، وكانت مشاركةً أيضاً فيما يصرف فيه وقته والمدة التي يمضيها في الشارع تعرف ما يعمل فيه، والمدة التي يمضيها لدى الجيران تعرف ما يشتغل به، فهذا من أولويات التربية؛ لأنها إذا أهملت هذا الجانب فهي تبني وغيرها يهدم، وقديماً قال الحكيم:
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
ثم من هذه الأولويات أيضاً: العناية بصحة المرأة، كعنايتها بصحة نفسها، وبصحة أولادها من الواجبات، فبدنها أمانة لديها، بالأخص في هذا العصر الذي كثرت فيه الأمراض والأوجاع، وكانت مصداقاً لما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر الذي أخرجه أحمد في المسند، و الحاكم في المستدرك، و ابن ماجه في السنن، و ابن حبان و ابن خزيمة في صحيحيهما: أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( يا معشر المهاجرين! أعيذكم بالله أن تدركوا خمساً: فما ظهرت الفاحشة في قوم فأعلنوا بها إلا ظهرت فيهم الأمراض والأوجاع التي لم تكن فيمن مضوا من أسلافهم، وما نقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وعسف السلطان، ونقص المئونة، ولا نقض قوم عهد الله وميثاقه إلا سلط الله عليهم عدواً من سواهم فأخذ بعض ما في أيديهم، ولا منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، وما حكمت أئمتهم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم ).
فقد كثرت الأوجاع والأمراض في هذا الزمان، فيحتاج إلى عناية بالصحة، وهي من أولويات المرأة المسلمة، لكن لا بد من ضبط ذلك بالضوابط الشرعية، ومن أهم الضوابط الشرعية:
الإيمان بقضاء الله وقدره، وأن ما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئها، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن، فإذا قدر الله على الإنسان مرضاً، فإن كان مؤمناً فهو خير له؛ لأنه إن صبر عليه كان تكفيراً له ورفعاً لدرجته، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( عجباً لأمر المؤمن، كل أمر المؤمن له خير، إن أصابته سراء وشكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء وصبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ).
والإيمان بقضاء الله وقدره يقتضي من الإنسان السعادة أبداً؛ لأنه لا يصيبه شيء إلا كان محبوباً لديه؛ لعلمه أنه من عند الله، فإن كان موافقاً لهواه شكر الله عليه، وإن كان مخالفاً لهواه صبر عليه، فكان ذلك خيراً له.
كذلك من هذه الضوابط المتعلقة بالصحة أيضاً: جانب التوكل على الله تعالى، فهو ما يضعف لدى كثير من النسوة، فإن كثيراً منهن يركن إلى الأسباب، وتعتني عنايةً فائقةً بالعلاج وزيارة الأطباء، وإذا سمعها الإنسان تكلم الطبيب يظن أنها تظن أن الطبيب يشفي من المرض، أو يمكن أن يرفع عنها البلاء؛ وهذه أمور مخالفة للعقيدة الصحيحة، فلا بد أن نقوي في أنفسنا التوكل على الله سبحانه وتعالى، والاعتماد عليه، وأن نعلم أن المخلوقين جميعاً لا يملكون للإنسان حياةً، ولا موتاً ولا نشوراً ولا نفعاً ولا ضراً، وأنهم جميعاً محتاجون إلى الله سبحانه وتعالى مفتقرون إليه، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الحج:73-74].
فلذلك لا بد مع العناية بالصحة من تمام التوكل على سبحانه وتعالى، وعدم التضعضع والمذلة للمخلوقين، والعناية بالأسباب الشرعية التي يرفع الله بها البلاء كالدعاء الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ولا يرد القدر إلا الدعاء، هو يصطرع في السماء مع البلاء )، وكالصدقة التي بين النبي صلى الله عليه وسلم ( أنها تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وأنها تزيد في العمر ).
وكذلك صلة الرحم التي بين النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنها تزيد في العمر أيضاً، وترفع البلاء ).
فهذه الأسباب الشرعية أيضاً لا بد من العناية بها مع العناية بالأسباب الكونية، فالأسباب الكونية كالنظافة، والغذاء، والدواء ونحو ذلك لا بد في مقابلها من العناية أيضاً بالأسباب الشرعية، كالصدقة والدعاء والذكر وصلة الرحم، فإن الله يرفع بهذه من البلاء ما لا يرفعه بالأولى، ويشفي بها من الأمراض ما لا يشفي بالأولى.
هذه إذاً بعض أولويات المرأة المسلمة، ولم نستطع أن نأتي على كلها؛ لضيق الوقت وللظروف الصحية، ولكن لعلنا نعود إلى هذا الموضوع مرةً أخرى لاستكمال بعض جوانبه التي نحن بحاجة إلى مراجعتها ومذاكرتها.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، واختم بالحسنات آجالنا، واجعل خير أيامنا يوم نلقاك، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر