هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً [الغاشية:1-11].
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:
فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه خرج ذات ليلة في المدينة، فمر على باب عجوز من الأنصار تقرأ القرآن، فإذا هي تقرأ سورة الغاشية، فقرأت قول الله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم أتاني، نعم أتاني، وما زال يبكي على بابها ).
وهذا الاستفهام للنبي صلى الله عليه وسلم ليس استخبارياً، وإنما هو تنبيه على ما نزل إليه من أخبار القيامة، والقيامة هي الغاشية، وقد سماها الله بكثير من الأسماء المفظعة المروعة في كتابه، فسماها: القارعة، والواقعة، والآزفة، والصاخة، والطامة، والغاشية، وغير ذلك من الأسماء.
والمقصود بالإتيان هنا، الإتيان من عند الله تعالى بالوحي.
والحديث في اللغة يطلق على ضد القديم، يقال: خبر قديم، وخبر حديث، ويطلق على القول، فالأقوال كلها تسمى حديثاً، سواء كان ذلك القول مفيداً أو غير مفيد، فمن إطلاقها على المفيد قول الله تعالى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ[الأعراف:185]، أي: بعد القرآن، ومن إطلاقه على غير المفيد قول الشاعر:
وحديثها السحر الحلال لو انه لم يجنِ قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ودَّ المحدث أنها لم توجزِ
ويطلق على كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسمى في الأصل حديثاً وقد توسع الناس فيه فأطلقوه على كل ما أثر عنه، فيشمل ذلك الأقوال والأفعال والتقريرات، فكلها تسمى في الاصطلاح حديثاً، وإن كان الحديث في الأصل، للأقوال فقط.
وجمعه أحاديث، ومفرده حديث، وإن كان يطلق على الجمع، إلا أنه يجمع أيضاً، وذلك عند قصد التنويع، فإذا قصد التنويع جمع إلى أحاديث الركبان، ومن هذا قول الشاعر:
ولما قضينا من منىً كل حاجة ومسّح بالأركان من هو ماسح
وشدت على عوج المطايا رحالنا ولم ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح
ومفرده في الغالب يسمى حديثاً، وقد يسمى أحدوثةً، وقد ذكر أهل الحديث أنه لا يجوز إطلاق ذلك على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأفعولة في اللغة إنما تطلق على التافه، كالأكذوبة والأعجوبة، والأضحوكة، فهذه للأمر التافه.
فلا يطلق ذلك على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان يطلق على أحاديث الناس، ويقال: سمعت من فلان أحدوثةً، أي قصةً، أو نحو ذلك.
وهنا حديث الغاشية، أي: شأنها وخبرها، فيشمل ذلك كل ما قصه الله عنها في القرآن، قبل نزول هذه السورة، والغاشية: فاعلة من غشي الشيء إذا ألم به، والغشي يطلق على العرق الشديد، ومنه قول أسماء رضي الله عنها: فقمت حتى علاني الغشي، أي: العرق الشديد، وهي تغشى الناس، أي: تأتيهم بغتةً، ولا تأتي إلا كذلك، كما قال الله تعالى: لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الأعراف:187]، فلذلك سميت الغاشية.
ومن حديث الغاشية ما بينه بعد هذا السؤال الذي يدل على العناية والاهتمام فقط.
قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:2-4]، هذا تنويع للناس، وبيان لحالهم يوم القيامة، فقد بين الله سبحانه وتعالى: أن الناس ينقسمون إذ ذاك إلى قسمين: فمنهم شقي وسعيد: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:106-108].
والوجوه جمع وجه، ويطلق على ما يقابلك من الشيء، فتقول: سر في هذا الوجه، أي فيما يقابلك من الأرض.
ومن ذلك قول الشاعر:
خذا وجه هرشا أو قفاها فإنه كلا جانبي هرشا لهن طريق
وجه هرشا: أي ما يقابلك من هذه الثنية، وهرشا ثنية بين مكة والمدينة، جاء ذكرها في حجة الوداع عندما مر النبي صلى الله عليه وسلم على ثنية فسأل عنها فقال: (ما اسم هذه الثنية؟ قيل: هرشا، فقال: لكأني أنظر إلى موسى بن عمران يجزع بطن هذه الثنية، على ناقة له حمراء خطامها من ليف، له عجيج بالتلبية).
والوجوه هنا في الإطلاق العام تطلق على العضو البشري المعهود، وهو الذي يلزم غسله في الوضوء، لقول الله تعال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]، وهو المستدير ما بين الناصية والذقن والأذنين، في حق من لا لحية له، أو من ليس له عذاران، وما بين العذارين في حق من له عذاران، وقيل: يدخل ما وراء العذار في الوجه مطلقاً، في حق من له لحية ومن لا لحية له، فيجب غسله، ومن المعلوم أن الوجه مشتق من المواجهة، كما ذكرنا، فإذا كانت اللحية تستر ما وراءها، فما بين العذار والأذن لا يواجهك عند رؤيتك لوجه صاحبك.
والوجه: هو محل المحاسن من الإنسان وفيه منافعه، كالسمع والبصر والذوق والشم، والكلام، وأيضاً هو مكان التكريم منه، ولهذا يسمى تكريم الإنسان وجاهةً.
وإذا كانت الوجوه كذلك فإنها تذكر بالنعيم والعذاب، كما ذكر هنا.
و يَوْمَئِذٍ [الغاشية:2]، أي: يوم القيامة، يوم الغاشية، وهي كما سبق ظرف مضاف إلى ظرف آخر، وهو: إذ، الذي هو ظرف للاستقبال، والذي هو ظرف ملازم للإضافة إلى الجمل، واستغني بتنوينه هنا عن المضاف إليه الذي هو جملة محذوفة، فالمعنى: وجوه يومئذ تقوم الغاشية، أو تقوم القيامة.
خَاشِعَةٌ [الغاشية:2]، أي: ذليلة، وهذا خبر وجوه، ولما كانت الوجوه جمعاً، أخبر عنها بالمؤنث، فلو أخبر بالمذكر، لكان ذلك إفرادً لها، فأخبر عنها بالمؤنث، وهذا الذي يطلقه بعض النحويين فيقول: كل جمع مؤنث، ومنه قول الزمخشري :
إن قومي تجمعوا وبقتلي تحدثوا ما أبالي بجمعهم كل جمع مؤنث
وخاشعة من خشع بمعنى: ذل وانقاد، والمقصود هنا ما يغشى تلك الوجوه من القتر، والإظلام يوم القيامة، وقد بين الله ذلك في كتابه في قوله: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس:27].
قال تعالى: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [الغاشية:3]، هذه الوجوه التي هي خاشعة ذليلة يوم القيامة، مع ذلك هي عاملة، أي قد عملت واجتهدت، والمقصود بذلك: في وقت العمل الذي هو الدنيا، فعمر الدنيا هو عمر الامتحان بالعمل، والدنيا دار عمل ولا جزاء، والآخرة دار جزاء ولا عمل، فإنما كانت عاملةً في الحياة الدنيا، وكانت مجتهدةً في ذلك، فالله تعالى قال: إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس:44]، فمن عمل سيئاً، فسيجازى بسيئه يوم القيامة.
عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [الغاشية:3]، أي: مرهقة متعبة في العمل، فنصب ولغب إذا تعب في العمل، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [الغاشية:2-3]، وكل هذه أخبار ولم تعطف بالواو؛ لأنها لو تعاطفت لاقتضى ذلك التنويع، وهي غير متنوعة، بل كل هذه الصفات لكل واحد منها، فكل وجه منها خاشع عامل ناصب، وذلك بالاجتهاد في العمل السيء، أو العمل الصالح في ظاهره الذي لا يقبل عند الله تعالى.
والعمل أربعة أقسام:
القسم الأول منه: ما جمع بين الإخلاص والمتابعة، فأخلص فيه صاحبه لله سبحانه وتعالى، وتابع فيه ما شرعه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فحقق صاحبه مقتضى الشهادتين، فبالإخلاص يحقق مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وبالمتابعة يحقق مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله، وهذا العمل ينفع صاحبه في الدنيا بإسقاط التكليف، والعقوبة، وفي الآخرة بالقبول والجزاء.
النوع الثاني: العمل الذي خلا منهما معاً، خلا من الإخلاص وخلا من المتابعة، فلم يكن صاحبه مخلصاً لله، ولم يكن متابعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فاختل فيه مقتضى الشهادتين معاً، وهذا لا ينفع في الدنيا، ولا ينفع في الآخرة، فلا ينفع في الدنيا في إسقاط العقوبة وإسقاط التكليف لبطلانه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، وفي رواية: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، وقد أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه )، فلذلك لا ينفع هذا العمل أيضاً في الآخرة؛ لأن صاحبه لم يخلص فيه لله، بل أشرك فيه غيره.
النوع الثالث: ما خلا من الإخلاص وحصلت فيه المتابعة، فأداه صاحبه على وجه السنة، ولكنه لم يكن مخلصاً فيه لله عز وجل، وهذا العمل ينفع في الدنيا في إسقاط العقوبة وإسقاط الإعادة أيضاً، ولكنه لا ينفع في الآخرة لبطلانه، لحديث أبي هريرة القدسي السابق.
النوع الرابع: ما حصل فيه الإخلاص وانعدمت فيه المتابعة، كما يبتدعه الناس من الأعمال التي يقصد بها أصحابها المبالغة في التعبد لله تعالى، ويخلصون فيها لله، ولكنها زيادة على ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست اتباعاً له، فهذا النوع من الأعمال لا ينفع في الدنيا قطعاً؛ لأن صاحبه قد خالف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، لكنه ينتفع به في الآخرة بأجر نيته فقط، لا بأجر العمل ذاته، فإذا نوى التقرب إلى الله سبحانه وتعالى والخوف منه، فإن خشيته ولو مع المعصية تنفعه، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن رجلاً كان فيمن قبلنا، كان عاصياً لله تعالى، ولم يعمل خيراً قط، فلما أدركه الموت جمع أولاده فأخذ عليهم العهود والمواثيق إذا هو مات، أن يحرقوا جثته، وأن يقسموا رماده نصفين، فيذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، قال: فلئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين -يشك في قدر الله- فلما مات صنعوا به ما أوصى، قسموا رماده نصفين، وذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فأمر الله البر، فجمع ما فيه، والبحر فجمع ما فيه، فقام بشراً سوياً فقال له: أي عبدي! ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب، فغفر له )، فالخشية هنا اقتضت المغفرة من عند الله سبحانه وتعالى، لهذا الشخص الذي كان صادقاً في الخشية، وإن كان عاصياً في الفعل، ففعله وعمله لا خير فيه، ولكن مع ذلك كان صادقاً في نيته، فتقبل الله منه، وقد صح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه لما ذهب إلى الشام لفتح بيت المقدس، رأى الرهبان في الأديرة يبكون ويتعبدون، فبكى عمر بكاءً شديداً، وقرأ آيات سورة الكهف: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا[الكهف:103-105].
قال تعالى: تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:4]، تَصْلَى [الغاشية:4]، أي: تدخل النار، والصلاء في الأصل تسخين الشيء، فـصلّى العود على النار، وأصلاه عليها إذا سخنه عليها؛ ليقومه، والمقصود بذلك: دخولها النار، نسأل الله السلامة والعافية، وذلك أن هذه الوجوه تغشاها النار أول ما تشاهدها كما قال الله تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ [الأعراف:8-9]، تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون:104]، لذلك قال الله تعالى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:24]، والنار تشمل ما يراه الناس منها في المحشر، حين يؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، وما يرونه ويشاهدونه عند دخولهم النار، فإنها تسفع بلهبها الوجوه، وقد سماها الله تعالى: لَوَّاحَةٌ للْبَشَرِ[المدثر:29] و(اللواحة): التي تزيل الجلد وتأكله، و(البشر)، الجنس واحدته بشرة، أي: ما يبدو من الجلد، فيشمل ذلك وجه الجلد، فإن النار تأكله بسرعة هائلة، فهذا ما سميت به: لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ [المدثر:29].
وهذه النار، وصفت هنا بقوله: حامية، والحامية الشديدة الحر أو البرد، فهي تحمي الداخل فيها من الخروج، وتحمي الخارج من الدخول؛ لشدة حرها، ولشدة بردها، بحسب طبقاتها، وأنواعها، ففيها الجحيم وفيها الزمهرير، والجحيم: شديد الحر، والزمهرير: شديد البرد.
قال تعالى: تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية:5]، تُسْقَى [الغاشية:5]، أي: يسقى أصحابها، وأطلقت الوجوه هنا على الناس قوله: مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية:5]، (( مِنْ عَيْنٍ )) وهي مكان الماء وعين الماء، والآنية المتغيرة، وذلك بماء النار الذي خالطه عرقهم وصديدهم، وهو الذي يسمى بالغسلين، نسأل الله السلامة والعافية، فمنه يشرب أهل النار، وهذا الماء: يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الحج:20]؛ لشدة حره، فلا يزيدهم إلا ظمأً، ومع ذلك لا يتخلصون من أنفسهم، فلا موت لهم، بل مع كل ما يحصل من الاحتراق، وأكل النار لأجسامهم، تنبت وتعود في نفس اللحظة، قال تعالى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56].
قال تعالى: لَيْسَ لَهمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ [الغاشية:6]، هذا فيما يتعلق بشرابهم، أما أكلهم وطعامهم، فقد قال فيه: لَيْسَ لَهمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ [الغاشية:6]، ولم يقل في الشراب: ليس لهم شراب إلا من عين آنية؛ لأن هذا الشراب محيط بهم؛ إذ هو عرقهم، وصديد أجسامهم، أما الطعام، فقد قال فيه: لَيْسَ لَهمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ [الغاشية:6]، أي: ليس لهم أي نوع من أنواع المآكل، إلا الضريع، وهو النبات الخبيث الشديد الملوحة.
لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ [الغاشية:7]، لا يُسْمِنُ [الغاشية:7]، ما يأكلونه من هذا الضريع، وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ [الغاشية:7]، أي: لا يحقق أية رغبة، فلا يسمن الأبدان، فأبدانهم قد انتفخت، وعظمت لدخول النار بذاتها، فلا يسمنها ذلك الضريع، وكذلك لا يغني من جوع، فيعذبون بالجوع الشديد، وهو ضرب من عذاب أهل النار، كما يعذبون بالعطش أيضاً.
أما القسم الثاني من الناس: فهو المذكور في قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ [الغاشية:8]، ولم يعطفه على القسم السابق؛ لئلا يتوهم دخوله فيهم، فهو قسيم له، لا قسم منه، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ [الغاشية:8]، أي: تظهر عليها نضرة النعيم، وذلك باستبشار الناس عندما يرون مقاعدهم من الجنة، وللإنسان مواقف للاستبشار، فعند الموت يبشر المؤمن بحسن خاتمته، وبعد سؤال الملكين يبشرانه، حين أجاز الامتحان، فيقولان له: صدقت وبررت نم نومة العروس، ويرى مقعده من الجنة، وعند العرض على الله سبحانه وتعالى كذلك، ينور الله وجوه المؤمنين، ويطمس وجوه الكافرين، وعند أخذ الصحف فالمؤمن يتلقى كتابه بيمينه أمام وجهه، والمنافق أو المرتاب أو الكافر يتلقى كتابه بشماله وراء ظهره، ويستبشر المؤمنون بأخذ كتبهم تلقاء وجوههم بأيمانهم، ولهذا يقولون: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:19-24]، ويحزن آخر كتابه بشماله نسأل الله السلامة والعافية غاية الحزن: فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:25-29].
وكذلك عند ما يجتاز المؤمن الصراط فينجو منه، يفرح بذلك فرحاً شديداً، فيبيض وجهه من الفرح، لما رأى من هول جهنم، وهو يمر عليها، وكذلك عند دخول الجنة، إذا فتحت أبوابها وغشيهم من روحها وريحانها، فذلك نضرة الوجه، ثم بعد هذا ما تزدان به وجوههم، وتزداد نضرة عندما يستزيدهم ربهم سبحانه وتعالى في الجنة، والناعمة المتصفة بالنعيم، والمقصود بذلك: بدو نضرة النعيم على الوجوه.
قال تعالى: لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ [الغاشية:9]، (( لِسَعْيِهَا )) أي: لجزاء سعيها، وربحه، (( رَاضِيَةٌ )) فإن السعي: العمل، والمقصود به هنا العمل الصالح الذي عمله الإنسان في الدنيا، يضاعف أضعافاً مضاعفة، والله سبحانه وتعالى يضاعف الحسنات إلى عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعفٍ إلى أضعاف كثيرة، والله يضاعف لمن يشاء، وهذا هو الربح الذي ليس معه خسارة، وقد قال الله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245]، ولذلك تفرح وجوه أهل السعادة يوم القيامة بجزاء العمل فترضاه، فقوله: لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ [الغاشية:9]، أي: لجزاء سعيها ولربحه ومضاعفته راضية.
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ [الحاقة:22]، أي: مقرها الذي ستستقر فيه هو الجنة العالية، أي: المرتفعة، وقد يقصد بذلك ما في الجنة من العلالي، والأماكن المرتفعة، وهي الغرف التي من تحتها غرف، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم تفاوت أحوال الناس فقال: ( إن أهل الجنة يتراءون الغرف، كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري في السماء )، لشدة تباعد منازلهم فيها، ويمكن أن يكون المقصود أن الجنة كلها عالية، فأسفلها عالٍ أيضاً لا محالة فهي أعلى من النار، فالنار في الأسفل، والجنة في الأعلى.
قال تعالى: لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً [الغاشية:11]، أي: لا تسمع تلك الوجوه في الجنة لاغيةً، أي: كلمة لاغية، وهي الكلمة التي لا خير فيها، فكلما تسمعه من الكلام هو الكلام الطيب الذي تزداد به هناءً ونعيماً، فلا يكدر شيء من ذلك النعيم، فما ينعم له الإنسان من أمور الدنيا، مكدر بأنواع الكدر، فإذا تم للإنسان مراده في الدنيا، فتكدير ذلك بالملل، فلا يمكن أن يبقى ذلك على كل الأحوال، بل لا بد أن يمله الإنسان، إذا أعجب الإنسان الاضطجاع، واستراح به، فسيمله، وإذا أعجبه الجلوس واستراح به فسيمله، وإذا أعجبه طعام أو شراب أو غير ذلك، لا بد أن يمله، وأيضاً فشهوات الدنيا كلها منقطعة، لا يمكن أن تدوم إلا مدةً يسيرة، ولا بد أن تنغص بمنغصاتها، أما نعيم الآخرة فلا انقطاع فيه ولا زوال، بل قد قال الله تعالى: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة:25]، فاللذة الأولى التي ينالها الإنسان عندما يصل إليه من روحها وريحانها، تستمر معه ولو جاء بعدها مليارات اللذات، كل لذة تبقى كما هي دون انقطاع، وما بعدها يتجدد أيضاً دون انقطاع.
فلذلك لا يسمع الإنسان فيها أي مكدر، ولا يسمع فيها لوماً، ولا يسمع فيها تأثيماً، ولا يسمع فيها تكذيباً، ولا أي كلامه يكرهه، وفي القراءة الأخرى: لا تُسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً [الغاشية:11]، ببناء الفعل للمجهول، فِيهَا [الغاشية:11]، أي: في الجنة، لاغِيَةً [الغاشية:11]، أي: كلمة لاغية، أي: لا خير فيها، والمعنى واحد.
قال تعالى: فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ [الغاشية:12]، (فيها) أي: في الجنة، عَيْنٌ جَارِيَةٌ[الغاشية:12]، وكل جنة بحسبها، فأعلى الجنان فيها عين جارية، ومن دونها جنة أخرى، فيها عين نضاخة، وهذا الفرق بين الجنان العالية، وبين الجنان النازلة، فالجنان العالية: العيون فيها جارية، والجنان النازلة: العيون فيها نضاخة، أي: ينبض منها الماء ثم يتوقف، ثم ينبض.. وهكذا، أما الأخرى فماؤها جارٍ دائماً من مستوى واحد كما هو.
وذلك بمائها المعين الزلال العذب، وإنما يشترك مع ماء الدنيا في الاسم فقط، فقد قال ابن عباس : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء. فكلما ذكر من الغرف والمياه والعسل والخمر واللبن والماء وغير ذلك، إنما يشترك مع ما في الدنيا في الاسم فقط أي: أن ما في الدنيا يسمى بهذا الاسم، وأن ما في الجنة يسمى بهذا الاسم، لكن شتان بينهما فلا يشبه شيء مما في الدنيا ما في الجنة، إنما يشترك معه في مجرد الاسم.
فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ [الغاشية:12]، والمقصود بهذه العين: تنوعها، فهي أنهار وهي متنوعة، فمنها الماء غير الآسن الذي لم يتغير، واللبن كذلك الشديد البياض الذي لم يتغير طعمه، والعسل المصفى، والخمر، التي لا يصدعون عنها ولا ينزفون، لا يُصَدَّعُونَ [الواقعة:19]، أي: لا يأخذهم الصداع لشربها، ولا لتركها، وَلا يُنزِفُونَ [الواقعة:19]: أي لا يسكرون إذا شربوها، وهي الشراب الطهور، فليست كخمر الدنيا التي هي نجس، قال الله: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21]، والطهور المطهر لغيره، وذلك مبالغة في طهارته ونظافته، فلا يطلق الطهور إلا على ما بولغ في نظافته، ولذلك سمى الله تعالى الماء المنزل في المطر بالطهور، فقال: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48]، فهو فعول للدلالة على المبالغة في طهره ونظافته، ومنه قول الشاعر:
خليلي هل في نظرة بعد توبةً أداوي بها نفسي علي فجور
إلى رجح الأكفال غيد من الظبا عذاب الثنايا ريقهن طهور
فذلك للمبالغة في الطهارة..
قال تعالى: فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ [الغاشية:24]، هذا يدل على أن العذاب ينقسم إلى ثلاثة أقسام: عذابٍ أدنى، وعذاب هونٍ، وعذابٍ أكبر، فالعذاب الأدنى، هو عذاب الدنيا، والغضب الذي يصيب المكذبين، كالطوفان الذي أصاب الذين كذبوا نوحاً، وكالريح التي أصابت الذين كذبوا هوداً، وكالصيحة التي أصابت الذين كذبوا صالحاً ، وكالحاصب الذي أصاب الذين كذبوا لوطاً، وغير ذلك، فهذا هو العذاب الدنيوي، وهو ثلاثة أقسام كما قال الله تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65]، فهذه ثلاثة أقسام: العذاب المنزل من السماء، والعذاب الخارج من الأرض، والعذاب في الوسط، وهو بتسليط بعض الناس على بعض.
ثم العذاب الأوسط: هو عذاب القبر، نسأل الله السلامة والعافية، ثم العذاب الأكبر هو عذاب النار، عذاب القيامة عائذاً بالله.
والعذاب: كل مؤلم ينال الإنسان سواءً كان في الحسيات، أو في المعنويات، ولذلك قال امرؤ القيس :
خليلي مرا بي على أم جندب نقضي لبانات الفؤاد المعذب
فهذا تعذيب في المعنويات لا في الحسيات، وقد فسر بذلك قول الله تعالى في قصة سليمان عليه السلام في تهديده للهدهد: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [النمل:21]، فقيل: التعذيب الذي تهدد به سليمان الهدهد هو الحبس مع غير الجنس، فالهدهد طائر لا يمكن أن يعذب بالضرب؛ لأنه يؤدي إلى موته، وإنما تعذيبه حينئذٍ في المعنويات، لا في الحسيات، وهو حبسه مع غير جنسه.
قال تعالى: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية:25-26]، هذا غاية في الوعيد الشديد والتهديد؛ إذ قال: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ [الغاشية:25]، أي: إن مرجعهم إلى الله سبحانه وتعالى، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:95]، وهم منطلقون إليه سبحانه وتعالى، أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى:53].
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية:26]، أي: بعد إيابهم إليه سبحانه وتعالى، يحاسبهم على أعمالهم، فيثيب المطيع على طاعته، ويعاقب المسيء على إساءته، وهو الحكم العدل.
وهذا يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له من الحساب شيء ولا عليه منه شيء، وأن كل إنسان إنما يحاسب وحده على أساس عمله، وذلك بأقدس المبادئ وأقدمها، وهو: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى [النجم:36-41]، لهذا قال: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية:25-26]، فحساب البشر جميعاً على الله سبحانه وتعالى، والله سريع الحساب، وهذا الحساب يتفاوت بتفاوت الأشخاص، فمن الناس من يناقش الحساب، ومناقشة الحساب تطول ببعض الناس، وبعضهم يحبس للمناقشة مئات السنين، وبعضهم دون ذلك، ومنهم من يحاسب حساباً يسيراً، فيبسط الرب كنفه على عبده، فيقول: أي عبدي! أتذكر يوم كذا إذ فعلت كذا، وكنت قد نهيتك عنه؟ فيقول: نعم يا رب! وكنت قد نسيته، فيقول: لكنني لم أنسه، ثم يتجاوز الرب سبحانه وتعالى عمن شاء التجاوز عنه من عباده، فأولئك الذين يحاسبون حساباً يسيراً، وينقلبون مسرورين إلى أهليهم.
وأما من سواهم من الذين يناقشون الحساب، فإن مناقشة الحساب في حد ذاتها عذاب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من نوقش الحساب عذب ).
وهذا الحساب ينقسم إلى قسمين: إلى حساب للأعمال، وحساب في النعم.
فالحساب في الإعمال: أن يوقف الإنسان على أعماله، حتى يقر بها جميعاً، وهو يأتي يحمل طائره في عنقه، وقد كتب فيه عمله كله، ويأتي معه سائق من الملائكة، وشهيد من الرسل، فيشهد عليه بما عمله.
والحساب الثاني: هو حساب النعم، أن يحاسب الله العبد على ما أنعم به عليه من أنواع النعم التي تستحق الشكر، وهو قيدها، فإذا كان أوتي مالاً فلم يصرفه في طاعة الله، أو أوتي وقتاً فلم يصرفه في طاعة الله، أو أوتي شباباً وقوةً فلم يصرف ذلك في طاعة الله، فسيحاسب على تلك النعم كلها، فيحسب عليه لحظات سمعه، ولحظات بصره، وكذلك دقائق سعيه، وحركته، وتصرفه كله، فكل ذلك يحاسب عليه ابن آدم، ويُسأل عن هذا النعيم الذي يتنعم به في الحياة الدنيا، قال تعالى: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8]، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر من ذلك: الماء البارد، وأكل الرطب، واللحم، فهذا من النعيم الذي يسألون عنه يوم القيامة.
بارك لله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وتاب علي وعليكم، إنه هو التواب الرحيم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر