بسم الله الرحمن الرحيم
نبدأ إذاً بما بدأ الله به، نبدأ بكتاب الله سبحانه وتعالى، وكتاب الله يتعلق به كثير من العلوم الإسلامية من أهمها: علم حفظه وأدائه، ثم علم تفسيره، ثم علوم القرآن، ثم بعد ذلك علم القراءات، ويضاف إليها علم الرسم الضبط.
ولنبدأ بحفظ القرآن: لا شك أن الذي يحفظ القرآن يحتاج إلى مهارات عديدة لذلك وهذه المهارات التجربة الإسلامية فيها كفيلة بأن يتجنب الإنسان كثيراً من الأخطاء التي وقع فيها كثير من محفظي القرآن السابقين.
فالذين يشرفون على حلقات تحفيظ القرآن أو يباشرون تدريس الصبيان وتحفيظهم لهم رصيد كبير من تجارب العالم الإسلامي في هذا الباب وهذه التجارب كثير منها أصبحت محل هزئ وسخرية لدى الناس، فقد ألف كثير من المؤلفين فيما يتعلق بطرائف محفظ القرآن، فيذكرون أن رجلاً رأى في النوم أنه يمضغ الحصى، فأتى ابن سيرين فسأله عن ذلك، فقال: تكون معلماً للصبيان، فيجد بذلك شدة وعنتاً وتعباً؛ لأنه يحتاج إلى مهارة تجعله يتنازل عن عقله حتى يجعل عقله على مستوى عقول الصبيان هذا الذي يتصوره كثير من الناس.
وقد ذكر ابن الجوزي في المغفلين أنه رأى مدرس قرآن يكتب لصبي: (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً وأكيدُ كيداً، فقال: ما هذا؟ مالك تدخل له السورة في السورة؟ قال: إن أباه يدخل الشهر في الشهر، فأردت أن أدخل له السورة في السورة).
وكذلك فإن تصرفات الصبيان غير منضبطة، والذي يدرسهم القرآن لابد أن يعرف مهمته أولاً، هل مهمته أن يجعل من الصبيان شيوخاً أصحاب وقار على كبر سن، أو يريد أن يحفظهم، وأن يعلمهم الأدب بالتدريج.
فإذا أراد أن يجعلهم أهل وقار وسكينة فسيصل إلى مستوى من العنت يقرب من الجنون؛ لأنه سيراقب حركاتهم وسكناتهم وتشق عليه غاية المشقة فهم في نشاط أجسامهم وحداثة أسنانهم وسفاهة أحلامهم بمثابة الفرخ الذي يطير.
ومن هنا على الإنسان أن لا ينزعج من حركاتهم وكثرة تصرفاتهم، وأن ينظر إليهم على أن مهمته ليست ضبط حركاتهم وسكناتهم وإنما هي توصيل المعلومة لديهم وتحبيب هذه المادة إليهم.
ومن هنا يبحث عن وسائل التحبيب أولاً ليمتلك بها نفوسهم، ومن أهم وسائل التحبيب: شخصيته هو، أن تكون شخصيته محترمة لدى هؤلاء الصغار بأن لا يروا فيه نزقاً ولا خسة ولا طيشاً؛ لأنهم إذا لمسوا ذلك من مدرسهم فسيحتقرونه وبالتالي يحتقرون المادة من ورائه.
فالذي يعاقبهم على كل حركة وكل سكون سيكرهونه، والذي يجاريهم فيها أيضاً سيحتقرونه، فلابد أن يكون الإنسان وقوراً في نفسه، محترماً، وأن تكون ألفاظه مهذبة.
ومع الأسف فإن كثيراً من مدرسي القرآن يكتسب منهم الصبيان الكلمات النابية، ويتعلمون منهم سوء الأدب في الكلام؛ ولذلك فقد كان الخلفاء يختارون المدرسين الأكفاء لأولادهم؛ ولذلك جمع بعضهم أدب المؤدب وألف فيه كثير من الناس، تجدون في كتاب المستطرف مثلاً: ما يتعلق بأدب المؤدب، كذلك في مؤدب أولاد هارون الرشيد فقد اختار لهم مؤدباً ظريفاً لقناً، فاستطاع أن يجعل من نفسه قدوة لدى هؤلاء الصغار.
خرج في الحج مع الرشيد بأولاده وهو مؤدبهم فأتوا المدينة، ومن عادة هذا المؤدب أن يجعل نفسه كأنه عالم بكل شيء في نظر الأولاد فإذا سألوه عن أي شيء وجدوا لديه الجواب الشافي في ذلك، فإذا أتى أيَّ مدينة أو أية محلة ذهب ليتطلع إليها ويعرف أمورها ثم بعد ذلك يأخذهم في جولة ويعلمهم هذه الأمور كأنه كان يعلمها من قبل.
ولكنه مع هذا أدبهم على أن لا يبادئهم بعلم قبل أن يسألوه عنه ليروا فيه إقبالاً على الشيء وجذبه لهم، فأتوا المدينة فتعرف على دورها، فخرج معه الأمين والمأمون في رحلة في المدينة، فكان إذا مر ببيت أو حصن سألوه فأجباهم، قال هذا حصن كذا أو هذا بيت فلان، وتعرفون من فلان، فيتكلمون عما حصل في هذا الحصن وما لديهم من المعلومات عنهم ويتممها لهم ويصحح لهم أخطاءهم في هذا، حتى مروا ببيت فقال: هذا بيت عاتكة الذي يقول فيه الأحوص:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل حذر العدى وبه الفؤاد موكل
فانتبه المأمون لهذا الأمر، وعرف أنها بادرة جديدة؛ لأن المؤدب لم يكن يبادءهم بأمر، ولماذا يختار هذا البيت الذي هو مطلع قصيدة غزلية ليعلمهم به بيتاً من البيوت ليس له خاصة، وعاتكة لا يعرفونها ولا يعرفون من هي؟!
فرجع إلى أصحابه فسألهم عن هذه القصيدة من شعر الأحوص فوجدها فإذا آخر بيت فيها:
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم مذق الحديث يقول ما لا يفعل
فعرف أن هذا البيت هو بيت القصيد، فأتى والده فقال: هل وعدت المؤدب بعدة لم تنجزها؟ قال: نعم، فهل أخبر بما يدل على ذلك؟ قال: لا، ولكننا خرجنا معه وكان لا يحدثنا إلا إذا سألناه، فمررنا ببيت فقال: هذا بيت عاتكة الذي يقول فيه الأحوص:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل حذر العدى وبه الفؤاد موكل
فلم أعرف وجه إنشاده للبيت، فرجعت إلى القصيدة فوجدت فيها قوله:
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم مذق الحديث يقول مالا يفعل
فأعجب هارون بذلك، فأنجز العدة للمعلم وضاعفها، وأعجب بولده كذلك حين فهم هذا الفهم.
ونظير هذا ما حصل لـأبي العلاء المعري في مجلس أحد الأمراء، فقد كان أبو العلاء معجباً بـأبي الطيب المتنبي إعجاباً شديداً، كان يتعصب له، وكان أمراء ذلك الزمان يمقتونه؛ لأنه يتعالى عليهم ويتكبر، فتكلم الأمير في المتنبي وعابه وذمه، فوصل الكلام في الحلقة إلى المعري فسألوه عن رأيه في أبي الطيب فقال: لم يكن له من الشعر إلا قوله:
لكِ يا منازل في القلوب منازل أقفرتِ أنتِ وهن منكِ أواهل
لكفته هذه القصيدة، ففكر الأمير لحظة فإذا القصيدة ليست من عيون شعر المتنبي، فعرف أنه يقصد بيتاً فيها، فأمرها على ذهنه فوجد فيها:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل
فأمر به فجر برجله حتى أخرج من المجلس، فلم يشعر الحاضرون بذلك ولم ينتبهوا له، وإنما انتبه له الأمير لحدة ذهنه.
ولذلك فينبغي أن لا يختار لتدريس الأولاد إلا من كان ذا ذهن ونباهة، فالتحفيظ إذاً يختار له أهل الذهن والنباهة ومن كان خلوقاً مرناً؛ لأنه الذي يستطيع التأثير عليهم بهذا الوجه.
أن يعلم الذي يدرس الأولاد أنهم ليسوا حجارة ولا حديداً ولا يستطيع تكييفهم وفق هواه وبالتالي لابد أن يجعل لهم وقتاً للراحة وأن يقبل منهم الاعتذار في بعض الأحيان، وإن كان يجد معهم فلا يقبل العذر أيضاً في أحياناً أخرى، وأن يجعل لهم وسيلة للترفيه تحبب إليهم الدراسة أياً كانت هذه الوسيلة، وأن لا يكثر من ذلك أيضاً حتى يكونوا غير جادين ويتربوا تربية غير جادة.
كذلك فيما يتعلق بالحفظ: أن لا يشق عليهم بالإكثار منه فلابد أن يختار المقاطع القليلة، وليحاول كذلك أن ينبههم على بعض الاستنباطات منها أو شرح الكلمات الغريبة أو ذكر أسباب النزول والقصص أو ما يحبب إليهم حفظ ذلك من المسابقات والمنافسات ونحوها.
التشجيع والتأديب، فالتشجيع بإعطاء الجوائز والتقبيل والدعاء والتنويه بالحافظ أمام زملائه وتقديمه عليهم، والتأديب يكون على قدر الجِرم والجُرم، يشمل أمرين: يكون على قدر الجِرم وقدر الجُرم، فالقوي الشديد المتين تأديبه ليس مثل تأديب النحيف الضعيف؛ لأن جرمهما مختلف، وكذلك الجُرم الذي يعبث بالمصحف ويلعب به هذا ذو جرم عظيم، والذي أخطأ في كلمة وتتعتع فيها هذا جرمه دون ذلك.
ومن هنا قال أهل العلم: ينبغي أن لا يزيد على ثلاث ضربات أو ثلاث غطات للتعليم في كل درس؛ لأن جبريل عليه السلام إنما غطى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً ولم يتعد ذلك؛ ولهذا قال شيخي رحمه الله:
يؤخذ بالتثليث غط أحمد عند ابتداء وحيه بادي بدأ
أن لا يزيد الضرب للصبيان على ثلاثة لدى الزرقاني
ذكرها الزرقاني في شرح الموطأ.
كذلك فيما يتعلق بالتحفيظ ينبغي للمحفظ أن يكون حسن الصوت؛ لأن العواطف يشدها الصوت الجميل الحسن، فإذا قرأ أمامهم فإنهم سيتنافسون على محاكاة صوته، ويستعديهم ذلك إلى اتقان مهارات التجويد، فالذي صوته مزعج بذاته لا يصلح لهذه المهنة، وهو منفر لمن يتعلم من الصبيان.
ينبغي لمن يشتغل بتحفيظ القرآن أن يتقن المقاطع التي فيها اشتباه، فيعرف مواضعها وينبه الطلاب على ذلك؛ لأن القرآن فيه كلمات متشابهات يكثر فيها الخطأ، وألفية السخاوي رحمه الله جمعت كثيراً من هذه المواطن.
من المهارات المهمة فيما يتعلق بتحفيظ القرآن: أن ينبه الطلبة على وقار القرآن في كل درس وعلى الإخلاص فيه لله، وأن يرى خاشعاً، وإذا سمع قارئاً منهم يقرأ يتأدب هو بأدب السامع للقرآن حتى يروا منه ذلك الأدب ويروا فيه ذلك الخشوع فيحاولوا محاكاته في ذلك.
وأيضاً ينبغي أن لا يكثر من الطلاب فكل شخص له مقدرة محددة كيف يكون المحفظ الواحد يحفظ سبعين طالباً أو خمسين طالباً هذا لا يمكن، لا بد أن يختار مجموعة يسيرة يستطيع التأثير عليهم، ويستطيع ملاحظتهم، ويستطيع أن يسمع من كل واحد منهم درسه.
وأيضاً: أن يعلم المحفظ أن كثيراً من الناس قد يحفظ بالمرة الواحدة حفظاً سريعاً وما حفظ سريعاً ينسى سريعاً فلا يغتر بذلك، فالذي يحفظ بالمرة الواحدة أو المرات القليلة أرجعه وحاول أن تثبته على كثرة القراءة ومراجعة النص حتى يرسخ لديه؛ لأن ما حفظ بسرعة ينسى بسرعة.
وكذلك عليه أن يجعل الرجوع إلى المتن وعدات بين فلا يجعل المتن مظلاً، فإذا حفظ درسه في الصباح يحاول أن تعيده إليه في المساء، وأن تعيده إليه في صباح اليوم اللاحق أو مسائه وقت الحلقة الأخرى ولا تتعجل؛ لأن ذلك التعجل مضر به.
وأيضاً محاولة ربط كل درس بالذي قبله لئن لا يبقى الدرس منقطعا ًفي ذهن الطالب، فإذا وصل نهاية الدرس كان عقبة لديه كؤود لا يدري ماذا وراءها فلابد من المهارات المتقنة، وهذا داخل فيما ذكرناه من قبل من اختيار المقطع المناسب.
والناس في هذا قرائح متفاوتة فمنهم من يستطيع أن يحفظ في الحلقة الواحدة ثمناً، أي ثمن الحزب ومنهم من يستطيع ثمنين ومنهم من يستطيع أقل من ذلك وهكذا.
والمقطع المناسب الأنسب لأكثر الناس هو عشر آيات من الآيات القصار أو المتوسطة؛ لحديث عبد الرحمن السلمي أخبرنا الذين كانوا يعلموننا القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما كنا نقرأ عشر آيات ونتجاوزها حتى نتعلم ما فيها من العلم وحتى نعمل بها، قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل ).
كذلك عليه أن يحاول الاستعانة بوسائل تعليمية أخرى إما بسبورة أو بألواح يكتب فيها أو بأشرطة يستمع إليها أو نحو ذلك فهذه المحفزات تعينه وترسخ الحفظ في أذهان الطلاب.
وكذلك التشجيع بالرواية والسماع والإجازة، فالذي يرجى فيه أن يحفظ القرآن يقول له: إن شاء الله تحاول أن تكمل خلال شهرين أو ثلاثة أشهر أو هذه السنة حفظ القرآن كاملاً، ويكتب لك في الإسناد تروي عني كتاب الله وهكذا، يشجعهم بمثل هذا، هذا مما يزيدهم إتقاناً.
ثم بعد هذا يحاول أن ينافس بين الطلاب، أن يعقد بينهم المنافسة دائماً، فكثيراً من الطلاب إذا شعروا بأنهم مهملون وبأنهم في آخر القائمة وفي آخر الركب رضوا بذلك ولم يتقدم شيئاً يذكر، وكثير من الأساتذة لا يعتني بهؤلاء المخلفين ويراهم مثل المتردية والنطيحة وما أكل السبع ومن هنا لا يهتم بهم.
والواقع أن المعلم يجب عليه الاهتمام بطلابه على حد السوء ولا يحل له تفضيل بعضهم على بعض فلذلك يحاول تشجيع أولئك وليعرف نقاط الضعف التي لديهم هل هي نقاط راجعة إلى البيت فهؤلاء أعانهم آباؤهم وأمهاتهم على الحفظ والآخرون لم يعنهم أحد وحينئذٍ عليه هو أن يسد لهم هذه الثغرة، أو هي أمور فطرية راجعة إلى ملكاتهم وحينئذٍ يحاول تحريك الملكات بما يستطيع، أو هي أمور راجعة إلى أحوال نفسية بالتعاملات والأزمات والمشكلات النفسية التي تحصل للطلاب، فالطالب قد يشق عليه حفظ سورة معينة فينغلق ذهنه دونها، وحينئذٍ تستطيع أن تتجاوز به تلك السورة إلى سورة أخرى سهلة، فإذا حفظها بسهولة ويسر أعانه ذلك عند الرجوع للسورة الأخرى فيتقنها.
وطرق الناس في هذا متباينة بحسب أوقاتهم وأزمنتهم، والناس في زماننا هذا شغل أولادهم بالدراسة في المدارس فلم يعد الوقت الصافي المختار جاهزاً لتحفيظ القرآن، وحينئذٍ أصبح تحفيظه مهمة مقسوماً بين أهل البيت وبين صاحب الحلقة ومعلم القرآن، هذا عن تحفيظ الصغار.
أما عن تحفيظ الكبار فهو مهمة لا تقل شأناً عن سابقتها، وعلى الإنسان فيها أن يبعث الأمل في نفوس الكبار؛ لأن كثيراً منهم تنغلق مجال الأمل لديه فلا يستطيع الحفظ ويظن أنه لم يعد من أهل القرآن ولا يمكن أن يكون من حفظته في المستقبل ويتوقف شأنه عند هذا الحد، وهذا غلط في التصور؛ لأن القرآن منحة ربانية يهبها الله لمن شاء من عباده لمن جد وبذل جهداً وأخلص لله، وبالتالي فالرجاء مطلوب شرعاً والقنوط مذموم، وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ [الحجر:56].
ومن هنا ما من أحد قد حكر عليه القرآن وحجر عليه لا يستطيع أن يحفظه، بل قد قال الله تعالى: وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً [الإسراء:20]، فيحاول بعث الأمل في نفوسهم، وتشجيعهم على تنظيم أوقاتهم؛ لأن الذي يحول بين الكبار وبين حفظ القرآن في الغالب راجع إلى الوقت.
ثم محاولة أن لا يأخذه جزافاً أن يكون كابحاً في وجوههم يمنعهم من أخذ الكثير، يقول للكبير أنت مشغول بعملك ووظيفتك وعيالك وأهلك فلا تأخذ صفحة كاملة، بل نصف الصفحة فقط في الأسبوع، وإذا حفظتها فقد نجحت في الامتحان ولا يحاول المشقة عليهم وإزعاجهم.
وكذلك محاولة تنبيههم أيضاً إلى ما نبه عليه الصغار من الإخلاص لله ومن التفهم في القرآن والتدبر فيه وربط المعلومات السابقة باللاحقة، وإصلاح ما كان لديهم من الأخطاء في النطق أيضاً، الكبار إصلاح نطقهم وتجويدهم لمخارج الحروف وصفاتها أصعب بكثير من إصلاح ذلك عند الصغار، حتى النغمات الصوتية فالصغار يستطيعون محاكاتها والكبار يشق عليهم ذلك بل لا يستطيعونه أصلاً.
ومن هنا يحتاج المعلم للكبار أن يوجد من نفسه رحمة لديهم، فيحاولوا أن يجدوا فيه قرآناً يمشي يتخلق لهم بأخلاق القرآن ويحببه إليهم، يشجعهم على تعليمه، يتصل بهم في بيوتهم، يذكرهم بالدرس الذي لديهم.
وكذلك يحاول تشجيع من تقدم في القرآن بذكر الإجازة والإسناد وبذكر الفضل الكبير الوارد في ذلك وببيان منزلة الذين يحفظون القرآن ويعلمونه.
وبمحاولة إهداء بعض ما يعينهم على ذلك من الأشرطة أو من الكتب التي فيها تفسير المفردات أو من المصاحف أو نحو هذا من الأمور التي تعين وتشجع هؤلاء الكبار على الازدياد من حفظ كتاب الله.
كذلك على معلم القرآن سواءً اشتغل بتعليم الكبار أو بتعليم الصغار أن يوازن بين أمرين: بين حفظ المستجد، وتثبيت ما كان قد وجد، فلديه مستجد قد حفظه الطالب الآن، وشيء كان يحفظه فإما أن تستجد وتحفظ شيئاً جديداً وتنسى ما مضى وإما أن تحافظ على الماضي فيقل حفظك للجديد، عليه أن يوازن بين الأمرين، كثيراً من الناس يشغل الطلاب بحفظ شيء جديد وينسى ما كانوا قد حفظوه فيذهب ويكونوا كالعلب المخروقة يصب فيها ولا تمتلئ كلما صب فيها خرج من مكان آخر، وهذا النوع خطأ في التعليم بل عليه أن يعلم أن حفظ الموجود أولى من طلب المفقود، ومن هنا فلابد من تخصيص وقت لابأس به لمراجعة الماضي، وأن لا يعمد الأستاذ في مثل هذا إلى القياس؛ لأن هذا الطالب مثلاً حفظه جيد معناه أن زملاءه كذلك أو حفظه لهذه السورة جيد معناه أن حفظه للتي تليها كذلك هذا لا ينفع، ومن هنا فالامتحانات التي تأتي في المدارس لا تكون محيطة بسماع المقرر وإنما يختار منه أماكن مثلاً خلط عشواء تارة يصيب فيها الطالب فتارة يحفظه ويجيده فيأخذ العلامة كاملة وتكون ما سوى ذلك المكان غير مفهوم لديه، وتارة يصيب أيضاً آيات لديه فيها بعض التعثرات فتنتقص درجاته والواقع أنه متقن لما سواها، فلابد من العدل في مثل هذا وأن لا يقيس الإنسان في هذا الباب بل لابد من سماع الجميع.
ومن هنا فعلى الذي يدرس القرآن أن لا يضجر بتعليم الناس، فقد كتب عمر في كتابه إلى أبي موسى: (وإياك والضجر) فإذا ضجر الإنسان بتعليم الكبار فإن ذلك مدعاة لتركهم لهذا بالكلية، يجلس إليك من يريد كتاب الله ويريد مائدة الله في الأرض ويريد أن تكون أنت وسيلته لهذا الشيء، فإذا وجدت منه خطأً يتردد على لسانه وصعب عليك انتزاعه منه قابلته بالشدة والقسوة فيكون ذلك رادعاً له عن تعلم القرآن أصلاً، فما الذي حمله على أن يذل نفسه؟ سيترك هذا. لكن إذا كنت في كل مرة تبتسم في وجهه وتقول: ( الذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق ممن يؤتى أجره مرتين ) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وتحاول معه الرجوع إلى تلك الكلمة بوقت وتسمعه إياها من قرأتك أنت عدة مرات، تسمعه إياها في الشريط، تنبهه على مخارج الحروف وصفاتها، تكثر من سؤاله عن الكلمة التي يغلط فيها دائماً كي ينتبه لها، هذا مما يعينه على الحفظ والاستمرار فيه.
هذه بعض مهارات للذين يشتغلون بتحفيظ القرآن.
السؤال: لو كان الواحد مثلاً يحفظ نصف الصفحة في الأسبوع وصفحات المصحف ستمائة صفحة يعني أنه لن يحفظ القرآن إلا في فترة طويلة؟
الجواب: هذا في البداية وهو امتحان لجده وطلبه فإذا استطاع ذلك ونجح فيه بالإمكان أن يزيد وسيجد نفسه داعية للزيادة من الحفظ، وسيجد أماكن من القرآن مختلفة عن غيرها فالقرآن لم ينزل على سورة واحدة؛ ولذلك فثاني حديث في صحيح البخاري يقول فيه البخاري رحمه الله: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن حارث بن هاشم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يا رسول الله! كيف يأتيك الوحي؟ قال: أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول )، قالت عائشة: (ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً)، فهذا يدلنا على أن القرآن ليس على مستوىً واحد حتى من ناحية الوقع وقع ألفاظه.
فالذي يشتغل بالرقى أو التدبر البلاغي في القرآن يعرف التفاوت الواضح في أساليبه وهذا من أنواع إعجازه، وبذلك إذا قرأت على من تلبس به الجن مثلاً فإن وقع القرآن عليه مختلف، يعني: في الآيات التي هي أشد وقعاً من غيرها، وكذلك إذا أتيت سليم الذوق في البلاغة فإنه يتأثر ببعض المواقع تأثراً بالغاً بالرهبة والشدة ويتأثر ببعضها تأثراً بالغاً بالانشراح والانبساط وهكذا.
فلذلك لابد أن تعلم أن بعض الآيات يمكن أن تحفظها في مدة أقل مما تحفظ فيه غيرها وبعض السور كذلك.
أعرف رجلاً طبيباً أتاه شخص يشتكي من السمنة فسأله فقال: هل تحفظ سورة يونس؟ قال: لا. قال: اجتهد أن تحفظ سورة يونس خلال هذا الأسبوع فقط وائت بي وسأعمل لك دواءً حينئذٍ إن شاء الله، فاجتهد خلال أسبوع لحفظ السورة، فأتاه ولم يحفظها، فقال: إذاً أعطيك أسبوعاً آخر مهلة أخرى لعلك تحفظها فيه، فأعطاه أسبوعاً آخر فجاء وقد انتقص وزنه بخمسة وعشرين كيلو خلال الأسبوعين، لاشتغاله بحفظ هذه السورة.
السؤال: ما حكم تعليم الرجال للنساء كتاب الله سبحانه وتعالى؟
الجواب: إذا كان الأداء ليس بصوت مطرب ولا بتغن فيجوز للمرأة، يعني: بدون خلوة ومن غير فتنة، من غير ما يدعو إلى الفتنة، وإن كانت المرأة تتغنى بالقرآن كما هو مندوب لها في خلوتها وفي نفسها، فحينئذٍ لا يحل للمدرس أن يسمع منها الصوت المطرب.
يسمع منها القراءة العادية التي ليس فيها تغن ليعرف هل هي تصلح للقراءة وتتقنها أو لا، لكن ما يسمع منها الصوت الذي فيه تغن بالقرآن، لكن يأمرها أن تتغنى به في خاصة نفسها إذا بقيت مع محارمها أو مع نفسها لكن لا تتغنى به أمامه هو.
السؤال: عن طريق تلقي النساء للقرآن والعلم عن الرجال مثلاً أو تلقي الرجال كذلك عن النساء؛ لأن كل ذلك وارد في تاريخنا الإسلامي وأيضاً يدعو إليه شرعنا؟
الجواب: أن أمهات المؤمنين كن يعلمن الناس القرآن فكن يقرأن والناس يسمعون وكان القارئ يقرأ وهن يستمعن فيصلحن أيضاً، وقد أمرهن الله بذلك في قوله: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب:34]، وهذا مقتضٍ لأن يعلمن ما يتلى في بيوتهن من القرآن والسنة، ومثل ذلك من بعدهم.
وقد كان النساء يحضرن مجالس العلم مثلما يحضرن الصلاة فينعزلن في ناحية لا يختلطن فيها مع الرجال ويسمعن مثلما يسمع الرجال ويسألن مثلما يسألون فيكن في ناحية من المسجد أو المنزل ولا يخالطن الرجال، وكذلك إذا كانت المرأة شيخة للرجال فتجعلهم في زاوية وتحدثهم ولا تختلط بهم ولا تخلو بأجنبي وحده.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر