بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن التراث مشتق من "الإرث" وهو حوز الإنسان لما كان يحوزه ويملكه غيره بعد موته أو جلائه وانقطاع خبره، وتراث الأمة مصطلح طارئ وهو يطلق على ما أنتجته عقولها مما له صلة بالمدنية والثقافة، فما له صلة بالمدنية كأدواتها؛ مثل: آلات الإنتاج والصناعة ونحو ذلك فهذا يعتبر من التراث، ومثل ذلك الملابس التي تميز شخصيتها وترمز لبعض الأمور فيها، والمراكب والمساكن ونحو ذلك من آثار المدنية؛ فكل هذا داخل في التراث، وكذلك يدخل فيه الإنتاج الثقافي، سواء كان علمياً أو أدبياً؛ فالاجتهادات العلمية في أمور الدنيا وأمور الدين وتطوير حياة الناس ومعاشهم كل ذلك داخل في التراث، وكذلك الإنتاج الأدبي والفني بمختلف أنواعه، كل ذلك يدخل في تعريف التراث.
ولا يدخل في تعريف التراث ما لم يكن من نتاج العقل البشري؛ كالوحي المنزل، فالقرآن والسنة اللذان أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم لا يدخلان في مفهوم التراث؛ لأنهما ليسا من إنتاج عقول هذه الأمة ولا من إنتاج عقول البشر عموماً، وإنما هما وحي منزل من عند الله سبحانه وتعالى، والوحي قسيم للعقل لا قسم منه؛ كما قال الغزالي رحمه الله: (الوحي عقل من الخارج والعقل وحي من الداخل) فكلاهما تنوير نور الله به البشر؛ فالعقل صبه الله في نطاق الإنسان وقال به؛ فبه يدرك ما يحيط به من حوله، ويختزن به تجاربه، ويتطلع به لمستقبله؛ فيجد تصوراً للمشكلات التي تعرض له وحلولاً لها، والوحي تنوير جاءه من الخارج وليس ناتجاً عن محيطه وبيئته وظرفه، فلا يتقيد بالضغوط الاجتماعية ولا بالضغوط السياسية ولا بالضغوط الاقتصادية؛ فهو متحرر من ذلك كله؛ ولذلك كان الوحي صدقاً صرفاً، ليس فيه مجال للمواربة بخلاف العقل؛ فإن العقول تتفاوت، وأهلها متفاوتون في مقتضياتها، وما من أحد إلا وهو راض عن الله في عقله، وأقل الناس عقلاً أرضاهم به.
وتراث كل أمة إنما يرتقي ويسمو باعتبار ما لها من الأثر، وقد حكم الله سبحانه وتعالى أن هذه الأمة هي خير أمة أخرجت للناس، قال الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ[آل عمران:110]، وقد اختلف أهل التفسير في متعلق الجار والمجرور في قوله: (للناس) فقالت طائفة: كنتم للناس خير أمة أخرجت، معناه: أن هذه الأمة هي خير للناس من جميع الأمم؛ فهي التي تخدم الناس جميعاً، طورت الحضارة كلها، طورت الطب، طورت الرياضيات، اكتشفت علم الجغرافيا، اكتشفت الدورة الدموية، وذلك الاكتشاف هو الذي على أساسه قام علم الطب والتشريح، اكتشفت صناعة الأدوية، وهذا الاكتشاف هو الذي قام عليه علم الصيدلة، وفي أرضها خيرات العالم وثرواته، منها انطلقت الثقافات كلها؛ وهذا كله خير للناس، مسلمهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، وهي شاملة لمن كان من هذه الأمة ومن لم يكن منها.
القول الثاني في التفسير: أن الجار والمجرور متعلق بــ(أخرجت) معناه: أن الله جعل هذه الأمة خير أمة أخرجها للناس، فقد أخرج الله هذه الأمة للناس، ومعنى إخراجها للناس: أنها شاهدة على الناس؛ فهي وارثة للأمم قبلها جميعاً، وقد أخرجها الله لهذه الحكمة، فالشاهد لا يمكن أن يشهد على ما يأتي بعده؛ لأن الشهادة من شرطها العلم؛ كما قال الله تعالى: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ[يوسف:81]، وكما قال تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[الزخرف:86]، وقد أخرج البيهقي بإسناد فيه رجلٌ ضعيف من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أترى الشمس إذا طلعت؟ قال: نعم، قال: على مثلها فاشهد أو دع )، فالشاهد لا يمكن أن يشهد بما لا علم له به؛ فلذلك لو كانت هذه الأمة في أيام نوح أو أيام إبراهيم أو موسى أو عيسى لما أمكنها أن تكون شهوداً على من يأتي بعدها من الأمم، وأهلها شهود الله يوم القيامة؛ كما قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[البقرة:143]، ومعنى "وسطاً" أي: خياراً عدولاً عند الله سبحانه وتعالى؛ وذلك يقتضي أن فاسق هذه الأمة وبطالها خير من رهبان وأحبار الأمم السابقة؛ لما له من المزية في الشهادة عليهم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما من نبي إلا يخاصمه قومه يوم القيامة، يقولون: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ [المائدة:19]، حتى نوح يخاصمه قومه؛ فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته؛ فيؤتى برسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته فيشهدون لـنوح فيقولون: بلى، لبث فيكم ألف سنة إلا خمسين عاماً )؛ ولذلك أخرنا الله لهذه الشهادة، فنحن الآن شهود على كل ما يختلف فيه الناس في الملأ الأعلى يوم القيامة لأن الله قد قصه علينا في كتابنا، فنحن نؤمن به أبلغ وأشد من إيماننا بما شاهدناه بأعيننا؛ فلذلك نستطيع الشهادة به جزماً وقطعاً، فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف هذه الأمة: ( نحن الآخرون السابقون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا )، فنحن الآخرون من ناحية البعثة ومن ناحية التاريخ، السابقون يوم القيامة؛ فأول أمة يفصل بينها بين يدي الجبار جل جلاله هي هذه الأمة؛ فلذلك كانت خير أمة أخرجت للناس؛ لأن الله شرفها عليهم فجعل رسولها أفضل الرسل، وجعل كتابها أفضل الكتب، وجعل شرعها خير شرائع الدين، وجعل مدتها مديدة طويلة؛ لأنها لا ترثها أمة من الأمم، إنما يرثها الله جل جلاله؛ فالله تعالى هو الوارث الذي يرث الأرض ومن عليها، وإليه يرجعون جميعاً؛ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ[مريم:40]؛ فلا ترثها أمة من الأمم.
ومن المعلوم أن الحضارة بشقيها: المدنية والثقافية؛ إنما هي إنتاج لعقول البشر؛ فكل طائفة ارتقت وكل حضارة تقدمت فإنها تسعى لتطويرها، فإذا وصلت إلى نهايتها سلمتها لمن بعدها، ويبدأ تطوير ذلك الخلف أيضاً لما ورثه عن السلف، وهكذا؛ فكل الحضارات السابقة ورثتها هذه الأمة؛ لأن الله جعل أرزاق أهل الأرض وأقواتهم جميعاً في الأرض منذ الأيام الأربع الأول من خلق العالم، كما قال الله تعالى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ[فصلت:9-10]، فما يتنافس الناس فيه الآن وما يستخرجونه من خيرات الأرض لم يتجدد شيء منه بعد تلك الأيام الأربع الأول؛ فلذلك الزراعة أصلها إنما هو لبذور موجودة في الأرض، والنبات كله باق مستمر، إنما ينتقل من مكان إلى مكان وتطور عيناته بحسب تغيير الجينات وتغيير البيئة، وكذلك المعادن؛ فكلها في الأرض مستخرجة منها، وكذلك خيرات البحار كلها على هذا الأساس، والأنعام كذلك والبهائم؛ فقد أنزل الله لــآدم وحواء من الأنعام ثمانية أزواج، وهي أصول ذلك؛ فكل هذا قد كان قديماً، وإنما تطوره كل حضارة.. تتركه عند نهايتها لمن يليها.
وقد عرفت البشرية حضارات سادت ثم بادت، ومن أهمها من الحضارات المعروفة قديماً حضارة العمالقة في المشرق، وقد ورثتها حضارة البيزنطيين الرومان، ثم بعد الرومان جاء الإغريق، وفي وسط ذلك جاءت الحضارة القبطية الفرعونية، وجاءت حضارات أخرى في شتى أصقاع الأرض، ولكن الحضارة الإسلامية هي أوسع هذه الحضارات من ناحية المساحة، وهي أبلغها تأثيراً؛ لدخول شعوب متباينة فيها، والحضارات السابقة إنما كانت تختص بالأعراق والمدن، وهذه الحضارة ليست خاصة بعرق ولا بلد؛ ولذلك شملت القارات كلها، وسيزداد ذلك كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما من بيت حجر ولا مدر إلا سيدخله هذا الدين، حتى يبلغ ما بلغ الليل والنهار )، وكذلك تميزت هذه الحضارة بطول مدتها؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في العام العاشر من الهجرة، ونحن الآن في العام التاسع والعشرين بعد أربعمائة وألف سنة من الهجرة، وما زالت هذه الأمة في أوج شبابها، وما زالت أنشطتها والنوادي تتجدد، ونادي الانعتاق وغيره من النوادي تجدد؛ مما يدل على أن هذه الأمة أمة شابة لا تهرم، ومما يدل على أن إنتاج عقولها متجدد دائماً؛ فما من عصر من العصور إلا ويحصل التميز لجانب من جوانب هذه الأمة.
وقد ذكرت مرة في برنامج إعلامي أننا رأينا في هذه الأمة أفذاذاً ونماذج الآن في عصرنا يمثلون تاريخها وتراثها؛ فرأينا المبرزين في الدراسات الإنسانية ورأينا المبرزين في الدراسات الشرعية، ورأينا المجاهدين الأبطال الذين قدموا أرواحهم فداءً للأمة، ورأينا المثقفين الذين أتقنوا مختلف لغات العالم وحضاراته، ورأينا الأدباء والشعراء والمبدعين الذين لهم الأثر الكبير كذلك في مختلف أنحاء العالم، ورأينا الأطباء والمهندسين، ورأينا التجار، وما من نوع من أنواع النشاط إلا رأينا لأهله مثالاً الآن يربط واقع الأمة بماضيها إلا نوعاً واحداً، من تتوقعون هذا النوع؟ الحكام، نوع واحد لم نر منه الآن نماذج تربطنا بماضينا، ونحن نطالب الحكام بأن يخرج لنا منهم الآن وأفذاذاً يذكروننا بالخلفاء الراشدين وبـعمر بن عبد العزيز وبـالمهدي و الهادي و الرشيد وبـأبي يعقوب المنصور، وغيرهم من الأئمة الذين قادوا هذه الأمة وطوروا حضارتها، وإذا وجد النماذج في الحكام ستتكامل الصورة لديكم، وسيكون التاريخ واقعاً بين أيديكم ويكون التراث مصدقاً لنفسه؛ لأن الشاعر يقول:
إن غاب عنك أبو ابن لم يغب فلمن يبدو لنا إنما يبدو لنا غيبه
فنحن الآن إذا ذكرنا شيئاً من تاريخنا قد لا يصدقنا بعض الناس إذا رأوا ذلك الجانب متراجعاً لدينا، لكن إذا وجد نماذج حية تستطيع الإثبات فذلك كاف؛ ولهذا فإن الشيخ مصطفى السباعي رحمة الله عليه لما ناظر المستشرقين في إثبات حفظ السنة وكانوا ينكرون كون أبي هريرة رضي الله عنه يحفظ خمسة آلاف وسبعمائة وثلاثة وسبعين حديثاً سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بألفاظها، وينكرون أن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري يحفظ ما كان يحفظ بإسناده ومتنه، جادلهم الشيخ مصطفى السباعي فقال: هؤلاء مشايخنا الشناقطة يأتون يحفظون مثل هذا الذي تستغربون، وقد أثبت ذلك في كتابه المفيد الذي سماه "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" وقد طبع تسع عشرة طبعة إلى الآن، وهو من الكتب النافعة المهمة جداً في رد دعاوي المستشرقين وغيرهم من الذين يطعنون في السنة وتراث هذه الأمة.
إن تراث هذه الأمة تميز عن غيره من تراث الأمم السابقة بميزات متعددة.
فأول هذه الميزات: ارتباطه بالوحي واستنارته به؛ فالآن إذا ذهبنا إلى تراث الأوروبيين أو غيرهم فإن فيه كثيراً من الأمور المفيدة النافعة للعالم، ولكنها غير مرتبطة بالوحي ولا لها جانب من التقديس، بينما نجد تراثنا نحن مرتبطاً بالوحي؛ إذا قال شاعر قصيدة وأراد أن تنتشر قصيدته وأن يرويها الناس وأن يهتموا بها سيجعل فيها إحالة إلى الكتاب أو إلى السنة أو يسرق فيها من شعر الماضين، وسامحوني في السرقة! فهذا المصطلح ليس مصطلحاً جنائياً، بل إن هذا المصطلح عند الأدباء قديم وفي علم البلاغة يسمونه "السرقات الشعرية"، كذلك إذا أراد المحاضر أن تكون محاضرته مقنعة فإنه يربطها بالوحي كتاباً وسنة، وإذا أراد الفقيه أن تكون فتواه مقنعة أو أراد القاضي أن يكون حكمه مقنعاً؛ فإنه يربطه بالدليل؛ فهذا إنتاج عقلي بشري، وهو داخل في التراث، لكنه مرتبط بالدليل؛ فتراث هذه الأمة ترتبط فيه الأرض بالسماء، وهذه ميزة تختص بها.
كذلك من خصائص تراث هذه الأمة الشمول؛ فتراث هذه الأمة تراكمي منذ بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، إذا تحدثنا الآن عن أي جانب من جوانب التراث، تحدثنا مثلاً عن التضحيات في الجهاد في سبيل الله فسنبدأ من تضحيات المهاجرين الأولين وإيذائهم في الشعب وما يتعلق بذلك حتى نصل إلى زماننا، وإذا تحدثنا عن الفهم في الفتوى أو القضاء نبدأ بقضاء أبي بكر و عمر و عثمان و علي ، ونستمر إلى وقتنا، وهكذا في فتاويهم؛ فهو تراكم يقتضي ذلك شموله وعمومه حتى يغطي المساحات كلها، وحتى يكون له أثر كبير في تلوين خريطة العالم، فهذا التراث تراث شامل بخلاف غيره؛ فتراث الأمم الأخرى قد يكون خادماً لبعض الجوانب التي تتميز فيها؛ فالحضارة الرومانية إذا سمعتموها الآن انطلقت أذهانكم إلى ما يتعلق بالمدنية والبنيان، والحضارة الإغريقية - التراث الإغريقي - إذا سمعتموه الآن انصرفت أذهانكم أيضاً إلى ما يتعلق بالمنطق الآرسطي ونحو ذلك.
وحضارة الآشوريين أو تراثهم إذا تحدث عنه الآن انطلقت أذهانكم إلى القانون وما يتعلق به، فالحضارات الأخرى تراثها غير شامل، وهذه الأمة تراثها شامل، مغط لجميع جوانب حياة البشرية واحتياجاتها.
كذلك من ميزات تراث هذه الأمة الحفظ؛ فالأمم السابقة ليس لها أي إسناد، فهم لا يستطيعون أن يحدثوا الآن بأي سند متصل بينهم وبين عيسى بن مريم ، أو بينهم وبين موسى بن عمران أو بينهم وبين أي نبي من أنبيائهم، فالإسناد خاصية خص الله بها هذه الأمة المحمدية؛ ولذلك نحن الآن إذا تحدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لدينا إثباتاً وهو الإسناد: حدثنا فلان قال: حدثنا فلان.. إلى أن نصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال أحمد بن حنبل : (إذا حدثتكم بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما أتصور أن يؤتى بي يوم القيامة مغلولاً؛ فيقال: يا أحمد! حدثت عن رسول الله بهذا الحديث، فمن أخبرك به؟ فأقول: حدثني به وكيع ، فيؤتى بـوكيع فيقال: أحدثته؟ فيقول: نعم، فأفك أنا ويغل وكيع ، فيقال: يا وكيع ! حدثت بهذا الحديث عن رسول الله، فمن أخبرك به؟ فيقول: سفيان الثوري ، فيؤتى بــالثوري فيقال: أحدثته؟ فيقول: نعم، فيفك وكيع ويغل الثوري ، فيقال: يا سفيان ! حدثت بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن حدثك به؟ فيقول: منصور بن المعتمر ، فيؤتى بــمنصور فيقال: أحدثته؟ فيقول: نعم، فيفك الثوري ويغل منصور ، فيقال: يا منصور ! حدثت بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن أخبرك به؟ فيقول: سليمان بن مهران الأعمش ، فيؤتى بـالأعمش فيقال: أحدثته؟ فيقول: نعم، فيفك منصور ويغل الأعمش ، فيقال: يا سليمان ! حدثت بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن أخبرك به؟ فيقول: إبراهيم النخعي فيؤتى بـإبراهيم فيقال: أحدثته فيقول: نعم، فيفك الأعمش ويغل إبراهيم النخعي ، فيقال: يا إبراهيم ! حدثت بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن أخبرك به؟ فيقول: علقمة ، فيؤتى بــعلقمة فيقال: أحدثته؟ فيقول: نعم، فيفك إبراهيم ويغل علقمة ، فيقال: يا علقمة ! حدثت بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن أخبرك به؟ فيقول: عبد الله بن مسعود ، فيؤتى بـابن مسعود فيقال: أحدثته؟ فيقول: نعم، فيفك علقمة ويغل ابن مسعود ، فيقال: يا عبد الله ! حدثت بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن أخبرك به؟ فيقول: سمعته منه، فينتهي)، فعندما يصدقه النبي صلى الله عليه وسلم ينتهي الإسناد؛ ولذلك قال يحيى بن يحيى التيمي لـأبي زرعة عندما سمعه يحدث بحديث سمعه من مالك فقال: (عمن هذا الحديث يا يحيى ؟! قال: ليس زعزعة عن زوبعة، إنما هو عن مالك عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما بينك وبين أن ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ترفع الستر فتراه).
وأشهر قصص الماضين مثلاً تكلم عيسى في المهد؛ فقد جاءت به أمه تحمله في يوم مولده وقد ختم الله على لسانها ونذرت للرحمن صوماً، فحرم الله عليها كلام البشر، فاستقبلها الملأ من بني إسرائيل فقالوا: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ[مريم:28-29]، وهو في حجرها يرتضع ثديها، قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [مريم:28-29] فانتزع فمه من الثدي ووضع مرفقه بالأرض ونظر إليهم وقال: إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا[مريم:30-33]، فلم يستطع أحد منهم سماع كلامه وهربوا جميعاً إلى زكريا عليه السلام، فليس لهم إسناد في هذه الحادثة مع شهرتها، ومع أننا نحن نؤمن بها لأنها جاءتنا في كتابنا، لكن ليس للأمم السابقة إسناد في شيء من تراثها، ونحن الآن حتى الكتب غير النافعة وغير المفيدة لنا فيها أسانيد: كتاب "الأغاني" لـأبي الفرج الأصفهاني لنا فيه أسانيد، كتاب "العقد الفريد" لــابن عبد ربه عندنا فيه أسانيد، المؤلفات الأدبية وغيرها من المؤلفات لنا فيها أسانيد إلى مؤلفيها، وقد حرص الناس على الرواية حتى في الشعر، فذلك الشاعر البغدادي الذي قال البيت المشهور:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد
يقول في ليلة واحدة أتاه فطرق بابه خمسة أشخاص؛ رجل من خراسان قال: أتأذن أن أروي عنك هذا البيت بخراسان؟ قال: أجل، فأتاه آخر من الأندلس، فقال: أتأذن أن أروي عنك هذا البيت بالأندلس؟ فقال: نعم، فأتاه آخر من اليمن فقال: أتأذن أن أروي عنك هذا البيت في اليمن؟ فقال: أجل، فأتاه آخر من النوبة، قال: أتأذن أن أروي عنك هذا البيت في النوبة؟ فقال: نعم، فأتاه آخر من فارس فقال: أتأذن أن أروي عنك هذا البيت بفارس؟ فقال: نعم، خمسة، كل واحد أتى من جهة نائية بعيدة يروون عنه بيتاً واحداً من شعره هو.
ولذلك تجدون الكتب الموثقة تبدأ بالأسانيد، فتكون العناية الشديدة في تثبيت هذا التراث، فالناس يحفظونه، بينما الأمم السابقة لا تحفظ كتبها المنزلة، أنتم الآن إذا سألتموني عن درس من مختصر خليل مثلاً، يقول: (شرط لصلاة طهارة حدث وخبث، وإن رعف قبلها ودام أخر لآخر الاختياري أو صلى أو فيها، وإن عيداً أو جنازة، وظن دوامه له أتمها إن لم يلطخه فرش مسجد وأومأ لخوف تأذيه أو تلطخ ثوبه لا جسده..) إلى آخره، هذه الألفاظ صعبة جداً، ويصعب فهمها، لكننا نحفظها مثل ما نحفظ القرآن، والأمم السابقة لا تحفظ إنجيلاً ولا توراة ولا زبوراً، ولا شيئاً من الكتب المنزلة، وهذا التراث محفوظ، نحن الآن نحفظه، حتى ما كان منه في الجاهلية.
قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
لخولة أطلال ببرقة ثهمد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
نحفظها كما نحفظ الوحي المقدس المنزل.
مما يدل على أن تراث هذه الأمة محل ثقة، ويبقى أنه قابل للخلل من جهة أنه إنتاج بشري، لكن نسبته إلى أصحابه موثقة؛ ولذلك فإن المستشرقين عندما درسوا الحضارة الإسلامية والتراث الإسلامي، واعتنوا بإخراج هذه المخطوطات أحدثوا في التحقيق باباً جديداً لم يكن معروفاً في التحقيق، وهو إثبات نسبة الكتاب إلى مؤلفه، ولم يكن المسلمون محتاجون إلى هذا؛ لأن الكتب مروية، ويرويها الناس، وانظروا إلى صحيح البخاري مثلاً؛ فرواه عنه في المرة الأخيرة التي قدم فيها إلى بغداد تسعون ألفاً، سمعوا منه الصحيح من أوله إلى آخره، وهكذا فهذه الكتب مروية؛ فنحن لا نحتاج إلى بحث في إثبات نسبة الكتاب لمؤلفه؛ لأن الكتب مروية عندنا، إلا شيء نادر جداً في بعض الكتب التي فيها إشكالات سياسية، يخاف أصحابها أن يثبتوا أسماءهم عليها، أو فيها إشكالات فنية كذلك تقتضي منهم أن يتنكروا لها، أو أثارت زوبعة وخلافاً أو تضمنت أشعاراً فيها هجاء وطعن في الناس؛ يخاف أصحابها أن يستهدفوا إذا ذكرت أسماؤهم فيها، هذه التي تبقى مجهولة المؤلفين، أما ما سواها من الكتب فمعروفة المؤلفين، مروية بالأسانيد، وهذه ميزة مهمة من ميزات هذا التراث.
بعد معرفتنا لبعض ميزات هذا التراث نصل إلى الإشكاليات التي تشار حول التراث الإسلامي.
والإشكالية الأولى: موقف الناس من التراث، والمقصود بالناس هنا من هم داخل الإطار، أي: داخل إطار الأمة، ولا نتحدث عن الإشكالات التي يوردها الباحثون من الأمم الأخرى؛ فأغلبها إشكالات غير موضوعية، والإشكالات الموضوعية مقبولة وستندرج في إطار الإشكالات التي يوردها الناس في إطار هذه الأمة على تراثها.
ومواقف الناس كما ذكرت من التراث متنوعة متعددة؛ فمن الناس من يمجد التراث ويلبس بينه وبين الوحي المنزل، ويرى أنه بمثابة الوحي المقدس لا بد من الاستسلام الكامل له؛ ولذلك قال اللقاني رحمه الله: (نحن خليلون، إن ضل خليل ضللنا) فيرتبط بكتاب واحد، بمؤلف واحد من مؤلفات الفقه في مذهب واحد لا يزعم صاحبه أنه معصوم ولا أنه مدلل بالأدلة كله، ولا أنه أرجح شيء موجود في المذاهب الأخرى، هؤلاء تعترضهم إشكالات كبيرة من أهمها: التعارض في داخل التراث نفسه؛ فمثلاً إذا أخذنا خليلاً على أنه وحدة مسلمة من: (يقول العبد الفقير..) إلى (فلا إشكال والله تعالى أعلم) سنجد بين هاتين كثيراً من المسائل التي لم يحسمها خليل رحمه الله؛ ولذلك يقول: (وحيث ذكرت قولين أو أقوالاً فذلك لعدم اطلاعي في الفرع على أرجحية منصوصة، وحيث قلت: خلاف؛ فذلك للاختلاف في التشهير) فإذا ذكر خليل مثلاً أربعة أقوال أو أربعة تأويلات في المسألة فماذا يصنع الذين يقولون: (نحن خليلون إن ضل خليل ضللنا) يجدون خليلاً تشعبت لديه الأقوال؛ فبأيها يأخذون حينئذ؟! عندما يخيرهم فيقول قولان أو أقوال أو خلاف؛ بأي ذلك يأخذون؟! سيصطدمون بهذه العقبة الكأداء وسيجدون أنفسهم مضطرين حينئذ للترجيح من خارج نطاق الخليل ومما عدا الدفتين، وهذا يقتضي أنهم خرجوا عن شرطهم وقاعدتهم التي وضعوها، ومثل هذا في جميع الفنون.
وأنا لا أقصد الفقه وحده، بل إذا رجعنا إلى النحو الذي هو تراث هذه الأمة ومن إنتاج عقولها أيضاً نجده كذلك؛ فكتاب سيبويه كان كتاباً مقدساً لدى عدد كبير من النحويين وبالأخص من البصريين، وكانوا يعتبرونه قمة ما وصلت إليه الأدمغة في مجال النحو، لكن لما جاء ابن درستويه أخرج منه اثنين وثمانين خطأً؛ فكانت طامة كبرى وهي أخطاء موجودة، والذي يدرسها بعين الإنصاف والموضوعية سيجد أن سيبويه أخطأ فيها، وهكذا في كل العلوم الأخرى نجد هذه الإشكالات واضحة فيها، بل نجد المؤلفين يتراجعون عن بعض أخطائهم ويصلحون فيها، وقد قال الجاحظ في مقدمة كتابه "الحيوان" : (ما من مؤلف يراجع مؤلفه إلا قال: ليتني كنت زدت هنا كذا ونقصت هنا كذا، وقدمت هذا الفصل وأخرت هذا). فذلك نتاج العقول البشرية لا بد أن يقع فيه هذا الإشكال، وذلك أن الإنسان ليس راكداً، الإنسان متجدد؛ فتتجدد طاقته وعلمه وفهمه، وينشط في الصباح ويكسل في بعض الأحيان في المساء أو العكس؛ ففي وقت ذروة نشاطه تأتيه أفكار، وإذا راجعها في وقت تراجعه وكسله لم يفهمها ولم يستوعبها، وقد حصل هذا للإمام ابن عرفة الورغمي المالكي وهو من أئمة الفقه والأصول، وقد ألف كتابه "المختصر في الفقه" وأراد فيه الإغراب وصعوبة الفهم، حتى في الحدود التي وضعها للتعريفات هي تجهيلات وليست تعريفات لصعوبتها؛ فإنه لما شاخ وكبر أتاه أحد طلابه يعرض عليه مسألة من المسائل التي حققها هو ودققها في مختصره، فسأله عن معنى هذا الكلام فقرأه مرتين أو ثلاثاً فلم يفهمه، فقال: أتريد أن تكلف شيخاً فانياً نتاج عقل شاب حاد الذهن ذكي؟ فهذا كان إنتاجاً لذهن حاد في وقت الشباب والذكاء، فلا يمكن أن يعرض الآن على شيخ فان كبير السن.
ولهذا فالإنسان من علامات تطوره وعدم ركوده أنه في كل مرحلة من العمر تكون لديه أولويات واهتمامات، ثم يزايلها إذا تقدم به العمر؛ فاهتمامات الطالب تختلف عن اهتمامات الموظف، وبيننا وبينكم عهد الآن، أنتم طلاب لكم اهتمامات، وإذا عينتم وزراء فسنرى هل سيختلف الاهتمام! سنجد الاختلاف.. وطبعاً هنا الأخوات فرصتهن أكبر في هذا لبعض الوعود زائدة على نسبة عشرين بالمائة، فستختلف الاهتمامات تماماً، ومثل ذلك اختلاف تصور الإنسان وفهمه وأولياته باختلاف ظروفه؛ ولهذا قال الأصوليون: المجتهد الحي أولى بالتقليد من المجتهد الميت؛ لأن المجتهد الحي تزداد لديه معطيات جديدة فيمكن أن يغير رأيه بسبب هذه المعطيات، ولذلك فإن الإمام أبا محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله اتخذ كلباً للحراسة عندما كان العبيديون الشيعة يقتلون أئمة أهل السنة غيلة بتونس، فقيل له: (إن مالكاً نص على حرمة اتخاذ الكلب للحراسة، فقال: رحم الله مالكاً ! لو كان في زماننا لاتخذ أسداً ضارياً)، فالاجتهادات تختلف، و الشافعي رحمه الله لما كان في العراق كان له المذهب القديم، ولما استقر بمصر كان له المذهب الجديد، وهذا يشمل أيضاً أخلاقيات الإنسان وتعامله؛ فكلما تقدم به العمر استنكر بعض ما كان لديه من الاهتمامات، وقديماً قال الشاعر: (فما تشتهي غير أن تشتهي).
وقال الآخر:
فأجبتها أمَّن يعمر يدكر ما تذكرين وينب عنه المنظر
ولقد رأيت شبيه ما عيرتني يغدو علي به الزمان ويبكر
فغدوت يغضبني اليسير وملني أهلي وكنت مكرماً لا أكهر
فتتغير حياة الإنسان بحسب تقدم العمر، ومن خلال ذلك تتغير أنشطته واهتماماته وأخلاقياته، وأيضاً إنتاجه العقلي والفكري سيختلف، لذلك فإن هذا الرأي ستقف في وجهه عراقيل كبرى.
أيضاً فإن أصحاب هذا الرأي الذين يقدسون التراث معناه أنهم يزيدون الوحي المنزل ويزعمون أنه في وقت تنزيله غير كامل، وهذا إشكال عقدي أكبر؛ لأن الله تعالى أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا[المائدة:3]، فالثوابت التي لا تتغير هي الوحي المنزل، وما سواه ليس من الثوابت بل هو قابل للتغير في كل ظرف تاريخي؛ ولهذا فإن مالكاً رحمه الله قال: (قد أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]؛ فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً) وكذلك فإنه كان يقول في المسائل الاجتهادية: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ[الجاثية:32]، وقد ذكر الشيخ محمد المامي في مقدمة كتاب "البادية" أمراً عجيباً جداً، يقول: إنه ألفى علماء أهل هذا البلد ينقسمون إلى قسمين:
أصوليين، يردون المذاهب ويطعنون في الفقه المنقول، ويرون أنه جمود وتحجر، وفقهاء يقيدون أنفسهم بالفقه المنقول، ويقولون: (نحن خليلون، إن ضل خليل ضللنا) ولكن الأصوليين لا يجتهدون، والفقهاء في كل يوم من الأيام ينتجون كثيراً من المسائل الاجتهادية، فالفقهاء لا يكاد أن يمضي يوم من الأيام إلا وقد أفتوا في مسائل متجددة لا عهد لــخليل بها ولا هي مذكورة لديه ولا علم له بها، ومع ذلك يجتهد فيها المتأخرون ويفتون فيها، ولا يدعون الاجتهاد، وينكرونه على أصحابه، وهم مع ذلك يجتهدون، فقال هو في مقدمة كتابه: (أما بعد:
فحاش الذي رحم أصحاب الأعراف لما كانوا في رحمته يطمعون أن يجمع علينا أهل هذا القرن مشكلتين، يخلي عصرنا من المجتهدين، ويمنع الاجتهاد في نوازلنا على أماثل المقلدين) فهذا إشكال لا يمكن أن يقع، والشيخ محمد المامي انتبه لهذه الإشكالية والجدلية القائمة في عصره؛ فحاول أن يجد لها حلولاً، وذكر أنه مر بذهنه على السفر، أي: نصف مختصر خليل الأول، من أوله إلى البيوع بين المغرب والعشاء؛ فاستخرج منه ثمانية وخمسين مسألة ما لها أي دليل إلا العادة، أي: مبنية على العادة، والعادة - كما تعلمون - تتغير؛ فالحكم المبني على العادة لا يمكن أن يستمر؛ لأنه ليس له دليل من ثوابت الشرع، وإنما أخذ فيه بعادة الناس، فإذا تغيرت العادة وأصبح الأمر متروكاً فيها فلا يمكن أن يجبر أهل بلد على عادة بلد آخر؛ ولذلك فالتفريق بين الثوابت والمتغيرات من الفقه الضروري الذي لا بد منه.
والتفريق بين ما هو عبادة وما هو عادة كذلك من الضروريات التي لا بد منها؛ فالإنسان الآن الذي يأخذ السيرة النبوية وصفات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويريد أن يلتزم ما كانوا عليه في الملابس والعادات والمراكب والمساكن؛ فيريد أن يتقلد سيفاً الآن، وأن يعتقل رمحاً وأن يتنكب قوساً وأن يلبس رداءً وإزاراً وعمامة، وأن يلبس نعلين.
مقابلتين من صلويم شب من الثيران وصلهما جميل
فهذا الآن لا يمكن أن يعيش في حياة الناس المعتادة اليوم، وما كان يعيشه أولئك إنما كان من عادتهم وليس من الشرع المنزل؛ فالشرع المنزل هو الوحي، أما معاش الناس وصناعاتهم وترتيبهم لملابسهم ومآكلهم ونحو ذلك فهذا راجع إلى العادة وهي تختلف؛ فإذا وسع الله على قوم فإنه لا يمكن أن يحبسوا أنفسهم عما أحل الله لهم، ويتقوقعوا في واقع قد تغيرت عنه الحضارة وتجاوزته.
وأعرف رجلاً درس الفيزياء في أمريكا فأبدع فيها ولكنه عند نهاية دراسته اقتنع بأنها سحر وخيالات فقطع الكهرباء عن بيته، والآن لا يستعمل النقود التي فيها الصور ولا يبيع ولا يشتري إلا بالعملة التي هي من النيكل أو النحاس، ولا يركب إلا الخيل وترك السيارات، والناس يعتبرونه مجنوناً؛ لأنه تقيد بعادات لأزمنة مضت وتجاوزها الناس في حياتهم، والذي يريد الآن أن يبقى على ما كان عليه الأولون فيسأل عن حياة خليل رحمه الله أو الشاطبي عندما كان يأكل القمح المقلي، وكان هذا معاشه، فيريد هو أن يقتصر على ذلك في معاشه اليوم، هل ترونه سيكون سوياً في تصرفه؟ الذي يريد أن يلبس ما كان يلبسه مثلاً ابن الحاجب أو صلاح الدين الأيوبي أو يريد أن يلبس ملابس أولئك القوم رضي الله عنهم وأرضاهم في زماننا هذا، هل هو سوي؟ هذه أمور من العادة وليست من العبادة ولا هي من الدين إنما هي من التراث المتقيد بعادة، فإذا تجاوزت العادة لا بد أن يتجاوزها الناس، وهذا ما لا يفهمه عدد من الشباب؛ فنراهم يصلون بنعالهم في المساجد ويمشون بها في الطرق؛ فيشم الإنسان عفنها في المسجد، وتؤثر في فرش المسجد؛ لأنهم سمعوا أن الأولين كانوا يصلون في نعالهم، ولم تكن إذ ذاك الطرق كطرقنا ولا المنتجات كمنتجاتنا، ولا المساجد مفروشة بالبسط التي لدينا الآن، والنعال أيضاً ليست كنعالهم، الآن هذه النعال الكنادر الغليظة، والأولون:
رقاق النعال طيب حجزاتهم يحيبون بالريحان يوم السباسب
فليست نعالهم كنعالنا، ولا يمكن أن يصلي فيها الآن كصلاتهم في نعالهم، وهكذا؛ فإذا أخذ الإنسان ببعض الأمور التي كانت موجودة لديهم ويقول: إنهم كانوا يتوضؤون ويغتسلون مثلاً من برمة فيها أثر الثريد ونحو ذلك؛ فيقال: نعم، هكذا كانت حياتهم وعادتهم، ولكن ليس هذا عبادة، وإنما هو عادة، وقد تجاوزتها البشرية.
وأذكر مرة من المرات أني كنت في زيارة لإحدى المدن في الداخل، فكانت المحاضرة عن الدعوة والضرورة إليها، فاعترض علي شيخ كبير السن من أهل تلك القرية أو الحاضرة، فقال: أدركنا آباءنا وهم قطعاً أعلم منكم وأزكى وأتقى لله، وما قلتموه الآن صحيح وذكرتم أدلته من الكتاب والسنة، لكنه ليس ما كان لدى آبائنا ولم يدركهم يفعلونه، فما جوابكم عن ذلك؟ فقلت: لدي جوابان، ولكل جواب مثال تفهمه به، فقال: هات الجواب الأول؟ فقلت: لو أن الإنسان الآن العادي في حياتنا أراد أن يعيش على ما كان عليه آباؤه فيلبس ما كانوا يلبسون قبل مائة سنة، ويأكل ما كانوا يأكلون قبل مائة سنة، ويركب ما كانوا يركبون ويسكن فيما كانوا يسكنونه، هل يرضى بذلك أحد في زماننا؟ قال: لا، قلت: وأنت ترضى بما كان عليه أجدادك قبل مائة سنة من المأكل والملبس والمسكن والمشرب؟ قال: لا، لا أرضى بذلك، قلت: طيب! أنت لا ترضى بما كانوا عليه من الدنيا لأنك رغبت عنه وترضى بما كانوا عليه من الدين؛ فما كانوا فيه هو تبع لحالهم؛ فمعناه أنك تؤثر الدنيا على الآخرة؛ فالدنيا لا ترضى فيها بما كان لديهم، والدين ترضى فيه بما كان لديهم، الدين لا تريد له تطويراً ولا نماءً ولا زيادة.
ومثال هذا الجواب: طالب اشترى له والده ملابس جميلة هي أحسن الموجود في السوق في وقته، وكانت على مقاسه، فلبسها فغار منها نظراؤه وأعجبوا بها إعجاباً كبيراً، وبعد نهاية السنة الدراسية طبقها فجعلها في رف مثلاً، وبعد عشرين سنة قال: أنا أحسن ما لبسته قط تلك البدلة، فسآخذها الآن وألبسها، هل هذا ممكن؟! قال: لا، هذا غير ممكن، ليست على مقاسه ولا هي على حجمه، وتطورت الأحوال وتغيرت، فقلت: كذلك ما كانوا عليه؛ فإن مالكاً رحمه الله قال: (تحدث للناس أقضية على حسب ما أحدثوا من الفجور).
الجواب الثاني: أن آباءنا لم يكونوا يتعرضون لما نتعرض نحن له من المشكلات في ديننا ودنيانا؛ فهم كانوا بمنأىً عن كثير من المشكلات التي نواجهها، فالبنت الآن تسافر إلى أوروبا وتسكن في الفنادق مع أهلها، وهي صغيرة السن وفي حداثة سنها، والولد كذلك ينشأ بين أبويه المسلمين، فإذا بلغ عشرين سنة وقد أهمل نجده يشك؛ فلا يؤمن ولا باليوم الآخر ولا يصلي الصلوات الخمس المكتوبة، هل كان آباؤنا يتصورون أن يقع هذا في حياتهم؟ قال: لا، لم يكن هذا متصوراً لديهم، هل كان آباؤنا يتصورون أن أمة بكاملها تعيش من الربا استيراداً وتصديراً؟ قال: لا، قلت له: إذاً كانوا بمنأىً ومأمن عما نحن فيه، ونحن الآن قد جاءنا هذا السيل الجارف من التحديات، فهل نقتصر في الحزم على ما كان عليه آباؤنا الذين لم يصلوا إلى التحدي الذي وصلنا إليه؟
أذكر لك مثالاً لهذا الجواب أيضاً وهو: قوم على أعلى الجبل وحولهم قوم في مستنقع السيل، في أسفل الوادي، فجاء رجل إلى أولئك الذين في مستنقع السيل؛ فقال: يا قوم! قوموا عن هذا المكان أو اعملوا سداً؛ فإن السيل على أعتابكم وأبوابكم وسيجرفكم؛ فقالوا: لا، نحن ننظر إلى الذين فوق الجبل فإذا عملوا سداً عملناه، وما لم يعملوا فلن نعمله، الذين فوق الجبل بمنأىً عن السيل وبمأمن منه، ونحن لسنا كذلك، فاقتنع الرجل بهذا الجواب وعرف أنه حق، وقال: كنت أسأل بعض الذين يقدمون بعض الدروس فيجيبون بجواب آخر ويستنكرون على الآباء، وهذا الجواب مقنع وليس فيه استنكار على الآباء.
فكذلك التعامل مع التراث بهذه النظرية يقتضي هذا.
النظرية الثانية: الذين يرفضون التراث جملة وتفصيلاً، وينطلقون في ذلك من منطلقات متنوعة، فالذين يرفضون التراث إما انبهاراً بحضارة أخرى؛ كالذين ينبهرون بالنظام العالمي الجديد وبواقع أهل الأرض اليوم؛ فيريدون حضارة بيتزا وحضارة المطاعم والوجبات السريعة ونحوها، والناس اليوم يسمونها "حضارة الماكدونالدز" كما سماها جاك شيراك ، فحضارة الوجبات السريعة والتي تقتضي التخفف في الملابس، وتقتضي نوعاً معيناً من التشيك ونوعاً معيناً من حياة الناس، هذه منطلقة من انبهار بواقع وحضارة فرضت نفسها وانطلقت من فكرة تصادم الحضارات، وقضاء بعضها على بعض، التي أتى بها هنتجتون .
فالذين ينبهرون بهذه الحضارات ويرون ما يعيش فيه الغرب مما فتح الله لهم من أبواب الدنيا وامتحنهم به، كثيراً ما يرون أن سر تخلفنا نحن وتراجعنا هو هذا التراث، وبذلك يصابون بردة فعل شديدة على التراث، يريدون التخلص منه، ويرون أننا لا يمكن أن نتقدم ما دمنا نصلي وما دمنا نتمسك بديننا، ويوسعون دائرة التراث حتى يدخلوا فيه الوحي المنزل والعبادات والمعاملات والأخلاق وكل شيء، وهؤلاء مهزومون مدحوضون، أصبحوا أذناباً لتلك الحضارة الأخرى؛ فلم ينالوا ما فيها من اللب والفائدة، وإنما تشبثوا بقشورها وستلفظهم، ولن يجدوا لهم موقعاً فيها ولا أثراً ولا فائدة.
والذي يفكر به الغربيون خلاف هذا التفكير، وقد سمعت من عدد من صناع القرار ومن المفكرين في الغرب فيما يتعلق بخطتهم المستقبلية أموراً عجيبة؛ كيف يصل مستوى العقل البشري إلى الإقصاء بهذه الدرجة؟! فسمعت أحد المفكرين الأمريكان وصناع القرار سئل، فقيل له: إنكم في الولايات المتحدة الأمريكية تأخذون (85%) من خيرات العالم؟!! فقال: هذا صحيح، ولكننا نتصدق على العالم بـ(15%)، وهذا شيء كبير يعني! (15%) من خيرات العالم تتصدق به أمريكا على العالم كله، وتأخذ هي (85%) من خيرات العالم.
وسمعت آخر يتحدث عن المستقبل فيقول: إنه في سنة (2020م) سيقضي الغرب على الأمراض الفتاكة كلها وعلى المشكلات؛ مشكلات الفقر والمشكلات الاجتماعية ومشكلات الرسوب في الدراسة وغيرها، وسيكون متوسط العمر للإنسان الغربي (150) سنة، ومتوسط العمر بالنسبة للإنسان من العالم الثالث (45) سنة، فهم يرون أنهم الآن قضوا مثلاً على الجدري وعلى السل الرئوي في الغرب كله، والأمراض الفتاكة التي تفتك بشعوب العالم الآخر قضوا عليها في بلادهم، ويبقى نسبة كبيرة من الوفيات ستكون عن طريق حوادث السير والكوارث التي لا يستطيعون دفعها، أما الأمور الأخرى فهم يفكرون بدفعها مطلقاً، ويرون تقليل نسبة الحوادث والمشكلات؛ من ذلك إبعاد أماكن الصناعة مثلاً عن أماكن حياة الناس الطبيعية وسكناهم، وإيجاد قوانين صارمة فيما يتعلق بتنظيم المرور والمصانع والمناجم وغيرها، وإيجاد الاحتياطات الكافية لحفظ الناس؛ هذا الذي يفكرون فيه، وهذا قمة ما يمكن أن يتصوره الإنسان من الإقصاء؛ فلو كانوا جادين في نفع البشرية كلها لعمموا هذا النفع ولفكروا في تعميمه.
وأنتم تعلمون أن الدول المصنعة الكبرى تحتكر التكنولوجيا ولا تريد خروجها؛ فالآن الدنيا قائمة على إيران بسبب حق قانوني لها مثبت في قانون الأمم المتحدة أن كل دولة لها الحق في الاستفادة من الطاقة النووية في الأغراض السلمية، وهذا مثبت في قانون الأمم المتحدة، وكل الناس يرون أنه حق لكل دولة في العالم؛ فلماذا تقام الدنيا على إيران؛ لأنها ليست المستحقة للتقدم التكنولوجي والتطور، فهي دول محصورة هي التي ينبغي أن يكون الأمر دولة بينها، دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ[الحشر:7]؛ هذا تفكيرهم.
وحتى في القيم البشرية؛ فالديمقراطية التي يريدونها عندهم ليست هي الديمقراطية عندنا، عندما انتصرت جبهة الإنقاذ في الجزائر توقف الغرب جميعاً في وجه هذا الانتصار، وساعد على الانقلاب العسكري الذي ألغى الديمقراطية وقوضها في الجزائر، وكذلك عندما انتصرت حماس في فلسطين بانتخابات نزيهة بشهادة الغربيين جميعاً حاصروها وأقاموا المؤامرات لإسقاطها، لكنهم يهنئون بعضهم وغيرهم على انتخابات يعلمون أنها مزورة ويعترفون فيما بعد بتزويرها؛ كالانتخابات في كينيا الآن، وهكذا؛ لأنهم يكيلون بمكيالين دائماً.
وقد سمعت بعض المفكرين منهم يتحدث في قضية كوسوفا وألبانيا والبوسنة والهرسك؛ فيقول: هؤلاء أوروبيون لكنهم ليسوا أوروبيين على الدرجة الأولى؛ فلا يستحقون ما يعيشه الأوروبيون من الديمقراطية والحريات؛ حرية التعبير وحرية التفكير وحرية الرأي وحرية التملك.. إلخ، فلا يستحقون هذه الحريات، ونظير هذا نجده في كل الأمور.
فالذين يحتكرون، هذه المنافع على البشرية ليسوا أهلاً لأن ينبهر الشباب بحضارتهم، ولذلك أنا أعجب من الشباب الأفارقة وأولاد المسلمين الذين يغامرون بالهجرة السرية إلى بلاد أوروبا، ويرضون أن يكونوا هناك خداماً للخنازير والكلاب والعجزة من الكفرة، ويأخذون مقابل ذلك نقوداً، لا بارك الله لهم فيها فهي لا تساوي شيئاً من شرفهم وما هم بحاجة إليه في حياتهم، فمثل هذا النوع هو سلاح من إنسانية الإنسان ومن قيمته.
كذلك الرافضون للتراث منهم من ينطلقون من منطلق آخر، وهو أن في هذا التراث بعض التناقضات؛ فيقولون: هذا التراث فيه بعض التناقضات ونحن نريد أمراً لا تناقض فيه، وهؤلاء يريدون المستحيل؛ لأن مثالهم مثال من يأتي فيقول: أنا الآن سأتنكر لكل ما أنتجه الذين درسوا علم الجغرافيا، وسأبدأ الآن في اكتشاف العالم من جديد، سيموت ولم يكتشف العالم ولم يصل إلى شيء مما وصل إليه الذين اكتشفوه، فهذا التنكر لا مبرر له، والاختلافات الموجودة إنما هي ناتجة عن ثراء؛ ولهذا قال البويطي رحمه الله لما ألف الشافعي كتابه: ناولنيه، فقال: (خذ هذا الكتاب على خطأ كثير فيه، قلت: يا أبا عبد الله ! قال: وكيف وقد قال الله تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا[النساء:82]؟! أبى الله العصمة إلا لكتابه).
كذلك فإن من الرافضين للتراث أيضاً من يرون أن هذا التراث مناف للمسلمات والثوابت؛ فيرون أنه يتعارض مع الأدلة الصحيحة، والواقع أن هؤلاء إنما حصل التعارض لديهم لعدم فهمهم وتأهيلهم لفهم هذا التراث، فلو فهموه وعرفوا مآخذ أهل العلم لوجدوا أن لكل منهم مأخذاً مقبولاً، وأن لكل منهم دليلاً، سواءً كان ذلك الدليل صحيحاً عند غيره أو لم يصح، لكن لا يمكن أن يجتهد مجتهد في الفقه أو في العقائد أو في السلوك والتصوف أو في أي مجال من المجالات من فراغ، ويأتينا من عند نفسه ويكون بذلك مقبولاً مرضياً لدى الناس، لا بد أن يكون معتمداً على فهم لدليل رآه هو، وله أن يقول: عقلي مثل عقلك، فليس عقلك حاكماً على عقلي حتى أتنازل أنا عن نتاج عقلي وأتبعك وأقلدك، هذا غير معقول، وإنما هو مما كنا نذكره من الإقصاء وعدم الاعتراف للآخرين بما آتاهم الله من عقول وفهم. إذاً هذا الموقف مثل سابقه مرفوض، وأصحابه يتعرضون لإشكالات كبرى.
فإذاً أقول: إن هذين الرأيين؛ الرأي المقدس للتراث كله والرأي الرافض للتراث كله، كلاهما مردود على أصحابه، ولا يمكن أن يستقيم بوجه من الوجوه مهما كانت المنطلقات والتعاليل التي يبني عليها هؤلاء آراءهم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر