إسلام ويب

شروط النجاحللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يجتاز الإنسان امتحاناً كبيراً في هذه الحياة الدنيا، امتحان في مجال العلم والعمل والدعوة، فليحرص على أسباب وشروط النجاح فيها، وليقتدي بذلك بسيد البشر صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام والتابعين لهم بإحسان.

    1.   

    حقيقة الدنيا ونجاح الإنسان فيها

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الحياة الدنيا مسرحاً للامتحان، وامتحن الإنسان فيها بما أجرى عليه بقدره من الخير والشر؛ ولذلك قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، فما من نعمة ينعم الله بها على الإنسان وما من بلية يبلوه بها إلا كانت امتحاناً له في هذه الحياة؛ ولذلك فإن حياة الإنسان في كل يوم فيها غدو ورواح في طريقه إلى الموت والخروج من هذه الدار، وكل يوم من الأيام تقوم به حجة الله عليه، وهو تاجر إما رابح وإما خاسر، وقد بين الله سبحانه وتعالى إحاطة الخسران بالإنسان، ولا يخرج من ذلك إلا من جمع الخصال الأربع التي انتظمتها سورة العصر، حيث يقول الله فيها: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[العصر:1-3].

    فالأصل إحاطة الخسران بالإنسان، ولا يخرج منه إلا بهذه الخصال الأربعة، وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها )، فبين أن الناس جميعاً يغدون في هذه الحياة، يستيقظون من نومهم، فيقومون كأنما بعثوا من جديد، ثم يبدءون مشوار الحياة، وهي امتحان شاق فكل الناس يغدو، ثم بعد ذلك ينقسمون إلى قسمين: (فبائع نفسه فمعتقها)، بائع نفسه لله سبحانه وتعالى فمعتقها من عذاب الله وناره، (أو موبقها) أي: موقعها في نار جهنم عائذاً بالله، والإنسان في هذه الدار مكلف بعدد كبير من التكاليف هي أكثر من أوقاته، وهي كذلك متنوعة يشق على الإنسان الجمع بينها إلا من وفقه الله سبحانه وتعالى وثبته واختاره لذلك.

    ومن هنا كانت الهداية اختياراً ربانياً ونوراً من عند الله سبحانه وتعالى، يقذفه في قلوب من شاء من عباده، كما قال تعالى: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، فمن أراد الله به الخير نجح في هذا الامتحان في هذه الدار، ونجاحه لا يمكن أن يتحقق إلا بنجاته من عذاب الله جل جلاله، فإذا عاش الإنسان على رسوب ووقوع في المنكرات وكبائر الإثم، ولكنه حسنت خاتمته فتاب إلى الله توبة نصوحاً، ولو في آخر ساعة من ساعات عمره، فختم حياته الدنيا بشهادة: أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإنه نجح في الامتحان رغم ما سبق، ولكن الناجحين يتفاوتون في النجاح، فالفائزون منهم من أنفقوا أعمارهم كلها في طاعة الله، وأنفقوا ما أنعم الله به عليهم في مرضاته، فوظفوا كل ذلك في ما يرضي الله سبحانه وتعالى، فهؤلاء نجاحهم باهر، وهم في الدرجة الأولى وهم المتفوقون، ثم دونهم كذلك المقتصدون الذين خلطوا عملاً صالحاً، وآخر سيئاً، وهؤلاء عسى الله أن يتوب عليهم، ثم وراء ذلك الظالمون لأنفسهم الذين تابوا وندموا، وحسنت خواتمهم، فأولئك أيضاً ينجون ولكن مستواهم ليس كمستوى السابقين بالخيرات بإذن الله، ولكن مستوى المقتصدين؛ ولهذا قال الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا[فاطر:32-33].

    ونجاح الإنسان في هذه الدار يشمل هذه الوظائف الأربعة التي ذكرت في سورة العصر:

    1.   

    النجاح في العلم

    فأولها: نجاحه في العلم، فالإنسان آتاه الله سبحانه وتعالى عقلاً، وسمعاً، وبصراً، وتجربة، وهي وسائل العلم وقد أخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئاً، كما قال الله تعالى: وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78]، فهذه هي وسائل العلم، فعلى الإنسان أن يخصصها لما خلقت من أجله، وأن يستغلها في ذلك ونجاحه في ذلك، يقتضي تنافساً عظيماً، فالعلم أهله متفاوتون فيه، وقد جاء أمر الله سبحانه وتعالى لرسوله بالازدياد منه، وقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أي يوم لا أزداد فيه علماً فلا بورك في طلوع شمس ذلك اليوم ).

    فليحرص الإنسان العاقل الذي يريد الفوز والنجاح في هذه الحياة على الازدياد من العلم كل يوم تطلع فيه الشمس، وهذا العلم هو في الواقع جهاد، فهو مرتبة من مراتب النفس، فالنفس تحب الركون إلى الهدوء والراحة، والطمأنينة، وبما أن العلم مكلف ويقطع الإنسان عن شهوته وعن كثير من أغراض دنياه وعن حظوظه، وهو وازع له أيضاً عن معصية الله، ووازع له عن اتباع خطوات الشيطان، إذ كان الشيطان حريصاً على منع الإنسان من النجاح فيه والالتزام به؛ ولذلك يقول أحد علمائنا وهو محمد بن المحبوب رحمة الله عليهما: إن التكرار -تكرار العلم- ما كرّهه إلى الشيطان إلا كثرة ما فيه من الأجر والفضل. يقول: ما كرهه الشيطان إلا لأمر، فالشيطان يكره تكرار العلم كراهة شديدة، ولا يكره الشيطان شيئاً لابن آدم إلا إذا كان نافعاً له مفيداً في حياته.

    الإخلاص عند طلب العلم

    وهذا العلم تلقيه نافع في الدنيا ونافع في الآخرة، فإذا أخلص فيه الإنسان لله سبحانه وتعالى ولو كان يدرس علماً من علوم الدنيا، ولكنه أراد بذلك خدمة الدين، وخدمة البشرية، فدرس الطب أو درس شيئاً من العلوم الدنيوية النافعة، وكانت نيته خالصة لله سبحانه وتعالى، اندرج في سلك طلبة العلم، الذين تمد لهم الملائكة أجنحتها رضاً بما يصنعون، ويستغفر لهم كل شيء حتى الحيتان في الماء، وإذا كان دراسته للعلم الشرعي الذي أنزل الله على رسله وأرسل به محمداً صلى الله عليه وسلم، وأنزل به هذا القرآن العظيم، فذلك أيضاً لا يستغني عنه طالب علمٍ دنيوي، ولا طالب علم أخروي، فلا بد لكل طالب علم أن يكون له حظ من طلب العلم الشرعي، وذلك أنه خلق من أجل العبادة، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

    ولا يمكن أن يكون الإنسان مؤدياً لما خلق من أجله إلا إذا عرفه، فالإنسان الجاهل بالله جل جلاله الذي لا يعرف الله لا يمكن أن يعبد الله، والإنسان الذي لا يعرف حكم الله في الأمور قد يعبد الله ويتقرب إليه بما هو حرام، وهذا معصية مبعد من الله سبحانه وتعالى لا مقرب إليه.

    فلذلك احتاج الإنسان العاقل في نجاحه إلى أن يتعلم ما أمر الله به، وأن يحرص على ذلك كل الحرص، ثم بعد ذلك يواصل طريقه في طلب العلم وهو طريق طويل؛ لأنه لا انقضاء له إلا بالموت.

    تعليم الله لرسوله صلى الله عليه وسلم

    وأنتم تعرفون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي علمه الله ما لم يكن يعلم وامتن عليه بذلك فقال: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113]، ( توفي والوحي أشد ما يكون تتابعاً )، كما ثبت في حديث عائشة رضي الله عنها، فاستمر الوحي منذ أنزل إليه وحصلت فترات، فمثلاً: بعد نزول سورة اقرأ في أول نزول الوحي فتر الوحي ثلاث سنين، وكان في تلك الفترة لا ينزل عليه قرآن يتلى، ولكنه كان يؤمر وينهى، وكان جبريل عليه السلام يؤدبه، أي: يأمره وينهاه ويعلمه دون أن ينزل عليه قرآناً يتلى، ثم بعد ذلك بينما هو يسير في شعب من شعاب مكة سمع صوتاً من السماء، فرفع بصره فإذا الملك الذي جاءه بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعب منه فرجع إلى أهله فقال: زملوني، زملوني، فأنزل الله: يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ[المدثر:1-5]، ثم بعد ذلك حمي الوحي وتتابع، فتتابع الوحي وفي بعض الفترات يقع انقطاع فيه لمدة محددة، ثم يعود، وذلك ابتلاء وامتحان للناس وأيضاً تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتثبيت للمعلومات وسعي لمراجعتها.

    أخذ الراحة لمراجعة العلم والاستعداد لتلقي غيره

    وقد أخذ أهل العلم من ذلك دروساً مهمة فيما يتعلق بالطلب، فمنها أن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، فالذي يريد أن يواصل الدراسة يومه وليله، ولا يكون له وقت من السنة للراحة أو وقت من الأسبوع أو وقت من الشهر لمراجعة معلوماته، قلما يثبت شيء من المعلومات لديه، فلا بد أن يكون للطالب راحة يأخذها، وهي تتفاوت حسب جده واجتهاده في الطلب؛ ولهذا يحتاج الإنسان الجاد إلى شيءٍ من المزح، وشيءٍ من الراحة، لئلا يكد عقله وذهنه، وقد قال أحد الحكماء:

    أفد طبعك المكدود بالجد راحة يجم وعلله بشيء من المزح

    ولكن إذا أوليته المزح فليكن بمقدار ما يعطى الطعام من الملح

    ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم انقطع عنه الوحي فترة بمكة، فقال له المشركون: ودعك ربك، أي: تركك، فأنزل الله في ذلك: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3]، أي: ما تركك ربك ولا قلاك، أي: ما أبغضك، وهذا ضمان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى لن يبغضه أبداً، فهو أحب الناس إليه وهو حبيب الله جل جلاله. وفتر الوحي خمسين يوماً لانتظاره في شأن الثلاثة الذين خلفوا، وفتر كذلك في قصة الإفك امتحاناً للأمة، وليظهر الاجتهاد، ويظهر الصادقون وأصحاب الرأي والخبرة، فكل ذلك كان من حكمة الله جل جلاله البالغة.

    التأديب الذي يحتاجه طالب العلم

    كما أخذ أهل العلم أيضاً درساً آخر من تعلم النبي صلى الله عليه وسلم ومن بدئه له وغط جبريل له ثلاثاً، أن الطالب يحتاج إلى تأديب ولو كان أعقل الناس وأذكاهم وأكبرهم في السن؛ ولذلك لما جاء إسحاق بن راهويه الحنظلي رحمه الله إلى الشافعي بمكة وحضر مجلسه، وكان الشافعي يتكلم فيما يتعلق ببيوت مكة وملكها، و الشافعي يرى أن بيوت مكة لا تملك وأنها وقف على المسلمين، وأنها فتحت عنوة، وكان إسحاق بن راهويه يخالفه في الأمر، فاستدل إسحاق بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وهل ترك لنا عقيل من رباع )، أي: أن عقيل بن أبي طالب باع ديار بني هاشم التي كانت بمكة، والحديث يدل على إقرار النبي صلى الله عليه وسلم له على ذلك، لكن الواقع أنه لا يدل على ذلك، بل إنما فعل عقيل ذلك في وقت الكفر والشرك، فلم يكن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك له إقراراً؛ لأن الإقرار المعتبر هو ما كان تحت سلطانه، وفي دولته، وتحت يده، فلو استدل بذلك على إقراره لبيع البيوت بمكة لاستدل أيضاً على إقراره بوضع الأصنام على الكعبة، فقد سكت عنها أيضاً، فقال الشافعي : أنت إسحاق بن يعقوب الحنظلي الذي يعدك أهل خراسان فقيههم ما أجدرك بمن يفرك أذنيك، فرى أنه يستحق أن تفرك أذناه حتى يؤدب على هذا الفهم؛ لأنه فهم خاطئ.

    ولذلك فإن أحمد بن حنبل كان مع إسحاق في رحلته، فذهب أحمد و إسحاق إلى سفيان بن عيينة يسمعان حديثه، فمر أحمد في طريقه على الشافعي فجلس إليه، وانتظر إسحاق فلم يأته، فلقيه بعد ذلك فقال: أين كنت؟ فقال: رجعت إلى الحلقة وسمعت من ابن عيينة حديث كذا وكذا، فقال: لئن فاتك حديث ابن عيينة بعلو فإنك ستدركه بنزول، وإن فاتك عقل هذا القرشي فلن تدركه، فأمره بالذهاب إليه.

    وكان مالك رحمه الله يؤدب طلبة العلم الكبار من أمثال عبد الملك بن الماجشون وهو من أكبر أصحاب مالك وأذكاهم، حتى إنه يوماً سأله سؤالاً لم يعجب مالكاً ، فأمر بإقامته من مجلسه، فقام من مجلسه فجاء طالب آخر فجلس في مجلس عبد الملك ، وأنتم تعرفون أن مجالس مالك كانت تزدحم ازدحاماً شديداً؛ لأنه كان من زينة الدنيا أن يقول الرجل: أخبرنا مالك ، فكان لـمالك ثلاثة مستملين، أي: ثلاثة مسمعين: مسمع يقف عند منتهى صوت القارئ على الإمام، ومسمع يقف عند منتهى صوت ذلك، ومسمع يقف عند منتهى صوت ذلك ليبلغ الحاضرين، فجاء رجل فجلس مكان عبد الملك فرفسه مالك برجله، وقال: ما أجرأك على الله! يقام منه عبد الملك فتجلس أنت فيه.

    فكان مالك يؤدب طلابه، وتعرفون الحديث الذي فيه أنه خرج إلى العقيق، فسأله رجل عن حديث وهو في الطريق، فقال: من هذا الذي يسأل عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق؟ اجلدوه عشرين سوطاً، فقيل: إنه القاضي، فقال: القاضي خير من أدب، فجلد القاضي عشرين سوطاً، ثم دعاه مالك إلى مجلسه فحدثه عشرين حديثاً كل حديث عن سوط، فقال القاضي: ليته جلدني مائة فحدثني مائة حديث.

    وكذلك كان العلماء يؤدبون طلابهم ولو كانوا من الأذكياء ولو كانوا من الكبار، فـمالك يقول لـلأوزاعي، و الأوزاعي من أئمة الدين الكبار، وقد مات قبل مالك ، وهو في الطبقات قبل مالك ؛ لأنه متقدم عليه في الوفاة، لما قرأ عليه الموطأ هو ووفد الشام في أربعين يوماً، قال: كتاب ألفته في أربعين سنة تأخذونه في أربعين يوماً، قلما تفقهون فيه.

    وهذا التأديب يؤخذ من غط جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً عند بدء التعلم.

    وكذلك يؤخذ منه درس آخر: وهو ألا يزاد في التأديب على ثلاث، وأن لا يكون التأديب شديداً بالغاً، فليس فيه ضرب ولا إهانة، بل فيه ضم، والضم تقريب في الواقع، كما في حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ضمه ودعا له؛ فلذلك قال الحافظ ابن حجر : يؤخذ من الحديث ألا يزاد في تأديب الصبيان على القرآن على ثلاث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غط ثلاثاً.

    استغلال وتنظيم الوقت عند طلب العلم

    والنجاح في الطلب أساسه استغلال الوقت، ومراجعة الإنسان لما طلب، فكثير منا يضيع وقتاً طويلاً في الطلب ولا تكون له مراجعة ولا مذاكرة لما درس، فكأنه يملأ قربة مشقوقة، كلما دخلها شيء خرج منها دون فائدة، ولا يكون هذا نجاحاً أبداً، فالناجح في الطلب لا بد أن يستغل الوقت أولاً، ومما يعين على ذلك تنظيمه وترتيبه، فالطالب عندنا هنا في هذه البلاد ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون طالباً في المدارس النظامية، وإما أن يكون طالباً في المحاظر، فطالب المدارس النظامية له مقررات محددة، ويأخذ الدروس في ساعات محددة، وله وقت محدد للامتحان، فهو معان على تنظيم الوقت وترتيبه، ويبقى فقط أن تكون مراجعته يومية لدروسه، وأن يلخص كل درس مع استيعابه، ثم بعد ذلك يسعى لحفظ ما يحتاج إلى الحفظ، ولتدبر وتفهم ما زاد على ذلك، وجمع المعلومات لمعرفة المتناقضات منها، والإشكالات التي ترد عليها، فالإشكال علم كما يقول أهل العلم، وقد قال الشيخ محمد الإمام رحمه الله في حاشيته على كتاب القياس من جمع الجوامع لـابن السبكي : الإشكال كما يقال علم؛ لأن الإنسان إذا استشكل شيئاً لا بد أن يبحث عن حل له، وسيقتضي ذلك منه كد ذهنه وإعمال اجتهاده، ثم بعد ذلك يسأل الآخرين ويحرص على الجواب، فما لم ينله الإنسان إلا بالجد والتشمير فسيحافظ عليه محافظة شديدة كما يقول العرب:

    النيل بعد اليأس أبلغ في النفس

    فلذلك يحتاج الإنسان إلى هذا التنظيم، وإلى الاستفادة من هذا التنظيم للوقت.

    مراجعة دفاتر الآخرين من طلبة العلم

    ويحتاج أيضاً إلى مراجعة دفاتر الآخرين حتى لو كان هو حاضراً؛ لأن الذي تكتبه أنت يتأثر بعدة مؤثرات، منها: اهتمامك، ومدى فهمك، واستيعابك. وما يكتبه الآخرون كذلك يتأثر بشخصياتهم وأساليبهم، فإذا قارنت بين عدد من الدفاتر، سيحصل لك النفع بذلك، حتى لو حضرت الدرس، وأنا أعرف أن عدداً كبيراً من الطلاب إذا حضروا درساً لا يحرصون على الرجوع إلى الدفاتر الأخرى، وهذا خطأ، وهو مانع من كثير من الفوائد التي يمكن أن يستفيدوها، لو راجعوا الدفاتر الأخرى، واطلعوا على ما فيها.

    التلخيص للدروس وحفظ ما يحتاج إلى الحفظ منها

    وبعد ذلك لا بد أيضاً من الحرص على التلخيص، فالأسلوب الذي يلقي به المعلم الدرس هو أسلوب تقميش، وهو يحتاج إلى توسع فيه وتنوعٍ في العبارة، وتكرار في بعض الأحيان ليفهم عنه، فقد ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر على قوم فسلم عليهم، سلم عليهم ثلاثاً، وإذا تكلم بكلمة تكلم بها ثلاثاً ) لتفهم، كما في حديث أنس رضي الله عنه، والمعلم الناجح يحتاج إلى مراعاة الفروق الفردية بين الناس في إلقائه؛ فلذلك يقع التكرار في إلقائه فيحتاج الطالب إلى أن يلخص.

    ثم بعد ذلك إذا لخصت يحتاج إلى حفظ بعض ملخصاتهم، و الشافعي رحمه الله لخص ذلك بجملة مفيدة وهي قوله: الأدب أن تكتب أحسن ما سمعت، وأن تحفظ أحسن ما كتبت، وأن تحدث بأحسن ما حفظت، فيكون الإنسان منتقياً بالتدريج، فيكتب أحسن ما سمع، ثم يحفظ أحسن ما كتب، ثم يحدث بأحسن ما حفظ.

    وهذا التنظيم للوقت الذي هو للمدارس النظامية يحتاج إليه أيضاً في المحاظر، فالطالب ينفق وقتاً طويلاً في دراسة كتاب واحد، ليس له في اليوم إلا درس واحد في أغلب الأحيان، وهذا الدرس يمكن أن يدرسه خلال نصف ساعة، يجلس بين يدي الشيخ نصف ساعة فيشرح له درسه، أو ساعة إذا طال الدرس، ثم تمضي بعد ذلك ثلاث وعشرون ساعة ليس فيها درس جديد، وهذا خلل كبير وإضاعة للوقت، فيحتاج الطالب المحظري في نجاحه إلى أن يستغل بقية الوقت، وذلك بمراجعة الكتب الشارحة، والكتب المماثلة، مثلاً: إذا كان الإنسان يدرس الفقه مثلاً، يدرس مختصر خليل ، فإذا درس درساً من الدروس مثلاً: شرط لصلاة طهارة حدث وخبث، وإن رعف قبلها، ودام أخر لآخر الاختياري وصلى، أو فيها وإن عيداً أو جنازة وظن دوامه له وأتمها إن لم يلطخ فرش مسجد وأومأ لخوف تأذيه أو تلطخ ثوبه..) إلى آخره، سمع الشرح من الشيخ في ساعة، فيرجع إلى الشروح شروح المختصر المتوفرة في المكتبات، فيراجع فيها هذا حتى يستوعب معنى الكلام ومفاهيمه وما يتعلق به، ثم يرجع إلى كتب الأدلة، ثم يرجع إلى كتب الفقه المقارن ليطلع على نظير ذلك في المذاهب الأخرى.

    وإذا كان يدرس النحو مثلاً، فدرس في الألفية:

    علامة التأنيث تاء أو ألف وفي أسام قدروا التاء كالكتف

    ويعرف التقدير بالضمير ونحوه كالرد في التصغير

    .. إلى آخره، فدرس هذا الدرس على الشيخ في مدة نصف ساعة، فعليه أن يرجع إلى شروح الألفية الموجودة في المكتبات، فيطالع فيها حتى يستوعب فكرة النص والمقصود به، ثم يرجع إلى الكتب الموسعة الأخرى، مثل: شرح المفصل لـابن يعيش ، ومثل شروح الكافي لـابن الحاجب ، وإذا استطاع أن يرجع إلى كتب أكبر من ذلك فعل، ككتاب سيبويه مثلاً حتى تحصل لديه حصيلة من كل هذه الكتب، وهكذا في كل كتاب يدرسه.

    بالإضافة إلى أنه ينصح أيضاً بحضور دروس الطلاب الأخرى، وأن يكون له وقت للمراجعة معهم في الفنون التي يدرسونها، فالوقت الذي كان يجده طلاب محاظر الدراسة قديماً لم يعد الآن متوافراً، وضاق الزمان وانتزعت منه البركة، فالطالب كان يدرس ثمان وعشرين سنة في المحظرة، وحصيلته إذا رجع إلى أهله سنجدها كتباً محصورة، كان بالإمكان أن يجمع منها عدداً، وكان بالإمكان أن يطالع غيرها وأن يدرس سواها، ففي ذلك إضاعة كبيرة للوقت.

    تلخيص لأهم شروط النجاح في العلم

    فإذاً: أهم شروط نجاح الإنسان في الدراسة استغلال الوقت، والشرط الآخر: الإخلاص في الطلب، فلا يمكن أن يعان الإنسان على العلم إلا إذا أخلص فيه لله جل جلاله، حتى لو كان العلم دنيوياً فمن ما يقتضي نجاح الإنسان فيه نجاحاً باهراً أن يكون مخلصاً لله سبحانه وتعالى في الطلب، وأخرنا هذا الشرط عن الشرط الأول؛ لأن الشرط الأول لا يمكن أن ينجح أحد بدونه حتى الكفار، حتى الفجار، في دراستهم لا يمكن أن ينجحوا إلا بتنظيم الوقت، أما الإخلاص فهو للمسلمين فقط، أما من سواهم فلا فائدة في إخلاصهم إلا إذا قدر أن الإخلاص هنا يقصد به الإخلاص بمهماته أو لمبادئه أو نحو ذلك، لكن الإخلاص المقصود به: الإخلاص لله جل جلاله، وقصد وجهه الكريم والتخلص من الحظوظ النفسية، وغيرها، فمن طلب العلم من ما يبتغى به وجه الله لا يطلبه إلا لحظ من الدنيا لم يرح رائحة الجنة.

    فلذلك لا بد من الإخلاص لله جل جلاله وقصد وجهه الكريم، وذلك مما يقتصر الطرق ويعين الإنسان على ثبات العلم في عقله، ولمباشرته لشغاف قلبه، وانظروا إلى أسلافنا كيف أحرزوا هذا العلم الكثير، مع أن كثيراً منهم لم يكونوا يكتبون ولا يقرءون، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يحظرون الخطبة مرة واحدة فيحفظونها، فأيكم اليوم يستطيع أن يحفظ خطبة الجمعة كما ألقاها الإمام على المنبر؟ بل كثير منهم حفظوا سوراً طويلة من القرآن من مجرد السماع، ولم يكونوا يأخذون كثيراً من السور إلا من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحفظونها كما قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك التابعون بعدهم فالفرافصة يقول: ما حفظت سورة يوسف إلا من كثرة قراءة عثمان لها في الصبح، حفظها من قراءة عثمان لها في الصبح. وأعينوا على العلم ببركة إخلاصهم وصدقهم، فـمالك بن الحويرث من فقهاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء هو وأصحابه كانوا شببة، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة فمكثوا معه عشرين يوماً، عشرين يوماً فقط، أي انتداب هذا وأي تدريب هذا مدة عشرين يوماً! فتخرجوا بالشهادة، وكانوا من الفقهاء العاملين بما علموا، وزكاهم النبي صلى الله عليه وسلم وأمرهم بأمر فصل. وكذلك وفد عبد القيس ، وقد جاءوا من شقة بعيدة فقالوا: ( يا رسول الله! إننا نأتيك من شقة بعيدة، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، ولا نصل إليك إلا في الشهر الحرام، فأمرنا بأمر فصل نأمر من وراءنا وندخل به الجنة، فقال: آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع )، فاختصر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولخص لهم فرجعوا فقهاء، وبقي هذا العلم الذي علمهم لمن بعدهم.

    وكثير من أئمتنا الأفذاذ الذين كان لهم دور كبير في بناء علم هذه الأمة، كان لإخلاصهم الأثر الواضح في بركة علمهم وثمرته وأثره؛ ولذلك قال أحدهم: ليس العلم عن كثرة الرواية، وإنما هو ما أدى إلى خشية الله، يقول الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].

    استغلال الوسائل التي امتن الله بها علينا في طلب العلم

    ثم بعد ذلك الشرط الثالث لنجاح العلم: أن يستغل الإنسان هذه الوسائل التي امتن الله بها وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ [النحل:78]، فلا بد أن يستغلها الإنسان، فالإنسان الذي يحفظ فقط ولا يتدبر ولا يفكر، قد يكون مسجلاً وقد يعد شريطاً، لكن ليس لعلمه فائدة ولا ثمرة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من الناس من ينقل إلى من هو أفقه منه، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه في السنن وغيرها وقد ذكره بعض أهل العلم في المتواترات، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه )، فإذا لم يستغل الإنسان هذه الوسائل لم يكن ناجحاً حتى لو أوتي علماً، فذلك عطاء وفضل من الله، لكن لا يعتبر له هو فيه فضل ولا نجاح، فالنجاح هو ما كان راجعاً إلى كسب الإنسان وعنايته، فإذا اعتنى الإنسان بسمعه وبصره وفؤاده واستغل هذه الوسائل في طلب العلم، فإنه لا شك سينجح في ذلك وسيرى كثيراً من ملكوت السموات والأرض، التي لا يطلع عليها الإنسان العادي، فالإنسان الطبيعي العادي حجب عنه ملكوت السموات والأرض، لكن إذا أعمل الإنسان عقله وسمعه، وبصره، وجوارحه، فإنه سيفتح له في ذلك فتحات عظام، فالله أثنى على أنبيائه بإعمالهم لهذه الجوارح، فقال تعالى في سورة ص: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ المُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ[ص:45-47]، فهؤلاء الأنبياء أثنى الله عليهم بأولي الأيدي والأبصار، وليس المعنى أنه: خلق لهم أيدياً وأبصاراً فهذا لكل البشر، لكن المقصود أنه: يعملونها، فالثناء عليهم إنما هو بما كان من تلقاء أنفسهم ومن كسبهم، ومن جدهم واجتهادهم؛ ولذلك قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:75]، فأراه الله ملكوت السموات والأرض، فأقام به الحجة على البشر، فقال لقومه وهو يريد أن يصرفهم عن الشرك وعبادة الأوثان: لماذا لا تعبدون الله جل جلاله وهو خلقكم وسواكم، فقالوا: نحن لا نعبد إلا ما نراه، ولا نؤمن إلا بما نراه، فقال: إذا كنتم لا تؤمنون إلا بما ترونه، فلماذا هذه الحجارة، أنتم تنحتونها وتصنعونها، وترفعونها، وهي أدنى منكم خلقةً وأضعف منكم مستوىً، فتعالوا نعبد ما هو أشرف من هذه الحجارة مما ترونه، وهذا منصف يدركه العقل.

    فرأى كوكباً فقال: لنعبد هذا الكوكب فلم يمانعوا في ذلك؛ لأنه وافقهم على أصل المبدأ، وأقرهم على أصل ما كانوا عليه؛ ليأخذه منهم بقناعتهم من دون مصادرة، فلما غاب الكوكب، قال: هذا غاب، فقالوا: لكنه سيعود الليلة القادمة، فقال: إذاً: آمنتم بما لا ترونه، ثم بعد ذلك طلع القمر، فقال: فلنعبد هذا أحسن من الكوكب وأرفع منه، قالوا: لا مانع فعبدوا القمر ثم غاب القمر، فقال: هذا غاب، لا أحب الآفلين، فقالوا: لكنه سيعود من الغد، فقال: إذاً: آمنتم بما لا ترون وهو الآن غير موجود، ثم لما كان من الغد طلعت الشمس قال: هذه أكبر من الكوكب وأكبر من القمر، فتعالوا نعبدها، قالوا: لا مانع، فلما غابت الشمس، أقام عليهم الحجة ثلاثاً بأنهم إذا كانوا لا يعبدون إلا ما يرونه فإنهم يؤمنون بأشياء لا يرونها. وهذا أمر قريب جداً، والعاقل يستغرب ممن يحجب هذا النوع عنه من التفكير، وما ذلك إلا لتجاوز مراحل من مراحل التفكير. فاليوم اشتهر ديكارت بأنه مفكر، و ديكارت في بداية تفكيره قال: أنا أفكر، إذاً: فأنا موجود، عرفت أنك تفكر وقبل أن تعرف أنك موجود يتم هذا، فالذي دلك على التفكير يدلك على الوجود قبل التفكير، فالحجة إنما تقوم بإعمال هذه الجوارح واستغلالها، ومعها إعمال الطاقات الأخرى، فمثلاً: الذي يريد النجاح في طلب العلم إذا كان يراود على النوم، ويحاول أن ينام وعيناه لا تطاوعانه على ذلك، فهذا لا يمكن أن ينجح في طلب العلم، فالنوم حالة استثنائية ينبغي للإنسان ألا يميل إليه حتى يكون النوم هو الهاجم عليه، وهو السلطان الجائر، فقبل أن يباغتك النوم وأن يهجم عليك لا تحاول أن تنام أبداً، ودع النوم هو الذي يغزوك.

    وكذلك الذي يحاول إتعاب نفسه بزيادة المأكل والمشرب، فالطعام والشراب ضرورة من ضرورات البشر، ولكن لماذا يزيد الإنسان عن الضرورة؟ ليزداد الوزن ويتضخم الجسم من غير فائدة، فهذا إنما هو إشغال وإهدار للطاقات، إشغال لها بما لا خير للإنسان فيه، فحسب الإنسان من ذلك ما يكفيه ويسد حاجته، ويسد رغبته أيضاً في الأمور المحرمة، فذلك كافٍ. وقد ذكر أحد العلماء في هذه البلاد أنه يتعجب من بعض الناس وهو يأخذ اللقمة ثم يشرب عليها الماء ليبتلعها ولا يستطيع ابتلاعها بسجيته وطبعه، فيشرب الماء عليها ليبتلعها كأن اللقمة دواء، فيقول: ما لا يستساغ إلا بشرب الماء عليه هذا عذاب؛ لأنه لا يبتلعه بسجيته وطبعه؛ فلذلك لا بد من استغلال هذه الطاقات وهو شرط من الشروط المهمة في النجاح في طلب العلم.

    الحرص على تبليغ العلم وتوصيله للآخرين

    كذلك من الشروط المهمة للنجاح في طلب العلم أيضاً: حرص الإنسان على تبليغه، وتوصيله للآخرين، فالإنسان الذي يتعلم لنفسه فقط، وإذا فهم شيئاً لم يحرص على تفهيم الآخرين، ولم يحرص على تبليغه لا يمكن أن يكون ناجحاً في الطلب؛ لأن العلم سلاح ذو حدين، وإذا لم يستغله الإنسان كان ترةً عليه وحجة؛ ولذلك قال أبو الدرداء رضي الله عنه: أن أخوف ما أخافه يوم القيامة أن يقال لي: أعلمت أم جهلت؟ فأقول: بل علمت، فيقال: ففيمَ عملت فيما علمت؟

    فإذا استحضر الإنسان أنه سيسأل عما يدرسه من العلم، هل بلغه وأوصله إلى غيره؟ وهل أداه حق أدائه؟ فإن عليه أن يحرص على بيانه وتفصيله، وذلك مما يفيد الإنسان أيضاً دربة، وكثير من الناس يكون لديه ضعف في شخصيته سببه عدم الممارسة، فإذا تجاسر الإنسان وتشجع فإن ذلك يزيل عنه ذلك الضعف، ألا ترون الإنسان أول ما يقود السيارة يكون مرتبكاً ينظر إلى المرآة التي أمامه والتي عن يمينه، والتي عن شماله، ولا يدخل أي سرعة إلى وقد نظر إليها وهو ينظر إلى رجليه على أي المداعس تدعس، وينظر إلى المقود ولا يستطيع إمساكه عن الخط؛ لأنه يحتاج إلى دربة، وهكذا الإنسان إذا بدأ ممارسة رياضة العوم في المياه فإنه يظن أنه بمجرد انغماسه في الماء سيصل إلى القاع، ولا يمكن أن يسبح أبداً، ويتعجب من الناس كيف يسبحون على المياه؟ ولكن بمجرد دربة بسيطة ومعرفة الإنسان بتحريك يديه ورجليه، مجرد الحركة الدائمة يتعلم الإنسان السباحة، ويستطيع التغلب على هذه العقدة النفسية. كذلك الإلقاء فما هو إلا عقدة نفسية، فإذا قيل لأحدكم الآن قم على هذا المنبر وألقي لنا خطبة فسنراه يمسك ثوبه، ويكاد يحتزم به ثم بعد ذلك ترتجف فرائصه، ثم بعد ذلك يقدم جُملاً غير متناسقة، وكثيراً ما يخطئ ثم يرتبك وتأخذه القشعريرة والرعدة، ويبقى في ذهنه كثير من الموضوعات والعلوم التي كان يريد تبليغها وتوصيلها، ولكن رأى اللسان قد خانه فلم يستطع إيصالها إلى الناس، فما هذه إلا عقدة نفسية إزالتها بالدربة، فعندما يتدرب الإنسان ويتعود على النظر في عيون الناس، ويتعود على أدب الوقوف على المنبر، ويتعود على مخاطبة الناس، ويتعود على تنسيق أفكاره وترتيبها، والأفكار ما هي إلا شريط في ذهن الإنسان إن استطاع أن يقدمها ينجح في ذلك، وهذا النجاح هو من النجاح العلمي؛ لأن الإنسان سيمتحن، وكثير من الطلبة تحصل لديهم عقدة نفسية حتى لو كان حافظاً لكل المعلومات، فإذا جاء الامتحان وهو متعود على الغش عن جاره ويريد سؤاله، ويريد حل الأسئلة عن طريق جيرانه؛ لأنه هو لا يثق بنفسه، لكن إذا وثق بنفسه وقدم معلوماته حتى لو كانت خاطئة على الأقل فستكون متماسكة، ويستحق بها درجات ربما نجح بها، ولكن ما دام يحتقر نفسه وينظر للآخرين لن ينجح أبداً.

    ومن هنا فاستغلال الإنسان لطاقاته الشخصية، واهتمامه بإيصاله المعلومات إلى الآخرين من الشروط المهمة لنجاحه في الطلب.

    التدرج في طلب العلم حسب سلم العلم المعروف لدى أهله

    كذلك من الشروط المهمة للنجاح في الطلب عدم القفز على درجات السلم، فأنتم تعرفون أن كثيراً من الطلبة يقفزون على درجات السلم، يرون سلماً مبنياً، فيظنون أن هذا السلم ما بني إلا صدفة هكذا، وكان بالإمكان أن يجعل ثلاث درجات فقط بدل أن نجعله ثلاثين درجة، فيريد أن يقفز من أدنى درجة من درجات السلم إلى أعلى درجة، فإذا تعلم حديثين أو ثلاثة، وتعلم قليلاً من العلم ظن أنه أكمل كل شيء، واستطاع أن يفتي في كل شيء، وأن يتجاسر على كل شيء، وأن يتزبب قبل أن يتحصرم، وما هذا إلا قفز على السلم، وهو منافٍ للنجاح، فالعلم درجاته أولى بالاحترام من درجات السلم، درجات السلم أنت تحترمها في صعودك ونزولك وتخاف السقوط إذا تجاوزت درجة، فكذلك العلم درجاته لا بد من احترامها هذا الاحترام؛ خشية أن تزل قدم بعد ثبوتها، فيحتاج الإنسان إلى مراعاته وترتيبه، والعلوم متفاوتة في درجاتها وفائدتها فلا بد من ترتيبها كذلك في العناية بها.

    تقسيم العلوم الشرعية

    ولأهل العلم مناهج موضوعة لهذا وإن كانت تختلف باختلاف الأشخاص والبلدان والأحوال، ولكن عموماً ثمت تقسيم لا بد منه، وهو أن نعرف أن العلوم تنقسم إلى قسمين كبيرين:

    أحدهما: علم مقاصد، والثاني: علم وسائل، فعلم المقاصد مثل: علوم الوحي، ما يتعلق بالفقه والعقيدة وأدلة ذلك من الكتاب والسنة، وعلوم التفسير، وعلوم شرح الحديث، هذه علوم مقاصد.

    وعلوم وسائل: وهي التي يفهم بها مثل: المصطلحات، كاللغويات مطلق النحو، والصرف وغير ذلك، وكذلك من المصطلحات: مصطلح الحديث، وأصول الفقه، وعلم الجدل، فهذه من العلوم الاصطلاحية التي لا يفهم الإنسان سواها إلى بها، فهي من العلم الثاني الذي هو علم وسائل. والعلوم سلالات أي كل مجموعة منها بينها رحم أو تقارب، يكمل بعضها بعضاً، فمثلاً علوم القرآن يدخل في تحت هذا العنوان مثلاً ستة علوم أو سبعة علوم، مثلاً: علم الأداء أي التجويد، ثم علم القراءات اختلاف القراء، ثم علم التفسير، ثم علم الرسم والضبط، ثم علم علوم القرآن ثم علم طبقات القراء والمفسرين، فهذه تقريباً ست سلالات متقاربة.

    وكذلك علوم الحديث، فمثلاً علم الحديث رواية أي الألفاظ النبوية، الكتب التي جمعت متون الحديث وأسانيد الحديث فهذه علمها علم من هذه السلالة، ثم بعد ذلك علم المصطلح، ثم علم شرح الحديث، ثم علم العلل، ثم علم التخريج ودراسة الأسانيد، ثم علم الرجال الجرح والتعديل، فيضاف إلى هذا علم تاريخ تدوين السنة مثلاً.

    وكذلك علوم الفقه، وهي سلالة كبيرة فيها عدد كبير من العلوم، منها علم الفقه المذهبي، فأنت مثلاً طالب تدرس على المذهب المالكي، فلا بد من مقررات تدرس في المذهب المالكي، لا يكون الإنسان عارفاً بهذا المذهب إلا إذا درسها، الشخص الذي لم يدرس الرسالة لـابن أبي زيد القيرواني ولم يدرس مختصر خليل مثلاً، عندنا هنا لا يمكن أن يكون طالباً للمذهب المالكي.

    بعد ذلك العلم علم الفقه المقارن، ودراسة المذاهب الأخرى سواء كانت على الجمع أو على الإفراد، فالإفراد أن تدرس كتاباً في كل مذهب، والجمع أن تجمع بينها إما بالمقارنة بين تآليف تدرسها على الشيخ، أو أن تدرس كتاباً واحداً من الكتب الجامعة المقارنة بين المذاهب. ثم بعد ذلك علم الخلاف العالي وهو الذي يذكر المذاهب المندرسة وأقوال التابعين، والصحابة واجتهاداتهم، ثم بعد ذلك أصول الفقه، ثم بعد ذلك تخريج الفروع عن الأصول، ثم علم القواعد الفقهية، ثم بعد ذلك علم النوازل وهي الأفتية، أفتية العلماء المجتهدين؛ لأنها يستأنس بها وتؤخذ منها المآخذ.

    ثم بعد ذلك علم القضاء، ثم بعد ذلك علم الفرائض أي التركات، ثم بعد ذلك علم الجدل الفقهي ثم بعد ذلك طبقات الفقهاء أيضاً على الجمع أو على الإفراد، فالإفراد: طبقات فقهاء كل مذهب على حدة، والجمع: الكتب الجامعة لذلك، ثم بعد ذلك تاريخ التشريع، وتدوين المذاهب وما يتعلق بها، وهكذا فهذه العلوم سلالة واحدة متقاربة. وهكذا في علوم اللغة وغيرها والعلوم العقلية، فهي سلالات، فإذا أراد الطالب النجاح فإنه إذا لم يرد دراسة النحو، ويريد دارسة البلاغة ولم يدرس النحو، فهل سيفهم شيئاً من البلاغة؟ لا يمكن أن يفهم البلاغة؛ لأن البلاغة المقصود بها: الطرق التي تركب بها المفردات، والمفردات من لم يعرفها، من لم يعرف أن الفاعل مرفوع، وأن المفعول منصوب، وأن المضاف إليه مجرور، لا يمكن أن يركب الكلام أصلاً، والبلاغة فائدتها تتعلق بالتركيب، فالنحو تعرف به تركيباً جاهزاً أن هذا فعل وهذا فاعل، وأن هذا مبتدأ وهذا خبر، لكن البلاغة تعرف بها هل هذا المحل ينبغي أن يعبر فيه بالجملة الأسمية، أو بالجملة الفعلية، وهل هذا المكان يصلح للضمير أو لا بد فيه من اسم ظاهر؟ وهكذا.

    التمهيد والتهيئة عند طلب العلم بالمقدمات العشر لهذا العلم

    فإذاً: بعض العلوم يشترط أن تأتي بعد التمهيد والتهيئة لها بعلوم أخرى، وهذا أساساً كان لدى المتقدمين من أهل التربية، واليوم تجدون بعض العلوم وإن كان لها شروط يتعداها الناس، فمثلاً: علم الرياضيات، فمن لا يعرف العمليات الأربع، هل يمكن أن يدرس علم الرياضيات، فيحتاج الدارس لعلم الرياضيات أن يكون لديه خلفية للحساب إذا لم يكن دارساً للعمليات الأربع ولم يكن عارفاً بالكسور، والجبر لا يمكن أن يبدأ به مباشرة؛ ولذلك يذكرون عشر مقدمات لكل علم من العلوم، وهذه إنما عرفت لدى المسلمين وفي العلوم الشرعية التي درسها المسلمون، وهي ترتيب عقلي مهم وثقافة مفيدة للإنسان، لو لم تعرف من العلم إلا هذه المقدمات العشر لكنت مشاركاً فيه، ولو لم تعرف سواها، لكن العلوم الحديثة لم تعتنِ بهذه المقدمات، فمباشرة أستاذ الرياضيات في أول درس يبدأ بمعادلة، فلا يعرف علم الرياضيات ولا يذكر فائدته ولا منشأه ولا واضعه ولا موضوعه، ولا أي شيء من ما يتعلق به، بل أول ما يبدأ به يكتب على السبورة معادلة من المعادلات ويبدأ في حلها.

    وكثير من العلوم تبدأ الآن بالأمثلة، ففي الفيزياء يتقدم الأستاذ فيكتب مثالاً، مثال لماذا؟ مثال لقاعدة ستؤخذ من المثال، وهذه طريقة معاصرة، وسببها أن هذه العلوم في الأصل ليست من إنتاج المسلمين، فلو ألفها المسلمون اليوم لأدوها على طريقة العلوم الشرعية، وكان فيها هذه المقدمات، وكان الطالب يدخلها وهو على بينة منها ويعرف ما يراد منها؛ ولذلك تعرفون الآن أن كثيراً من الطلاب قد ينحرفون إذا درسوا الفلسفة، أو درسوا بعض المواد مثل: مواد الفكر الإسلامي التي تسمى اليوم الفكر الإسلامي، أو الثقافة الإسلامية، فهذه المواد كثيراً ما يقع الانحراف في الطلبة في وقت دراستها؛ لأنهم يدخلون متاهات لا أول لها ولا آخر، لا عرفوا ما تعريف الفلسفة وما منشأها وما فائدتها، وما حكم تعلمها؟ وغير ذلك من المقدمات التي تدرس عن كل علم من العلوم، ولو عرفوا ذلك لجاءوا على استعداد كامل، لكن هذه الطريقة هي طريقة العصف، كأنما يؤخذ الإنسان الذي يراد تعليمه السباحة فيرمى به في البحر بين الأمواج، ثم بعد ذلك نعلمه، ولا شك أن هذا قد يقع فيه نجاح، لكن ذلك النجاح لا يأتي إلا بعد جهد جهيد، وكان بالإمكان ألا يقع.

    فالنجاح الحقيقي هو في تقليل الجهد المبذول، وليس في الوصول لنتيجة فقط، فمثلاً: أنت إذا كان لديك مشروع وسأمثله بمشروع مادي واضح، فأنت قررت أن تبني بيتاً، وأن تملك بيتاً، فأول الفكرة آخر العمل، أول ما ينطبع في ذهنك الآن بيت مصبوغ ومفروش وفيه الماء والكهرباء، والهاتف وكل الخدمات، كأنك تراه، لكن هذا المشروع لا يمكن أن تقدم عليه إلا بتجزئة، فلا بد أن تجزأه إلى مشاريع، وأول مشروع من هذه المشاريع هو الحصول على قطعة أرض مناسبة، فإذا لم تحصل على قطعة أرض إلا بكدٍ وعنتٍ ومشقة وتحملت ديوناً كثيرة لشراء الأرض، فسينقطع المشروع هنا عند هذا الحد؛ لأن التكاليف زادت عن ما يشجع على المشروع، فستبيع الأرض لتسدد بها الديون، وينقطع المشروع عند هذا الحد، لكن إذا حصلت على الأرض بدون مقابل أو بأمر سهل بثمن مغرٍ، فسيشجع ذلك على المشروع الثاني الذي يليه وهو تأسيس البنيان أو دراسة البنيان ثم التأسيس، ثم بعد ذلك إكمال العظم عظم البينان، ثم بعد ذلك إكمال المراحل الأخرى وهكذا، فكل مرحلة إذا جاءت من غير تكاليف كبيرة أدى ذلك إلى التشجيع على اقتحام المرحلة التي بعدها، وبهذا يتم النجاح؛ لأن النجاح لا يتم إلا بتقليل الجهد المبذول وأن يكون الجهد أقل مما يبذل، فإذا كان الجهد كبيراً جداً والنتيجة ضحلة جداً فهذا غير نجاح.

    وكثير من الطلاب الآن طلاب القرآن الذين يرسلون لتحفيظهم كتاب الله، يرسلون فيتركهم آباؤهم وأمهاتهم لمدة شهر أو شهرين أو ثلاثة لطلب مع أستاذ من الأساتذة، وبعد هذه المدة يبدأ التقويم والمراجعة، فنجد أن الجهد الذي بذل كبير جداً، فالولد منع راحته، وأصيب بأمراض وهجر بيته، وتعرض لكثير من الأذى، وفي بعض الأحيان الضرب، ولكن كانت النتيجة محصورة ضئيلة، ولا يمكن أن تقارن بالجهد المبذول، فهذا ليس نجاحاً لا من الطالب ولا من المعلم أبداً هذه أمثلة بما يتعلق بشروط النجاح في طلب العلم.

    1.   

    النجاح في العمل

    بعد ذلك نصل إلى الدرجة الثانية أو المرحلة الثانية: وهي العمل، فالعمل له نجاح كالنجاح في العلم، فالعمل إما أن يكون عملاً دينياً، وإما أن يكون عملاً دنيوياً، فالعمل الديني عبادات الإنسان، وهي تنقسم إلى قسمين: إلى عينية، وكفائية.

    شرط العلم للنجاح في العبادات العينية

    فالعبادات العينية النجاح فيها شرطه العلم هذا الشرط الأول؛ لأن الإنسان إذا أراد أن ينجح في الصلاة ولا يعرف أحكام الصلاة، فهل ستكون صلاته ناجحة؟ فلا يمكن أن ينجح في صلاته، فإذاً: لا بد قبل أن يدخل وقت الصلاة أن تعرف الصلاة، فإذاً: نبادر الآن قبل غروب الشمس نتعلم أحكام صلاة المغرب مثلاً، نعرف وقتها، وفرائضها، وأركانها، وهيئة أدائها وما يتعلق بها، قبل دخول الوقت؛ ولذلك يقول أحد علمائنا وهو العلامة يحظيه بن عبد الودود رحمة الله عليهم أجمعين، يقول: إن ألذ سعادة يجدها الإنسان أن يأتيه أمر من عند الله وقد علم حكمه قبل أن يأتي فيطبقه على نحو ما علم. يكون هذا الخطاب جاءه من عند الله وهو يعرف أنه مشروع، وقد علم حكمه قبل أن يأتيه، فنفذه على وفق ما علم، فتحصل له بذلك لذة وسعادة عجيبة.

    فإذاً: أول شيءٍ في النجاح فيما يتعلق بالعمل، أن يتعلم الإنسان قبل أن يقدم على العمل؛ ولذلك قال البخاري رحمه الله: باب العلم قبل القول والعمل، لقول الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19]، فاعلم أنه لا إله إلا الله أولاً، واستغفر لذنبك هذا العمل بعد العلم.

    إدراك الإنسان لانقسام العبادة إلى جسم وروح

    ثم بعد ذلك من شروط النجاح في العبادة: أن يدرك الإنسان أن العبادة تنقسم إلى جسم وروح، فجسمها أركانها وهيئاتها، وروحها خشوعها وحضورها، فأنت الآن قد تحضر الدرس فمجرد حضورك وجلوسك واستماعك هذه جثة العبادة، وهذا جسم العبادة، لكن روحها الإخلاص فيها لله، وقصد وجهه الكريم وعدم حظوظ النفوس في ذلك، فإذا اجتمعت الروح مع البدن حصل النجاح في هذه العبادة؛ لأنك بذلك تحقق في كل عبادة تقوم بها شهادتين هما: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فشهادة أن لا إله إلا الله تحققها بالإخلاص لله بالعمل، وشهادة أن محمداً رسول الله تحققها بالمتابعة لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله، فتكون هذه الشهادة حاضرة في صلاتك، وفي حضورك لدرس، وفي زكاتك، وفي صدقتك، وفي وضوئك، وفي طهارتك، وفي قراءتك، وفي ذكرك، وفي كل عبادتك، فكل عبادة أياً كانت، تحقق فيها شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.

    مثال تحقيق الشهادتين في العبادة

    ومن أمثلة ذلك: إذا حان وقت النوم فهو حق للعين، ( إن لعينك عليك حقاً )، فاحتجت إليه نعست حتى لو كنت في صلاتك فالأفضل لك أن تترك قيام الليل وأن تنام، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا النوم تؤديه أيضاً على وفق الشهادتين، تجمع فيه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فشهادة أن لا إله إلا الله أن تجعل النوم لله جل جلاله، إني لأحتسب في نومتي ما أحتسبه في قومتي، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ [الأنعام:162-163].

    ثم بعد ذلك تحقق فيه شهادة أن محمداً رسول الله فتبحث عن المتابعة، كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام؟ وما طريقة نومه؟ وما أدب النوم؟ فتطبق ما كان يفعله فتحقق الشهادتين في النوم، وفي دخول الخلاء، في الأكل في الشرب، في الذهاب إلى السوق، في أي عمل تحقق الشهادتين أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فلا يخلو أي عمل ولا أي تصرف من هاتين الشهادتين العظيمتين اللتين هما منطلقك في الحياة والممات، وهما مبدؤك الذي تحيا وتموت من أجله، فكل حركة وسكون تحاول أن تحقق فيها شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.

    الحرص على زيادة الأجر ومضاعفة الحسنات في العبادات الكفائية

    بعد ذلك نصل إلى القسم الثاني من العبادة: وهو الجانب الكفائي، فالجانب الكفائي النجاح فيه إنما هو بزيادة الأجر والحرص على المضاعفة، فالحسنات توزن يوم القيامة بالميزان، وله كفتان ولسان، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ[المؤمنون:102-104]، فإذا أدركت أن كل أعمالك ستوزن وأنت تنظر إليها فإنك لا بد أن تحرص على زيادة الوزن وثقل الحسنات على السيئات؛ لأنك لا تستطيع أن تكف نفسك عن الوقوع في بعض السيئات، وأنت غير معصوم، ولا بد أن يقع شيء في كفة السيئات، ولكن ما الحل؟ الحل في مقابله أن ترجح كفة الحسنات، فمن رجحت كفة حسناته لا يضره ما كان في كفة سيئاته من السيئات، فلذلك لا بد أن تحرص هنا على ما كان أكثر أجراً وأبلغ ذخراً عند الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يضاعف، مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261]، فتحرص على التضعيف وإذا حرصت عليه تحقق لك تضعيف العمل، فإن ذلك هو الربح في التجارة؛ لأنك عرفت أنك تاجر، وأن رأس مالك هو العمر، وأن أرباحك هي ما يكون في كفة حسناتك من الأعمال الصالحة، فما كان منها أرجح وأكثر ثواباً تحرص عليه، وتحرص على ألا تجعل البيض في سلة واحدة، فكثير من الناس يغامرون ويخاطرون فيكون أحدهم من أهل الصلاة، ولا يأذن المؤذن إلا وقد دخل المسجد، ولكنه ليس من أهل الصدقة أو ليس من أهل الصيام، أو ليس من أهل القرآن، أو ليس من المجاهدين في سبيل الله، أو ليس في الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، أو ليس من العلماء، ولا من طلبة العلم ولا من المعينين لهما، فيكون قادراً على الكمال ولكنه لم يشارك فيه:

    ولم أرَ من عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام

    لذلك لا بد أن يحرص الإنسان على ولوج كل أبواب الجنة، وأن تكون له مشاركة في كل ذلك، وكل له آدابه وشروط النجاح فيه.

    الحرص على إتقان عبادة الصلاة وتحصيل الأجر فيها

    فمثلاً: الصلاة كما ذكرنا تحتاج إلى تأديب ومتابعة، فالنفس ستحاول الشرود في أول دخول الصلاة عند تكبيرة الإحرام، فتخرج من الباب فإذا رددتها حاولت الخروج من النافذة، فإذا رددتها حاولت التشاغل بالنظر، فإذا رددتها حاولت التشاغل بما تسمعه، فإذا حجزتها في زاوية ضيقة استطعت أن تمسك بزمامها، وأن تثبت معك إلى نهاية الصلاة، والصلاة جعلها الله سبحانه وتعالى متدرجة، فالركعة الأولى جعل فيها سورة بعد الفاتحة، والركعة الثانية فيها سورة أقصر من السورة الأولى، والركعتان الأخيرتان مثلاً من الرباعية ليس فيهما سورة بعد الفاتحة، لماذا؟ ليعين كذلك على الانطلاقة في الصلاة كالسرعات في السيارة، فالسرعة الأولى السيارة معها ثقيلة لا تستطيع الإسراع والانطلاق، ثم السرعة الثانية تليها ثم الثالثة تنطلق فيها، والرابعة كذلك، فكذلك ركعات الصلاة، فلا بد أن تبني الصلاة بناءً محكماً، وأن تحضر فيها حتى تكون كل ركعة أخف عليك من التي سبقتها، وتكون كل ركعة أبلغ إتقاناً من التي قبلها، والعبرة في الأمور كلها بخواتيمها.

    1.   

    النجاح في الدعوة

    كذلك في الدعوة، فالدعوة من العبادات التي يشق فيها النجاح ويندر، والنجاح فيها ليس بمجرد إعمال الوسائل وليس بمجرد استجابة الآخرين، فاستجابة الآخرين نتيجة، والنتيجة من القدر وليست من الشرع، ولا تكليف في القدر، فالقدر لا تكليف به واستجابة الناس لدعوتك هذا من قدر الله؛ ولذلك فـنوح عليه السلام أعمل كل الوسائل وكان ناجحاً، ولكن لم يرد الله أن يستجيب له كثير من قومه، وقال: ما آمن معه إلا قليل، ولكن لم تبقَ وسيلة إلا أعملها، قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهمْ وَأَسْرَرْتُ لَهمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا *وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا[نوح:5-17]، فأعمل كل الوسائل للدعوة وطال الوقت ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، ومع ذلك ما آمن معه إلا قليل، وما ذلك إلا حكمة من الله سبحانه وتعالى؛ لأن البشرية تحتاج إلى تجديد، وأراد الله أن يشملها هذا الطوفان، وألا يبقى إلا ذرية نوح : وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ [الصافات:77]؛ فلذلك يحتاج الداعية إلى كثير من الوسائل للنجاح:

    الإخلاص لله سبحانه وتعالى في الدعوة

    أول هذه الوسائل: الإخلاص لله سبحانه وتعالى وقصد وجهه الكريم، فلاحظوا أننا في العلم قد بدأنا بالوقت قبل الإخلاص، وفي الدعوة بدأنا بالإخلاص قبل الوقت، فأول ما يحتاج إليه الداعية الإخلاص؛ لأنه عمل موجه إلى الغير بخلاف العلم فهو موجه إلى النفس، والعمل الموجه إلى الغير حاجته إلى الإخلاص أكبر، فلا بد أن يحرص الإنسان على الإخلاص فيه، قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا [الأنعام:90].

    البصيرة في الدعوة

    ثم بعد ذلك: لا بد أيضاً من البصيرة، قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108]، فالداعية إذا لم يكن من أهل البصيرة ولا له معرفة بالواقع ولا بمعاش الناس ولا باهتماماتهم يتكلم في وادٍ وهم في وادٍ، كذلك الخطيب الذي ما زال إلى الآن يدعو للسلطان عبد الحميد ، فهذا النوع لا يمكن أن ينجح أبداً، فالداعية الناجح لا بد أن يكون عارفاً لما يعيشه الناس في يومهم هذا؛ ولذلك تجدون أن بعض الناس يتكلم في معارك عقدية، أو مشكلات فكرية كانت قد مضت واجترتها القرون الماضية، وهزم أصحابها وانتهت، فكأنه يريد أحياءها من جديد، وبعثها، أو يتكلم في أمور غير واقعية كأنه لا يحس بالمنكرات الموجودة المتكاثرة ويريد داءً زيادةً على هذه الأدواء؛ فلذلك لا يكون الداعية ناجحاً إلا إذا عاش مع الناس في ما هم فيه، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهمْ [إبراهيم:4]، قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108].

    مراعاة الجهد التراكمي السابق في الدعوة

    ثم بعد ذلك من نجاحه: أن يكون جهده جهداً تراكمياً، فالداعية الذي يريد أن يكون مؤسساً، ويريد أن تكون دعوته بكراً غير مبنية على ما سبق ستنقضي دعوته ولن يبني أحد على ما يبنيه هو؛ فلذلك لا يمكن أن يكون ناجحاً أبداً، فالدعوة جهد تراكمي مشترك، عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، (أنا ومن اتبعني)، فلم يقل: أنا وحدي، فلذلك لا بد أن تكون عملاً مشتركاً وجهداً تراكمياً، وفيه بناء على السابق، وتأسيس على الموجود في المجتمع من الخير، فالذي يريد أن يتنكر لمجتمعه وينظر إلى المجتمع الآن كأنه مجتمع الجاهلية قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ويخاطبه بتلك الروح فيقول للناس: الآن قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، يقولون: لقد قلنا لا إله إلا الله قبل ميلادك وسنقولها بعد موتك، فليس الحال كذلك الحال، ولا الخطاب الذي يوجه إلى أهل الجاهلية الجهلاء كالخطاب الذي وجه إلى المسلمين، فكل يخاطب بما يناسبه وبما يستوعبه، ( وما أنت بمحدث قوماً بحديث لا تصل إليه عقولهم إلا كان فتنة عليهم، حدثوا الناس بما يفهمون، أو تحبون أن يكذب الله ورسوله؟ ).

    الأسلوب في الدعوة

    ثم بعد ذلك من شروط نجاحه في الدعوة: الأسلوب، فالإنسان الحاد جداً المنفر الذي إذا أراد أن ينهى عن مكروه جعله من أكبر الكبائر وأكثرها عقوبة وأشدها ضرراً، وهو أمر عادي، فيبالغ في التنفير في أول الخطبة، يُذكر أن أمراً من الأمور العظام ومنكراً من المناكر الجسام، ظهر وانتشر وطم وعبر، وينفر منه غاية التنفير، ثم يعود إليه فإذا هو أمر مكروه أو خلاف الأولى، أو أمر مختلف فيه بين العلماء، فهذا الأسلوب غير لائق ولا مناسب ولا ينجح صاحبه في الدعوة. ومثل ذلك أيضاً: الأسلوب الذي هو غير مقنع، فالإنسان الذي لا يهتم بالإقناع، ويوجه خطابه إلى الناس عارياً من الاستدلال، وليس معه أي دليل لما يخاطب به، ولا يأتي معه بتمهيد، وإنما يقدمه فقط، فمثلاً يذكر لنا فروعاً من فروع الفقه، فهذه الفروع لا غبار عليها ومعها أدلتها نعم، لكن ذكر الفرع دون ذكر الأصل لا فائدة فيه؛ ولذلك الشيخ محمد الأبواه حفظه الله مرة من المرات في درس للنساء، وكان قد اعترضت عليه إحدى الأخوات فقالت: إنك دائماً تتحدث عن الإيمان، فلماذا لا تحدثنا عن لبس اللباس الرقيق، وعن التبرج بالزينة وعن غير ذلك من المخالفات التي يقع فيها النساء، فقال: إذا قوي الإيمان غلظت الملابس، وإذا قوي الإيمان تغير السلوك، فإذا قوي الإيمان حصل كذا وحصل كذا، فنظير هذا أيضاً قول الشيخ محمد اللباب أبو الميل حفظه الله، يقول:

    وذكر فرع من أحكام الشريعة لا يصغي له من لذاك الأصل قد عدما

    لذاك ضاعت جهود الخيرين ولو للجمر صادف ذاك النفخ لاضطرما

    فلا بد من البدء أولاً بالأصل قبل الفرع، حتى تحصل القناعة للإنسان؛ ولذلك تجدون أن بعض الدعاة يقف في السوق فينهى مثلاً عن أنواعٍ من أنواع البيع، أو ينهى عن أنواع من أنواع السلوك، ينهى عن حلق اللحية، أو ينهى عن التدخين، أو ينهى .. والذين ينهاهم لا يقنعهم بأن هذا حرام، بل ينهاهم فقط، كأن الأمر مسلم لديهم، فهل سيستجيب له الناس؟! لا يمكن أن يستجاب له؛ لأنه جاء إلى فرع أطراف الشجرة وترك أصلها، وهو الإقناع. فإذاً: لا بد من الإقناع أولاً، ثم بعد ذلك يأتي التدرج حتى يصل إلى الفرع الذي يريد إثباته.

    طول النفس والمرحلية في الدعوة

    كذلك من شروط النجاح في الدعوة: أن يكون الإنسان صاحب نفس ومرحلية، فالإنسان الذي يريد أن يجعل دعوته بمثابة الحقنة في الإبرة، ويريد أن يحقن بها فجأة، يُريد أن يغير كل قناعات الإنسان وكل سلوكه بجلسة واحدة، فهذا لا يمكن أن ينجح أبداً؛ فلذلك فأنت الآن إذا جلست هناك تريد المحاضرة في موضوع من الموضوعات، وليكن مثلاً موضوع النجاح، فإنك أول ما تخبر بأن هذا الموضوع هو موضوع الدرس، ستلقى في ذهنك محاور هي أركان الدرس الأساسية، وأفكار تستطيع أن تعبر عنها خلال خمس دقائق أو أربع دقائق، لكن لو أبقيتها فقط جامدة صلبة غير ممزوجة ولا مخلوطة لمجها الناس ولما استطاعوا ابتلاعها، لكن صناعة الدعوة هي مثل صناعة الصيدلية، وصناعة الأدوية، فالدواء فيه نسبة خمسة وعشرين بالمائة من المادة الفعالة التي هي العلاج، ومعها مواد أخرى منها ألوان تزين لونه للترويج للبيع، ومنها طعوم تهون ابتلاعه واستساغته، ومنها مواد تمنع لزاجته في داخل المصنع؛ لئلا يتكدس داخل الماكنة، فإذاً: المادة الفعالة التي هي العلاج لا تتجاوز نسبة خمسة وعشرين بالمائة، وخمسة وسبعين بالمائة مواد أخرى، فكذلك الدرس إذا جلست الآن تريد أن تأخذ من هذا الدرس ما يتعلق بالنجاح، فستجد عناصر محصورة يمكن أن تكتبها، أو تلقيها خلال خمس دقائق، لكن الباقي لا بد منه؛ لأنه ملونات، وطعوم، واستدلال ومثال، واستطراد، تحتاج إليه في تثبيت المعلومات وتوصيلها.

    مراعاة غلاف البيئة في الدعوة

    ومن نجاح الداعية بالدعوة أيضاً: يحتاج إلى ما يسميه الشيخ القاضي التقي محمد بن عبد الله : الغلاف في البيئة، معناه: أن بيئة الناس الذين يعيشون فيها قد تعودوا فيها على عوائد، وأشياء معينة، فلو أردت تجاوزها مباشرة، لكنت كالذي يقشر الجلد، فتحتاج إلى الحفاظ على بعض غلاف البيئة، فتذكر أدباً وشعراً، كما كان أهل الحديث يقولون، وهو الذي يسمونه إحماضاً، كما قال العراقي في الألفية:

    ويندب الإنشاد في الأواخر بعد الحكايات أو النوادر

    فهذا الإنشاد مندوب، وقد كان كثير من السلف يدخله في أثناء الحديث؛ لئلا يقع الملل، وقد أدركنا بعض الشيوخ له في ذلك نكت وملح، فمثلاً محمد بن أدينا رحمة الله عليهما يحدث دائماً في الحديث، درس الحديث في المعهد في أر ترميه، والطلاب تعودوا على أنه أول ما يدخل يقول: عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قد وصلوا إلى حديث عن أم عطية أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فكتبوا هذا القدر وهم يريدون إملاء الشيخ للحديث، فقال: اكتبوا، فقالوا: كتبنا، فقال: اكتبوا:

    ضنكت مريّم للرحيل ديارها وبقيت أندب في الديار ديارها

    فاصبر قيين على الأسى وعلى البكاء أموية قد يممت قنارة

    فهم يظنون أن هذا حديث عن أم عطية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو شعر الحلاكي ، لكنه أراد الإحماض لئلا يقع الملل والخلل، فلا يكون الداعية ناجحاً إلا بذلك؛ ولهذا فالأفكار الأساسية لو قدمها في أول الدرس فجاء المتأخرون لم يشهدوا شيئاً من المنافع، وهم جاءوا ليشهدوا منافع لهم؛ فلذلك يجعل بعض الأفكار الأساسية في البداية يفوز بها السابقون الأولون، وبعضها في الوسط، وبعضها في النهاية والآخر، وهذا يحسن أيضاً في الشعر وفي الخطبة، وفي أي كلام تريد أن تقدمه للناس، وأهل البلاغة يعقدون له فصلاً دائماً في آخر كتب البلاغة، يسمى فصل التأنق، يقول السيوطي رحمه الله في ألفية البلاغة:

    ويطلب التأنيق في ابتداء وفي تخلص وفي انتهاء

    وسور القرآن في ابتدائها وفي خلوصها وفي انتهائها

    واردة أكمل وجه وأجل كيف لا وهو كلام الله جل

    ومن لها أمعن بالتأمل بان له كل خفي وجلي

    وتم ذا المنظوم بتيسير الأحد..

    هذا آخر كلامه فيه، فسور القرآن فيها الابتداء الحسن القوي، ثم بعده يحسن التخلص، ثم بعد ذلك في النهاية الخاتمة العجيبة المؤثرة، وهذا مطلوب حتى في الشعر، وقد كان الناس يلومون أبا تمام حبيب بن أوس الطائي ، في أن مطالعه لم تكن على مستوى شعره، فقد كان من المبدعين في معاني الشعر، ولكنه كانت له مطالع لا تناسب قصائده، وقف يوماً بين يدي أحد الخلفاء يريد إنشاد قصيدة له، فأنشد مطلع القصيدة وبحضرة الخليفة أحد المهرجين، وهذا لا تخلو منه مجالس الخلفاء دائماً، فأنشأ يقول:

    على مثلها من أربع وملاعب.

    فقال المهرج: لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين؛ لأنه هو افتتح القصيدة بهذا الجار والمجرور ومتعلقه غير مذكور إلا في الشطر الثاني من البيت:

    على مثلها من أربع وملاعب تذال مصونات الدموع السواكب

    فكان اللازم أن يأتي بالمتعلق أولاً، فجاء بالجار والمجرور، في بدايته:

    على مثلها من أربع وملاعب، ماذا عليها؟ قال: لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين.

    فلذلك يطلب التأنق في مثل هذا، والتماس المناسبات.

    ومرة من المرات كنا في اجتماع لعقد نكاح، هنا في نواكشوط، وطلب من أحد الحاضرين أن يفتتح الجلسة بقراءة القرآن، فاستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، وقال: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]، فهذا المقام غير مناسب لهذا المقام، والقرآن كله من عند ربنا وآمنا به جميعاً، وفيه كله الخير والبركة، والقرآن لما قرئ له، ولكن لا بد في البلاغة وفي النجاح أن يكون الإنسان مختاراً للأوجه المناسبة، حتى في الدعاء، ففي الدعاء من المناسب أن تذكر الاسم المناسب لحاجتك، كما قال العلامة محمد الفال المتال رحمة الله عليهما:

    واذكر من الأسماء مناسب الغرض كالكافل الجوع وشافي من مرض

    فيدعو الإنسان بالاسم المناسب لحاجته.

    معرفة الإنسان لقدر نفسه وتواضعه بين الناس في دعوته

    كذلك من شروط النجاح في الدعوة: أن يدرك الإنسان قدر نفسه، فالإنسان الذي يريد أن يكون أستاذاً للآخرين دائماً، ويريد أن يملي عليهم أفكاره ولا يريد مجادلة، ولا مناظرة، ولا رداً عليه بأي أمر، فهذا لا يمكن أن ينجح في دعوته أبداً، فالدعوة من أساسها قبول الرأي الآخر، فالرسول صلى الله عليه وسلم يؤدبه الله على ذلك فيقول: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24]، من الذي يقول هذا؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعصوم، والذي يقال له من؟ هو أبو جهل عمرو بن هشام وأصحابه من الكفرة الفجرة، وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24].

    فلذلك لا بد أن يتواضع الداعية، ولا يمكن أن ينجح إلا إذا أحرز هذه الصفة العظيمة، وهكذا في أمر الدنيا، فمثلاً: التجارة، هي عمل من أعمال الدنيا يقع فيها نجاح وإخفاق، لكن لا يمكن أن ينجح فيها الإنسان، إلا إذا أخذ بشروط النجاح، وشروط النجاح في التجارة هي التي لخصها عثمان بن عفان رضي الله عنه في خمس جمل: كنت أعالج، وأنمي، ولا أزدري ربحاً، ولا أشتري شيخاً، وأجعل الرأس رأسين، (كنت أعالج) فالذي يريد أن يكون رجل أعمال، ويريد أن يكون ثرياً، لكنه مستعجل جداً يريد أن يكون ذلك بين عشية وضحاها، فهذا لا يمكن أن ينجح في تجارته أبداً؛ لأن التاجر النجاح هو الذي ينطلق من مبدأ: أربح أنا ويربح الآخرون، فالذي يقول: أربح أنا ويخسر الآخرون، ليس تاجراً ناجحاً، والذي يقول: أخسر أنا، ليربح الآخرون، ليس تاجراً ناجحاً، فالتاجر الناجح هو الذي يحرص على الإنتاج، ويحرص على المستهلك أيضاً؛ لأنه استثماره في المستقبل؛ لأنه إذا امتص عرق هذا الزبون، أو دفع إليه هذه البضاعة بثمن غالٍ فسيضعف الزبون عن شراء البضائع الأخرى، وستتكدس عنده؛ فلذلك هو محتاج لأن تبقى السيولة موجودة في السوق، وأن تبقى الطاقة الشرائية في المواطنين موجودة؛ ليشتروا منه، وهو حريص على أن يبقى في أيدهم المال ليشتروا منه، ولهذا يقول أحد الشعراء الشعبيين عندنا هنا، يقول:

    الله يكثر ذاك المال اللي لاق سنا يجبوه

    فالشخص إذا كان يسعى لأن يبقى المال بأيدي الآخرين ليربح منه في المستقبل على فترات، فهذا من نجاحه في التجارة؛ ولذلك لا بد أن يعمل و يجد، (كنت أعالج) لا بد من العلاج والجد في العمل.

    و(أنمي) كذلك لا بد أن يحرص الإنسان على النماء، أي: التخطيط في الزيادة، فالتاجر الذي يريد الحفاظ على رأس المال فقط، ولا يغامر ولا يخاطر من أجل الحفاظ على رأس المال لا يمكن أن يكون تاجراً ناجحاً، لكن التاجر الذي يخاطر ويغامر من أجل النماء، حتى لو ضرب مرة من المرات، فسينجح مرات أخرى؛ فلذلك قال: (وأنمي).

    ثم قال: (ولا أزدري ربحاً)، أي: لا أحتقر أي ربح، فالربح مطلوب لا بد منه، لكن ليس المطلوب أن تزيد في الربح وأن تأخذ كل ما لدى المشترين، وكل ما لدى الزملاء في وقت واحد، ربحك وزعه على سنوات، وعلى بضائع كثيرة، أنت لا تريد أن تأتي بهذه البضاعة وتكون هي قدر تجارتك فقط، فإذا اشتريت هذا الجهاز بمبلغ محصور وأتيت به، فليكن المبلغ الذي تطلبه من الربح فوق قدر الشراء مبلغاً معقولاً يسيراً؛ لأن هذا الذي يؤدي منك إلى سرعة بيعه وسرعة حصول النقد في يديك لتشتري بضاعة أخرى، وتبيعها وهكذا، فهذه الحركة الدائبة هي النجاح في التجارة.

    ثم قال: (ولا أشتري شيخاً)، فالشيء الذي ليس له مستقبل في السوق، وقد أصبح قديماً وأدبر الناس عنه هذا لا يشترى لتجارة؛ لأنك إذا اشتريته لا يمكن أن تبيعه إلا بأقل مما اشتريته به؛ لأنه حصل الإدبار عنه، والشيء الجديد ولو لم يكن رائجاً ولا معروفاً سيأتي وقته وسيروج يوماً من الأيام، فلذلك قال: (لا أشتري شيخاً).

    (وأجعل الرأس رأسين)، من المهم جداً في المغامرة في التجارة أن يحافظ الإنسان مع المغامرة على شيء من التجارة فلا يخلطه على باقي تجارته، فالبيض لا يجعل كله في سلة واحدة، والناس يذكرون قصة حصلت لتاجرين من الشام كانا يشتريان البضائع من قبرص، ويحملانها في السفن إلى الشام، فكان أحدهما في كل يوم يشتري بضاعة ويوصلها مع بعض التجار في سفينة إلى بلده، والآخر قال: هذا الآن الثمن المقسط لحمل هذه البضائع سيكون كبيراً مكلفاً، فالأفضل أن أجمع كل بضاعتي وأجعلها في سفينة واحدة، ففعل ذلك، فغرق بعض السفن ومنها سفينة ذلك التاجر غرقت بكل أمواله، وغرقت سفينة أخرى فيها بعض أموال التاجر الآخر، لكن بقي له غيرها؛ فلذلك قال عثمان : وأجعل الرأس رأسين. فنجاح التاجر يكون بهذا الحال، التاجر الذي يريد، أن يكون خدوماً للآخرين لكن دون أن يكون له هو ريع من ذلك هذا غير ناجح، والتاجر الذي يريد أن يكون مستغلاً للآخرين دون أن يكون لهم هم فائدة من تجارته غير ناجح، فالتاجر لا بد أن ينتفع وينفع، ولا بد أن يفكر بروح المستهلك أيضاً؛ لأنه مال له، وينظر إلى المال الذي تحرزه أنت على أنه سيعود إليه، ولو بالتقسيط والتدريج، فجزء منه سيربحه من هذه البضاعة، وجزء سيربحه من بضاعة أخرى، وجزء سيربحه من بضاعة أخرى، وهكذا.

    فهذه أمثلة من شروط النجاح في مجالات مختلفة من مجالات الحياة، وكان بودي لو اتسع الوقت لآتي على الجانب الاجتماعي وما يتعلق ببناء الأسرة، فالنجاح في ذلك الباب من أهم النجاحات، ولكن لعل ذلك يخصص له درس مستقل فهو يستحق ذلك، فأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

    1.   

    الأسئلة

    العمل في تحصيل الضرائب وحكم الضرائب في الإسلام

    السؤال: ما حكم المشاركة في مفتشية الضرائب التي نشهدها في هذه الأيام، وهل يجوز العمل في هذا النوع؟، وهل في الإسلام ضرائب كما هو موجود اليوم؟.

    الجواب: أن الأصل في الإسلام أنه لا يجوز أخذ مال الإنسان المسلم إلا عن طيبة نفس منه، فمال المسلمين والمستأمنين لا يجوز إلا عن طيبة أنفس منهم، والضرائب التي تؤخذ اليوم، لا يؤخذ شيء منها عن طيبة نفس من صاحبه، فأصحابها لا يدفعونها إلا كرهاً؛ فلذلك لا ينبغي للإنسان ما دام يجد عملاً آخر يمكن أن يرتزق منه، أن يعمل في هذا المجال؛ لأن هذا المجال لم يكن معروفاً أصلاً لدى المسلمين، بل كان معروفاً في الجاهلية، وكان في الجاهلية، عشارون يأخذون أعشار التجارات، وقد أبطل ذلك الإسلام ورده، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الزاني المحصن: ( لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له )، وأول ما عرفت الضرائب في أيام المتقي العباسي ، وفي ذلك يقول أحد الشعراء:

    على كل أسواق العراق ضريبة وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم

    وقد ذكر العز بن عبد السلام والقرافي وغيرهما الإجماع على حرمتها، بل ذكر القرافي أن تحريم أخذ أموال الناس بغير رضاهم من المعلوم من الدين ضرورة، ومن أنكر حرمة مال المسلمين من غير رضاهم يكفر بذلك؛ لأن هذا من المعلوم من الدين بالضرورة، وعموماً نحن لا ننكر أنه قد يضطر لأخذ الضرائب في بعض الأحيان، كما إذا تعطلت منافع لا يمكن تسديدها ولم يكن في بيت المال ما يكفي، فلا بد للدولة حينئذٍ أن تطلب من الناس أن يتبرعوا، فإذا لم يفعلوا، درست القضية، وما كان منها ضرورياً أخذ على قدره من أموال الناس ولم يزهد فيه، والضرائب حينئذٍ إذا صرفت في قدرها وفي حاجة الناس ستكون مقنعة للجميع، ويبادر الناس إلى أدائها وتسديدها. وقد شهدت في بريطانيا محاكمة لرجل إنجليزي- امتنع عن أداء الضريبة، وفي بريطانيا كل باب من أبواب معاش الناس تصرف له ضريبة، ضريبة لصحة، وضريبة لتعليم، وضريبة للطرق، وضريبة للخدمات إلى آخره، فامتنع هو من دفع ضريبة معينة، فاشتكته (الكانصل) البلدية إلى المحكمة، فحوكم فقال: إنه لا يمكن أن يدفع الضريبة؛ لأن هذه الضريبة تختص بالطرق، والشارع الذي أمام بيته به حفرة، فأرسلت المحكمة لجنة خبراء فأثبتوا أن الحفرة في الطريق أمام بيته، فحكمت له المحكمة بتعويض، وأباحت له التخلص من دفع تلك الضريبة؛ لأن هذه الضريبة يقصد بها خدمة معينة وهو أولى الناس بها، فلما لم ينلها.. فهذا العدل المسلمون أولى به.

    نقل الميت إلى مقبرة بعيدة

    السؤال: قرية يدفن موتاها على مسافة مائة وخمسة وثلاثين كيلو بسبب أن آباءهم كانوا يدفنون هنالك، رغم التكاليف، ومن لم يفعل ذلك يعد مقصراً؟

    الجواب: أن نقل الأموات لدفنهم في مكان معين، إذا لم يخشَ التغير عليهم، ولم يكن في ذلك كلفة كبيرة لا حرج فيه شرعاً، فقد نقل سعد بن أبي وقاص من مكان قصره على الرقاب حتى دفن في البقيع، والصحابة مجمعون على أن ذاك في المدينة، ونقل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق من حبشان إلى مكة، ونقل عبيد الله بن عمر من صفين إلى الكوفة، نقلته أمرأته على فرس طويل وكانت رجلاه ويداه تخطان في الأرض، وهذا النقل بعد الموت قبل الدفن.

    أما النقل بعد الدفن فإذا تضرر الإنسان، أو احتيج إلى إجراء الطرق، أو إجراء المياه ونحو ذلك أيضاً، فقد فعله الصحابة فنقل معاوية ستة عشر من شهداء أحد من مكان دفنهم بعد ست وأربعين سنة، وحول طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه من قبره الذي دفن فيه، حين رأت ابنته عائشة بنت طلحة أنه يشكو إليه أن الماء قد أضر به فنبشت قبره فوجدت شقه الأسفل في الماء، فنقلته من ذلك المكان إلى قبر آخر، وأولئك الصحابة الذين نقلوا من قبورهم جميعاً وجدت جثثهم كما هي، لم يحصل فيهم أي تغير. أما ما كان من ذلك مؤذياً للميت، فالميت أصبح سوأة بكامله، فالحي سوأته أي ما لا يحب أن ينظر الناس إليه منه محصور، بخلاف الميت فكله سوأة، كما قال الله تعالى في قصة ابني آدم: يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي [المائدة:31]، أي: جسمه كاملاً، فما يؤدي إلى تغير الميت وأذاه، أو كان فيه تكاليف كبيرة باهظة، فإنه غير مشروع.

    أستغفر الله العظيم الذي لا إله هو الحي القيوم، غفار الذنوب، وأتوب إليه، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك، اللهم صلّ على سيدنا محمد عبدك ونبيك، ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه، سلم تسليماً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767960939