بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى قد اختار من الأنبياء محمداً صلى الله عليه وسلم، واختار له من الأتباع أصحابه الذين شرفهم الله بصحبته والاجتماع معه، مؤمنين به على الوجه المتعارف، فرباهم صلى الله عليه وسلم على ما جاء به من عند الله؛ فكانوا خير قرون هذه الأمة، وبعدهم التابعون الذين صحبوهم وتعلموا علمهم ورأوا عملهم؛ فكانوا أشبه الناس بهم، ثم بعدهم أتباع التابعين، الذين سلكوا طريقة التابعين أيضاً؛ فكانوا مثلاً يقتدى بهم، وأسوة صالحة لمن يأتي بعدهم، وهي القرون المزكاة التي شهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفضل.
فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( خير القرون القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم )، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم؛ فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم؛ فيفتح لهم ).
إن هؤلاء كانوا قدوة هذه الأمة وأسوتها، وقد سبقوها إلى كل خير، ونالوا فضل الصحبة؛ فلا يمكن أن يلحق بهم من سواهم، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )، فهم أولى الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وأقربهم سابقة في الإسلام، وأكثرهم بلاءً فيه، وهم كذلك الذين أحرزوا فضل ثناء الله عليهم في كتابه؛ فقد قال الله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ[التوبة:100]، وقد قال الله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا[الفتح:18]، وقال تعالى: لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[الحشر:8-10]، وقال الله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا[الحديد:10].
فقد شرفهم الله تعالى بهذا الفضل الجزيل العظيم، ورفع منزلتهم وقدرهم، وأمر من بعدهم بالدعاء لهم والترحم عليهم، وجعل أجور اللاحقين في كفة حسناتهم وميزانهم؛ لأنهم الذين بلغوا الدين وحملوه إلى الآفاق وجاهدوا في سبيله، ونصروا الله ورسوله، وأدوا الحق الذي عليهم؛ كما شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك لكثير منهم؛ ( فقد وقف على شهداء أحد قبل موته بثمانية أيام، فقال: إني شهيد على هؤلاء بأنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه )، وقال في الأنصار عند ذكره لهم: ( واستوصوا بالأنصار خيراً، فإنهم أدوا الذي عليهم وبقي الذي لهم )، وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبل من محسنهم، وأن يتجاوز عن مسيئهم، كل ذلك يدلنا على فضل سلف هذه الأمة الصالح، وأن الخير كله هو ما سبقوا إليه وما بدءوا به؛ فلا يمكن أن يكون خير في هذه الأمة إلا ما سبق إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون وأتباع التابعين.
ثم إن ما كانوا عليه هو الذي زكاه الله ورسوله؛ فهو إذاً طريق الحق، فلا طريق لنا لمعرفة الحق إلا الوحي، فالوحي المنزل وحدة هو المعصوم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وما كانوا عليه هو الوحي؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم به من عند الله تعالى نقياً صافياً، وتركهم عليه عند موته؛ فقال: ( تركتكم على مثل المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك )، فلذلك كانوا على الحق، فلا يمكن أن تجتمع قلوبهم إلا عليه، ضحوا في سبيله بأرواحهم وأعمارهم وأموالهم، وقد قال أحد شعراء هذه البلاد وهو الشيخ غالي البصادي رحمه الله:
وقامت بنصر الله أنصار دينه وبيعت من الله النفوس النفائس
ضحوا بنفوسهم في سبيل الله، ونقلوا هذا الدين إلى كل مكان، ولم يتركوا مكاناً من الأرض يستطيعون الوصول إليه إلا أوصلوا إليه هذا الدين؛ فلذلك لا يمكن أن يرغب عما كانوا عليه إلا من سفه نفسه، فهم الأسوة والقدوة الصالحة في كل ما سلكوه عقيدة وعبادة ومعاملة وسلوكاً وخلقاً وتضحية وجهاداً، كل ذلك من منهجهم هو طريق الحق المرضي، الذي لا يمكن أن يعدل عنه إلا من فتن في دينه.
فمن هنا كان لزاماً علينا معاشر المؤمنين أن نبحث عن منهجهم وسبيلهم، وأن نتعلم اعتقادهم وعبادتهم ومعاملتهم وعملهم، وأن نحرص أن نقتدي بهم؛ فهم القدوة الصالحة والأسوة الحسنه، وعلينا عباد الله أن نتذكر أنهم هم أصحاب فهم هذا القرآن وبيانه؛ ففيهم نزل وعنهم أخذ، ولذلك لا يمكن أن يفهم القرآن فهماً أصوب ولا أصدق من فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتباعهم وأتباع أتباعهم.
كذلك فإن الله زكى عقيدتهم في كتابه؛ فقال تعالى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا[البقرة:137]، وهذه تزكية من رب العزة والجلال لاعتقاد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ[البقرة:137]، أي: في خلافات.
فلذلك علينا إخواني! أن نتدارس ما كانوا عليه من الاعتقاد، وأن نأخذ به وأن لا نعدل عن رأيهم؛ فإن الله تعالى أنزل فيهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا[المائدة:3]، وقد صح عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أنه قال: (كل عبادة لم يتعبدها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلا تتعبدوها؛ فإن الأول لم يترك للآخر مقالاً). وكذلك فقد وقف رضي الله عنه على قوم في المسجد لهم آمر يأمرهم بأعداد من الذكر، فقال لهم حذيفة : (يا هؤلاء! لقد جئتم جرماً، أو لقد فقتم أصحاب محمد علماً). ولهذا كان مالك رحمه الله يقول: (إن الله تعالى قد أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا[المائدة:3]، فما لم يكن يومئذ ديناً، فلا يكون اليوم ديناً، فإن آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها). وقد سمع مالك رحمه الله رجلاً من الخوارج يسب بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه فقال: (يا هذا! أأنت من المهاجرين الأولين؟ قال: لا، قال: أفأنت من الأنصار الذين آووا ونصروا؟ قال: لا، قال: فأنا أشهد أنك لست من الذين اتبعوهم بإحسان؛ فقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ[الحشر:10]، وأنت تلعنهم).
فلذلك علينا أن نتدارس ما كانوا عليه من الاعتقاد، وأن نتدارس ما كانوا عليه من العبادة وما كانوا عليه من المعاملة، وما كانوا عليه من الخلق، وما كانوا عليه من التضحية، وما كانوا عليه من الجهاد والدعوة، وأن نحرص على أن نقتدي بهم؛ فهم القدوة الصالحة والأسوة، وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: (من كان مقتدياً فليقتد بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن فتنته). وسبيلهم وسننهم وهديهم كله بيان لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا قال أهل الحديث: (ربى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود فكان مثله في هديه ودله وسلوكه، وربى ابن مسعود رضي الله عنه علقمة فكان مثله في هديه ودله وسلوكه، وربى علقمة إبراهيم النخعي فكان مثله في هديه ودله وسلوكه، وربى إبراهيم النخعي الأعمش فكان مثله في هديه ودله وسلوكه، وربى الأعمش منصور بن المعتمر فكان مثله في هديه ودله وسلوكه، وربى منصور بن المعتمر سفيان الثوري فكان مثله في هديه ودله وسلوكه، وربى سفيان الثوري وكيع بن الجراح فكان مثله في هديه ودله وسلوكه، وربى وكيع بن الجراح أحمد بن حنبل فكان مثله في هديه ودله وسلوكه، وربى أحمد بن حنبل أبا داود سليمان بن الأشعث ، فكان مثله في هديه ودله وسلوكه).
إنه توارث عجيب للهدي والسلوك والسمت، ينبغي أن لا ينقطع في هذه الأمة، وأن يحرص كل إنسان على أن يلتحق بأولئك؛ فالتشبه بهم فلاح كما قال الحكيم:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
كذلك فإن مجرد تدارس أخبارهم وحكاياتهم وسيرهم مما يثبت الله به قلوب عباده، ومما يعين على الاستمرار على الثبات على دين الحق، ومما يعينك كذلك على التضحية والبذل في سبيل الله؛ ولهذا قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: (سير الصالحين جند من جنود الله، يثبت الله بها قلوب عباده). ومصداق ذلك من القرآن قول الله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ[هود:120].
إن ما كان عليه أولئك من الاعتقاد كان يزيد حباً لله تعالى، وحباً لرسوله صلى الله عليه وسلم وحباً لدينه، وكان يدفع للتضحية والجهاد في سبيل الله، وكان يدفع إلى إيثار الآخرة على الدنيا، وكان يدفع إلى إيثار الإنسان إخوانه في الله على نفسه في عاجل أمور الدنيا، وكان يدفع كذلك إلى قيام الليل وصيام النفل، والإكثار من الذكر وقراءة القرآن، وكان يدفع إلى المبادرة إلى الطاعات وإجابة نداء الله تعالى، وكان يدفع إلى شهود الصلوات بالمساجد وإجابة المنادي، وكان يدفع كذلك إلى تعلم العلم النافع وروايته والمبادرة إلى العمل به، كل ذلك من فوائد تعلمنا لما كان عليه سلفنا الصالح، وهو أيضاً وفاء لنا وشرف؛ فأية أمة مبتورة ليس لها تاريخ ولا صلة لها بأسلافها، لا يمكن أن تبرز الزعامات، ولا أن تنتج القادة المجددين.
فلذلك لا بد أن ترجع هذه الأمة إلى تدارس تاريخها وأمجادها؛ فهي والله أيام عطرة عند الله تعالى، وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم، وأعليت فيها كلمة الله، وجوهد فيها في سبيل الله، ونصر فيها الحق، وحصلت فيها العدالة الاجتماعية بين الناس، وتفيأ الناس ظلال القرآن وأمنوا بأمن الله تعالى، وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم وما جاء به؛ فلذلك أنتجت جيلاً ما عرفت الأرض جيلاً أفضل منه، ولا أكمل ولا أحسن خَلْقاً ولا خُلُقاً، ما عرفت هذه الأرض أياماً كانت أعدل ولا أقوم ولا أصوب من تلك الأيام التي جاء فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستجاب الناس لدعوته وسلكوا منهجه وطريقه، لكن هذا الطريق يصعب السلوك عليه، فلا يناله إلا الأقوياء، إلا ذوو الهمم العالية؛ وقد قال أبو العلاء المعري :
أرى العنقاء تكبر أن تصاد فعاند من تطيق له عناداً
فلذلك تحتاج هذه الملة وهذه المحجة إلى من كان من أهل الهمم العالية، الذين يؤثرون الآخرة على الدنيا، والذين يستطيعون التضحية والبذل، وهم الذين يستطيعون سلوك طريق النبي صلى الله عليه وسلم، فمن لا يتحمل الجوع ولا السهر ولا العطش ولا الظمأ، لا يمكن أن يسلك طريق النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يعصب الحجر على بطنه من الجوع، ولا يستطيع أن يسلك طريق أصحابه الذين وصفهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بما أخرج البخاري في الصحيح بقوله: (والله لأني أول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ولقد رأيتنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم، وما لنا زاد إلا ورق السمر وهذه الحبلة، وإن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خلط، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني عن الإسلام؛ خبت إذاً وضل سعيي).
إن هذا الأمر شاق، وقد جعل الله تعالى عليه النكبات والعراقيل التي تصرف من لا يقتضي الله خدمتهم للدين؛ فقد تعهد الله المأفوكين عن طريق الحق؛ فقال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا[الأعراف:146]، إن من عدل عن طريق الصحابة والتابعين وأتباع التابعين في الاعتقاد لا بد أن يتردد في الوحل والفتنة، ولا بد أن يعيش كثيراً من الخلافات التي لا تطمئن إليها النفوس، ولا بد أن يبقى دائماً عرضة للرجوع والتذبذب؛ ولذلك قال الفخر الرازي رحمه الله بعد توبته ورجوعه عن منهج الكلام:
نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذىً ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وكذلك قال أبو المعالي الجويني رحمه الله عند موته. (لقد درست عقائد العالم؛ فما تركت ملة ولا نحلة إلا درستها، وها أنا اليوم أموت على عقائد عجائز نيسابور) أي: ما كان عليه السلف السابق؛ فلهذا نحتاج يا إخواني إلى مدارسة ما كانوا عليه من الاعتقاد، وأن نعلم أنه الحق الذي لا تكلف فيه ولا إشكال، وهو الموافق لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فطرة ومنهجاً.
إن عقيدة السلف الصالح تقوم على أركان ستة بينها الله في كتابه، وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم أوضح بيان في حديث جبريل حين سأله عن الإيمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوابه: ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره )، ستة أركان هي: الإيمان بالله، والإيمان بملائكته، والإيمان بكتبه، والإيمان برسله، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، أما الإيمان بالله تعالى فهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام إلى:
إيمان بألوهيته، أي: أنه سبحانه وتعالى وحده الذي يستحق العبادة، ويستحق الدعاء، ويستحق أن يستغاث به، ويستحق أن يتوكل عليه؛ فهو وحده الذي يستحق أن يصرف له كل أنواع التعبد، فمن صرف شيئاً من العبادة لغيره فقد أشرك به ولم يعرفه حق معرفته؛ فلهذا لا بد أن نعلم أن الإيمان بالله تعالى مقتض لتحقيق العبادة الكاملة له، وأن يعلم الإنسان أن الله وحده هو الذي يستحق العبادة، وأن من دونه يموتون ويمرضون، ويحتاجون ويفتقرون؛ فلذلك لا يستحقون العبادة؛ فإنما يستحقها الحي القيوم، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وهو الذي لا يموت والإنس والجن يموتون، وهو الذي في قبضة يمينه السموات السبع والأرضون السبع، والقلوب كلها بين إصبعين من أصابعه، يرفع إليه أمر الليل قبل النهار وأمر النهار قبل الليل، لا معقب لحكمه؛ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهمْ الْخِيَرَةُ[القصص:68]، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء:23].
فلذلك كان وحده مستحقاً للعبادة، وكان من دونه لا يستحق أن يصرف إليه شيء منها؛ ولهذا قال: ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[فاطر:13-14]، وقال تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المُتَوَكِّلُونَ[الزمر:38]، وقال تعالى: أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ[الزمر:36]، وقال تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[الأنعام:17]، وقال تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ[يونس:107]، وقال تعالى: مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ[فاطر:2].
وهذا النوع من أنواع الإيمان بالله تعالى وهو الإيمان بألوهيته، يقتضي تمام التوكل عليه، والاتصال به والأنس به، والتقرب إليه في كل الأحيان، والتوكل عليه في كل الأمور؛ لأن كل من سواه مفارق لك، فمن تعايشه وتعاشره في هذه الحياة، مفارق لك؛ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ[الزمر:30]، وكل من أعجبك فيه شيء من الصفات؛ فإنه زائل عنه إلا الله سبحانه وتعالى وحده؛ فصفاته باقية خالدة دائمة، فلذلك لا بد أن يتذكر المؤمن بالله تعالى هذا الإيمان بألوهيته، وأن يكون حريصا على الاتصال به والعناية به؛ فلذلك لا يمكن أن يكون المؤمن بهذا الإيمان مفرطاً في عبادة الله، ولا مقصراً فيها، ولا متضجراً من شيء منها، فقد قال الله تعالى في ذكر الصلاة: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ[البقرة:45]، وقد قال بعض أهل العلم: المقصود بـ(الخاشعين) الموحدون، فهم الذين لا تكبر عليهم العبادة؛ لأنهم عرفوا الله سبحانه وتعالى فعرفوا أنه يستحقها فبذلوها له طائعين، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الصلاة: ( أرحنا بها يا بلال )، وكان إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة، وقال: ( وجعلت قرة عيني في الصلاة )، فهي اتصال بالله سبحانه وتعالى يأنس به المؤمن، ويتسلى به عن كل ما يصيبه من الآفات، ويجد فيه سعادة عجيبة، ولذة المناجاة، ويجد فيه كذلك روحاً وريحاناً، وإقبالا على الله، وقوة رهيبة عجيبة، ويجد فيه نوراً ربانياً؛ فنور الله يواجه القائم في الصف، والمصلي في جوف الليل والناس نيام، يجد فيه الإنسان عدة وعدداً، ويجد فيه نصرة الحق، ويجد فيه كذلك اتصالاً بالله سبحانه وتعالى وشعوراً بالقرب منه وهو في غاية سعادته به.
كذلك النوع الثاني من أنواع الإيمان بالله تعالى هو الإيمان بربوبيته، ومعنى ذلك الإيمان بأنه وحده خالق هذا الكون، ومدبر أمره، وأنه لا يمكن أن يفوت عن علمه شيء من الكائنات، فقد قال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ[الأنعام:59]، وهو الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض؛ إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ[فاطر:41]، وهو الذي يمسك الطير في الهواء، وهو الذي رفع السماء بغير عمد، وهو الذي أجرى الأنهار في الأرض والبحار تحمل السفن، وهو الذي قسم الأرزاق على الخلائق جميعا، رزق كل شيء عليه ومصير كل شيء إليه؛ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ[هود:6]، أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ[الشورى:53]، وهو الذي يرزق الإنسان حياته وخلقته؛ ولذلك فخلقه الإنسان وهيئته كلها من تدبير الله وقدره، كما قال الله تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ[الانفطار:8]، وقال: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى[طه:50]، فكل ذلك من تدبيره سبحانه وتعالى، وهو الذي يرزق الإنسان الذرية؛ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ[الشورى:49-50]، وهو الذي يرزق من شاء الغنى، ويرزق من شاء القنية، ولذلك أثنى على نفسه بذلك: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا[النجم:43-44]، وهو قبل هذا يقول: وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى[النجم:48]، (أغنى)، أي: أعطى من شاء الغنى، و (أقنى)، أي: وأعطى من شاء قدر القنية فقط، أي: القدر الذي يكفيه فقط ولم يزده على ذلك.
وكذلك فإن من تدبيره لهذا الكون أنه هو الذي يحيي ويميت؛ فموت كل إنسان إنما يكون بتدبير الله تعالى وعلمه على وفق إرادته السابقة، وسيترك مكانه في الأرض ومحله فوق ظهرها لغيره يشغله من سواه، ويجده ومكانه في بطنها؛ فالأرض جعلها كفاتاً، أحياءً وأمواتاً؛ فلذلك لا بد من الإيمان بربوبية الله تعالى لهذا الكون كله، ولا بد أن نعلم أن هذا الكون ليس فيه مدبر ولا متصرف إلا الله سبحانه وتعالى وحده، فلا تدبر الأفلاك، ولا تشعر بتصريفها، إنما يصرفها الله سبحانه وتعالى، ولا تؤثر الطبيعة في شيء ولا تشعر به، إنما يصرفها الله تعالى، ولذلك قال: وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ[الرعد:4]، فلو أن كانت الطبيعة مؤثرة؛ لكانت القطع المتجاورة التي طبيعتها واحدة وتسقى بماء واحد تخرج نوعاً واحداً من الثمر، وهو في القطعة الواحدة ينبت فيها ما هو في غاية المرارة وما هو في غاية الحلاوة، وما هو أحمر وما هو أصفر وما هو أخضر، فلو كانت الطبيعة مؤثرة؛ لكان الجميع على صورة واحدة.
كذلك فإنه سبحانه وتعالى من ربوبيته لهذا الكون أنه فطر العباد على توحيده؛ فالبشر جميعاً يقرون بالإلهية ويبحث كل إنسان منهم عن إله يعبده، فلو ولد إنسان في جزيرة من جزائر البحر، ولم يجد معلماً ولا عرف أحداً فإنه سيبحث عن شيء يعبده، إن هدي إلى عبادة الله عبده، وإلا بحث عن شجر أو حجر أو غير ذلك؛ ولهذا فالإنسان بفطرته محتاج لغيره متعلق القلب بذلك الغير أبداً، كل هذا يدلنا على ربوبية الله سبحانه وتعالى، وتدبيره لهذا الكون وحده لا شريك له، ليس له أعوان، ولا أنداد ولا نظراء، ولا مستشارون ولا وزراء، يدبر الأمر سبحانه وتعالى وحده وهو سريع الحساب، لا يختلط عليه أمر مكان عن أمر مكان، لا يشغله شأن عن شأن، سبحانه وتعالى.
والنوع الثالث من أنواع الإيمان بالله هو الإيمان بأسمائه وصفاته، وذلك يقتضي إقرار الإنسان بكل ما وصف به نفسه؛ فلا بد أن يؤمن الإنسان بأن الله تعالى متصف بكل كمال وبكل جلال وبكل جمال؛ فهو سبحانه وتعالى متصف بجميع الكمال، منزه عن جميع النقائص، لا يعروه نقص ولا ضعف، هو سبحانه وتعالى الذي اتصف بالكمال والجلال والجمال، وتعزز بالملك والكبرياء والجبروت، وقهر العباد بالموت؛ فلذلك لا يمكن أن يبلغه عباده بنفع ولا بضر، ولا أن يصلوا إلى مجرد إدراكه؛ لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الأنعام:103]، قد اتصف بصفات الكمال والجلال، وتسمى بالأسماء الحسنى، واتصف بالصفات العلى، ولا يمكن أن يعرف شيء من ذلك إلا بوحيه الذي أنزل وبين؛ فإنه سبحانه وتعالى سمى نفسه بالأسماء الحسنى، ووصف نفسه بالصفات العلى، وجاء بذلك رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فتشربت ذلك القلوب المؤمنة، حتى باشر شغاف القلوب، فأحب أهل الإيمان ربهم وآمنوا بما وصف به نفسه، وبما سمى به نفسه، وبذلك لم يعنوا أنفسهم عناءً ولا إتعاباً في تصورات هذه الأمور وتكييفها، بل آمنوا بذلك على وفق ما أخبر الله به عن نفسه، فله المثل الأعلى؛ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[الشورى:11]، فكل ما وصف به نفسه فهو متصف به، وكل ما نفاه عن نفسه فهو منفي عنه، وكل ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم فهو متصف به، وكل ما نفاه عنه فهو منفي عنه، سواءً أدركت ذلك العقول أو لم تدركه، فلا مجال للعقول في مناقشة ما لم تأت به أصلاً، فهذه الأمور لم تأت بها العقول، وإنما جاء بها جبريل من عند الله تعالى؛ ولذلك لا يمكن أن تحكم فيها العقول، بل لا بد من الاستسلام التام فيها للوحي المنزل من عند الله تعالى، وإذا استسلم الإنسان للوحي المنزل وانقاد لما جاء به جبريل من عند الله تعالى، ونزل به على قلب محمد صلى الله عليه وسلم لم يقع لديه أي أشكال؛ فيعلم أن كل الوحي من عند الله فيؤمن بجميعه، محكمه ومتشابهه، ويعمل بمحكمه ولا يتبع متشابهة؛ كما قال الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ[آل عمران:7].
فلذلك يؤمنون به جميعاً ويصدقون به جميعاً، ويقرون به ويستسلمون له، فما أدركته عقولهم وفهموه علموا أن الله تفضل عليهم بفهمه، وما لم تدركه عقولهم علموا أن الله حجبهم عنه؛ فالعقول كما تعلمون كلها من عند الله ومن فضله، ولذلك لا يمكن أن يفهم عقل الإنسان ولا أن يستوعب إلا ما رزقه الله به، ولهذا قال محمد بن مالك رحمه الله في مقدمة التسهيل: (وإذا كانت العلوم منح إلهية ومواهب اختصاصية؛ فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين). وقال العلامة محمد الفال بن متالي رحمه الله:
وقسمة الحظوظ فيها يدخل فهم المسائل التي تنعقل
فيحرم الذكي من فهم الجلي إن لم يكن من حظه في الأزل
فلا بد من الاستسلام التام لهذا الوحي، وتقديمه على مقتضيات العقول؛ لأن العقل جارحة من جوارحك وأنت تعلم أن جوارحك قاصرة، أيكم الآن يدعي أن بصره تام كامل لا حدود له، يخترق السبع الطباق، لا أحد منكم يدعي ذلك، كل إنسان منكم يعلم أن بصره محدود المكان، وأنه فقط يصل إلى مداه ولا يتعداه، كذلك أيكم يدعي أن سمعه هو أقوى الأسماع، وأنه يسمع أصوات الملأ الأعلى بما يختصمون فيه؟ لا أحد منكم يدعي ذلك، فأنتم تعلمون أن أسماعكم محصورة وأن لها مدى تصل إليه ولا تتعداه، كذلك ما الفرق بين عقولكم وأسماعكم وأبصاركم؟ لا فرق بين العقل والسمع والبصر، أنت الآن ترى إنساناً، وتتصوره ببصرك القاصر جسيماً وسيماً، وينظر إليه سواك فيراه بنظرة أخرى.
وقد تختلفون في الألوان، فبعضكم الآن يرى شيئاً بلون معين ويخالفه غيره في النظر؛ فهذا يدلنا على أن البصر مشكك، وكذلك السمع بعضكم يسمع أصواتاً فيرى أنها مزعجة، سمجة، قبيحة، وبعضكم يرى أنها حسنة مؤثرة، وأنتم تتفاوتون في سماعها بعداً وقرباً كذلك، فدل هذا على أن ما أدركته الجوارح مشكك أيضاً، وأبلغ دليل على ذلك أن ينظر أحدكم الآن مدى بصره فسيرى القادم إليه، يراه من بعيد صغيراً، ولا يتبين شكله ولا هيئـته وكلما اقترب إليه تبين، لكنه سيصل إلى مدى إذا وصل إليه وقف عنده هذا التصور، وكلما اقترب منه نقصت رأيته، فانظر إلى يدك بعيداً عنك، ثم زدها قرباً؛ فإذا وصلت إلى هذا المدى احتجب عنك ما وراء إطار العين منها، هذا يدلنا على أن جوارحنا جميعاً وعلمنا الحاصل بها هو علم مشكك، وأن العلم الذي لا شك فيه، ولا لبس فيه، ولا خفاء فيه هو ما نزل به جبريل من عند الله تعالى؛ لأنه من علم الله.
فهذا القرآن الذي تقرءونه من علم الله، وعلم الله ليس له حدود؛ أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[البقرة:231]؛ فلذلك لا يمكن أن يقاس بعلمنا نحن، ونحن نعلم قصور علمنا؛ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[الإسراء:85]، وما منا أحد إلا ويخفى عنه حتى ما كان في شعر رأسه، ويخفى عنه عدد نبضات قلبه وهي أقرب شيء إليه، ويخفى عنه تصور نفسه التي بين جنبيه، هل فيكم أحد يستطيع أن يصف لي روحه الآن؟ هل هي بيضاء أو سوداء؟ أو طويلة أو قصيرة؟ لا يستطيع أحد منكم أن يصف روحه، ومع ذلك تؤمنون بأرواحكم وهو أقرب شيء إليكم، فدل هذا على أنكم لا بد أن تؤمنوا بالله العظيم، وأن تعلموا أنه لا يمكن أن تدركه أبصاركم، فقد آمنتم بأرواحكم، التي هي أقرب شيء إليكم؛ فكيف لا تؤمنون بالله سبحانه وتعالى!
كذلك فإن الإيمان بأسمائه وصفاته يقتضي زيادة المحبة له، فكلما ازددت صفة من صفات الله أو اسماً من أسمائه؛ فقد ازددت حبا لله تعالى بذلك؛ لأن كل اسم من أسمائه يقتضي صفة، وكل صفة من صفاته تقتضي كمالاً، فإذا تزداد معرفة بالله تعالى كلما ازددت معرفة لأسمائه وصفاته.
ومن هنا فإن زيادتك في الثناء على الله تعالى بأسمائه وصفاته زيادة قرب إليه ومحبة، وكلما تقربت إليه تقرب إليك، لذلك لا بد أن يكون إيماننا بأسماء الله وصفاته منطلقاً من هذا المنطلق بالاستسلام التام؛ فنؤمن بها على نحو ما جاء من عند الله تعالى من غير بحث في تأويلها؛ فلا نؤول شيئاً منها، ولا نكيفها، فكيفها مجهول بالنسبة إلينا، ولا نعطل شيئاً منها، بل نؤمن أنها الحق الذي لا غبار عليه، وأن جبريل ما افترى فيها على الله، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك معصوم لا يمكن أن يكذب على الله؛ فهي الحق إذاً الذي لا غبار عليه ولا يمكن أن يختلف فيه، فإذاً نؤمن بها من غير تشبيه له بخلقه، ومن غير تعطيل لشيء مما وصف به نفسه أو سمى به نفسه، ومن غير تأويل لشيء منها بما لا نعرف، ومن غير تكييف لشيء منها بما لا نعرف أيضاً؛ فكل ذلك هو من القصور والمجاوزة، ولم يفعله سلفنا الصالح، فنقتصر على ما كان لديهم، وقاعدتنا خلاف قاعدة المشركين؛ فالمشركون قالوا: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ[الأحقاف:11]، ونحن نقول: (لو كان خيراً لسبقونا إليه) فالخير كله ما سبقونا إليه، فقد سبقونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الإيمان والتقوى؛ فالخير كله ما سبقونا إليه.
كذلك فإن صفات الله سبحانه وتعالى بعضها يدرك بالعقل معنى كونه صفة فلا يختلف الناس في الوصف به؛ كصفة العلم، وصفة الحياة، وصفة القدرة، وصفة الإرادة، وصفة السمع، وصفة البصر، وصفة الكلام.. ونحو ذلك، وبعضها لا يدرك العقل معنى ذلك؛ لأن سميه في المخلوق، أي: المشترك معه في اسمه المخلوق وهو جارحة من جوارحه، والله تعالى منزه عن ذلك، فلذلك من صفاته أنه وصف نفسه بأن له وجهاً، وأن له يدين، وأن له عيناً، وأن له قدماً، وأن له ساقاً، وأن له أصابع، وكل ذلك وصف به نفسه ونحن نشهد أنه صفة كمال له، ولا نشبهه بخلقه، ولا نعطل هذه الصفات، ولا ننفيها ولا نؤولها، ولا نحاول إدراكها لأننا لا تصل إليها عقولنا، ولكن نعلم أنها حق.
كذلك من صفاته نوع ثالث، وهو الصفات الفعلية؛ فإنه سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، فإنه تعالى قد استوى على عرشه استواءً يليق به، وكذلك فإنه تعالى تجلى للجبل، فصار دكاً من جلاله، وكذلك فإنه تعالى كلم موسى بكلامه، وكذلك فإنه سبحانه وتعالى: ( ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى سدس الليل فلا يزال يقول: ألا من يدعوني فأستجيب له، ألا من يسألني فأعطيه، ألا من يستغفرني فأغفر له ).
وكذلك فإنه سبحانه وتعالى: ( يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، إلى أن تطلع الشمس من مغربها )، وكذلك فإنه سبحانه وتعالى يرى في الآخرة فيراه المؤمنون على قدر إيمانهم، وهي رؤية تفضل من الله سبحانه وتعالى عليهم، ويحجب عنه الكافرون والمنافقون فلا يرونه؛ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ[المطففين:15]، وأهل الإيمان يبيض الله تعالى وجوههم، فيرون الله عز وجل؛ كما قال الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ[القيامة:22-23]، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته )، وكذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع عليهم نوراً من فوقهم فيرفعون أبصارهم فإذا الرب سبحانه وتعالى يناديهم من فوقهم: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ[يس:58]، فلا ينظرون إلى شيء مما هم فيه ما داموا ينظرون إلى وجهه الكريم ).
كذلك فإنه سبحانه وتعالى من صفاته الفعلية أنه كتب التوراة بيمينه لـموسى في الألواح، وأشهد على تسلميها إلى موسى سبعين رجلاً من بني إسرائيل، وكل هذا من صفاته الفعلية سبحانه وتعالى، ومنها خلقه للخلائق ورزقه لها، فقد خلق آدم بيمينه ونفخ فيه من روحه، وكذلك فإنه سبحانه وتعالى؛ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ[فصلت:11-12]، فكل ذلك من صفاته الفعلية الاختيارية يفعل؛ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهمْ الْخِيَرَةُ[القصص:68].
إذاً هذا ما يتعلق بالإيمان بالله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر