بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الإنسان يسير إلى مستقر له هو لاقيه لا محالة، فعليه أن يتدبر فيما أمامه، وأن يتذكر تلك المشاهد التي تنتظره؛ لأن ذلك مدعاة للإعداد لها، ولذلك فإن: ( رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في جنازة فلما وضع الميت في قبره نظر إلى أصحابه، فقال: أي إخواني! أعدوا لمثل هذه الضجعة )، فعلى الإنسان أن يستعد لهذه المشاهد التي يؤمن بها، ويعلم أنها آتية لا محالة، وأنه ليس له ملجأ ولا مفر، وليس له ملتحد عنها، فهي أمامه في طريقه لابد أن يمر عليها، فيحتاج إلى التفكر فيها والتدبر، فهو ما يلين الله به القلوب الغليظة، ونحن محتاجون إلى لين قلوبنا فما أقساها! يقرأ علينا القرآن الذي لو عرض على الجبال لتفجرت بالماء، ولا نتأثر به وقد قال الله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[الحشر:21].
فلابد إخواني! من ساعات يدور فيها أمر الآخرة في خلد الإنسان، فيفكر في عرضه على الله سبحانه وتعالى ماشياً، حافياً، عارياً، أغرل، ليس معه إلا عمله، وأن نفكر في مشاهد القيامة وتباين نتائج الامتحان، فنحن اليوم في هذه الدار في دار الامتحان، وقد وزعت علينا صحائفنا وأقلامنا، وكل إنسان منا يبادر إلى ما ينجيه، أو يبادر إلى ما يرديه، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها، والنتائج تعلن ليس فيها تزوير ولا غش، ينادي المنادي على رؤوس الأشهاد: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ[يس:59].
والفصل حينئذ لا معقب له؛ فإنه يضرب بين أهل الجنة وأهل النار بسور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، فتلك النتائج ليس فيها تعقيب ولا طعن؛ ولذلك لابد أن نستعد لها من الآن مادامت الفرصة سانحة، والعمر مواتياً، فسيحال بين الإنسان وبين أن يقول: لا إله إلا الله! فلابد أن يبادر مادام يمكن أن يقدم شيئاً لنفسه، وأن يتدارك ذلك قبل فوات الأوان.
إن القيامة قيامتان: قيامة صغرى، وقيامة كبرى، فالقيامة الصغرى هي الموت، إذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه الأعراب فيسألونه: ( متى الساعة؟ فينظر إلى أصغرهم فيقول: لا تقوم الساعة حتى يموت هذا حتى تقوم قيامته )، ( فسئل عن ذلك؟ فقال: إذا مات ابن أدم فقد قامت قيامته )، وذلك أن الإنسان بمجرد الموت تنكشف عنه الغشاوة، فيرى ما لم يكن يحتسب، ويبدو له ما كان عنه غائباً، كما قال الله تعالى: وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ[الزمر:47]، كثير من الناس يرى الأجداث، فيرى القبور الضيقة وقد وضعت فيها الجنائز ثم رد عليها التراب، وذرت عليها السوافي وهجرها أهلها، وانقطعت أخبار أهلها، فلا اتصال ولا أخبار، ولا سلام ولا إجابة.
فلئن صرت لا تحير جواباً لبما قد ترى وأنت خطيب
فيرى هذا الأمر فيظنه هيناً، وأنه مجرد انتقال من حال إلى حال، أو أنه فناء وانعدام، وكل ذلك محض هراء، فإن الإنسان بمجرد الموت يدخل في مسلسل من الانشغالات لا حصر لها، فالموت ينسيه كل ما سبق، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أكثروا من هاذم اللذات الموت، فما ذكر في سعة إلا ضيقها، وما ذكر في ضيق إلا وسعه )، أكثروا من ذكر هذام اللذات الموت، هادم اللذات، أي: قاطعها، فهو يقطع على الإنسان لذاته ومشاريعه وآماله، مادام الإنسان حياً يؤمل أن يعيش ويؤمل أن يعمل كثيراً من الأعمال، حتى يأتي الموت فسينقطع به الأمل، ولذلك: ( خط رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس خطاً، ثم خط خطاً مربعاً، فجعل ذلك الخط في وسطه، ثم أخرج منه خطاً خارجاً، وأدخل فيه خطوطاً صغيرة عن يمينه وعن شماله، فوضع يده على الخط الذي داخل المربع، فقال هذا ابن آدم، ووضع إصبعه على الخط الخارج منه فقال: وهذا أمله، ووضع إصبعه على الخط المربع، فقال: وهذا أجله، ثم أشار إلى الخطوط الصغيرة فقال: وهذه أعراض، إن أخطأه هذا أصابه هذا )، فأنتم تشهدون في حياتكم هذه كثيراً من الأعراض والأمراض، يمر بالإنسان السرور والحزن، واللذة والألم، والرخاء والفقر، والفراغ والإشغال، والصحة والضعف، وانشغال البال وسعادته، كل ذلك يمر على الإنسان في اليوم الواحد.
وبعد ذلك تأتي التقلبات التي لا حصر لها ولا تخطر على بال الإنسان بمجرد الموت، بخروجه من هذه الدار، فالإنسان إذا تصور أنه لو أخرج من دار أهله فجرد من كل ما يعرفه من ملابسه وغطيت عيناه وأذناه، ثم رمي به في الصين مثلاً، ولا يعرف اللغة الصينية، أليست الدنيا ستظلم في وجهه، وستتغير عليه أحواله، لا يعرف شيئاً فيراه، لا يسمع كلاماً يفهمه، ولا يرى شيئاً من الملابس التي يعهدها، ولا من المطاعم التي يعهدها ولا من المشارب ولا من المنازل والمساكن، كل شيء يتغير لديه، خرج وعهده بالشمس في رابعة النهار، فجاء في ليل دامس، وألقي في نفس اللحظة في ذلك المكان الموحش، هذا لا شك مؤثر في حياة الإنسان، فكيف بالانتقال بالكلية من هذه الدار إلى دار أخرى تغايرها بالكلية! هذه الدار فيها الكذب، وفيها المعاذير، وفيها الضحك، وفيها البكاء، وفيها الأعذار، والدار الآخرة ليس فيها شيء من ذلك؛ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ[النجم:59-61]، تتغير الأحوال على الإنسان بالكلية، وتزول الغشاوة عن عينيه وهو يشاهد ما لم يكن يخطر له على بال، كما قال الله تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ[ق:19-22]، ينكشف الغطاء عن الإنسان فبصره في ذلك اليوم حديد، يرى من الأمور ما لا يمكن أن يدرك بالبصر في الحياة الدنيا؛ وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ[الزمر:47].
وهذه القيامة الصغرى مشاهدها تبدأ من إدبار الدنيا وإقبال الآخرة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن العبد إذا كان في منقطع من الدنيا وإقبال من الآخرة أتاه ملك الموت فإن كان محسناً جلس عند رأسه فقال: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30]، فتتهوع نفسه كما تتهوع القطرة من في السقاء، فتكون في يد ملك الموت، فلا تمكث في كفه طرفة عين حتى يسلمها إلى ملائكة كأن وجوههم الشموس قد جلسوا مد البصر، وهم باسطوا أيديهم، فيضعونها في كفن من أكفان الجنة ويعطرونها بها إلى السماء، فيستأذنون فتفتح لهم أبواب السماء، ويقال: مرحباً بالنفس الطيبة! حتى تخر ساجدةً تحت العرش، ثم يؤذن لها في الرجوع إلى سؤال الملكين، وإن كانت النفس خبيثة جلس عند رأسه فقال: يا أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وعقوبة، فتتفرق في البدن فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فلا تمكث في كفه طرفة عين حتى يسلمها إلى أولئك الملائكة وهم: بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ[الأنعام:93-94]، فيضعونها في سفط من أسفاط النار، ويضعون عليها من قطران النار، ويرتفعون بها فيستأذنون عند باب السماء فلا تفتح لهم أبواب السماء؛ لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:40-41] ).
ثم بعد هذا عندما تقبض روحه، وتسير في هذه الرحلة إما أن تقبل فتفتح لها أبواب السماء، وإما أن ترد فلا تفتح لها أبواب السماء، ترجع وقد بدأ الدفن فيصل إلى القبر وهو أول منازل الآخرة وهو أعظم من كل ما قبله وأعظم منه كل ما بعده، فكل درجة من درجات السلم هي أعظم من سابقتها تنسي الإنسان كل ما مر عليه من قبل، ولذلك فإن الإنسان عند موته يبشر بمقعده من الجنة، أو بمقعده من النار، فملك الموت يقول: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر:28-29]، وإن كانت خبيثة قال لها: يا أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وعقوبة، لكن الإنسان ينسى هذا بمجرد وضعه في القبر، ثم بعد ذلك كل مشهد من مشاهد القيامة الصغرى ينسي الإنسان ما مر به من قبل، يعرض عليه مقعده من الجنة ومعقده من النار، فينسى ذلك، وفي المحشر لا يتذكر الإنسان مصيره، فلا يدري إما إلى جنة وإما إلى نار؛ لأن كل المشاهد وإن كان قد عرفها من قبل مصيره ورآها بعيني رأسه، كل مشهد ينسيه كل ذلك، ولذلك فكل ما مر على الإنسان من النعيم، وكل ما مر عليه من الأذى والإهانة في هذه الدار ينساه بتلك الضجعة في قبره قبل أن يوارى في التراب، فإذا وضع هنالك وعاد إلى التراب التي منها خلق كما قال الله تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى[طه:55].
فأول ما يشهده في القبر ضمة القبر التي تختلف منها الأضلاع وتزول منها الحمائل، ضمة شديدة، تهيئ الإنسان لاستقبال الملكين وكلامهما في تلك الصورة المروعة المرعبة، وهما: منكر و نكير ، صوتهما كالرعد القاصف، وبصرهما كالبرق الخاطف، وهما يكلمانه بذلك الكلام المفظع الذي لم تسمعه أذنه من قبل، وتفهمه كل شعرة منه وكل عظمة، الآن للإنسان فقط جهاز خفيف في طبلة أذنه تستقبله، وإذا فات الأذن لم يسمعه شيء من البدن، وكلام الملكين تسمعه كل شعرة من الإنسان، وكل عظمة، وكل موضع منه، فيستوعب الكلام الموجه إليه تماماً، فهذا الكلام يسألانه به بعد أن تقع أكفانه في حقويه، يناديانه، فيقولان: ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟
ثلاثة امتحانات: الامتحان الأول: ما ربك؟ وهذا الامتحان إنما يذكر فيه الإنسان ما عظم في نفسه، فإن كان يعظم غير الله في هذه الحياة فسيجيب بما كان يعظم من دون الله، وإن كانت عظمة الله تعالى قاضية على كل تعظيم لديه، فإن الله سيثبته بالقول الثابت، كما قال تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ[إبراهيم:27]، فإن كان مؤمناً، موقناً، فإنه يجيب فيقول: ربي الله؛ فهو يعرف ربه سبحانه وتعالى فيجيب به، ثم يجيب عن السؤال الثاني إذا قيل له: وما دينك؟ فإن كان له انتماء في هذه الحياة الدنيا يؤثره على الدين، ويقدمه عليه ذكر انتماءه، سواءً كان نسبياً أو أيديولوجياً أو حزبياً أو غير ذلك، يذكر انتماءه؛ لأنه حقق انتماءه في هذه الحياة لذلك الذي ينتمي إليه، لقومية أو لوطنية أو لأيدلوجية أو لحزب أو لقبيلة أو لغير ذلك، فسيذكر انتماءه، فهو دينه الذي ينتمي إليه، وإن كان حقق الانتماء لدين الله فسيثبته الله بالقول الثابت، فيقول: ديني الإسلام، ثم يسأل السؤال الثالث: وما كنت تقول في هذا الرجل؟ بصيغة الإبهام التي تقتضي منه أن يتذكر أعظم رجل في حياته، فإن كان يتعلق برجل آخر غير رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيحضر في باله ذلك الرجل الذي يتعلق به فهو أول رجل يذكره، فيسمي ذلك الرجل الذي يتعلق به، وإن كان مؤمناً موقناً، فإنه يقول: والرجل المبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد.. هو محمد.. هو محمد.. ثلاثاً جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا.
ولاحظوا أن الأسئلة ثلاثة وهي منوعة، فالسؤالان الأول والثاني مقتضبان، كلاهما مختصر فيكفي في جوابه كلمة واحد، ما ربك؟ فالجواب: ربي الله، وما دينك؟ الجواب: ديني الإسلام، لكن السؤال الثالث مفصل؛ فلا يكفي فيه الكلمة المقتضبة، السؤال الثالث: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فليس السؤال: من هذا الرجل حتى يقول محمد فقط صلى الله عليه وسلم، بل لابد من السؤال ما كنت تقول فيه؟ أي: في الحياة، ما كنت تعتقد فيما جاء به؟ هل كنت مقتنعاً بأن ما جاء به هو الحق من عند الله؟ هل كنت مطيعاً له متبعاً لما جاء به؟ هل كنت تؤثر أمره على أمر من سواه؟ هل كنت تنصح له وتقدم سنته على غيرها؟ هل سعيت يوماً من الأيام لإعزازه وإظهاره والتمكين له؟ هل نصرته يوماً من الأيام؟ طيلة أيام حياتك عشت على الأرض ستين سنة أو سبعين سنة أو خمسين سنة أو عشرين سنة، كل سنة فيها ثلاثمئة وخمسة وستون يوماً، كل يوم فيه أربع وعشرين ساعة، هل نصرت النبي صلى الله عليه وسلم في ساعة من هذه الساعات، في يوم من هذه الأيام، في شهر من هذه الشهور، في سنة من هذه السنوات؟ فلذلك لابد أن يسأل بالتفصيل: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فالمؤمن يقول: هو محمد.. هو محمد.. هو محمد.. ثلاثاً، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا، فآمنا، وإلى الآن آمنا كل إنسان مؤمن يمكن أن يدعي هذا، لكن المشكلة ما بعدها: (واتبعنا) فالإيمان مرتبط بالعمل، وأية قناعة لا يصحبها عمل فهي زائلة لا يمكن أن تبقى مع صاحبها، بل لابد أن تذهب وتزول؛ فلذلك لابد أن يكون الاتباع لما علمه الإنسان وما سمعه هو محط الأمر ونهايته، فالإنسان الآن قد يسمع الموعظة فيتعظ بها، وقد يسمع مشهداً من مشاهد القيامة وهو يؤمن به ويصدق فيعلم أنه الحق؛ فينتفض في داخله، لكن مالم يصحب ذلك عمل، فإن رجع إلى بيته فعمل أي عمل تذكر إلى أي الكفتين سيذهب هذا العمل، إن أراد أن يقول قولاً وزنه في أي الكفتين هو، إن أراد أن يتصرف أي تصرف عرف هل هذا التصرف محمود العاقبة أو مذمومها، ما نتيجته الحتمية عند النهاية، فهذا الذي ينتفع بالموعظة والذكرى، وأما من سواه فقد ينتفع الآن، أو يتأثر الآن، ولكن يذهب ذلك هباء منثوراً، لا يبقى معه منه أثر، فهذا لا ينتفع بالذكرى، والذكرى إنما ينتفع بها المؤمنون.
ثم بعد هذا الامتحان إن نجح قال له الملكان: صدقت وبررت، قد علمنا إن كنت لموقناً، ويقولان له: نم نومة عروس، وهو الذي لا يوقظه إلا أحب الناس إليه، ويملآن عليه قبره خضراً ونوراً، والمنافق يقول: هاه.. هاه! لا أدري! كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، موقف مخز والله، ويقتضي غاية الندم، نسأل الله السلامة والعافية! يقول: هاه.. هاه! لا أدري! كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فهو كان يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد رسول الله، ويقرأ القرآن ويذكر الله، لكنه كان يفعل ذلك كله تقليداً، رأى الناس يفعلون ففعل، وسمعهم يقولون فقال؛ سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فهذا النوع من التقليد مشكلة عظمى، يتردى بها صاحبها إلى هذا المستوى، فيقولان له: لا دريت ولا تليت! ويضربانه بين فوديه بمرزبة معهما، لو اجتمع عليها أهل منىً ما أقلوها، وفي رواية في حديث أسماء في الصحيحين: ( ويضربانه بمطارق بين فوديه، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الإنس والجن )، يصيح صيحة عظيمة يسمعها من يليه، أي: الخلائق الأخرى من العالم الآخر، فالإنس والجن بينهم وبين الميتين برزخ إلى يوم القيامة، كما قال الله تعالى: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ[المؤمنون:100]، فهذا البرزخ يحول بين الإنسان وبين الوصول إلى الأموات والسماع منهم وأسماعهم، لكن غير الإنس والجن من الخلائق يسمعون هذه الصيحة المؤثرة العظيمة، (يسمعها من يليه إلا الإنس والجن) ثم بعد ذلك يملآن عليه قبره من الحيات والتنانين والعقارب.
فإذا انصرف عنه الملكان جاء مشهد آخر من مشاهد القيامة الصغرى، وهو عرض العمل، فإن كان محسناً أتاه عمله في أحسن صورة، وأحسن رائحة، فقال له: أبشر بخير، فيقول: وجهك الوجه الذي يبشر بخير، فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح وأنا أنيسك في غربتك، وإن كان مسيئاً جاءه عمله السيء في أقبح صورة، وأنتن رائحة، فيقول له: أبشر بسوء، فيقول: وجهك الذي يبشر بسوء؛ فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك السيء وأنا صاحبك في غربتك، ويعرض عليه مقعداه: مقعده من الجنة، ومقعده من النار، فإن كان محسناً قيل له: هذا مقعدك من النار، قد أبدلك الله خيراً منه، ويعرض عليه بعده مقعده من الجنة، وإن كان مسيئاً قيل له: هذا مقعدك من الجنة، لكنك أبيت عنه فأبدلك الله شراً منه، ويعرض عليه مقعده من النار.
بعد هذا فإن القبر إما أن يكون روضة من رياض الجنة فيه من روحها وريحانها ونعيمها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، يوسعه الله على أهله مد البصر، ويدخل عليه السرور فيه بكل أنواعه، ويسعد فيه سعادة لا شقاء بعدها، ويكون صاحبه في راحة عجيبة، قد استراح من هموم الدنيا ومشاقها، فلا هو يخاف الموت، ولا يخاف المرض، والألم ، وقد ارتاح من الأعمال أيضاً، فالتكاليف رفعت عنه وعطلت الأقلام، وهو يرى صحائفه وقد طويت وختم عليها، فأيامه ولياليه في نعيم وراحة، هو ينتظر البعث على ذلك، وإن كان القبر حفرة من حفر النار نسأل الله السلامة والعافية! فسيصل إليه من فيح جهنم وحرها ونتنها وبردها ما لا يمكن أن يخطر على قلب أحد، ثم بعد ذلك يضيق عليه ضيقاً شديداً لا يمثله إلا ضيق الصدر عند بالموت عند الحشرجة، فإن النفس عندما تحشر في الصدر؛ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي [القيامة:26]، وانتزعها الملائكة في ذلك الوقت؛ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً [النازعات:1-2]، يضيق بها مخرجها من الحلقوم ضيقاً شديداً.
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فذلك الضيق مثله عمرو بن العاص رضي الله عنه عند موته، عندما سأله ولده عبد الله فقال: يا أبتي! إنك كنت تتمنى أن ترى رجلاً عاقلاً عند الموت حتى يصف لك الموت، وها أنت الرجل العاقل؛ فصف لنا الموت! فقال: (أحس بشوك يسحب في عظامي حتى يدخل في كل مفصل من مفاصلي) كأنه تجرجر الأشواك في داخل عظامه، فيحس بذلك الألم الذي لا يمثله شيء، (وأحس أن السماء قد أطبقت على الأرض على صدري فجعلت بينهما) كأن السماء وضعت على الأرض من الضيق، فهذا فقط في سكرات الموت، ( إن للموت لسكرات )، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا إله إلا الله! إن للموت لسكرات ).
فيبقى المعذب في قبره -نسأل الله السلامة والعافية- في ذلك العذاب الذي لا ينتظر إلا شراً منه، فهو على عذابه يعلم أن العذاب الذي هو فيه هو من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر، فهو يخاف أن يحشر؛ لأن الحشر فيه العذاب الأكبر، نسأل الله السلامة والعافية! وقد قال الله تعالى في عذاب القبر: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ[السجدة:21].
ثم إن الإنسان في القبر أيضاً حياته البرزخية تغلب فيها الروح على البدن، فحياة الإنسان ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الحياة الدنيا، يغلب فيها البدن على الروح، فالإنسان في يقظته لا يرى إلا ما يراه من موق عينه، فلا يبصر إلا من خلال طرف عينه، ولا يسمع إلا من خلال فتحة أذنه، ولا يذوق إلا من خلال فمه، ولا يشم إلا من خلال أنفه، فالروح محصورة حينئذ بالبدن مغلوبة، وإداك الإنسان محصور فيها بالجوارح، وقد غطي بالزمان والمكان، فهو محجوز بحاجز الزمان والمكان.
الحياة الثانية هي الحياة البرزخية تحت الأرض، وهذه فيها الروح تغلب على البدن، فالروح تسرح فيما هنالك، وأرواح أهل السعادة في حواصل طير خضر، تتفيأ من أشجار الجنة، وتأكل من ثمارها حتى تبعث، وقد جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدد من الأحاديث الصحيحة، فقد ذكر أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر، تتفيأ في ظلال الجنة وتشرب من أنهارها وتأكل من ثمارها حتى تبعث.
أما الأبدان، فهي قسمان:
أبدان مبقاة، وهذه تنقسم إلى قسمين، إلى:
أبدان مبقاة لحظها من العذاب؛ لأنها قد اقترفت كثيراً من الإساءات فتبقى لا تأكلها الأرض حتى تنال حظها من العذاب الدنيوي، ثم تحشر لعذابها الأخروي، وذلك كبدن فرعون الذي قال الله له: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً[يونس:92]، يبقى بدنه آية لمن خلفه وموعظة على هلاك الطواغيت والمستكبرين، الذين ما قدروا الله حق قدره، واستعبدوا عباد الله واستذلوهم، واتخذوهم فرقاً، يستحيون طائفة منهم ويذبحون طائفة أخرى، ويذيقونهم أنواع العذاب الهون، فمصيرهم هو مصير فرعون ، وحالهم حاله، عندما أدركه الغرق لم يكن منه إلا أن قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90]، بعد أن كان يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، فأبقى الله تعالى بدنه آية وعبرة للمعتبرين وموعظة.
ثم النوع الثاني: الذين تبقى أجسامهم مرزوقة عند الله تعالى، وهم المحسنون الذين أتعبوا أبدانهم في طاعة الله، فأراحها الله تعالى بعد الموت، فبقيت على حالها، لا تتغير ولا تأكلها الأرض، كأجساد الأنبياء، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء )، وكذلك أجسام الشهداء، فكثير منهم لا تأكله الأرض، فقد أتعب نفسه، وباع بدنه لله، فقبله الله منه وضاعف له الثواب فأبقى بدنه خالداً تحت الأرض لا تنتابه النوب والأمراض والأعراض، ولا تأكل منه الحشرات، ولا ينتابه التغير؛ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169].
فالذي يكره المذلة في هذه الحياة، ويكره الإهانة والسجون والأذى، فراره إنما هو إلى الشهادة في سبيل الله، فإنه إن استشهد نجى من كل ذلك، فلم يحس بألم ولا نصب ولا مذلة ولا تعب، لا يذوق من طعم الموت إلا مثل وخزة الإبرة، ويزوج عند أول قطرة تقطر من دمه بسبعين من الحور العين، ويغفر له ما قدم، فهذا هو الفرار المجدي، الذي فيه النجاة من أعراض الدنيا، من أراد الفرار من مذلة الدنيا وأعراضها وإهاناتها، ففراره إنما هو إلى الشهادة في سبيل الله، وقد عرف أن كثيراً من الشهداء لم تتغير أجسامهم؛ فكثير منهم أخرجوا من قبورهم، ولذلك فإن شهداء أحد عليهم السلام، وقد أخبرنا الله تعالى بحالهم في سورة آل عمران، وشهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك: ( فوقف على قبورهم قبل موته بثمانية أيام فصلى عليهم وقال: إني شهيد على هؤلاء بأن صدقوا الله ما عاهدوه عليه ).
أخرج معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ستة عشر منهم من شهداء الأنصار من قبورهم عندما شكى إليه أهل المدينة العطش، وقد اجتمعت مياه كثيرة من السيول في مكان يسمى "المهراس" في جبل أحد، فأراد أن يحفر عيناً تذهب بذلك الماء إلى نخل أهل المدينة، فمرت تلك العين بمكان فيه ستة عشر من الشهداء، والشهداء ليس على قبورهم ما يعلمها فلم يوضع عليها حجارة ولا شيء يميزها، إنما دفنوا في تلك التربة، ولم يعرف ما يميزهم، وكان الاثنان منهم يدفنان في قبر واحد؛ لقساوة الأرض وشدتها، فلما استخرج أولئك قال جابر : فأتاني المنادي وأنا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أباك قد أخرج، فخرجت أشتد عدواً إليه، فإذا هو قد أخرج من قبره، كأنه يبتسم لم يتغير شيء منه بعدي إلا شعرات كن على شامة في لحيته وكن أطول من لحيته فاستوين مع لحيته، وذكر أن خيثمة والد سعد بن خيثمة رضي الله عنه قد جرح في خاصرته، طعن في خاصرته فوضع يده على خاصرته في القبر، فلما رفعت يده عن خاصرته، سال الدم من جرحه، فلما ردت إلى الدم سكن، وأولئك القوم نقلوا ودفنوا على طرف جبل عينين، وهو طرف من جبل أحد، وقد كان هذا بعد ستة وأربعين سنة من دفنهم.
ثم في العصور المتأخرة جاءت السيول، فأخرجت أربعة، وهم شهداء المهاجرين المشاهير: حمزة بن عبد المطلب ، وابن أخته عبد الله بن جحش ، و مصعب بن عمير ، و الشماس بن عثمان رضي الله عنهم أجمعين، فأخرجتهم السيول، فحدثني الشيخ محمد محمود الصواف رحمة الله عليه أنه كان من الذين رأوهم وشاركوا في دفنهم، وأخبر أنه عرف حمزة بن عبد المطلب لطول قامته، وضخامته، وشدته، وعرف عبد الله بن جحش بتجديعه حيث قطعت أذناه وأنفه في سبيل الله، وعرف مصعب بن عمير بحسن صورته فقد كان يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال لي: ما وقعت عيناي قط على صورة هي أحسن من صورة مصعب بن عمير ، وعرفوا أن الرابع إنما هو الشماس بن عثمان ؛ لأنه دفن معهم، فدفنوهم في هذا المكان الذي هم فيه وقبورهم متميزة الآن بارزة؛ لأنهم دفنوا بعد أن عرفوا، ونظير هذا كثير جداً، حتى في أيامنا هذه فأنتم تعرفون أنه في الحرب الجائرة التي دارت في أفغانستان، وقادتها الولايات المتحدة الأمريكية قتل فيها كثير من المؤمنين المجاهدين، واستغرب الأمريكان أنهم في عز الصيف يقتلون فيمكثون أسبوعاً أو عشرة أيام لا تتغير روائحهم ولا تتغير أجسامهم، وأن قتلى الأمريكان وحلفائهم لا يمكثون ساعات حتى يتحللوا، وقد جاء بعض الخبراء الأمريكان لأخذ عينات من المجاهدين لتحليلها يظنون أنهم أكلوا طعاماً يمنع التغير، فظنوا أن هذا راجع لتغذيتهم.
وقد أخبرني بعض كبار السن في هذه البلاد أنهم في أيام الجهاد ضد الفرنسيين في هذه الأرض أتوا إلى أم توس، وهي على ثمانين كيلو شمال نواكشوط، فجاءوا إلى مكان المعركة فوجدوا أن الفرنسيين والذين معهم قد أسودوا جميعاً وانتفخت أجسامهم وارتفعت أرجلهم وأيدهم، كالجيف، وأن المجاهدين الذين استشهدوا هنالك كأنما يبتسمون ودماؤهم عليهم، ولم يتغير شيء من أحوالهم ولا ألوانهم، وأنتم تعرفون البون الشاسع في الحال الدنيوي بين أولئك؛ فالمجاهدون قدموا من الشمال، وهم في أشد الفقر والحاجة، ليس لهم زاد ولا غذاء، والنصارى ومن معهم قد تزودوا بأنواع الأزواد، ومعهم الأطباء والعلاج، ومع ذلك رأيتم هذا البون الشاسع، وهو آية من آيات الله تعالى في الحال بعد الموت.
وفي العام قبل الماضي كانت الجرافات تسوي منطقة تسمى الجبيلة بنجد، وهي في أرض اليمامة، وهي قريبة من الرياض، في طرف من أطرافها؛ فاستخرجت رجال طوالاً، كانوا خمسة أو ستة، والشك مني! فإذا هم أطول من أجسام الناس، وهم جميعاً مضطجعون متجهون إلى القبلة، فلما أخرجوا من مكانهم بتسوية الأرض، جاءت البلدية فدعت بعض المشايخ فكفنوهم ودفنوهم من جديد، وقد أخبرني أحد المشايخ أنه أطلع على أحوالهم، فذكر من لين مفاصلهم واستقامة أعضائهم الشيء العجيب، فيقول: لم يتأثر منهم إلا موضع الطعنات، أو الضربات بالسيوف، وهؤلاء هم من شهداء اليمامة، الذين وعدهم الله وعداً حسناً في سورة الفتح فقد قال تعالى: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمْ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً[الفتح:16]، وهؤلاء وعدهم الله ذلك الوعد الحسن، فكان من الشهداء في اليمامة أبو دجانة رضي الله عنه، وقد أخرج عصابة الموت، وهو يقول:
أنا الذي بايعني خليلي ونحن بالسبح لدى النخيل
ألا أقوم الدهر في الكيول أضرب بسيف الله والرسول
ضرب غلام ماجد بهلول..
ومنهم أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، هو ومولاه سالم وقد حفرا لأرجلهما في الأرض لئلا يفرا، ومنهم عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه، وكان قائد إحدى المعارك، وعندما أحس بالموت أخذ المصحف فجعل يقلبه على خديه ويقول: كلام ربي، كتاب ربي، محبة للقرآن، حتى فاضت نفسه في سبيل الله.
فهذا النوع من الناس تبقى أجسامهم كما هي في القبور إلى البعث، وبعضهم يمتع حتى بلذة العبادة، ولذلك فإن ثابتاً البناني رضي الله عنه، وهو من أئمة التابعين، من أصحاب أنس بن مالك رضي الله عنه كان يسأل الله تعالى فيقول: (اللهم إن كنت اتيت أحداً من عبادك الصالحين الصلاة في قبره فأعطنيها) فلما وضع في قبره وواروه سمعوا التكبير في قبره، سمعوا تكبيرة الإحرام في قبره، وكان بعد ذلك تسمع صلاة الليل عند قبره، كأنه يصلي قيام الليل، وهذا من نعيم القبر وهو مما يخص الله به من شاء من عباده، فليس هو تابعاً للتكليف؛ لأن الميت قد انقطعت تكاليفه بالموت، لكنه لذة يلتذ بها الإنسان، لذة العبادة، وقد ذكر عن بعض الصالحين أنه كان يسأل فيقول: (اللهم إن كنت اتيت أحداً من عبادك الصالحين قراءة القرآن في قبره فأعطينها) فكان يسمع القرآن عند قبره بعد ذلك، قد حدثني عدد من الذين سمعوا قراءة القرآن عند قبره.
ثم بعد هذا يبقى الإنسان هنالك في القبر الذي تجتمع فيه الأضداد، فالقبر الواحد يدفن فيه من هو في غاية النعيم ومن هو في غاية العذاب، فتختلط عظامهما، وذراتهما، فلا هذا يحس بشيء من نعيم هذا، ولا هذا يحس بشيء من عذاب هذا، كحال الشخصين ينامان في لحاف واحد وعلى سريراً واحد، فيرى أحدهما رؤيا في غاية اللذة، ويرى الأخر رؤيا هي في غاية الإزعاج، ولا يحس هذا بشيء من لذة هذا، ولا هذا يحس بشيء من انزعاج هذا.
ثم بعد ذلك تبدأ مشاهد القيامة الكبرى، وهي منسية لما سبق؛ ولذلك يقول أهلها إذا سئلوا: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ[المؤمنون:112-116].
والقيامة الكبرى علاماتها هي أشراطها، وقد جاءت كما أخبر الله بذلك: فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا [محمد:18]، ومن علاماتها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وخروج هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، ومن علاماتها ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل أن تلد الأمة ربتها بفشو العقوق في الناس، وأن ترى الحفاة العراة العالة، رعاء الشاة يتطاولون في البنيان، وأن يفيض المال بين الناس، وأن يكثر القتل فيها؛ فلا يسمع الإنسان خبراً إلا وهو مرتبط بقتل، وأن يكثر الجهل، وأن يرفع العلم، وأن ترفع الأمانة عن الناس حتى يقال: في بني فلان رجل أمين! وأن تكثر الفتن حتى يباع الدين بعرض من الدنيا، أي: الشيء اليسير من الدنيا، فهذه الأشراط كلها شاهدناها ورأيناها.
وننتظر الأشراط الكبرى، ومنها طلوع الشمس من مغربها بعد ثلاث تنتظر، ثلاث ليال ليس فيها شمس، تحبس تحت العرش، ثم يؤذن لها فيقال: ارجعي من حيث جئت، فترجع من مغربها، وتطلع من باب قبل المغرب وهو باب التوبة؛ فإذا خرجت منه لم تقبل توبة من لم يتب من قبل؛ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ[الأنعام:158].
ثم من هذه الأشراط الكبرى كذلك خروج المسيح الدجال وهو أعظم فتنة في الحياة الدنيا، ما بين خلق آدم وقيام الساعة فتنة أعظم من فتنة المسيح الدجال ، وما من نبي إلا وقد أنذره قومه، وأن نوحاً أنذره قومه، وبعد ذلك نزول المسيح ابن مريم عليه السلام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق عند صلاة الفجر بين ملكين يمنيه على ملك وشماله على ملك، إذا رفع رأسه تقاطر منه مثل الجمان، وإذا طأطئه تحدر، فلا يشك فيه أحد، ويقتل المسيح الدجال ، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية.
ثم من هذه الأشراط الكبرى كذلك: خروج يأجوج ومأجوج، وهم خلق لا قبل لأحد بهم، يخرجون من قبل المشرق، فيعيثون في الأرض فساداً، ويحصرون المؤمنين بالشام، فيدعو عليهم المسيح ابن مريم والمؤمنون معه فيموتون موتة رجل واحد، يسلط الله عليهم النغف في رقابهم فتمتلئ الأرض من زهمهم ونتنهم، فيسأل المسيح ابن مريم أن يذهب بهم؛ فيرسل الله مطراً، فيطهر الأرض حتى تكون كالكرسفة، ويذهب بجثثهم.
ومن هذه الأشراط الكبرى كذلك: خروج الدابة بمكة، تخرج في أعظم المسجدين حرمة في يوم جمعة، والناس ينتظرون الصلاة، تخرج من صدع خلف الصفاء لا يفوتها هارب، ولا يدركها طالب، حتى تتوارى في شعب أجياد، فتكلمهم موعظة وذكرى، فتقول: أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ[النمل:82].
ومن هذه الأشراط كذلك: خسف في المشرق وخسف في المغرب وخسف في جزيرة العرب في وقت واحد، ومنها رفع القرآن، يسرى عليه فيمحى من الصدور والمصاحف، وهذه الأشراط آتية لا محالة، ولا يدرى ترتيبها فأية واحدة جاءت فالتي بعدها على أثرها حتى تتلاحق هذه الأشراط كلها.
ثم بعد ذلك تبدأ المشاهد، وبدايتها بإذن الله للملك - وهو إسرافيل - في النفخ في الصور، وقد التقم القرن الآن وأصغى ليتاً، أي: رفع أحد شقي رقبته ينتظر الإذن، فيأذن الله له فينفخ فيه نفخة الفزع، فيصعق الناس فيها جميعاً؛ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ[النمل:87]، وهذه النفخة الأولى التي هي الفزع هي على الراجح أيضاً نفخة الصعق، فيصعق الناس لها جميعاً، ويمكثون أربعين سنة، ثم ينفخ فيه النفخة الثانية فإذا هم قيام ينظرون، وحينئذ ينادي المنادي في الناس: هلموا إلى ربكم! فيخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون، وذلك البعث، وقد جاء ذكره في القرآن في سبعمائة وسبع وستين آية، جاء فيها ذكر البعث بعد الموت، فيخرج الناس جميعاً إلى ربهم من القبور، وحينئذ يتغير حال الأرض، فيزول ما فيها من الجبال حتى تكون كالعهن المنفوش، ويزول ما فيها من الأودية، وتنتفض الأرض فتلقي كل ما فيها من الأموات، وكل ما دفن فيها من الكنوز، وكل ما استقر فيها من المعادن، تنفض ذلك نفضاً فوقها؛ وَانشَقَّتْ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ[الحاقة:16]، والملائكة يطوونها على أرجاءها، كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ[الأنبياء:104]، وحينئذ تقوم الأرض فتتكلم بكلام فصيح، فتشهد على كل إنسان بما عمل عليها، كما قال الله تعالى: إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا[الزلزلة:1-5].
ثم بعد ذلك يأتي وقت الصدور فيصدر الناس أفراداً؛ َكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً[مريم:95]، فلا يصدر أحد منهم بوظيفة ولا مستوى، يصدرون جميعاً كما خلقوا؛ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ[الأنبياء:104]، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنكم ملاقوا ربكم حفاةً عراةً مشاةً غرلاً، ليس مع أحد منكم إلا عمله )، فيحشرون جميعاً إلى الساهرة، حتى إذا أداركوا فيها جميعاً، فاجتمع فيها أولهم وآخرهم، وهي أرض كالكرسفة البيضاء، يقف الواقف في طرفها فينفذ البصر إلى طرفها الآخر، ومع ذلك تجمع الخلائق جميعاً من لدن آدم إلى نهايتهم، يأتون حفاةً عراةً غرلاً، كما خلقوا، فإذا اجتمعوا فيها جميعاً جيء بالشمس فتدنو فوق رؤوسهم حتى تكون كالميل، ويشتد بهم العرق حتى يسح في الأرض سبعين ذراعاً، ثم يرتفع العرق فوق الأرض فمنهم من يصل إلى كعبيه، ومنهم من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى حقويه، ومنهم من يصل إلى سرته، ومنهم من يصل إلى ثدييه، ومنهم من يصل إلى ترقوتيه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، ويطول بهم الموقف طولاً شديداً، وبعد طول الموقف يفكر الناس في أنهم في مشكلاتهم في الحياة الدنيا كانوا يرجعون إلى العلماء؛ فيأتون العلماء، فيقولون: ليس اليوم لنا إنما هو للأنبياء، فيبدؤون بـآدم فيقولون: يا آدم ! أنت خليفة الله في أرضه خلقك بيمينه، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأنت أبو البشر، فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول آدم : نفسي.. نفسي! رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني عصيت الله فأكلت من الشجرة التي لم يأذن لي بها، ولكن اذهبوا إلى نوح فيأتونه فيقولون: يا نوح ! أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وأنت أبو البشر بعد آدم ، فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة وأما إلى نار، فيقول نوح : نفسي.. نفسي! رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني سألت الله مالم يأذن لي به، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم ، فيأتونه فيقولون: يا إبراهيم ! قد اختارك الله لخلته من خلقه؛ فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول إبراهيم : نفسي.. نفسي! رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كذبت ثلاث كذبات، وما كنت إلا خليلاً من وراء وراء، وفي رواية: وهل كنت إلا خليلاً من وراء ورواء، ولكن اذهبوا إلى موسى ، فيأتونه فيقولون: يا موسى ! قد اصطفاك الله بكلامه وبرسالاته، فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة، وإما إلى نار، فيقول موسى : نفسي.. نفسي، رب لا أسألك إلا نفسي! إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم يؤذن لي بقتلها، ولكن اذهبوا إلى عيسى ، فيأتونه فيقولون: يا عيسى ! أنت روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم ؛ فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول عيسى : نفسي.. نفسي! رب لا أسألك إلا نفسي ، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني عبدت من دون الله، لا يجد شيئاً يؤثره غير ذلك، ولكن اذهبوا إلى محمد، فيأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: يا محمد! أنت خاتم الرسل وإمامهم، فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنا لها؛ فيخر ساجداً تحت العرش، فيلهمه الله ثناء لا يحسنه في الدنيا، ولم يثن به أحد على الله، فيثني به عليه فيقول الله له: يا محمد! ارفع رأسك واشفع تشفع، واسأل تعط )، فيشفع للخلائق.
فينطلقون من الساهرة إلى العرض على الله تعالى، وحينئذ يجيء الباري سبحانه وتعالى والملائكة صفاً صفاً، ويؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام في كل زمام سبعون ألف ملك، أربع مليارات وتسعمائة مليون من الملائكة يقودون جهنم ويجرونها بأزمتها حتى تحيط بالناس من كل جانب، فإذا أحاطت بالناس من كل جانب ورأوا الهول العظيم، وهم يرون تغلظها وزفيرها وأصواتها المزعجة المرعبة، ويرون فيحها وأوديتها، يركب بعضها بعضاً، حينئذ يتجلى الباري سبحانه وتعالى لفصل الخصام؛ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ[الحاقة:17]، وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي[الفجر:22-24]، هذا مشهد من مشاهد يوم القيامة المنطقة، تنطق الإنسان بهذا الكلام، فيقول: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي[الفجر:24]، فالحياة الحقيقية هي الدار الآخرة، كما قال الله تعالى: إِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ[العنكبوت:64]، أي: هي الحياة الحقيقية، فحياة الإنسان بالدنيا يغلب فيها البدن على الروح، وحياته في البرزخ تغلب فيه الروح على البدن، وحياته في الآخرة يستوي فيها الروح والبدن، لا يغلب أحدهما على الآخر؛ فلذلك كانت الحياة الحقيقية.
في ذلك اليوم يعرض الناس جميعاً على الله سبحانه وتعالى، لا يشغله شأن عن شأن، لا يشغله أحد منهم عن أحد، وهم جميعاً يأتون يجادلون عن أنفسهم؛ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ[النحل:111]، يأتون جميعاً في ذلك الوقت، لا يريد أحد منهم إلا نجاة نفسه يفر من أقرب الناس إليه؛ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ[عبس:34-37]، يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى[المعارج:11-18]، فيبسط الله كنفه على عبده المؤمن، فيقول: أي عبدي! أتذكر يوم كذا، إذ فعلت كذا، وكنت قد نهيتك عنه؟ فيقول: نعم يا رب! وكنت قد نسيته، فيقول: لكنني لم أنسه.
وفي ذلك الوقت تبلى السرائر؛ فيخرج للإنسان جميع أعماله، لا ينسى منها شيئاً، وهو يراها بين يديه لا يناكف في شيء منها، ويجلس الخصوم للخصام في ذلك الوقت؛ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ[الحج:19-22].
ثم بعد ذلك يعلق كالطائر في عنق كل أنسان، فيأتي ينادى به باسمه، وليس له حينئذ وظيفة ولا ناصر، فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ[الطارق:10]، فالقوة: الوظيفة، والناصر: من يؤازره أو يواسيه، لا يجد أحد قوة ولا ناصراً، فلا يبعث أحد رئيساً، ولا وزيراً، ولا والياً، ولا حاكماً، ولا متصفاً بأية وظيفة من وظائف الدنيا، فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ[الطارق:10]، ثم يوضع طائره في عنقه، ويحكم ربطه في العنق، حتى يفد إلى الله وحده، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً[مريم:95]، فإذا أتى أمر بإخراج ذلك الطائر، وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً[الإسراء:13-14]، فيقال له: أقرأ كتابك؛ فيقرؤه بأعلى صوته على رؤوس الأشهاد، فإن مر بموقف مشرف وعمل صالح ابيض وجهه وغشيه السرور، وإن مر بموقف مخز غشيته الكآبة واسود وجهه، فهي الفضيحة التي ما بعدها فضيحة، فالإنسان في هذه الحياة يسوءه أن يذكر بسوء ما عمل من الأعمال أمام عدد يسير من الناس، فكيف به بين يدي الملك الديان والملائكة والأنبياء والخلائق جميعاً، آدم جالس ومحمد صلى الله عليه وسلم جالس والخلائق جميعاً وهم ينظرون، وهو يصيح بأعلى صوته فعلت كذا يوم كذا، وتركت كذا يوم كذا، وفعلت كذا ليلية كذا، وتركت كذا ليلة كذا؟!
ثم بعد ذلك مشهد آخر من مشاهد القيامة، هو مشهد إعطاء الصحف التي يجتاز بها الإنسان إلى الوزن، فبعض الناس يبيض الله وجوههم حتى يسيروا في النور مسيرة خمسمائة عام، وآخرون يسود الله وجوههم؛ فهم يسيرون في الظلام الدامس، لا يبصرون شيئاً مما أمامهم، ما حالهم إلا كحال الذي يسري في المطر الشديد، وهو يرى البرق الذي يكاد يخطف بصره، كُلَّمَا أَضَاءَ لَهمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ[البقرة:20]، فهم يتخبطون في ذلك الظلام الدامس.
ثم بعد ذلك يأخذون كتبهم، فالمؤمنون يأخذون كتبهم بأيمانهم تلقاء وجوههم، فإذا أخذها المؤمن بيمينه وهو في انطلاقه لأخذ الكتاب في غاية التوقع والحزن، لا يدري هل يأخذ كتابه بيمينه أو شماله؛ لأن الهول أنساه كل الضمانات السابقة، فعندما يمسكه بيمينه يغلب عليه السرور، فيصيح بأعلى صوته: هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:19-24]، وأما الآخر فتدخل شماله من بين ثدييه فتخرج من بين كتفيه، فيعطى كتابه وراء ظهره، نسأل الله السلامة والعافية! يعطى كتابه بشماله، من وراء ظهره، فيتخبط في الخزي والندامة؛ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:25-29]، فيقول الله لملائكة العذاب: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:30-32]، وينادي الله تعالى آدم فيقول: أخرج بعث النار، فيقول: أي رب! من كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فذلك يوم: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ[الحج:2].
ثم مشهد آخر من مشاهد القيامة، هو وزن الأعمال حين توضع الموازين بالقسط ليوم القيامة؛ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً[الأنبياء:47]، فللميزان كفتان ولسان، توزن فيه أعمال العباد، وهم في ذلك الوقت بين من رجحت كفة حساناته، وهي الكفة اليمنى، ورجحت كفة سيئاته، وهي الكفة اليسرى، فلا ظلم في ذلك اليوم، ينادي المنادي في الناس: لا ظُلْمَ الْيَوْمَ[غافر:17]، وفي ذلك الوقت يحتقر الإنسان أعماله غاية الاحتقار، فالمحسن يندم على أن لا يكون زاد، والمسيء يندم على أصل إساءته، المحسن يتذكر أيامه الخوالي، وكم مضى من الساعات والأوقات التي كان بالإمكان أن يتقرب فيها إلى الله وأن يرجح فيها كفة الحسنات وهو في هذا السباق، وقد يكون الفاصل بين رجحان الكفة والكفة الاخرى أقل من ذرة، قد يكون أقل من ذرة، فهذا الميزان العدل؛ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ[الأنبياء:47].
في ذلك الوقت يؤتى بالرجل فيؤتى معه بصحائف مد البصر، كأمثال الجبال، ملئت بالسيئات، فيقول الله لملائكة: انظروا هل لعبدي من حسنات، فيلتمسون فيجدون قصاصة قدر ظفر كتب فيها: لا إله إلا الله، فيقول العبد: أي رب! ما تغني هذه من هذه السجلات! فيقول: إنك لا تعلم شيئاً، فتوضع السجلات في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، فرجحت لا إله إلا الله وشالت السجلات، بعض الأعمال التي يتوقعها الإنسان في هذه الحياة لا تساوي شيئاً ويظن أنها تفوت في وقتها، تكون في ذلك الوقت كالجبال من الثقل، أعمال صالحة هي أرق من الشعر، لم يولها الإنسان أي اعتبار، وقد نسيها بعد أن علمها؛ فيجدها قد بارك الله فيها في كفة الحسنات، فكانت كأمثال الجبال، وأعمال أخرى لم يكن الإنسان يعتقد أنها تعدو وقتها من السيئات، وكان يحتقرها وهي من محقرات الذنوب، فيجدها ثقيلة في كفة السيئات يوم القيامة، فالكلمة الواحدة حينئذ لها وزن عظيم، الكلمة الواحدة من رضوان الله، والكلمة الواحدة من سخط الله يومئذ لها وزن عظيم.
ثم عند ما ينتهي الوزن تزلف الجنة لأهلها، وتبرز النار لأهلها، وينصب الجسر وهو الصراط على متن جهنم، أرق من الشعر وأحد من السيف، وعليه كلاليب كشوك السعدان، هل رأيتم شوك السعدان؟ ويؤذن للناس في السباق فيتسابقون إلى الصراط، فيجتمعون عند أسفله، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والأبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم من يمر كالرجل يزحف على مقعدته، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم، وعند أسفل الصراط وضع حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، طوله ما بين أبرح والمدينة، وعرضه ما بين بصرى وصنعاء أو حضرموت، وكيزانه بعدد نجوم السماء، وماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، لا يظمأ من شرب منه أبداً، فيرد الناس عليه، فيعرف النبي صلى الله عليه وسلم أمته بأثر الوضوء، فيراهم غراً محجلين من أثر الوضوء، وتبلغ الحلية من المؤمن يومئذ حيث يبلغ الوضوء، فيعرفهم، ويطرد دونه أقوام من هذه الأمة، يضربون كما تضرب غرائب الأبل، هل رأيتم ضرب غرائب الأبل؟ إذا جاءت غرائب الأبل إلى الإنسان وهو يعرف أبله ترون الضرب الشديد الذي يضربها به، وبالأخص إذا كانت جرباء يخاف عدواها، فذلك الضرب يضرب به أقوام دون حوض النبي صلى الله عليه وسلم، وأولئك الأقوام على قسمين:
القسم الأول: المبتدعة المغيرون المبدلون، فإن الله يسود وجوههم فيصرفون عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم، يطرد عنه من غير وبدل؛ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ[الزمر:60].
والنوع الثاني: أعوان الظلمة؛ فالذين يعينون أهل الظلم على ظلمهم ولو بنصف كلمة يطردون عن الحوض يوم القيامة، وقد أخرج عبد الرزاق بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه سيستعمل عليكم أمراء يظلمون الناس ويكذبون في الحديث، فمن صدقهم في كذبهم أو أعانهم على ظلمهم؛ فلن يرد علي الحوض) قال: نبي عبد الرزاق ل ، فهؤلاء صفقتهم خاسرة، لا محالة، باعوا شربة من حوض النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة، لا يظمأ من شرب منها أبداً، باعوها بعونهم لظالم في الحياة الدنيا.
فيشرب أهل الإيمان من حوض النبي صلى الله عليه وسلم، ويالها هناءة عندما يشرب الإنسان من ذلك الحوض! يهنأ حتى يعاود الشباب وجهه، ويزول ما فيه من النصب والتعب، وما غشيه من الكدر، يزول عنه بالكلية، سرور لا يمكن أن يخطر على البال، فأنتم تعلمون أن سرور الدنيا تظهر بعض أعراضه على الوجه، لكن شتان وهيهات بينه وبين سرور يوم القيامة! سرور الإنسان عندما يشرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم يظهر السرور على وجهه، وهو نظرة النعيم، التي لا تنقطع بعد ذلك.
ثم بعد هذا، يبقى من مشاهد القيامة دخول الجنة أو دخول النار، أما دخول الجنة، فإن أهلها الناجين من الصراط يجتمعون عند بابها، وأول من يكسى إبراهيم خليل الرحمن، فيأمر الله ملائكته أن يكسوا إبراهيم فيكسونه من ديباج الجنة، ثم يكسى الأنبياء بعد ذلك والشهداء، وأول من يستأذن فيحرك الحلقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومفتاح الجنة التكبير والتهليل، فيكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهلل: لا إله إلا الله، والله أكبر، فتنفتح أبواب الجنة الثمانية، وكل باب منها فيه لائحة الداخلين فباب الصلاة يدخل منه المصلون، وباب الصدقة يدخل منه المزكون، وباب اسمه "الريان" لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد، وباب الجهاد، وباب الدعوة، وغير ذلك من أبواب الجنة.
فيدخل أهل الجنة الجنة، وقد ابتدؤوا فيها حياة لا بؤس فيها ولا كدر، تركوا النصب والعناء والتعب وراء ظهورهم، وألقوا عنهم المؤونة، يدخلون في السرور عندما أول شيء يصل إليهم من روحها وريحانها، لذاتها لا تنقطع، فكل لذة تبقى حتى لو جاء بعدها مليارات اللذات، فأنتم تعرفون أن لذات الدنيا لا تدوم إلا دقائق أو ثواني محدودة، وإذا دامت ملت، أو عجز الإنسان عن مواصلتها، أما لذات الجنة فلا تنقطع، لا ينقطع شيء من نعيمها، ولا تمل؛ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[البقرة:25]، فالإنسان الذي كان في هذه الحياة محتقراً لا يؤبه به ولا يناديه الناس إلا بأقبح اسمائه، ولا ينظرون إليه باحترام، هو في يوم القيامة في محل التقدير والاحترام، ينظر إليه الناس جميعاً بنظرة الإعجاب، ويجمع شمله؛ فيجمع عليه أهله في الفردوس الأعلى من الجنة إذا كان من الذين ارتضاهم الله لذلك.
ثم بعد ذلك يدخلون في ذلك النعيم المقيم الذي لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقد أعده الله لهم وكل يوم يزداد، في كل لحظة يزداد ما فيها من النعيم، إذا اشتهى أحدهم فاكهة من الفواكه جاءت إليه، ولا تنفصل حتى تخرج أخرى في مكانها على قدرها، ولا يفكر الإنسان في أي نوع من أنواع الفواكه، ولا في أي نوع من أنواع المطاعم أو المشارب أو اللذات الأخرى إلا وجده دانياً عنده؛ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ[الحاقة:23]، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم مبانيها فذكر أن لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وذكر ما فيها من الطيب والعبير، وذكر هواءها وطيب ما فيها، وذكر السوق التي ينصبها الباري سبحانه وتعالى لأهلها، فيخرجون إلى السوق فتهب عليهم ريح فتزيدهم حسناً وبهاءً، وتزيدهم عطراً وطيباً، فيرجعون إلى أهليهم، فيقولون: تالله لقد ازددتم حسناً بعدنا! فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم حسناً بعدنا!
وفيها حال نسائها، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم بعض أوصافهن وجاء ذكرهن في القرآن الكريم، فلو أن إحداهن سفرت عن وجهها في الدنيا لأضاء لها ما بين المشرق والمغرب، ولو بصقت في البحر لصار عذباً من بصاقها، ويرى مخ ساقها من خارجه، وأهدابها كجناح النسر، وحاجبها كالهلال في الاستقواس والسعة، وقد وصف الله تعالى لطفهن ورفقهن بأزواجهن، فذكر أنهن (عرب) وأنهن (أتراب) وذكر كذلك ولدان الجنة، وهم الخدم الذي يخدمون أهل الجنة، فهم دائماً ولدان مخلدون، لا يتجاوزون هذه السن، فالكبير تستحيي أن تستغله وتستخدمه؛ فلذلك كانوا ولداناً في سن الإدراك والعقل، فهم الذين يقومون بالخدمة، وهم مخلدون، أي: دائمون في تلك السن، أو مزينون بالخلدة، وهي أقراط الذهب في أنوفهم وأذانهم.
وفي المقابل المشهد الآخر أجارني الله وإياكم! هو مشهد أهل النار، وهم في غاية المذلة والهوان؛ لا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77]، لا تكلمهم إلا النار، وهم يرونها ويسمعون زفيرها وحسيسها من بعيد، كما قال الله تعالى: إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً[الفرقان:12-14]، وقال تعالى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ[النساء:56]، لو أن قطرة واحدة من قطرات أهلها قطرت في الأرض لخبثت كل ما في الأرض وبشعته، بحيث لا يستطيع الإنسان أن يتنفس بهوائها، ولا أن يشرب من مائها، ولا أن يأكل من ثمارها.
كل ما فيها منتن في غاية النتن، فيها البرد الشديد الزمهرير، وفيها الحر الشديد واللهب، نسأل الله السلامة والعافية! ليس فيها من الظل إلا ظل اللهب، نسأل من الله السلامة والعافية! ويظل الله تعالى المؤمنين في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، فأهل الفردوس الأعلى من الجنة هم تحت ظل العرش، وهم أهل جوار الله عز وجل.
ثم هذا الحال الذي سمعتم من مشاهد القيامة وأنتم تؤمنون به وتوقنون لابد أن تدركوا أنه يقتضي منا أن نبادر إلى الأعمال وإلى النجاة، ومن عرف وصف الجنة ونعيم أهلها، وعرف ما هم فيه، وعرف حال أهل النار، وما هم فيه من أنواع العذاب المقيم؛ فعليه أن يبادر للجنة، وإن أهل الجنة اليوم قد اشتركوا في السباق، فانطلقت بهم مراكبهم، فهم مسرعون يخافون أن تغرب الشمس الآن قبل أن يغفر لهم، فهم في إسراع رهيب ومسابقة عجيبة مع الزمن، لا يفوتون لحظة ولا قولاً ولا فعلاً، يريدون النجاح والنجاة من عذاب الله، وهم بذلك يتسابقون مع الزمن، وأهل النار كذلك -نسأل الله السلامة والعافية- رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهم مغرورون يظنون أن بعد اليوم غداً، وأن بعد غد اليوم الذي بعده، وأن بعد هذه السنة سنة أخرى، وهكذا فهم مغرورون بطول الأمل والتسويف، لا يعملون عملاً ينجيهم، وكل أعمالهم إنما هي وحل وترد في الرذيلة، وكل عام بعد عام هم فيه أرذل وأخزى وأبعد عن الله تعالى منه في العام السابق؛ أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ[التوبة:126].
إن علينا عباد الله أن نتوب إلى الله تعالى من ساعتنا هذه، وهذا واعظ الموت بين أيدينا، فالجنازة تنتظر الصلاة الآن هنا، ووفد الآخرة ينطلق كل يوم، ونحن على الأثر، فعلينا عباد الله أن نكون على الحال الذي يرضينا أن نموت عليه، وأن نبادر التوبة قبل أن يفوت الأوان؛ فإن رجلاً من اليهود كان في صومعة له يتعبد -في اليمن- فمر حوله راكب فسمعه يقرأ سورة النساء، فبلغ قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ [النساء:47]، فوضع يده على وجهه ونزل مسرعاً، وخرج يشتد إلى المدينة، ولم يرفع يده عن وجهه؛ يخاف أن يقلب إلى ظهره؛ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ[البقرة:275]، وقد جاءتنا موعظة ربنا سبحانه وتعالى، فعلينا أن نتوب إلى الله، توبة نصوحاً، وأن ننيب، وأن نتقبل نداء الله وهو ينادينا، فيقول بندائه الكريم: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ[الزمر:53-61].
علينا أن نعلم أننا في هذه الأيام في سباق مع الزمن، فهذا اليوم الذي أنتم فيه هو أول الأيام العشر التي هي أفضل أيام السنة، وقد أخرج البخاري و مسلم في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في أيام العشر.. )، يعني: عشر ذي الحجة- ( قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك من شيء )، فقد فتح لكم سوق الآخرة بين أيديكم؛ فبادروا بالصيام والقيام وقراءة القرآن والذكر، وأنواع النسك والعبادة، فهذه أيام العبادة والموسم العظيم في السنة من مواسمها، وأمامكم يوم عرفة يكفر ذنوب سنتين.
وهذه الأيام من فاتته فقد فاته خير كثير، لا يستطيع تعويضه طيلة السنة، فبادروا -يرحمني الله وإياكم- لإدراك بقيتها، وللإحسان فيها؛ لتكون زاداً لبقية العمر، وقد رأيتم بما هو علم اليقين مشاهد القيامة، وعرفتم تباين أحوال أهلها، وأدركتم البون الشاسع بينهم؛ فبادروا للأعمال الصالحة قبل فوات الأوان.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا أجمعين لما يحب ويرضى.
نسأل الله تعالى الثبات عند النزع، والأمن تحت اللحد، والتوفيق عند السؤال.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر