إسلام ويب

الحكمة في الدعوة [1]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تعتبر الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى الركيزة الأولى في تثبيت دعائم الدين الإسلامي، لذا أمر الله بها الأنبياء وأتباعهم؛ إذ بدعوتهم قامت الأديان وانتشر توحيد الله في البلدان. وقد تحدث أهل العلم عن الدعوات واستقبال الناس لها على أصنافهم، وعن سبل الدعوة والحكمة فيها، سواءٌ أكانت تلك الحكمة تجاه الأشخاص أم الأوقات أم الأزمان المناسبة لها؛ فإنها ما شرعت إلا لإقامة الدين وتغيير المنكر القائم بين الناس بحكمة وروية، ووضع للأمور في مواضعها.

    1.   

    التذكير بالله والدعوة إليه ضرورة دينية

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعثه ربه رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الله عز وجل قد وصف نفسه بالدعوة، فقال سبحانه وتعالى في محكم كتابه: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[يونس:25] ، وقال تعالى: أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ[البقرة:221] .

    ووصف رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله تعالى: وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا[الأحزاب:46] ، وأخبر أن أحسن الأقوال وأرضاها عند الله سبحانه وتعالى: الدعوة إلى الله، وذلك كما في قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ[فصلت:33] .

    وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر عن نفسه وأتباعه بأن سبيلهم الدعوة إلى الله، قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ[يوسف:108] .

    وهذه الدعوة ضرورة من ضرورات البشرية، فكما يحتاج البشر إلى الماء والغذاء والهواء، فإنهم يحتاجون كذلك إلى تغذية قلوبهم، فهذه القلوب إذا لم تتغذ ماتت، وموتها أشد من موت الأبدان؛ لأنه مقتض لغفلتها وإعراضها عن الله سبحانه وتعالى، فتتردى حتى تكون كالبهائم، أو ربما زادت عن ذلك، كما قال تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ[الفرقان:44] ، ولا يستغني عنها أحد، والله تعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه بقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ[الأحزاب:1] ، ويخاطب رسله عليهم الصلاة السلام بذلك أجمعين فيقول: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا[المؤمنون:51] ، ويخاطب عباده المؤمنين بذلك، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله أمر عباده المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا[المؤمنون:51] ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ[البقرة:172] )، وكل ذلك دعوة من الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يستغني عنها البشر، فالإنسان يعيش في ظلمات الجاهلية في هذه الأرض، وكل ما فيها فتن تغويه وتصده عن سبيل الحق، وهو بمثابة من ادهن بالزيت، ثم رمى نفسه في التنور، ففتن الدنيا كذلك تحيط به من كل جانب، وأعراضها تتداول عليه وتتناوب، فإذا نجا من عرض لم ينج من غيره، كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك: حين خط خطاً مربعاً وخط خطاً في وسطه خارجاً منه، وخط خطاً معترضاً في الوسط، وخط خطوطاً صغيرة في الطرفين، ثم قال: (هذا الإنسان، وهذا أجله، وهذا عمله، وهذه الأعراض تصيبه، وأمله أطول من أجله).

    ومن هنا فإن على الإنسان أن يحاول أن يعتبر ويتذكر، وأن لا يغفل عن الله سبحانه وتعالى ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وليعلم أنه إن غفل ساعة عن الله دعاه ذلك إلى الغفلة ساعات، وإذا قسا قلبه يوماً واحداً فليداو هذه القسوة، وإلا فسوف تتراكم فيه القسوات وستزداد، ويصعب عليه حينئذ علاج قلبه بعد ما يتمكن منه المرض.

    ومن هنا شرع الشارع لنا الموعظة الأسبوعية في كل جمعة، ويراد بها أن ترق القلوب وتهفوا إلى بارئها ديان السماوات والأرض، وإذا لم يستطع الإنسان أن يجري دمعتيه من خشية الله سبحانه وتعالى في الأسبوع، فإنه سيزداد ذلك صعوبة في الأسبوع الذي يليه، ثم يزداد ذلك في الأسبوع الذي يليه، ومن هنا فإن من تخلف عن صلاة الجمعة ثلاث جمع على التوالي ختم على قلبه بطابع النفاق.

    من أجل هذا كان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (رجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، ومن هنا كانت هذه الدعوة ضرورة من ضرورات البشرية، ولا يمكن أن يستغني عنها الناس، وإذا ظن بعض الناس أنه ربما استغنى عنها فهذا دليل على موت قلبه وأنه لم يعد يحس بما هو فيه، فقد تراكمت عليه الأمراض وتكاثرت حتى لم يعد يقدر هذه الأمراض ولا يستطيع الخلاص منها، ونسأل الله السلامة والعافية.

    تذكر النبي الدائم لربه جل وعلا

    إن أعرف الناس بالله عز وجل أحوجهم إلى التذكير به، فهذا صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم وأكرم الخلق على الله عز وجل ينادي عبد الله بن مسعود فيقول: (يا عبد الله ! اقرأ عليَّ القرآن فيقول: كيف أقرأه عليك وعليك أنزل؟! فيقول: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال ابن مسعود : فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت قول الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا[النساء:41-42] قال: حسبك فنظرت فإذا عيناه تهملان).

    وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الناس اتعاظاً بآيات الله، فكان إذا رأى المطر مقبلاً أخذه الخروج والدخول والرعب، فقيل له في ذلك فقال: (خشيت أن أكون كأصحاب هود الذين قالوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا[الأحقاف:25] )، فهذا من شدة خوفه لله وخشيته له، ولذلك ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أخوفكم لله وأتقاكم لله)، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمن مكر الله، ويحب التذكير بالله عز وجل، فقد ثبت عنه: (أن أعرابياً جاء فوقف في المسجد فأثنى على الله فأبلغ الثناء، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعاً إلى بيته فجاء بتبرٍ -أي: قطعة من الذهب- فقال: خذ هذا بحسن ثنائك على ربك)، فكان يحب أن يثنى على الله عز وجل.

    تذكر الإنسان بآيات الله وضرورته

    إن ما نشاهده في دموعنا من الجمود، وفي قلوبنا من القسوة سببه عدم انتفاعنا بالذكرى، وعدم انتفاعنا بالآيات والعبر التي نشاهدها، فآيات الله عز وجل تنقسم إلى قسمين:

    آيات مسطورة، وآيات منظورة، فالآيات المسطورة هي التي نسمعها ونقرؤها في كتاب الله، والآية المنظورة هي ما يمر علينا من العجائب، كهذا الفجر الذي يطلع منذراً بانقضاء عهد وباستئناف يوم جديد، وهذه الشمس التي تزول ثم تغرب ويتغير نورها بعد أن كان مشعاً شديداً، وهذا الليل الذي قال فيه مالك : (الليل خلق عظيم)، وهذه الأرواح التي تنتقل وتموت وكل يوم نرى محمولين على الرقاب لا يرجعون أبداً، ولا ندري ما حالهم أفي روضة من رياض الجنة أو في حفرة من حفر النار؟ وهذه النار، وهذه الأماكن التي نعيش فيها، وهذه الأماكن التي نصلي بها قد سبقنا إليها ملايين من البشر مروا بها، وكانت أعمالهم ترتفع من هذا المكان، فلا ندري ما نخلفهم فيه هل هو خير مما كانوا يعملون أو دون ذلك؟ نسأل الله أن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها.

    إننا نرى كثيراً من آيات الله العجيبة، وهي مرآة يجب أن نتذكر بها ونعتبر، ومن أجل هذا قال الله في محكم كتابه: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ[يوسف:106].

    إننا نحتاج إلى أن نحيي قلوبنا، وأن نحدث صلة عميقة بالله عز وجل، وأن نجدد عهدنا به، وأن نتذاكر فيما بيننا، وأن يأمر بعضنا بعضاً وينهى بعضاً بعضاً، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة غير منسوخة، بل هي محكمة دائمة، وعلينا أن نتذاكر أمثال هذا، وأن يأمر بعضنا بعضاً، وأن لا نعد هذا حديثاً معاداً، وأن لا تمله أسماعنا ولا قلوبنا، وما هو إلا خير، وهو خير ما يعرض على الآذان وخير ما يصل إلى القلوب، فينبغي أن لا نمله وأن لا ننقطع عنه.

    أقسام الناس تجاه الدعوة إلى الله

    الناس في سبيل هذه الدعوة أربعة أقسام:

    القسم الأول: قوم لا يتحملون سماعها ولا يطيقونها، فهي عندهم بمثابة البعبع المرعب، يخافونها خوفاً شديداً، وهؤلاء هم المشركون الذين قال الله فيهم: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ[المدثر:49-51]، فيعتبرون هذه بمثابة الأسد، فيهربون منه كما تهرب الحمر من الأسد إذا رأته.

    القسم الثاني: قوم يستطيعون سماع الذكرى بآذانهم، ولكن آذانهم غير أمينة، فلا تحملها إلى قلوبهم، وهؤلاء بين آذانهم وقلوبهم حصن حصين لا تخترقه البشرى، وهم المنافقون الذين طبع الله على قلوبهم، وفيهم يقول الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ[محمد:16] .

    القسم الثالث: قوم يُفصِّلون في الذكرى، فيقبلون سماعها من بعض الناس ويرفضونها من بعض، ينظرون إلى بعض الناس نظرة إكبار وإجلال، ولا يدرون لعله في ميزان الله سبحانه وتعالى يوم القيامة أدنى بكثير مما يتوقعون، وينظرون إلى آخرين بعين السخط، ولا يدرون لعلهم أثقل بالميزان عند الله تعالى من ملء الأرض من أمثال أولئك، وإذا كان الإنسان هكذا فعلينا أن لا نحكم أهواءنا وأن لا نزن الناس بهذا الميزان، وأن ننظر إلى الناس على أنهم عباد الله يضع فيهم ما يشاء، وأنهم بمثابة الآنية لدى ربنا سبحانه وتعالى، وكل إناء بالذي فيه ينضح، وكل إناء يجعل الله فيه ما يشاء.

    علينا أن نحترم عباد الله جميعاً، فنحن لا ندري ببواطنهم ولا مصيرهم وخاتمتهم، فأمر ذلك إلى الله سبحانه وتعالى، فنحن نكره الأفعال السيئة ونحب الأعمال الصالحة، ولكن تقويمنا للأشخاص لا ينبغي أن يكون على أساس ازدراء وتكبر وسخرية، فالله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ[الحجرات:11] ، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (أنه كان في ملأ من أصحابه، فمر رجل من المسلمين، فلما أدبر، سألهم فقال: ما تعدون هذا فيكم؟ فقالوا: هذا رجل من عوام المسلمين، جدير إذا تكلم أن لا يستمع له وإذا خطب أن لا ينكح ثم سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر رجل آخر فقال: ما تعدون هذا فيكم؟ فقالوا: هذا سيد من سادات الناس ووجوههم، جدير إذا تكلم أن يستمع له وإذا خطب أن ينكح فقال: ذلك خير من ملء الأرض من هذا).

    وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يؤتى بالرجل الضخم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة)، فينبغي أن لا تكون المعايير الدنيوية المادية طاغية على تقويمنا وتقديرنا، ومن هنا فعلينا أن نستمع إلى القول وأن لا ننظر إلى القائل، فالله تعالى يقول في كتابه: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[الزمر:18] ، وفي المنافاة ليس لنا أن نفصل بين الناس إذا ذكروا أو تكلموا، وأن نأخذ ذكرى بعضهم وندع ذكرى بعضهم الآخر، أو نفضل بينهم على أساس ما نجده في صدورنا من معايير هذه الدنيا الفانية التي لا تزن عند الله شيئاً، وعلينا أن نستمع القول ونعتبره رسالة جاءت من ربنا إلينا، فنأخذ منه الصواب وما كان حسناً نافعاً، ونرد ما كان سيئاً قبيحاً غير مرضي عند الله سبحانه وتعالى، ونستفيد بهذا من كل أحد، وهذا هو الميزان الصحيح والمعيار السليم.

    القسم الرابع: قوم يستمعون الذكرى ولا يفصلون فيها، فيسمعونها من كل مذكر ويستفيدون منها، فلا يعرضون عنها بحال من الأحوال بل يعتبرونها غنيمة وهبة ربانية وهدية أهديت إليهم، فيستفيدون منها على كل حال، هؤلاء هم أهل الإيمان الذين قال الله فيهم: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ[الغاشية:21] ، وقال تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى[الأعلى:9-12]، وقال تعالى: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ[يس:11] ، وقال تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ[الذاريات:55] ، وقال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا[الفرقان:73] ، فهؤلاء يستفيدون من الذكرى مطلقاً، من أي إنسان صدرت، وبأية لهجة كانت، ومن أي لون كانت، وبأي أسلوب وجهت، ويستفيدون منها وينتفعون، فرب إنسان كانت هدايته على أساس كلمة صدرت من شخص هو دونه بمنظار البشر، و (رُب حامل فقه وليس بفقيه، ورُب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    سهولة الدعوة ويسرها

    كنت في يوم من الأيام في بلد من بلاد الكفر، فلقيت رجلاً كان من أشد الناس عداوة لدين الله، وكان هندوسياً حاقداً على دين الإسلام، وقد أسلم وحسن إسلامه، فسألته: على يد من أسلمت؟ فقال: على يد هرة. أسلم على يد هرة! يقول: إنه خرج مع أصحاب له مسلمين، فوقف على باب المسجد ودخلوا، وجعل هو يستهزئ بمن دخل المسجد، فإذا هرة جميلة على باب المسجد، فأراد أن يمسكها ويداعبها فدخلت المسجد فاستترت، فلم يستطع أن يدخل لخوفه من المسجد، فوقف على بابه فجاءت فخرجت، فأراد أن يمسكها مرة أخرى فدخلت، وتكرر هذا الفعل منها عدة مرات، فقال: إن هذه الهرة تدعوني إلى الدخول هنا. فدخل فصادف أن وجد هداية الله هناك، وكان ذلك سبب إسلامه.

    وكذلك رجل آخر كان من اليهود المتعصبين الحاقدين، وكان طبيباً جراحاً عالمياً مشهوراً، وكان من أشد الناس عداوةً للإسلام والمسلمين، وكان يزعم أن المسلمين هم من أشد الناس قذارة وأقلهم نظافة، فلقيه زميل له من الأطباء المسلمين، فقال: تعال معي إلى المسجد فسأريك طريقة النظافة لدى المسلمين. فخرج به إلى مسجد كبير في لندن، فأراه الناس وهم يتوضئون، فقال: هكذا يتنظف المسلمون خمس مرات في كل يوم على الأقل. ووقف على باب المسجد وقال: انتظرني هنا فأنا سأصلي. فوقف يستمع قراءة القرآن من خارج أبواب المسجد مدوية، ولكنه كان يهزأ بها، وأراد أن يستمع إليها فوقف مقابل باب من أبواب المسجد، فلما سلم الناس خرج إليه عدد منهم، فجعلوا يتهامسون ويقفون حوله ويسألونه: لماذا جئت هنا؟ لماذا لم تصل؟ لماذا لم تدخل المسجد؟ فكثرت عليه الأسئلة، فأخبرهم بالحقيقة وقال: أنا يهودي لست مسلماً. فلما قال ذلك قالوا: سبحان الله! ما هذا النور الذي في وجهك؟! فضحك وسخر مما قالوا، فإذا الناس يبكون لأنهم رأوا نوراً يتلألأ في وجه هذا اليهودي، فتعجبوا من ذلك عجباً شديداً، وجاء صاحبه فقال: سبحان الله! ما هذا الذي أحدثته بعدي؟ إن في وجهك نوراً عجيباً. فتعجب الرجل من هذا فخرج إلى المرآة فنظر فإذا النور قد بقي منه شيء بسيط في وجهه، وإذا هو يخبو بالتدريج، فكان ذلك سبب إسلامه، فأعلن إسلامه في ذلك الموقف، وحسن إسلامه وأسلم على يديه والده وبعض أفراد أسرته.

    إن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى مباركة ميسرة سهلة، وعلنيا أن نلتزم بتيسيرها وسهولتها ولينها، فخير الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى وأقربهم إليه وأعدلهم في الدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي علمه الله أساليب الدعوة، فقال تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ[آل عمران:159] ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ألين الناس معاملة للناس وأسهلهم، وأحسنهم خلقاً، فالذين عرفوه أقسموا أنهم ما رأوا أحسن منه خلقاً، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (والله الذي لا إله غيره لقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي لشيء فعلته لم فعلت، ولا لشيء تركته لم تركت).

    الدعوة بالتي هي أحسن

    وجاء فبال في المسجد، فجعل الناس يزحزحونه ويصيحون عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه لا تزرموه، فتركوه حتى قضى بوله، ثم أمر بذنوب من ماء فأهريق عليه، ثم دعاه فقال: إن هذه المساجد لم تبن لهذا، وإنما بنيت لذكر الله والصلاة).

    وكذلك قال للرجل الآخر الذي تكلم في الصلاة فصمته الناس وضربوا على أفخاذهم، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (دعاني فبأبي هو وأمي ما رأيت قبله ولا بعده معلماً أحسن منه، فوالله ما ضربني ولا كهرني، وإنما وضع يده على منكبي فقال: إن هذه الصلاة لا يصلح لها شيء من كلام الناس، إنما هي لذكر الله وقراءة القرآن).

    وكذلك جاء رجل آخر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يريد أن يؤمن وهو شاب حدث، فقال: يا محمد! إني أريد أن أتبعك وأدخل في دينك، لكني أريد أن أستثني شيئاً أشترطه، قال: وما هو؟ قال: الزنا. فقال: تستثني بالزنا! فضحك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظنوا أن هذا الرجل من السفهاء، وأرادوا أن يؤدبوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوه لي. فدعاه حتى اقترب منه فناجاه فقال: هل ترتضيه لأمك؟ قال: لا. قال: هل ترتضيه لأختك؟ قال: لا. قال: هل ترتضيه لزوجتك؟ قال: لا. قال: هل ترتضيه لابنتك؟ قال: لا. فالنساء أمهات قوم، وزوجات قوم، وأخوات قوم، وبنات قوم. فقال: والله لقد صدقت، فنزعه الله من قلبي).

    هكذا تكون الدعوة بالتي هي أحسن، وهكذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأمر المؤمنين عموماً، فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم -وأمره أمر لأمته- بقوله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل:125] ، وأمر المؤمنين كذلك بالتي هي أحسن في مجادلة أهل الكتاب في قوله تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ[العنكبوت:46] ، فأمرهم في مجادلة أهل الكتاب الذين هم أشد الأعداء وأعتاهم أن يجادلوهم بالتي هي أحسن، وأن لا يصدقوهم وأن لا يكذبوهم، وأن يقولوا: آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ[العنكبوت:46] ، فيأتوا بالمسلمات والمتفق عليها قبل أن يذكروا مسائل الخلاف، وهذا هو أدب الدعوة، فالصحيح أن يبتدئ الإنسان بذكر المسائل المتفق عليها قبل أن يذكر المسائل الخلافية، فإذا صحت المسائل الإجماعية -وهي الأصول والأسس- فإن ما عداها يسهل تغييره وتعديله بعد ذلك.

    1.   

    الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى

    ذكر الله سبحانه وتعالى لنا في كتابه سبع وسائل من وسائل الدعوة، واشتملت عليها آيتان من كتاب الله: الآية الأولى: آية سورة النحل، وهي قوله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل:125] ، فهذه ثلاث وسائل في هذه الآية: أولها قوله: (بالحكمة).

    والحكمة في اللغة: وضع الشيء في موضعه. بمعنى: وضع اللين في موضعه، والشدة في موضعها، والقسوة في موضعها، والكلام في موضعه، والسيف في موضعه، فهذه هي الحكمة، ولهذا يقول أبو الطيب المتنبي :

    ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى

    فمن هنا كان لا بد للإنسان أن يكون خبيراً بأهل زمانه حتى يضع كل شيء في موضعه، والله سبحانه وتعالى نعى على اليهود أنهم يحرفون الكلم فيضعونه في غير موضعه، وأن وضع الكلم في مواضعه هو الذي يؤثر ويفيد هنا؛ فإن الأساليب البلاغية الرنانة إذا وجهها الإنسان إلى عوام الناس نفروا منه، ولم تجد آذناً صاغية، وإذا وجهها إلى أهل البلاغة أثرت فيهم واستجذبت قلوبهم وأثرت عليهم.

    ومن هنا كان الخطاب العام الذي يوجه إلى الناس عموماً ينبغي أن يكون على السليقة والفطرة، وأن لا يتقعر المتكلم في وجه الناس، وأن لا يأتي بالعبارات الرصينة التي قد تضجر عدداً كبيراً من الناس، وأن لا يأتي كذلك بالعبارة السوقية التي يستهجنها علية القوم وأشرافهم، فيكون الكلام وسطاً، وخير الأمور أوساطها.

    ولهذا فإن من الحكمة أن يكون الإنسان عارفاً بمن يخاطبه، وعارفاً بأوضاع الناس، ومطلعاً على أولوياتهم وظروفهم، حتى لا يخاطبهم في أمر قد تعداه القطار وأصبح على الآثار، فكثيراً ما يتكلم بعض الناس في خطبته أو درسه على أمر قد أصبح معدوماً لا وجود له في حياة الناس، فيكون قد أفسد عليهم جزءاً من وقتهم الثمين وشغلهم بما لا يعنيهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه).

    كما أنه لا فائدة من إحياء أقوال بعض الطوائف التي اندثرت، أي: الكلام في بعض الفرق التي لا توجد في بلد من البلدان، فالكلام في فِرق ما عرفها أسلافهم وما علم لها تأريخ في هذا البلد ولا وصلت إليه مما لا يعني، ومما ينبغي أن يختص به أهل الاختصاص، وأن يكون لدى طلبة العلم المتخصصين، وأن لا ينشر على عوام الناس ومسامع عمومهم، وكذلك الكلام في أمور قد عرفها الناس وتداولوها، وعرفت المواقف منها، فإن تكرارها من الأمور التافهة، وقد قضى عليها الزمان وتجاوزها القطار، وكذلك الكلام في أمور لم يستوعبها الناس ولم تبلغها عقولهم بعد، فهو من الفتنة عليهم، ولذلك أخرج البخاري -تعليقاً من صحيحه- من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ وما أنت بمحدث قوماً بحديث لا تصل إليه عقولهم إلا كان فتنة عليهم).

    فلذلك ينبغي أن يكون الكلام على حسب السامع، وأن لا يكون على حسب المتكلم.

    الحكمة في إفتاء السائلين

    هذه خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومواعظه وإرشاداته تتأثر بحسب السائل، كأن يأتيه رجل فيسأله مع خير العلم خير الإيمان، فإذا كان قوياً بطلاً أمره بالجهاد، وإذا كان ذا والدين ضعيفين أمره ببر الوالدين، وإذا كان من الأغنياء أمره بالإنفاق، وهكذا، ولهذا تجد في الأحاديث الصحيحة كثيراً من الأحاديث التي يفهمها بعض الناس على التعارض، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أفضل الإيمان كذا) أو: (خير الإيمان كذا)، أو يسأل عن خير الإيمان فيجيب جواباً، ثم يسأل عنه فيجيب جواباً آخر، وهذا ليس من التعارض في شيء، إنما هو بحسب حال السائل، ولهذا يقول البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا عمرو بن خالد قال: أخبرنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف).

    وفي صحيح البخاري من حديث أبي ذر رضي الله عنه: (أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام أفضل؟ فقال: إيمان بالله ورسوله، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: ثم أي؟ قال: حج مبرور. قال: فأي الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها على أهلها وأغلاها ثمناً)، وهذا يدلنا على أن الجواب بحسب حال السائل، وهذا من الفقه في الدعوة.

    وهذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حبر هذه الأمة يأتيه رجل فيقول: يا ابن عباس ! هل للقاتل عمداً من توبة؟ فيقول ابن عباس : لا. وفي مجلسه ذلك يأتيه رجل آخر، فيقول: يا ابن عباس ! هل للقاتل عمداً من توبة؟ فيقول: نعم. فقيل له: سبحان الله! كيف أفتيت الأول بهذا وأفتيت الثاني بهذا؟! فقال: رأيت في وجه الأول الشرر يتطاير من عينيه فعلمت أنه يريد القتل عمداً فنهيته عن ذلك، ورأيت في الثاني انكساراً وتوبة وندماً؛ فعلمت أنه قد قتل وجاء تائباً، فما أردت أن أسد باب التوبة أمامه. فهذا من فقه الدعوة، وعلى الناس أن يأخذوا به، وأن يضعوا كل شيء في موضعه.

    الحكمة في نصيحة الناس

    أول وسيلة من وسائل الدعوة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى الحكمة، فقال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ[النحل:125] أن يوجه المتكلم كلامه إلى عموم الناس، وأن لا يجرح الأفراد، وأن لا يتكلم فيهم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بلغه شيء عن إنسان وقف على المنبر فقال: (ما بال أقوام يفعلون كذا)، ولم يقل: إن فلاناً قد فعل كذا. أو: يا فلان لا تفعل كذا. فهذا تشهيرٌ على المنبر أمام الناس، ولو ناده بخاصة نفسه فنهاه عن ذلك الفعل لأمكن أن لا يبلغ ذلك الناس، فوسيلة الإعلام إذ ذاك هي المنبر، فكان يقف على المنبر فيقول: (ما بال أقوام يفعلون كذا)، فيكون هذا أبلغ الزجر للناس، ويستفيد منه صاحب النازلة ومن سواه، ويشيع في الناس ولا يكون فيه ما ينفر من التجريح والفضيحة، فهذا مناف للنصيحة، ولذلك قال القاضي عياض رحمه الله: النصيحة ضد الفضيحة. النصيحة أن تنصح الإنسان وأنت تريد هدايته، وتحرص عليها غاية الحرص، فتحب له ما تحب لنفسك، وهذه لا بد أن تؤثر، ولا بد أن يستجيب لها الناس.

    وأما الفضيحة فهي أن تشهر به أو تجابهه بالكلمات النارية والكلام الشديد، وهذا ربما يكون قاطعاً لطريقه عن الهداية وصارفاً له عن وجه الحق، فتكون أنت من المنفرين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! إن منكم منفرين، إن منكم منفرين)، قال راوي الحديث: (ما رأيته في موعظة أشد منه غضباً من يومئذ)، فقد اشتد غضبه غاية الغضب عندما بلغه عن بعض أصحابه شدتهم على الناس، فلذلك لابد أن يأخذ الدعاة إلى الله تعالى بهذه الحكمة، وأن لا يتشددوا في خطابهم للناس، وأن يكونوا كما وصف الله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ[المائدة:54] ، فالله تعالى يقول: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ[الفتح:29] ، ويقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ[المائدة:54] .

    الحكمة في مخاطبة المدعوين

    إن هذه الحكمة مقتضية لرحمة المؤمنين والغلظة والشدة على الكافرين والمنافقين، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً[التوبة:123] ، وكما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ[التوبة:73].

    أما أهل الإيمان حتى لو فسقوا وبغوا فإن المؤمن عليه أن يكون حريصاً على هدايتهم، وأن يخاطبهم باللين بالتي هي أحسن، وكذلك خطابه مع الكفار الذين يريد هدايتهم ولم تنقطع الشعرة بينه وبينهم عليه أن يخاطبهم أيضاً بأسلوب مهذب، كما قال تعالى لموسى وهارون عليهما السلام حين أرسلهما إلى فرعون: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى[طه:44] ، فهذا تنبيه لموسى وهارون على أمر من أبجديات الدعوة، وهو من المخاطبة، فلا بد أن يوطد له الكلام، وأن يهيئه له، وأن يخاطبه بلين لعله يتذكر أو يخشى؛ لأنه إذا وجدت الشدة فسيقول له ما قاله عمرو بن كلثوم :

    ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا

    وإذا خوطب بالتي هي أحسن فربما لان وهو ذو قسوة، وربما ضعف وهو ذو شدة؛ لأنك تصادف مكان اللين فيه، وتخاطبه من مقتله، وقد وصلت إلى قلبه، والنافذة ليست مغلقة، أما إذا خاطبته بالشدة فسيغلق الباب أمامك وستصطدم بالجدار ولن تصل إلى القلب، ومن هنا فإن العاقل إذا أراد الدخول يبحث عن النوافذ والأبواب المفتوحة، ولا يحاول اختراق الجدار، فالذي يريد الوصول إلى القلوب واختراق النفوس ينبغي أن يبحث عن النوافذ والأبواب المفتحة ويدخل منها بكل لطف ولين، وحينئذ يصل إلى مطلوبه بالتي هي أحسن، وليس معنى هذا أن يتنازل الإنسان عن دعوته وأمور دينه ليوصف بأنه هيّن لين، بل يأخذ ذلك مرحلياً فقط، ويجعله وسيلة لإبداء حرصه وحسن نيته للناس لعل الله أن يهدي به رجلاً واحداً.

    فمن أجل هذا تجد كثيراً ممن تعامله يومياً إذا خاطبتهم باللين وجدت فيهم ليناً، وإذا خاطبتهم بالشدة قابلوك بالمثل أو بأشد، ولذلك يحسن بك أن تأتي بلطف ولين، وأن تدخر قوتك لوقت الحاجة إليها، ولا تهمل قوتك ولا تكن من المستضعفين الأذلة، لكن ادخر هذه القوة إلى وقت الحاجة، أما قبل أن تحتاج إليها فإن إهدارها في غير موضعها ليس من الحكمة، وكثيراً ما يؤدي إلى نتائج عكسية.

    وإني لأذكر أن مجموعة من الطيبين الخيرين ذهبوا إلى مسجد في عدن قد بني على قبر، وكان فيه جماعة من المصلين يصلون، فأرادوا تغيير منكر معين وهو الطواف حول هذا القبر، فهدموا المسجد على المصلين، فقتلوا عدداً من المصلين وهم في سجودهم، فكانت طامة كبرى ومصيبة عظمى، وقتل هؤلاء وشرد بهم من سواهم، وأعيد بناء المسجد بأشد مما كان، وحرس أشد مما كان محروساً به، فهذا من التصرفات الرعناء التي يتصرفها بعض الناس من غير حكمة، فرسولنا صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة، وقد مكث ثلاث عشرة سنة بمكة لم يكسر صنماً واحداً، وكان على الكعبة حينها ثلاثمائة وستون صنماً، وقد كان يسكن في دار الأرقم وهي على الصفا، وعلى الصفا صنم اسمه (إساف)، وعلى المروة صنم اسمه (نائلة)، بل كان أهل الجاهلية يسمون المروة والصفا إسافاً ونائلة، كما قال أبو طالب :

    وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم بمفضى السيول من إساف ونائل

    ومع ذلك لم يكسر رسول الله صلى الله عليه وسلم صنماً واحداً من هذه الأصنام، حتى جاء الفتح فوقف عليها وكسرها جميعاً، وكان يقول وهو يهدمها: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا[الإسراء:81] ، وأرسل السرايا فهدم كل الأصنام في البلدان المجاورة، ولو كان هدمها في وقت الاستضعاف وقوة المشركين لبنوها من الذهب بعد أن كانت من حجارة، وما كان من طين بنوه من فضة، وهكذا أخذ بالحكمة وعلمنا ذلك، وهذه الحكمة ليست مقتصرة على لين الكلام في الخطاب للناس، بل هي تشمل كذلك تأخير بعض التصرفات عن بعض الأوقات، وتعجيل بعض التصرفات في بعض الأوقات، وتعجيل إبداء الموقف من بعض الأمور، وإخفاء الموقف من بعض الأمور، وكذلك تقتضي أن يقدم لشخص الأولويات ويؤخر ما دونها، وأن يأخذ بأخف الضررين والحرامين، كما قال تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ[الأنعام:108] ، وكما قال تعالى حكاية عن لوط عليه السلام: هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ[هود:78] .

    ومن أنواع هذه الحكمة في الدعوة أنه إذا أراد الإنسان أن يغير سلوكاً لدى آخر لا يجابهه بأن هذا السلوك محض ضلال وابتداع وشرك ونحو ذلك، بل يتعرف عليه أولاً، ويحاول أن يحصل على ثقته وصداقته، ثم يسأله عن هذا التصرف ما دليله عليه، وما حاجته إليه، فإن بين له دليلاً مرضياً قال: الحمد لله؛ فصاحبي غير مشرك وغير مبتدع، وإنما كان مجتهداً فإن أخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران.

    ومن الحكمة في الدعوة أن لا تحتكر أنت الصواب، وتجعل الحق هو ما عندك فقط، فتكون أنت المحتكر للحق وحده ومن سواك أهل باطل، فهذه طريقة غير صحيحة، كل الناس خطاؤون وخير الخطائين التوابون، ولا معصوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من البشر، ومن هنا فعليك أن تنظر إلى الناس على أنهم عباد الله جميعاً كما أنك عبد من عباد الله، وأن لا تنظر إليهم على أنك رب وهم مملوكون لك، وأن لا تنظر إليهم على أنهم جميعاً أهل خطأ وأنت وحدك صاحب الصواب، بل تنظر إليهم على أنهم بشر مثلك مكلفون بنفس التكليف الذي أنت مكلف به، فقد امتن الله عليك ببعض النعم، فلا ينبغي لك أن تتجاهل تلك النعمة ولا أن تتغطى بها، ولا تقتضي منك العدول عن منهج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    درجات تغيير المنكر وصورها

    على من أراد أن يدعو إلى الله عز وجل أن تكون دعوته إلى الله موافقة لمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالشدة ومخاطبة الناس بما يكرهون ليستا من منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من سنته ولا سيرته، ومن هنا فإن احتكار الصواب حتى مع المشركين لم يكن من منهج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ونحن نقرأ في سورة سبأ قول الله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ[سبأ:24] أي كلام أبلغ انصافاً من هذا؟ هذا نزل به الروح الأمين من عند الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ويأمره الله أن يخاطب المشركين فيقول: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ[سبأ:24]، فلا يمكن أن يجتمع ما عندنا وما عندكم فهما متناقضان، لكن أحدهما حق والآخر باطل.

    فما قال لهم: إن ما معنا هو المقطوع به أنه الحق، وما معكم هو المقطوع ببطلانه، بل قال: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ[سبأ:24] ، ثم تأتي آيات أخرى في مراحل لاحقة تبين أن الصواب هو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الخطأ ما لدى المشركين، وترد عليهم ما لديهم مما يخالف ما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، لكنه في بداية دعوتهم لابد أن يخاطبوا بهذا الأسلوب اللين الهين، فإن الإنسان إذا جاء بالعنتريات وأراد أن يبدي للناس قوته ويحاول تغييرهم بالشدة لا يمكن أن يكون عمله هذا مجدياً ولا مثمراً، بل سيواجه بمثل ما قال الشاعر:

    جاء شقيق عارضاً رمحه إن بني عمك فيهم رماح

    ومن هنا فلا يفيد تصرفه شيئاً، بل ربما أدى هذا التصرف إلى تصرفات معاكسة، ومن أجل ذلك فمن أراد الإصلاح فعليه أن يأخذ بأسلوب الإصلاح، إذا رأى أمراً يمكنه إصلاحه فعليه أن يتكلم فيه بعموم، وأن لا ينزل ذلك على أفراد وأشخاص بأعيانهم.

    وإذا رأى منكراً لدى شخص معين فأراد أن يغيره، فليعلم أن المنكر درجات:

    الدرجة الأولى: محاولة نصيحته، وتغييره بيد الإنسان الذي فعله، فإذا أردت تغيير منكر بارز فأبلغ شيء في تغييره أن تغيره باليد التي فعلته، وإذا أقنعت صاحبه أن يتراجع عنه ويأتي لنفس الموقف الذي كان يتصرف فيه فيتصرف فيه على خلاف تصرفه الأول فهذا أبلغ تغيير للمنكر، وهو الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مع المشركين، فـعمر بن الخطاب الذي كان أشد الناس على المسلمين، عندما أسلم لم يترك موقفاً من المواقف التي كان يميل فيها على المسلمين إلا وقف فيه ينافح عنهم ويدافع عنهم، فغير منكره بيده.

    وكذلك وحشي الذي قتل حمزة رضي الله عنه، عندما أسلم قال: إن كل موقف وقفته مع المشركين لا بد أن أقف في مقابله موقفاً في نصرة الله ورسوله، وإن هذه الحربة التي قتلت بها حمزة لابد أن أقتل بها أشد أعداء الله لله، فخرج بها إلى مسيلمة حتى قتله بها، فأبلغ تغيير للمنكر أن يكون بيد أصحابه.

    الدرجة الثانية: أن يكون بيد أقرب الناس إلى من فعله، فإذا أتيت بولد الإنسان فربيته على خلاف منهجه فجاء لتغيير منكر أبيه فهذا أبلغ شيء لطمس أثر أبيه، فإذا أتيت بأخيه فغير منكره فهذا أبلغ شيء، ومن هنا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أتاه جبريل بعد معركة أحد، فأبلغه أن الحارث بن سويد بن الصامت هو الذي قتل المجذر بن زياد رضي الله عنهما، وأنه قتله غيلة في وقت المعركة، وأراد بذلك الاقتصاص؛ لأن المجذر كان قد قتل أباه في الجاهلية، وحين أخبره جبريل خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني عمرو بن عوف، ولم يأخذ معه أحداً من المهاجرين، بل خرج وحده، فأتاهم في دارهم، فتعجبوا من مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، فقالوا: ما جاء به وحده إلا أمر فجاؤوا فقالوا: ما جاء بك يا رسول الله؟! فدعا عباد بن بشر ، فقال: اضرب عنق الحارث بن سويد بن الصامت -وهو ابن عمه-. فقال الحارث : ولم يا رسول الله؟ والله ما أشركت ولا نافقت منذ أسلمت! فقال: أما إني لم أقتلك نفاقاً ولا شركاً، ولكني أقتلك بـالمجذر بن زياد، فقد أنزل الوحي أنك قتلته فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ووالله ما رآني أحد، وما جاءك ذلك إلا عن طريق الوحي، ومد عنقه فضربه ابن عمه وقتله.

    فلم تنتطح في أمره شاتان، ولم يستنكر هذا أحد، فالذي قتله ابن عمه.

    وكذلك الحال عندما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة بن دليم على رأس كتيبته الخضراء، وبيده لواء المهاجرين والأنصار، فركزه ببطحاء مكة وقال: اليوم ذلت قريش وخابت، فجاءت قريش يشكونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء شاعرهم ضرار بن الخطاب فوقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:

    يا نبي الهدى إليك لجا حيي قريشٍ ولات حين لجاء

    حين ضاقت عليهم سعة الأر ض وعاداهم إله السماء

    والتقت حلقتا البطان على القوم ونودوا بالصيلم الصلعاء

    إن سعداً يريد قاصمة الظهـ ـر بأهل الحجون والبطحاء

    خزرجي لو يستطيع من الغيـ ـظ رمانا بالنسر والعواء

    وغِرُ الصدر لا يهم بشيء غير سفك الدما وسبي النساء

    قد تلظى على البطاح وجاءت عنه هند بالسوءة السوآء

    إذ ينادي بذل حي قريش وابن حرب بذا من الشهداء

    فلئن أقحم اللواء ونادى يا حماة اللواء أهل اللواء

    ثم ثابت إليه من بهم الخز رج والأوس أنجم الهيجاء

    لتكونن بالبطاح قريش فقعة القاع في أكف الإماء

    فانهينه فإنه أسد الأسـ ـد لدى الغالي والغ في الدماء

    إنه مطرق يريد لنا الأمـ ـر سكوتاً كالحية الصماء

    حينها نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم سعداً فأخذ منه اللواء، فتوقع الناس أن يدفعه إلى رجل من قريش، فما فعل، بل دفعه إلى قيس بن سعد بن عبادة ، فوقف قيس في مكان أبيه وركز اللواء في نفس المكان وقال: اليوم عزت قريش وطابت.

    فخالف مقالة أبيه، وغير ما كان عليه أبوه دون أن يقع خلاف بين المسلمين، ودون أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انتزع المكرمة من الأنصار بعد أن أعطاهم إياها، فكان هذا من أساليب رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعوية البليغة.

    كذلك الأسلوب الآخر بعد هذا أن يحاول الإنسان أن يكون تغيير المنكر بيد غير متهمة فيه، وأهل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وأهل الخير ملأ قليل وعددهم قليل في الناس، ولو اصطلموا وأخذوا من بين الناس لم يبق فيهم خير، كما قال صلى الله عليه وسلم يوم بدر: (اللهم! إن تهلك هذه الطائفة لا تعبد في الأرض أبداً)، فمن الحكمة لهم أن يكون تغيير المنكر بأيد غير أيديهم، وأن يستغلوا أيد أخرى في تغيير ذلك، كما قال الشاعر:

    وكنا الأيمنين إذا التقينا وكان الأيسرين بنو أبينا

    فصالوا صولة فيمن يليهم وصلنا صولة فيمن يلينا

    فآبوا بالنهاب وبالسبايا وأُبنا بالملوك مصفدينا

    وكما قال الآخر:

    ترد زمامه أيدي رجال عليهم قد رددنا ما يلينا

    فيكون التغيير حينئذٍ بأيد غير متهمة فيه، وهذا من أبلغ التغيير، ثم إذا احتاجوا إلى التغيير بأيديهم كانوا على أتم استعداد لذلك، وقد بذلوا الجهود قبل ذلك، وعملوا بالتي هي أحسن، وقد أنصفوا وأنصفهم الناس، وعلموا أنهم لم يتسرعوا ولم يبادروا مبادرة سلبية، وجاءت أفعالهم في وقتها المناسب.

    1.   

    صفات الداعية إلى الله

    ومن مقتضيات هذه الحكمة أن يحاول الإنسان في دعوته إلى الله سبحانه وتعالى أن يكون في نفسه قدوة صالحة، إن من يسمع الناس منه الألفاظ النابية لا يمكن أن يأتمنوه على الوحي، ولا أن يقتنعوا بأنه قد ائتمنه الله على وحيه، فالله لم يكن ليجعل وحيه بدار هوان، ومن رآه الناس مخالفاً لأوامر الله سبحانه وتعالى ومخالفاً لهدي رسوله صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يثقوا به، لكن إذا بدأ بنفسه واستقام، وكان قوله موافقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الناس سيثقون به، وسيبادرون إلى تنفيذ ما يأمر به، وسيجد النواصي مطيعة قابلة لما يوجهها إليه.

    النظر إلى المدعوين بعين الرحمة

    أخرج عبد الرزاق في المصنف أن رجلاً جاء إلى عطاء بن أبي رباح فقال: إنك يجتمع في مجلسك أنواع الناس -يقصد فرق الناس من الخوارج والشيعة وغيرهم-، وإني أكلمهم فيشتد عليهم، ولا أراك تفعل ذلك. فقال: إني سمعت قول الله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا[البقرة:83]، فيدخل في ذلك اليهودي والنصراني. فكان فهم عطاء بن أبي رباح رحمه الله تعالى من هذه الآية أن يكون الخطاب في البداهة وفي أول الأمر بالتي هي أحسن ثم إذا احتيج بعد ذلك إلى المراحل الأخرى في التغيير كان الإنسان مستعداً لها، لكن ينبغي أن تكون بالتي هي أحسن، وبكل هدوء، وأن يعلم الإنسان أن التجهم والغلظة دليل على قسوة القلب، ولهذا فإن مالك رحمه الله أخرج في الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسوَ قلوبكم، إن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية).

    وهذا الحديث خرج من مشكاة النبوة كما قال ابن القيم رحمه الله، وهو يأتي بأساليب دعوية رائعة، فيقول: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسوا قلوبكم؛ لأن كثرة الكلام مدعاة لقسوة القلب إذا لم تكن بالذكر، أما كثرة الذكر على اللسان فإنها مدعاة للين القلب واستقامة الجوارح، (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسوا قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد) واكرهوها وغيروها، ولكن في الواقع أنتم عباد، وأنتم معهم في هذه السفينة التي ضرب بها الرسول صلى الله عليه وسلم المثل، والذنوب تخرق السفينة، وأنتم تريدون سد هذا الخرق، وتريدون علاج ما أفسده هؤلاء، وأنتم تستحضرون قول موسى عليه السلام فيما حكى الله عنه في كتابه عندما أخذته الرجفة قال: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ[الأعراف:155-156]، فهذا كلام العارفين بالله، كلام أنبياء الله الذين يعرفون الأدب مع الله وكيف يخاطبونه، لم تأخذهم القسوة ولا الشدة في مثل هذا الموقف، بل تبرؤوا في الإثم من أهل الإثم وردوه عليهم، ومع ذلك لم يجعلوا أنفسهم أرباباً، وهذا ما حكاه الله عن عيسى عليه السلام أيضاً في قوله: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[المائدة:118] ، وقد ثبت في حديث عائشة : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة بهذه الآية) يصلي ليلة كاملة لم يقرأ من القرآن بعد الفاتحة إلا هذه الآية: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[المائدة:118] ، وهذا من واقع حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته الذي أورثنا إياه، وعلينا جميعاً أن يكون لدينا هذا الحرص، علينا أن نهتم بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن نهتم بهدايتها وصلاح أمورها، وأن نهيئ أنفسنا لمسئولياتنا تجاه أمتنا، وأن نكون بذلك عند حسن ظن الأمة.

    حرص النبي في دعوة أمته

    إن هذه الأمة لها حقوق على أفرادها، ولها أمجاد ضائعة، وأراض مغتصبة، وعدد كبير من المستضعفين المستذلين في مشارق الأرض ومغاربها، وكتاب وسنة، وتشريع قد أضيع وأهمل، وعلم وتراث لا بد أن يحمل، لها حقوق كثيرة أين نحن منها؟

    إذا نظرنا إلى أنفسنا هذه النظرة لا يمكن أن نتكبر على الآخرين، بل نجد أنفسنا خداماً من خدام أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وسنجد أنفسنا أحرص شيء على هداية هذه الأمة واستقامتها، وهذا هو المطلوب، ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى امتن علينا بصفات محمد صلى الله عليه وسلم التي فطره الله عليها، فقال تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة:128] ، ولاحظ هذه الصفات، فإن فيها خطاباً للبشرية بكاملها، فيدخل فيه الكافر والمؤمن: (جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ) أي: ليس من الملائكة ولا من الجن، بل هو من البشر. وفي قراءة أخرى: (من أنفَسكم) بفتح الفاء، أي: من أعلاكم منزلة.

    الصفة الثانية: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ[التوبة:128] أي: يشق عليه عنت البشرية، يريد للبشرية جميعاً الهداية، ولا يحب أن يكب الله أحداً على وجهه في النار، يحب الهداية لـأبي جهل ولغيره، وعندما جاءه ملك الجبال فعرض عليه أن يضم الأخشبين على قريش قال: (لا. لعل الله أن يخرج من أصلابهم قوماً يعبدون الله لا يشركون به شيئاً)، فهذا الحرص على هداية كل الناس المؤمن والكافر، فيحرص على أن يكونوا جميعاً من أهل الجنة (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ).

    لكن المختص بالمؤمنين هو قوله: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة:128] ، فرأفته ورحمته تختص بالمؤمنين، أما حرصه على الهداية فيشمل الجميع، وهذا الحرص من المطلوب من كل مؤمن -وبالأخص الذين اختارهم الله لتكليفهم بالدعوة إليه- أن يجده في نفسه، وأن يتربى عليه، وأن يربي الناس عليه، وأن يكون حريصاً على هداية الناس وعدم تنفيرهم عن الحق، وأن يكون حريصاً على أن يهدي الله على يديه قوماً يعبدون الله لا يشركون به شيئاً.

    حب الداعية لكل عباد الله

    إننا من منطلق عجزناً عن عبادة الله، ونحن نعلم أن الله وحده هو المستحق للعبادة، وأننا عاجزون عن عبادته حق عبادته نحب أن يعبده من سوانا، فيسرنا كثيراً أن يعبده جبريل وميكائيل وإسرافيل، ويسرنا عبادة أي عبد عابد لله سبحانه وتعالى، ونرضى ذلك، ونحب العابدين لله سبحانه وتعالى حباً شديداً؛ لأننا نعلم أننا عاجزون عن عبادته فنحب أن يعبد؛ لأنه أهل لذلك، وهذا من تمام محبتنا لله، إن من تمام محبتك لربك أن تحب أن يعبد ويشكر ويؤمن به ويوحد، وأن تحرص على زيادة أعداد المؤمنين به والموحدين له، وأن لا تحرص على الانتقاء منهم وأن تجعل المؤمنين قلة كما يفعله أهل الابتداع، يرون أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ارتدوا إلا ستة، ويريدون أن ينحصر الإيمان في أقل عدد من الناس، وهذا سبقهم إليه اليهود، فقد قالوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى[البقرة:111] ، والله تعالى رد عليهم هذه المقالة، فالجنة واسعة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، فلا يضرك أن يكون الملايين من الناس من أهل الجنة، ولا ينبغي أن تتضايق إذا رأيت عدداً كبيراً من الطوائف أو الأمم من أهل الجنة، فإنهم لن يضيقوا عليك مقامك في الجنة إن شاء الله، وأنا كفيل بذلك، فالجنة واسعة جداً، ومن استشعر سعة الجنة فإن عليه أن يتسع صدره لإخوانه المؤمنين، وأن يعلم أن العبرة بالخواتيم، ولا يدري ما الله صانع فيها، نسأل الله أن يحسن خاتمتنا.

    اختيار الداعية للمكان والزمان المناسب للدعوة

    إن هذه الحكمة مقتضية لانتقاء الأماكن والأوقات للكلام والتصرفات، فيا رب كلمة تقول لصاحبها: دعني ويا رب كلمة لو قيلت في مكان كانت مفيدة مثمرة، ولو قيلت في مكان آخر كانت سيئة قبيحة، ويا رب فِعل لو فُعل في مكان كان حسناً، ولو فُعل في غيره كان قبيحاً.

    ولما رأى صلى الله عليه وسلم أبو دجانة سماك بن خرشة رضي الله عنه يتبختر يوم أحد بين الصفوف قال: (إنها لمشية يبغضها الله في غير هذا الموقف).

    وكذلك قال لـعمر رضي الله عنه حين أراد أن ينتزع ثنيتي سهيل بن عمرو فقال: يا رسول الله! دعني أنتزع ثنيتي سهيل لا يقوم عليك خطيباً بعد اليوم. قال: (عسى أن يجعل له مقاماً تحمده عليه)، فكان ذلك عندما ارتد العرب عن دين الله، فوقف سهيل خطيباً في قريش بمكة فثبتهم على الدين.

    وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حصلت قضية الإفك، وأراد المنافقون أن يفرقوا بين المهاجرين والأنصار، وقال عبد الله بن أبي : لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ[المنافقون:8] رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، فلم يعطهم فرصة للمناقشة، بل رحل وما زال بهم من وقت الظهيرة، ثم نزل في الليل، وقد صل بهم أربعاً وعشرين ساعة من السفر الجاد المضني، ويريد بذلك أن يشغلهم عن المناقشات الجانبية، وعن الأمور التي لا تدخل في الأولويات، فانشغلوا بذلك حتى وصلوا إلى المدينة.

    وكذلك ثبت في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه -وهو في حجته التي مات بعدها بقليل- أن رجالاً يقولون: إن بيعة أبي بكر كانت شتى، ولئن مات عمر لنبايعن فلاناً أو فلانا. فأراد أن يقوم في الناس خطيباً فيبين لهم سياسة الإسلام بعرفة، فأتاه عبد الرحمن بن عوف فقال: يا أمير المؤمنين! لا تفعل؛ فإنك هنا يغلب عليك الرعاع، ويحيطون بك من كل جانب، فيحملون قولك كل محمل، ولا يضعونه في موضعه، ولكن إذا رجعت إلى المدينة ونزلت بالدار واجتمع عليك المهاجرون والأنصار، فقل ما شئت. ففعل ذلك عمر ، فهذا من تنزيل الكلم في مواضعه.

    وكذلك فإن من هذه الحكمة في الدعوة أن يدرك الإنسان الظروف المحيطة به، وأن لا يغامر المغامرات التي لا تجدي والتي لا تنفع، فالمغامرات التي هي غير مضمونة وغير موزونة هي من المبادرات المنهي عنها، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما أرسل حذيفة إلى الأحزاب قال له: (ولا تحدث حدثاً حتى ترجع إليّ).

    فلذلك ليس من الحكمة في الدعوة أن يقوم الإنسان بمغامرة ليس وراءها ما يمدها ويقتضي استمرارها، وكثيراً ما يتصرف أقوام على غير مشورة فيغامرون مغامرة ربما جاءت ببلايا فيجر الحبل أحبلا، كما قال أبو طالب :

    ففي فضل حبل لا أباك ضربته بمنسأة قد جر حبلك أحبلا

    وقد شاهدنا تصرفاً يشبه هذا، فقد رأى أحدهم سائحة إيطالية فأطلق عليها رصاصة فجرح إصبعها فقط، فأخذ هو وكل من حوله، وتضرر بذلك عدد كبير من الصالحين الأتقياء، وأوذوا إيذاءً شديداً بسبب هذا التصرف الطائش.

    إن هذا النوع من المغامرات التي هي غير مضمونة وغير موزونة ليس من الحكمة ولا من الدعوة، إن من الحكمة في الدعوة أن يزن الإنسان أموره بميزان المصلحة، وأن لا تعجل، ويعلم أن العاقبة للمتقين، وأن الحق لابد أن يظهر، ومن هنا لا ينهزم ولا يضعف، ويزول عنه كل الخور، ويطول حينئذٍ نَفَسُه، وتقوى قوته، ويعد العدة ليوم آخر، كما قال الحارث بن هشام :

    الله يعلم ما تركت قتالهم حتى رموا فرسي بأشقر مزبد

    فعلمت أني إن أقاتل واحداً أقتل ولا ينكي عدوي مشهدي

    ففررت منهم والأحبة فيهم طمعاً لهم بلقاء يوم مفسد

    وإذا أعد عدته واستعد للمواجهة فحينئذٍ يمكن أن يكون هو صاحب القرار، أما أن يتجرَّأ على مواجهة غير موزونة وهي محسومة في البداية وقواها غير متكافئة فهذا ليس من الحكمة في شيء، وكثيراً ما يؤدي إلى أضرار تستمر العقود من السنين، وما زالت المغامرات التي حصلت في بعض البلاد الإسلامية إلى الآن والناس في بعض أضرارها، مغامرات غير موزونة وتصرفات ليست عن روية، فيحصل بسببها كثير من الفساد المستشري.

    1.   

    الأسئلة

    حكم عضل المولى لموليته

    السؤال: طلبت للزواج وخطبت عدة مرات ورفض والدي الموافقة على زواجي، والآن يريد أن يزوجني من ابن عمه، وأنا لا أرضى به زوجاً، فقد سبق أن تحرش بي حتى دخلت المستشفى، فأنا لا أرضى به لذلك ولا أحبه، والآن أريد أن أعرف حكم ما يريد والدي فعله بي؟

    الجواب: يقول الله تعالى في كتابه: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ[البقرة:232] ، ويقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ[النساء:19] ، فقد حرم الله عز وجل العضل، والعضل معناه: منع ولي المرأة من الزواج. وقد ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، وإلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير).

    وعلى هذا فالذي حصل من الوالد غير جائز، والعضل غير جائز، ولا يجوز له أن يأتي بفاسق يزوجه موليته لقرابته منه، وعليكم أن تحاولوا معه وتقنعوه، وإذا كان هناك واسطة يتصلون بالوالد ويبينون له أن هذا غير جائز فهذا أفضل، ولتلتزم هي حياءها مع الله عز وجل، وتسأله أن يجعل لها فرجاً ومخرجاً، نسأل الله أن يجعل لها فرجاً ومخرجاً، وأن يكتب لها الخير.

    حكم الجمع بين المملوكتين في الوطء

    السؤال: من المعلوم أن الجمع بين الأختين محرم، فهل ينطبق ذلك على المملوكتين؟

    الجواب: نعم. ينطبق على المملوكتين، فلا يحل وطء أختين بملك يمين حتى تخرج الأولى عن ملكه، وعند المالكية لا بد أن يخرجها عن ملكه وعن ملك من تحت يديه من أولاده الصغار أيضاً، وهذه المسألة اختلف فيها الصحابة قديماً، لكن القول الذي اتفقت عليه الأمة بعد ذلك هو مذهب علي بن أبي طالب بتحريم ذلك، وقد قال عثمان رضي الله عنه حين سئل عن ذلك: أحلتهما آية وحرمتهما آية، فلم يفت بهما، ولكن الأمة أجمعت بعد ذلك على تحريم الجمع بين الأختين بملك اليمين.

    السنة في العقيقة عن الأولاد

    السؤال: هل صحيح أن سنة العقيقة تكون بشاتين للابن وشاة للبنت، وما هو أصل ذلك؟

    الجواب: جاء ذلك في الحديث الصحيح أن يعق عن الذكر بشاتين أو كبشين أملحين، وعن البنت بواحدة، ولكن جاء أيضاً في الصحيح أنه عق عن الحسن والحسين بشاة واحدة عن كل واحد منهما، فلذلك لا حرج في هذا، فأقل ما يعق به شاة واحدة، ولا حرج في الزيادة ما لم يصل ذلك إلى السرف.

    طاعة الوالد فيما لا يعارض الشرع

    السؤال: إن لي والداً يأمرني أن أترك علم الحديث وتعلمه حتى يكون لدي علم بالفروع، وكذلك يطلب مني الزواج مبكراً امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج)، ولكن يوسوس الشيطان لي ويعرض لي كثيراً من العقبات، فما هو نصحكم لي؟

    الجواب: أما ما ورد في السؤال الأول فما أمر به الوالد فهو مخالف لأمر الله سبحانه وتعالى فيما يتعلق بترك الدعوة وترك التعليم، فعلى الإنسان إذا تعلم شيئاً أن يعلمه، لكن عليه أيضاً أن يبر والده وأن يظهر ذلك، وأن لا يظهر مخالفته له. أما ما يتعلق بتعلم الفروع، فإذا أمر الوالد بذلك فهذا اختيار منه لولده أن يتقدم لعلم من العلوم المهمة قبل غيره، ورأي الوالد فيه بركة، ولا حرج أن يدرس بعض الفروع، ولكن عليه أن يبحث عن أدلتها مع ذلك ويدرسها معها.

    أما الاستفسار في السؤال الثاني فيما يتعلق في تعجيل الزواج فيحتاج إلى أن يعرف الإنسان واقع الشخص هل هو مستعد لذلك من الناحية البدنية والمادية، فإن كان كذلك فلا ينبغي له أن يؤخره، وإن لم يكن كذلك فقد قال الله تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ[النور:33].

    الأسلوب المناسب لدعوة الأقارب

    السؤال: كيف يعيش زوج مع زوجته وأهلها يدعونها إلى الباطل، ويكرهون الزوج لأنه من الدعاة، فكيف يدعوهم؟ وكيف يؤثر فيهم؟

    الجواب: الأسلوب المناسب هو: أن يحصل على ثقتهم. أولاً، فلا يحاول دعوتهم قبل أن يكون محل ثقة لديهم، بل يحسن إليهم ويريهم من نفسه الحرص على التعاون معهم، فإذا أصبح محل ثقة لديهم متدخلاً في كل شئونهم دعاهم حينئذ من واقع قوة تأثير، ويؤثر عليهم إن شاء الله.

    حكم زواج الأب من زوجة ابنه من الرضاعة

    السؤال: قال تعالى: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ[النساء:23] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، فكيف يجمع بين الحديث والآية خاصة إذا كان الابن من الرضاع؟

    الجواب: هذه الآية لا تتعلق بالرضاعة، إنما بالمصاهرة، والله عز وجل ذكر المحرمات وهن ثلاثة أقسام: محرمات من النسب، ومحرمات من المصاهرة، ومحرمات من الرضاعة.

    فالمحرمات من المصاهرة منهن: حلائل الأبناء، وهن زوجات أولاد الصلب، فلا يدخل في ذلك حلائل الأولاد من غير الصلب، وقد اختلف في الابن من الرضاعة هل تحرم زوجته إذا كان قد تزوجها؟

    فجمهور العلماء ذهبوا إلى ذلك، وقال آخرون: لا تدخل؛ لأن الله تعالى قال: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ[النساء:23] فاشترطوا أن يكونوا من الصلب، والحديث إنما هو في الرضاعة، فلا يدخل في هذا الباب فلا تعارض بينه وبين الآية.

    طريقة تغيير قناعات الوالدين الواقعين في الشرك

    السؤال: لي والدان يستغيثان بغير الله، ويكرهان الدعوة، فماذا يجب علي أن أفعله معهما؟

    الجواب: عليه أن يبر والديه، وأن يحسن إليهما حتى يؤثر فيهما، وإذا أصبح مؤثراً فيهما فسيحبان ما يحبه هو، وحينئذٍ يصرف عنهما كل قبيح من الأفعال والأخلاق والعقائد وغير ذلك، وهذا ليس قولاً نقوله من غير تجربة، بل هو أمر مجرب من لدن القدم، فمن لا تؤثر فيه ولا يجد منك الحرص على شئونه وأموره ولا يحبك لا يمكن أن تؤثر فيه، لكن من يثق بك تمام الثقة، يسهل عليك تغيير منكره، ويسهل عليك التأثير عليه، وأنا أعرف رجلاً كان معنا، وكان شاباً من شباب نواكشوط، وقد توفي -نسأل الله أن يغفر له ويرحمه- وكان من خيرة الشباب، وأبوه رجل كبير السن وشيخ قبيلة، ولكنه كان أبر أولاده به فحصل على ثقته، فكان أبوه -إلى الآن- إذا رأى رجلاً من الذين كان يعرفهم مع ابنه قال: محمد محمود -اسم الولد- لا يصحب إلا الخيرين. وذلك لتمام ثقته بولده؛ لأنه يقول: عرفته منذُ بلغ فما رأيت منه إلا خيراً. فحصل على ثقته، فكان الوالد يغير رغباته وقناعاته امتثالاً لرغبة ولده، ويغير كل القناعات، ومستعد أن يترك كل شيء؛ لأنه يثق بولده تمام الثقة.

    أحكام اللقطة

    السؤال: ما حكم اللقطة في الأمصار الكبيرة؟ وكيف تعرف؟ وما حالها بعد السنتين هل يتصدق بها عن صاحبها؟ والقول بالتصدق بها أرأي أم له أصل؟

    الجواب: اللقطة التي يلتقطها الناس في الأمصار -في غير الحرمين- ينبغي أن تعرف كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (اضبط متاعها وعفاصها، ثم عرفها سنة، ثم انتفع بها، فإن جاء صاحبها يوماً من الدهر يطلبها فأعطه إياها)، فعلى هذا، على الإنسان أن يعرفها بمظانها، ومن مظانها -إذا كانت ذات بال أو ثقيلة- أن يعلن عنها في جريدة أو غير ذلك، ويحتسب ذلك على صاحبها، وإن كانت ليست ذات بال بأن كانت قيمتها زهيدة ضئيلة فلا تدخل في اللقطة، وليتصدق بها، وإن كانت متوسطة القيمة فله أن يعرفها في المكان الذي وجدها فيه وما حوله، وأن يكتب إعلاناً عنها أنه: من فقد شيئاً في هذا المكان فعليه أن يتصل بالرقم الفلاني. أو: من فقد شيئاً في هذا المكان فعليه أن يصل إلى فلان الفلاني في المكان الفلاني. فإن مضت السنة فله أن ينتفع بها، والأفضل له أن يتصدق بها، وإن جاء صاحبها يوماً من الدهر يطلبها فعليه أن يعطيه إياها.

    فضل سماع الحديث النبوي

    السؤال: هل يجوز للشخص سماع الحديث وهو يعرف صحيحه من سقيمه، وقد يعارض نصاً فقهياً لديه؟

    الجواب: الحديث المقصود به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي الهدى كله، ومن أعرض عنها أعرض عن الهدى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فسماعه من أفضل العبادات، وتعلمه من أفضلها، وهو أسهل تعلماً من غيره، والرسول صلى الله عليه وسلم أفصح الناس وأصدقهم لهجة وأصوبهم صواباً، فمن لم يفهم كلامه لا يمكن أن يفهم كلام غيره.

    وجوب الإحسان إلى الوالدين وبرهما

    السؤال: هل المطلوب من إرضاء الوالدين مداراتهم، وهل لبر الوالدين حد أدنى أم لا حدود له؟

    الجواب: أمر الله سبحانه وتعالى الإنسان أن يحسن بوالديه إحساناً في عدة آيات من كتابه، وقرن ذلك بالإيمان في قوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا[النساء:36] ، وقوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا[الإسراء:23] ، فعلى هذا يجب الإحسان إلى الوالدين، وبرهما يتناول كثيراً من أنواع الإحسان المختلفة، ولكن ما يذكره الفقهاء من وجوب طاعتهما إذا أمرا بمكروه أو بمندوب أو جائز لا يدخل في دلالة النصوص، وإنما هو رأي فقط، ومن أجل ذلك فيجب الإحسان إليهما بخفض الجناح لهما، والمذلة بين أيديهما، وطاعتهما بما أمرا به موافقاً للشرع، ومحبتهما ونصيحتهما، وأن يبذل لهما الإنسان ماله وما استطاع من خدمته ونفسه، فهذا هو برهما في حياتهما، أما بعد موتهما فيدعى إلى صلة الرحم والوفاء بالوصية، ونحو ذلك.

    1.   

    دعاء

    اللهم! صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، اللهم! اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، ولا تجعل إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا، اللهم! استعملنا في طاعتك، واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين ولا منفرين يا أرحم الراحمين.

    اللهم! اهدنا واهد على أيدينا يا أرحم الراحمين، اللهم! اهدنا واهد بنا يا أرحم الراحمين، اللهم! اهدنا واهد بنا يا أرحم الراحمين، اللهم! أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه يا أرحم الراحمين، اللهم! ألهمنا رشدنا، وأعذنا من شرور أنفسنا، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

    اللهم! اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، يا سامع الدعوات! يا أرحم الراحمين! اللهم! اغفر لكل المسلمين يا أرحم الراحمين، اللهم! اقض حوائجهم أجمعين، اللهم! لا تردهم خائبين، اللهم! إنهم رفعوا إليك أيدي الضراعة فلا تردهم خائبين، اللهم! املأ قلوبهم أجمعين من الإيمان، وأبدانهم من الصحة، وجوارحهم من الطاعة، وأيديهم من الخير، اللهم! اغفر ذنوبهم، واقض ديونهم، واشف مرضاهم، وارحم موتاهم يا أرحم الراحمين، اللهم! اهد قلوبهم، واجمع ذات بينهم يا أرحم الراحمين، اللهم! اجمع شملهم، واجمع كلمتهم على الحق يا أرحم الراحمين، اللهم! أصلح أولادهم ونساءهم يا أرحم الراحمين، اللهم! اغفر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، واخلف علينا بخير يا أرحم الراحمين، اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا أرحم الراحمين، اللهم! يا حي! يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! الطف بالمستضعفين من المسلمين المستذلين في كل مكان، اللهم! الطف بهم يا أرحم الراحمين، اللهم! أنزل عليهم الرحمات يا أرحم الراحمين، اللهم! فرج كربهم، ونفس همهم، اللهم! اجعل العاقبة لهم يا أرحم الراحمين، اللهم! ثبت أقدامهم، وسدد سهامهم، واجمع كلمتهم على الحق يا أرحم الراحمين، اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم! رد كيد الكافرين وانصرنا عليهم أجمعين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767946834