قاعدة (الأمور بمقاصدها).
هذه القاعدة جملة اسمية، مبتدؤها: الأمور، وخبرها: الجار والمجرور، أو متعلقه المحذوف الذي تقديره: كائنة أو مستقرة بمقاصدها، والأمور: جمع أمر، والأمر هذا المفرد يجمع على أمور وعلى أوامر، فإن جمع على أوامر كان معناه: الطلب، وإن جمع على أمور، كان معناه: الشأن، والمقصود بالأمور هنا: أعمال المكلف، سواء كانت من أعمال القلب، أو من أعمال اللسان، أو من أعمال البدن، وسواء كانت أفعالًا أو تروكًا.
فالحديث الذي هو دليل القاعدة يتناول كل ذلك، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات).
و(أل) التي في الأمور جنسية شمولية؛ إذ هي بمعنى كل، أي: كل الأمور بمقاصدها، والمقاصد: جمع مقصد، وهو اسم مصدر من قصد الشيء، وهو اسم المصدر الميمي منها.
والقصد: هو الإرادة، والمقصد يطلق على النية، والنية: مصدر نوى الشيء ينويه نية، وهي: توجه القلب إلى الشيء وإرادته.
ومعنى القاعدة: أن كل أمر إنما يتأثر بنية فاعله فيه؛ فإن كانت النية صحيحة موافقة للشرع، فالعمل صحيح يترتب عليه الثواب، وإن كانت النية فاسدة مخالفة للشرع، فالعمل فاسد يترتب عليه العقاب، وإن كانت النية تتعلق بالجواز المحض مستوي الطرفين، فليس للإنسان ثواب وليس عليه عقاب في الأمر.
والباء هنا في قوله: بمقاصدها: للإلصاق؛ أي: ملتصقة بمقاصدها لا تفصل عنها، فلا يمكن أن تتصور الأمور إلا بمقاصدها؛ لأنه إذا حصلت أفعال مجردة عن النية فليس لها اعتبار من الناحية الشرعية.
وأفعال المكلف منها أعمال القلب كالاعتقاد، والنية والحضور في الصلاة، والحضور في العبادة، والخشوع ونحو ذلك، فهذه أعمال قلبية.
منها: ما لا يمكن اشتراط النية له، كالنية نفسها؛ لأن اشتراط النية لها يقتضي التسلسل، فأنت تنوي الصلاة ويشترط لتلك النية نية، ولتلك النية نية إلى ما لا نهاية، فيقع التسلسل فهذا مستحيل.
وكذلك الاعتقاد فلا يحتاج إلى نية مخصوصة به، وقد استشكل ذلك بعض أهل العلم، فقالوا: قد نص جمهور العلماء على أن أول واجب على المكلف معرفة الله، وإذا كانت معرفة الله أمرًا واجبًا، فالواجب لا يمكن أن يتحقق إلا بنيته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات)، يحتاج الإنسان إلى نية ذلك، وينبني على هذا الخلاف اختلاف الاجتهاد في المسائل العقدية، فالأصل أن الإنسان مكلف بمقتضى عقله، فالعقل هو مناط التكليف، فإذا طلب الحق باجتهاده فوصل إليه، فهو مثاب ثوابين، وإذا طلب الحق باجتهاده فلم يصل إليه وأخطأ، فهو مثاب ثوابًا واحدًا؛ حين طلب الحق واجتهد في طلبه، وليس عليه إثم في خطئه إذا اجتهد، لكن إذا كانت نيته الانطلاق من مبدأ الشرع، أنه يتعبد الله سبحانه وتعالى بما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم من عنده، فأعمل اجتهاده وعقله تعبدًا لله، ثم بعد ذلك حصل منه الخطأ، ككثير من علماء المسلمين الذين وقعوا في بعض الأخطاء العقدية عن اجتهاد، وقد علم منهم الورع والصلاح، فإن هذا لا يضرهم ولا ينقص إيمانهم، وأيضًا لا يقتضي براءة منهم، ولا يقتضي خروجًا لهم من السنة، فهم من أهل السنة والجماعة ولو أخطئوا في مسائل عقدية.
أما إذا كان القصد على غير ذلك، فكان قصدًا خبيثًا، قصد الإنسان الطعن في الإسلام، أو عدم القناعة به، كأصحاب الأهواء والبدع المضلة، فإن اجتهادهم لا يعذرون به، ولو كانوا اجتهدوا فاجتهادهم حصل في غير موضعه، فنيتهم في الاجتهاد ليست النية التي يصححون معها.
كذلك الحضور في الصلاة لا يحتاج إلى نية؛ لأنه بذاته نية، أن يمسك الإنسان نفسه عند العبادة فيحضرها، والخشوع فيها كذلك: هو استشعار الوقوف بين يدي الخالق جل جلاله.
وعمومًا فجمهور أعمال القلوب لا تحتاج إلى نية.
أما أعمال البدن، فما كان منها متعلقًا بالبدن نفسه فهو يحتاج إلى النية، كالصلاة محتاجة إلى النية، والطهارة محتاجة إلى النية على الراجح، وقد ذهب الحنفية إلى أن الوضوء لا يحتاج إلى نية، ولم يروا ذلك في التيمم؛ لأن التيمم أصلًا معناه: النية؛ حيث أن معناه القصد، تيمم الشيء إذا قصده، ففرقوا بين الوضوء والتيمم، ولكن الراجح: أن الطهارة كلها تحتاج إلى النية، وتشترط لها؛ لأن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ[المائدة:6]، ومعنى (قمتم): أردتم القيام، وليس معناه: الوقوف في الصلاة، فإذا كان الإنسان يغسل وجهه عندما يقف في الصف ليكبر ويجب عليه ذلك، فهذا إشكال كبير، فإذًا: المقصود بقوله: (قمتم إلى الصلاة): أردتم القيام إليها، والإرادة هي النية، وهذا يقتضيها.
وأما التروك، فهي تنقسم إلى قسمين: إلى تروك مقيدة بوقت، وتروك غير مقيدة بوقت، فالتروك التي لا تقيد بوقت: كترك الزنا، وترك شرب الخمر، وترك الكذب، وترك أكل الغيبة، وترك المحرمات كلها، هذا ترك غير مقيد بوقت، فلا يحتاج في امتثاله إلى النية، ولكن النية يزيد بها ثوابه، فمن نوى أنه إنما ترك شرب الخمر؛ لأن الله حرمها عليه، ونوى أنه إنما ترك الكذب أو الغيبة؛ لأن الله حرم ذلك عليه، فإنه يثاب ثوابًا زائدًا، ومن لم ينو ذلك ولم يمارسه طيلة حياته حتى مات، فمجرد عدم الممارسة -وهو الترك بدون نية- يحصل به الاجتناب من غير نية.
أما الترك المقيد بنية فمثاله: الصوم، فهو ترك للأكل والشرب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، هذا ترك مقيد بوقت محدد، فلابد فيه من النية؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل)، وفي رواية: (من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له)، فهذا يقتضي أنه لابد في الترك المخصص بوقت من النية.
وقد ذهب الحنابلة والشافعية أيضًا إلى أن النفل يمكن أن لا يبيت الإنسان نيته في الصوم، فإذا لم يتناول مفطرًا وأراد الصيام قبل الزوال، فيمكن أن ينوي الصيام من وقته، واستدلوا بحديث حفصة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها، فقال: هل عندكم من شيء؟ قالت: لا، قال: إذًا: فأنا صائم)، قالوا: جدد نية الصيام من النهار، وغيرهم لا يرون ذلك، بل يرون حديث ابن عمر على إطلاقه، وهو: (من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له)، ورأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون صائمًا من قبل، فأراد أن يفطر؛ لأن صوم النفل يجوز قطعه عند الشافعية والحنابلة ولا يجب إتمامه، وعند المالكية والحنفية يجب إتمامه.
وهذا فرع قاعدة أخرى، وهي: هل يجب النفل بالشروع؟ فعند المالكية والحنفية: يجب النفل بالشروع؛ لأن الله تعالى يقول: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ[محمد:33]، وعند الشافعية والحنابلة: لا يجب النفل بالشروع؛ لأن الله لم يجعله واجبًا، ولا فائدة لعدم الجزم بالوجوب إلا إذا ثبتت الخيرة.
وتحرير محل النزاع: أن الحج والعمرة خارجان عن محل الخلاف، فمن أحرم بأحدهما، وجب عليه إتمامه بالإجماع، حتى الشافعية والحنابلة الذين لا يرون أن النفل يجب بالشروع يوجبون إتمام الحج والعمرة على من أحرم بهما؛ لأن الله تعالى يقول: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ[البقرة:196].
والطهارة، وكذلك الوقف لا يجبان بالشروع بالاتفاق أيضًا، فمن ابتدأ في الوضوء ثم تبين له أنه على طهارة، أو رأى ألا يتوضأ الآن، له الحق في أن يقطع ذلك، كذلك من شرع في الغسل ثم تبين له أنه لا داعي لغسله، أو أنه يريد النوم الآن، أو يريد عملًا آخر، يمكن أن يقطع الغسل.
وكذلك الوقف، إذا وقف داره له الحق في الرجوع عنها، ما دام حيًا يستطيع الرجوع عن الوقف، أما ما سوى ذلك فهو محل خلاف كالصلاة والصوم وغير ذلك، وقد نظم علي الأجهوري هذه المسألة على مقتضى مذهب المالكية والحنفية، فقال:
صلاة وصوم ثم حج وعمرة طواف عكوف بالشروع تحتما
وفي غيرها كالطهر والوقف خيرن فمن شاء فليقطع ومن شاء تمما
ومن أدلة القولين: الحديث الذي أخرجه الحاكم في المستدرك، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام وإن شاء أفطر)، فهذا الحديث يستدل به الشافعية والحنابلة على أن المتطوع له الحق في أن لا يكمل صومه، فقالوا: أمير نفسه، إن شاء صام وإن شاء أفطر، ويستدل به الحنفية والمالكية على وجوب الإتمام؛ لأن المقصود به مريد الصوم فقط، والحديث فيه مجازان على كلا القولين.
فعند الحنفية والمالكية: الصائم مجاز، معناه: مريد الصوم، المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام على الحقيقة، وإن شاء أفطر مجازًا، معناه: إن شاء لم يصم.
وعند الشافعية والحنابلة: الصائم على الحقيقة، الذي قد أصبح صائمًا بالفعل، المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام مجازًا، معناه: إن شاء واصل وأكمل، وإن شاء أفطر مجازًا، أي: إن شاء قطع؛ لأن الإفطار لا يكون على الحقيقة إلا إذا كان بعد غروب الشمس.
فإذًا: في الحديث مجازان على كلا القولين، وعلى هذا لا يكون حاسمًا في محل النزاع، فالذين يرون أن الفرض لا يجب بالشروع يحملون حديث حفصة على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان صائمًا وأراد أن يفطر، والذين يرون أن النفل يجب بالشروع يرون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يريد الفطر، وإنما سأل عن الطعام؛ ليتفقد حال أهله ونفقتهم فهي واجبة عليه، فلما رأى أنه شق على أهله حين طلب طعامًا فلم يجده، أخبرها أنه صائم؛ ليزيل المشقة عنها، وهذا من حسن العشرة وكمال الخلق.
النية يبحث فيها من ثمانية أوجه:
الوجه الأول: في حقيقتها، وحقيقتها: قصد الشيء وتوجه القلب إليه، فهي عمل قلبي، وليست من عمل الجوارح.
الأمر الثاني: فائدتها، وفائدتها: التمييز بين العبادة وغيرها، وبين أنواع العبادة، فاغتسال الإنسان محتمل للعبادة وغيرها، كمن يغتسل لرفع الجنابة، ويمكن أن يغتسل للتبرد، الأول عبادة، والثاني غير عبادة، وإنما يفرق بينهما بالنية.
كذلك بين درجات العبادة، فالذي يصلي ركعتين بعد طلوع الفجر، يمكن أن تكون ركعتي الفجر، ويمكن أن تكون صلاة الصبح، والفرق بينهما النية، فصلاة الصبح فيها نية الوجوب، وركعتي الفجر فيها نية النفل.
الأمر الثالث: محلها، فمحل النية: القلب لا اللسان؛ ولذلك إذا صرح الإنسان بها بقوله وحصل منه غلط على غير ما ينوي، فلا عبرة بالقول.
إذا أراد صلاة العشاء، فقال: صلاة المغرب- غلطًا- وفي قلبه صلاة العشاء، فالعبرة بما في القلب، ولا عبرة بالقول حينئذ.
الأمر الرابع: هو محل إيقاعها، ومحل إيقاع النية هو عند الشروع، ولو تقدمت قليلًا فلا حرج، فإذا خرج الإنسان من هذا الباب إلى المسجد وهو قريب، ونوى وهو هنا أنه سيصلي العشاء مثلًا، فدخل المسجد، فأحرم بنية الصلاة دون تخصيص لصلاة معينة مثلًا، فصلاته صحيحة؛ لأن النية سبقت قليلًا الشروع، والأصل أن تكون مع الشروع عند تكبيرة الإحرام؛ ولذلك فالإحرام معناه: الدخول في الصلاة، وهو النية، فتكبيرة الإحرام مضافة إليه؛ والأصل أن الشيء لا يضاف إلى نفسه، ومن النادر إضافة الشيء إلى نفسه، مثل يوم الجمعة، أي: يوم هو الجمعة؛ وهو الذي يجمع الناس، يوم الإثنين، يوم هو الإثنين، ومثل قول الشاعر:
فقلت انجوا عنها نجا الجلد إنه سيرضيكما منها سنام وغارب
(انجوا عنها نجا الجلد) النجا: هو الجلد، فالتكبيرة مضافة إلى الإحرام؛ أي: محاذية للإحرام، والإحرام: هو الدخول في حريم الصلاة وهو النية، فمحل إيقاعها إذًا: وقت الشروع ولو تقدمت يسيرًا فلا حرج، لكن إذا تقدمت كثيرًا، لم تقبل إلا في الصوم، فالصوم إذا نوى الإنسان الآن أنه سيصوم غدًا فذلك مجزئ؛ لأنه قد بيَّت، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له)، والتبييت يشمل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، فكل ذلك بيات، لكن إذا تردد فعقد نيته ثم بدا له فحلها، ثم بدا له فجدد النية، فالعبرة بآخر ما كان عليه؛ ولذلك يقول جدي محمد علي رحمة الله عليه:
من عقد النية ليلًا فبدا له
فحل عقده فجدد حتى تكرر له
فهو على آخر ما قد كان مما فعله
فالعبرة بآخر شيء؛ لأنه هو الذي يليه العمل، فكانت النية منعقدة عند الشروع، أو الذي يليه.
الأمر الخامس: محل تعلقها، فالنية على قصد الناوي فلابد أن تصدر منه هو، ولا يمكن أن تنوي لإنسان آخر إلا في استثناءات قليلة، هذه الاستثناءات القليلة منها أن اليمين عند القاضي على نية المحلوف له، لا على نية الحالف، وإلا لكان كل إنسان يمكن أن يحتال، فيورِّي ويحلف على مقتضى توريته.
وكذلك من له زوجة كتابية، إذا حاضت لا يحل له وطؤها قبل أن تتطهر؛ لأن الله تعالى يقول: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ[البقرة:222]، (إذا تطهرن) والطهارة من شرطها النية كما ذكرنا سابقًا، والنية من شرطها الإسلام.
فغير المسلم لا تقبل نيته؛ لأنه من فروع الشريعة، والكفار اختلف في خطابهم بفروع الشريعة، فينوي لها زوجها رفع الحدث؛ لأنها هي لا يمنعها حدثها شيئًا، لكن إنما يمنعه هو، فالمنع متعلق به هو لا بها هي؛ فلذلك ينوي لها هو؛ ليستبيح وطأها بغسلها.
ومثل ذلك: نية الوالد لولده بالإحرام، الولد الصغير يدخله وليه في الإحرام فينوي له؛ لأنه لا يدرك العبادة ولا يميزها، وقد ثبت في الصحيحين، في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بفجِّ الرَّوْحاء استقبله ركب، فقال: من أنتم؟ فقالوا: المسلمون، فقالوا: ومن أنت؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفعت إليه امرأة صبيًا في خرقة، فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر)، صبي ما زال في خرقة، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن له حجًا، والحج في الأصل: هو القصد، والقصد ليس في قلب الفاعل، إنما هو في قلب وليه.
الأمر السادس: من مسائلها: التعدد فيها، أنها تقبل الاشتراك، والفعل الواحد يمكن أن يكون له عدد من النيات، وهذا محل خلاف بين أهل العلم، الشافعية يصرحون بأن النية لا تقبل الاشتراك أصلًا، والجمهور على أن النية تقبل الاشتراك، فالمرأة إذا وطئت ثم حاضت قبل أن تغتسل فطهرت، فأرادت أن تغتسل، فإذا كان الاشتراك في النية مقبولًا تغتسل غسلًا واحدًا، وتنوي فيه رفع الجنابة ورفع مانع الحيض، ويكفيها الغسل الواحد لهما.
وكذلك الرجل المحدث حدثًا أكبر، إذا اغتسل ليوم الجمعة، ونوى غسل الجمعة وغسل الجنابة، إن نواهما معًا أجزأ، وإن نوى الجنابة والنيابة عن الجمعة أجزأ، وإن نسي الجنابة ونوى الجمعة لم يقع، وكذلك إذا نوى الجمعة وقصد النيابة عن الجنابة لم يقع أيضًا، ومثل ذلك تحية المسجد، إذا نواها الإنسان بالفرض، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجلوس في المسجد حتى يصلي ركعتين، قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)، فأتيت أنت في أثناء الصلاة، أو وجدت الناس على إقامة فأحرمت معهم بنية أداء الفريضة؛ ومع ذلك تنوي تحية المسجد التي تبيح لك الجلوس فيه، فإنه يحصل لك الأمران معًا.
ومن الأمور ما يندرج دون إرادة أصلًا، إذا تعدد السبب واتحد الموجب، كفى موجب واحد، وهذه قاعدة- سنذكرها إن شاء الله- وذلك كنواقض الوضوء، إذا اجتمع منها عدد على الإنسان فتوضأ وضوءًا واحدًا كاف لكل ذلك.
ومثل ذلك: إذا تعددت الأيمان على أمر واحد، أمر واحد حلف عليه أكثر من يمين فحنث يلزمه كفارة واحدة، وكذلك إذا ارتكب محظورات من محظورات الإحرام وكانت من جنس واحد، حلق بعض شعره، ثم حلق باقيَه، ثم قلم أظافره، وأخذ من إبطيه، وهكذا، وتأخرت الفدية، فإنها تجزئ عن كل ذلك، أما إذا حلق شعر رأسه فأخرج الفدية عجلها، ثم حلق بعض شعره الآخر سهوًا بعد ذلك، فلا تجزئه الفدية السابقة؛ لأنها كانت قبل وقوع الخلل وهي علاج، فلا يمكن أن تعالج أمرًا قد جاء بعدها.
كذلك إذا ولغ عدد من الكلاب في إناء، أو ولغ فيه كلب واحد عدة مرات، فأردت استعماله، فإنك تغسله سبعًا، وهذا طبعًا التسبيع هو مذهب جمهور أهل العلم، خلافًا للحنفية يرون أنه مثل غيره من النجاسات، يطهر فقط بثلاث غسلات مجزئة منقية، والحنفية يرون أن أبا هريرة وهو راوي الحديث، روي عنه الإفتاء بثلاث غسلات فقط، وأنه عمل ذلك أو فعله، والجمهور يردون بأن العبرة بما روى لا بما رأى، وهو روى عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالتسبيع.
فإذا اتحد الموجب، فولغ عدد من الكلاب، أو كلب واحد ولغ عدة مرات، فيكفي الغسل بالتسبيع مرة واحدة.
ومثل ذلك: السهو في الصلاة، إذا تكرر السهو، سها في الركعة الأولى فنقص من السورة، وسها في الركعة الثانية، فأسر بالفاتحة، أو أسر بالسورة، وسها في الركعة الثالثة، فنقص منها تكبيرًا، وسها في الركعة الرابعة، فنقص منها كذلك تكبيرًا، يكفيه سجدتان فقط للسهو لكل النقص، وكذلك في الزيادة، إذا اجتمع النقص والزيادة على الإنسان، كفاه سجدة السهو فقط.
ومن مسائل الكسائي المشهورة: إذا سها في سجدتي السهو، فسلم بينهما مثلًا سلم من سجدة واحدة يأتي بسجدة أخرى لكن لا يلزمه سجود السهو، وهذه من المسائل التي سأل عنها أبو يوسف الكسائي، وأبو يوسف القاضي هو تلميذ أبي حنيفة، وقد لقي الإمام الكسائي وهو أحد القراء السبعة، وأحد النحاة المشاهير فقال له: قد علمت أن من أتقن علمًا أداه إلى سائر الفنون، وأنت أتقنت علم النحو، فسأسألك في الفقه، قال: اسأل فسأله عمن سهى في سجود السهو، فسلم بين السجدتين مثلًا، هل يلزمه سجود السهو للسهو؟ قال: لا، قال: من أي نحوك أخذتها؟ قال: المصغر لا يصغر ثانيًا، هذا الرجل اسمه أسيد إذا أردت أن تصغره ماذا تعمل، حميد كيف يصغر؟ هو مصغر، ولذلك قال له: المصغر لا يصغر ثانيًا.
فقال له: إذا اقتدى قوم في سفن في البحر بإمام في إحدى السفن كان يصلي لهم، فجاء الموج ففصلهم عن إمامهم، وأرادوا الإتمام لأنفسهم، وقبل سلامهم رجع إليهم الإمام، جاءت سفينته، هل يرجعون إليه مرة أخرى؟ قال: لا، قال: من أي نحوك أخذتها؟ قال: لا إتباع بعد القطع، إذا قطعت بعض النعوت، فقلت: بسم اللهِ الرحمنُ، لا يجوز أن تقول: الرحيمِ فيما بعد؛ لأن هذا إتباع بعد قطع، إما أن تقطع فتستمر على القطع، تقول: بسم اللهِ الرحمنُ الرحيمُ، أو أن تتبع، فتقول: بسم اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، وهكذا.
الأمر السابع: كذلك من مسائل النية انسحابها، فهي تنسحب على المنوي، ولو كانت عند العقد تشمله جميعًا، نحن الآن كنا نصلي صلاة العشاء، وهي أربع ركعات، والنية تكون في بدايتها، وأنت نويت صلاة أربع ركعات، فنيتك عند بداية الصلاة لا إشكال فيها؛ لأنك تنوي أداء أربع ركعات، ستؤديها، لكن نيتك بعد أن تكمل ركعة، هل ما زلت تنوي إقامة أربع ركعات؟ أو بعد أن تصلي ركعتين، هل ما زلت تنوي أربعًا؟ أو بعد أن تصلي ثلاثًا، هل ما زلت تنوي أربعًا؟ النية تنسحب على الجميع، فيقع بالتدريج، كلما أدي شيء من الفعل يسقط مقابله من النية فقط بالتدريج؛ لأن النية هي بمثابة رصيد وتغطية للماهية، فتمشي معها بالتدريج، وتنسحب عليها.
الأمر الثامن: من مسائل النية التعارض مع اللفظ، الأصل-كما ذكرنا- أن النية من عمل القلب، ولكن يجوز التصريح بها، فيسن في الحج والعمرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لبيك اللهم عمرة)، وقال: (لبيك اللهم حجة)، وفيما سوى ذلك، هل يقاس عليه أم لا؟ هذا محل بحث لأهل العلم، والذي يبدو أصل الجواز وأن الأمر واسع، للإنسان أن يصرح بنيته، لكن إذا تعارضا، فأيهما يقدم؟ يقدم عمل القلب؛ لأنه الأصل، فإذا نوى صلاة العشاء وقال: صلاة المغرب مثلًا، فالذي نواه بقلبه هو المعتبر، ويدخل في هذا النيات غير الواجبة، فالنية منها ما هو واجب، مثل نية الصلاة المعينة، ومنها ما لا يجب، كنية عدد الركعات، ونية اليوم، ونية الأداء أو القضاء، هذه نيات غير واجبة؛ لأن الوقت ما دام موجودًا فهو يحدد النية، فلا تحتاج إلى أن تنوي أن صلاة العشاء الآن أداءً؛ لأن الوقت مستمر، وهو قاض على ذلك، فإذا نوى الإنسان نية القضاء، وهي أداء، أو نوى يوم الخميس، وكان اليوم يوم الأربعاء، فتعارض الأمران، أبطل على نفسه بتلك النية؛ لأنها أصلًا غير واجبة عليه، وهو أتى بها، فشدد على نفسه، فيشدد عليه، لو لم ينو نية اليوم أصلًا ما ضرت، ولكن لما نوى أنه يوم الخميس وهو يوم الأربعاء، هذه النية مبطلة ولو لم يصرح بها.
وكذلك إذا نوى القضاء وهي أداء، أو الأداء وهي قضاء، كذلك مبطل أيضًا، وإذا لم ينوه أصلًا لم يلزمه شيء، وهذه من المسائل التي فيها لغز لدى الفقهاء، إذا بالغ الإنسان في الأمر وزاد فيه، كثيرًا ما توقعه تلك الزيادة في خطر.
مثلًا: مسح الرأس واجب في الوضوء، فإذا غسله الإنسان، هل يجزئه عن المسح؟ محل خلاف، بعض أهل العلم يرى أنه لا يجزئه؛ لأنه لم يفعل الأمر، وهذا راجع إلى قاعدة فقهية، وهي: هل الحقائق الشرعية تتجزأ أم لا؟ وهذه القاعدة الفقهية من فروعها مثلًا: الخلاف في الكافر، هل هو من أهل الشهادة أم لا؟ فالنصوص الشرعية نصت على أن الفاسق ليس من أهل الشهادة، والكافر هل هو فاسق أم لا؟ إذا كانت الحقائق الشرعية تتجزأ؛ فالكفر فسق وزيادة، وإذا كانت الحقائق الشرعية لا تتجزأ؛ فالكافر غير الفاسق، لدينا العدل، ولدينا الفاسق، ولدينا الكافر، فهو حقيقة منفصلة، وعند الحنفية: أن الحقائق الشرعية لا تقبل التجزئة، فالكفر ليس هو الفسق، والجمهور يقولون: الكافر فاسق وزيادة، والحنفية يقولون: الكافر ينظر في حاله، قد يكون الكافر فاسقًا، وقد لا يكون كذلك، فمن الكفار من هو ملتزم عندهم، فيكون أهلًا للشهادة على بني جنسه مثلًا.
وكذلك عند الحنابلة: الكافر تؤخذ شهادته حتى بين المسلمين؛ عملًا بآية سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ[المائدة:106]، وجمهور أهل العلم على أن الآية منسوخة، وأنها مقصورة على محل نزولها، وهو تميم الداري وابن بداء في قصة الوصية في السفر وأنها لا تتعدى ذلك.
كذلك لو أن إنسانًا ادعى على آخر ألفًا، فشهد له عدل بأن له عليه خمسمائة، وشهد عدل آخر بأن له عليه ألفًا، فجاء إلى القاضي، ماذا يعمل القاضي؟ عند الحنفية لم يثبت شيء أصلًا؛ لأن خمسمائة غير ألف، الحقائق الشرعية لا تتجزأ، فلم يحصل أي نصاب، فلا تلفق شهادة الشاهدين حينئذ، وعند الشافعية والمالكية ثبتت خمسمائة بشهادتهما بالتلفيق؛ لأن الحقائق الشرعية تتجزأ، فثبتت خمسمائة، وبقيت خمسمائة أخرى عليها شاهد واحد، فيكمل نصابه باليمين، الحنفية لا يرون القضاء بالشاهد واليمين، ويعللون حديث ابن عباس في ذلك والأحاديث الأخرى، فهذا على أن الحقائق الشرعية تتجزأ أو لا تتجزأ، وكله البحث فيه مع الحنفية، يعني: جمهور أهل العلم على خلاف الحنفية في هذه المسألة.
بالنسبة لهذه القاعدة، وهي الأمور بمقاصدها، جاءت بلفظ الجمع في اللفظين، الأمور جمع، والمقاصد جمع، فلم يقل: الأمر بمقصده، ولا: الأمور بمقصدها؛ بل جُمع اللفظان معًا، والجمع إذا قوبل بجمع، كان كل فرد مقابلًا لفرده، هذا وجه من أوجهه، مثل: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ[البقرة:184]، فكل يوم يقابل يوماً بعدتها، فكذلك الأمور، كل أمر له نيته بالخصوص، وهذا يدخل في كثير من الأبواب، فكل العبادات مبناها على قصد وجه الله بها، فذلك القصد هو نيتها، وإذا حصل فيها سوى ذلك، فإن قصد بها الإنسان الرياء أو السمعة بطلت ولم تفد؛ لما أخرج مسلم في الصحيح، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملًا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه).
وهذا الحديث ظاهره بطلان العمل الذي راءى فيه الإنسان، وقد اختلف أهل العلم في المقصود بالبطلان، فقالت طائفة: الرياء مبطل للعمل دنيا وأخرى، فإبطاله للعمل في الدنيا أنه غير مجزئ، وإبطاله له في الآخرة فلا يحصل منه ثواب.
وقالت طائفة أخرى: بل هو مبطل للأجر الأخروي فقط، ولا يبطل الإجزاء في الدنيا، فمن حج حجة الإسلام ولكن فعل ذلك رياءً وسمعة، فالذين يرون أن الرياء مبطل لأجر العمل لا له يرون أنه قد سقط عنه وجوب الحج في الدنيا، ولكن لم يحصل له ثواب منه في الآخرة.
ولذلك فالعمل بهذا الاعتبار أربعة أقسام: عمل ينفع في الدنيا والآخرة، وعمل ينفع في الدنيا فقط، وعمل ينفع في الآخرة فقط، وعمل لا ينفع في الدنيا ولا في الآخرة، فالعمل الذي ينفع في الدنيا والآخرة هو الذي جمع مقتضي الشهادتين، جمع مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله -وهو الإخلاص لله- ومقتضى شهادة أن محمدًا رسول الله -وهو المتابعة- فجاء على وفق ما شرع، فالعمل الذي أخلص فيه صاحبه وجاء به على الوجه الشرعي متابعًا للسنة، هذا العمل نافع في الدنيا مجزئ مسقط للعقوبة، وهو نافع في الآخرة كذلك يترتب عليه الثواب.
والعمل الذي اختل فيه الأمران معًا، لم يخلص فيه صاحبه لله، ولا تابع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ابتدع فيه وراءى، هذا العمل لا ينفعه، لا في الدنيا ولا في الآخرة، أما في الدنيا فهو غير مجزئ، بل يلزمه أن يعيد العمل مرةً أخرى؛ لأنه لم يتابع فيه، ولم يأت به على الوجه الشرعي، وأما في الآخرة، فإنه لا يثاب عليه؛ لأنه لم يخلص فيه لله.
والعمل الذي تابع فيه صاحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى صلاة حسنة الهيئة، كاملة الأركان والشروط على صورتها الشرعية، ولكن لم يخلص فيها لله، هذا ينفعه في الدنيا، ولا ينفعه في الآخرة، ينفعه في الدنيا، فيسقط عنه الحد، لا يقتل بسبب ترك الصلاة، ولا يجب عليه إعادتها في الظاهر، ولكنه لا ينفع في الآخرة.
وعكسه العمل الذي أخلص فيه صاحبه لله، ولكنه لم يتابع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حصل فيه خلل في المتابعة، ولكن صاحبه مخلص صادق، هذا ينفع في الآخرة، ولا ينفع في الدنيا، كمن صلى بغير وضوء ولم يتذكر ذلك بغير قصد، هذه الصلاة ليست على الوجه الشرعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث ما لم يتوضأ)، فهي غير مجزئة في الدنيا، ولا يعتبر في الدنيا قد صلى، إذا تذكرها وجب عليه أن يعيد، سواء كان في الوقت أو خارجًا، وإذا لم يفعل وكان في الوقت يقام عليه الحد، أما في الآخرة، فيكتب له ثواب تلك الصلاة؛ لأنه أخلص فيها وأداها على الوجه الذي يراه في وقتها، هو لم يكن يعلم أنه ليس على طهارة.
فإذًا: الأعمال أربعة أقسام في هذا القبيل: ما ينفع في الدنيا والآخرة، وما ينفع في الدنيا فقط، وما ينفع في الآخرة فقط، وما لا ينفع في واحدة منهما، والخلاف في الرياء نظمه أحد العلماء، فقال:
هل الرياء مبطل للعملِ وأجره حتى كأن لم يحصلِ
أو مبطل للأجر دون العمل فحج من راءى به لم يبطل
على هذا القول تفريع فقط.
قد بين النبي صلى الله عليه وسلم تعلق العمل بالنية في حديث عمر، فقال: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)، فالهجرة قد تكون واجبة، كالهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، في حق من أسلم في دار الكفر، وكالهجرة من أي بلد إلى المدينة في العهد النبوي قبل فتح مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لنصرته، وكالهجرة من دار المعصية إذا غلبت المعصية على بلده ولم يستطع الإنسان تغييرها، واستطاع الهجرة عنه، فتكون الهجرة واجبة في حقه، لكن إذا فعل ذلك قصدًا لأمر دنيوي، ولم يقصد به أداء الواجب، (فهجرته إلى ما هاجر إليه) لا ينال إلا ما فعل.
وعلى هذا فالإنسان اليوم عمله مربوط بمقصده ونيته، فإذا عمل عملًا من الأعمال التي يبتغى بها وجه الله؛ أي: عمل من أعمال الآخرة ونوى به أمرًا دنيويًّا، فإنه لا يحصل له به إلا ما نوى، وإذا عمل عملًا دنيويًّا، ولكنه نوى به قصدًا ما يبتغى به وجه الله، صيره ذلك عبادةً، كالذي ينام وهو ينوي بذلك كف جوارحه عن المعصية، أو ينوي به راحة بدنه الذي هو وديعة لديه، أو أكل وهو ينوي أداء حق بدنه الواجب عليه، والتقوي على العبادة، فذلك طاعة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة، قيل: أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر)، وقال لـسعد بن أبي وقاص: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في في امرأتك)، لكن بعض الناس يستدل بهذه القاعدة بهذا الحديث في ارتكابه لبعض المحرمات، ويرى أن نيته صادقًا فيها، فتراه يصافح الأجنبية، ويقول: أنا ما أردت إلا خيرًا والقلوب صافية، والأمور بمقاصدها، وإنما الأعمال بالنيات، هذا استدلال في غير محله، وكذلك تجده يسبل ثوبه مثلًا، ويقول: أنا ما أردت إلا خيرًا، ما نويت الخيلاء، طبعًا هذه المسألة الأخيرة فيها خلاف فيما يتعلق بحمل المطلق على المقيد وعدمه؛ لأن بعض أهل العلم يرى أن المطلق يحمل على المقيد، والإسبال جاء فيه حديثان، أحدهما مقيد، والآخر مطلق، فالمطلق: (ما أسفل من الكعبين في النار)، هذا مطلق والمقيد: (من جر ثوبه خيلاء لم يرح رائحة الجنة)، (لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء).
فالذين يرون أن المطلق يحمل على المقيد، يقولون التحريم منصب على الخيلاء، فإذا فعل الإنسان ذلك من غير خيلاء لم يأثم، والذين يرون أن المطلق يبقى على إطلاقه والمقيد يبقى على قيده، يقولون: من جر ثوبه خيلاء فقد أثم مرتين: أثم في الإسبال، وأثم في الخيلاء، والذي جر ثوبه من غير خيلاء أثم مرة واحدة في الإسبال فقط، فالمطلق على إطلاقه، والمقيد على قيده، وقد جاء نهيان: أحدهما مقيد، وهو ما كان بخيلاء، والآخر غير مقيد، وهو ما جاء بإطلاق.
وبعضهم يقدم على استباحة بعض المحرمات وكثيرًا ما يفعل ذلك ويستدل بحديث: (إنما الأعمال بالنيات)، ويقول: الأمور بمقاصدها، هذا غلط في الاستدلال، وإبعاد في النجعة، والواقع أن الإنسان لا يحل له أن يقترف ما نهى الله عنه بأي مقصد كان، ومثل هذا ما يحصل في كثير من الأحيان في بعض الوسائل، بعض الناس يرى أن الوسائل تبيحها المقاصد مطلقًا، فإذا كان المقصد صحيحًا أباح كل الوسائل، وهذه القاعدة غير شرعية وغير صحيحة، الوسائل ينظر إليها، فإن كانت منهيًا عنها لذاتها اجتنبت، وإن كانت مأذونًا فيها، ينظر إلى مقاصدها بعد ذلك، لكن لا يمكن أن تكون الغاية تبرر الوسيلة مطلقًا، لو كانت الغاية تبرر الوسيلة مطلقًا، لاقتضى هذا استباحة كل المحرمات، إذا صلحت نية الإنسان، وكان يقصد أمرًا مشروعًا؛ فلذلك لا بد أن ينظر في الوسائل، وتعرض على ميزان الشرع أولًا، ثم بعد ذلك ينظر في الغاية.
وبعض الدعاة يتوسعون في هذا الباب فيرتكبون كثيرًا من الأمور بحجة أنها لمصلحة الدعوة مثلًا، أو أن الغاية المقصودة منها صحيحة، وفعلًا الغاية المقصودة منها صحيحة، لكن الغاية لا تبرر الوسيلة، لابد أن ينظر إلى هذه الوسيلة بذاتها، هل هي مرضية شرعًا أم لا؟
وينتبه لقاعدة ارتكاب أخف الضررين، فهذه قاعدة أخرى تختلف عن هذه، فهذه إذا فرض على الإنسان ارتكابهما، لكن إذا كان الإنسان يمكن أن لا يرتكب واحدًا من الحرامين فليس له ارتكاب أخفهما، الإنسان ما دام بالخيار يمكن أن لا يرتكب أحد الحرامين، لا يجوز له ارتكاب واحد منهما، لكن إذا كان مضطرًّا، إما هذا وإما هذا، وليس هناك حل ثالث فهذا محل قاعدة الارتكاب، أي: محل ارتكاب أخف الحرامين والضررين هو عندما لا يكون للإنسان مخرج إلا بارتكابهما، مثل لوط عليه السلام، قال: هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ[هود:78]، فالاعتداء على الملائكة حرام كبير، وتزوج الكافر بالمسلمة حرام، ولكنه عرض ارتكاب أخف الضررين والحرامين؛ لأنه ليس له مخرج، وهو بحث عن كل المخارج، أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ[هود:80]، ما وجد أي شيء يتخلص به، فعرض هذا الأمر، قال: هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ[هود:78]، وقد يضطر الإنسان في بعض الأحيان لأمر من هذا القبيل.
مثل أحد المشايخ عندنا كان مريضًا، وطبيبته فرنسية، وستجري له عملية جراحية، فطلبت منه أن يصافحها، مدت إليه يدها، فتردد في المصافحة، ثم تذكر أنها ستكشف الآن عن بدنه جميعًا وتشقه، فاضطر لمصافحتها، ولكنه قال:
مدت إلي يدها وما طلبت مدها وردها من واجبي وما استطعت ردها
والحمد لله على أن لم تمد خدها والحمد لله على أية حال بعدها
هذا المختار بن حامد رحمة الله عليه.
وهنا تأتي قضية الديمقراطية وحكم المشاركة فيها فينظر فيها، فمثلًا: إذا كان الإنسان بين استبداد مطلق وبين انفتاح مطلق في قضية الديمقراطية، فنحن نعلم أن الشرع أمر بالشورى؛ فقد قال الله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ[الشورى:38]، وقال: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ[آل عمران:159]، وجاءت الشريعة بنفي الاستبداد وتحطيمه مطلقًا، فالشريعة تحرر الناس من العبودية للأغيار، لا يمكن أن يكون في الأرض إلا إله واحد جل جلاله، هو المألوه في السماء وفي الأرض، وهذا يقتضي عدم الاستبداد، فهذا المقصد الشرعي الكبير إذا تعارض لدينا، مثلًا: نحن عندنا الشورى مطلب شرعي، وليس لها وسيلة منصوصة، النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخرجوا إلي عرفاءكم) في غزوة أوطاس، وعرفاء الناس؛ أي: نوابهم؛ لأنه عرض على الناس أن يردوا على هوازن السبي، فكثر عليه الصخب، فما عرف من قبل ممن لم يقبل، فقال: (أخرجوا إلي عُرفاءكم)، فعرفاء الناس: هم النواب الذين ينوبون عنهم، والحديث في صحيح البخاري، كذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يستقيم الناس إلا بعُرفاء)، وهذا يقتضي أن أمر الناس لا يستقيم إلا بعُرفاء، وأن يكون للناس عرفاء ينوبون عنهم، واختيارهم ليس له وسيلة شرعية محددة في العهد النبوي كان الأمر محسومًا بالمرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومن يوله من أمرائه؛ لأنه قال: (من أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني).
ولما توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم احتيج إلى اختيار خليفة، ولم يعهد به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أوصى بالخلافة لأحد، وما نزل جبريل يعين أبا بكر مثلًا، فكانت بيعة أبي بكر فلتة ولكن الله اختاره، فاتفق الناس عليه؛ لأنه أفضلهم وخيرهم؛ ولذلك قال أحد شعراء قريش:
حمدًا لمن هو بالثناء خليق ذهب اللجاج وبويع الصديق
كنا نقول لها علي والرضا عمر وأولاهم بتلك عتيق
فهو أولاهم بالخلافة في الحقيقة، فعندما مرض أبو بكر عهد بها إلى عمر، ولم يأخذ عمر سلطانه من مجرد عهد أبي بكر، بل كان بمثابة الترشيح، قد وافق عليه المسلمون، فبايعوه جميعًا، فإمامة عمر إنما نالها ببيعة الناس له البيعة العامة، ولم يختلف عليه الناس، ولما طعن عمر ترك الخلافة في ستة توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وهذا يدل على أن ولي الأمر السابق له الحق في الترشيح، وأنه أولى الناس بالترشيح؛ لأنه أعرف، ولكن لابد أن يحذر من المحاباة فـعمر لم يرشح ابنه، وقال لما عرض عليه أن يجعله منهم، قال: هذا الذي لا يحسن طلاق زوجته، كيف أولِّيه أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن يحذر من المحاباة، وأن لا يخص أقاربه، حين تركها عمر في ستة توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وأردنا تطبيق الشورى التي أمر الله بها في الاختيار؛ لأن هؤلاء الستة كلهم مرضيون، لو تولاها أي واحد منهم أجزأ، كيف نختار من بينهم؟ أمرنا الله بالشورى، وليس لنا آلية ولا وسيلة خاصة لذلك، تنازل ثلاثة لثلاثة، وتنازل واحد- وهو عبد الرحمن بن عوف- للاثنين الآخرين- وهما علي وعثمان- بشرط أن يكون له الاختيار في السابق منهما، والاختيار لن يكون إلا بالترشيح؛ لأنهم هم ليسوا أولى بأمر الأمة من أنفسها، الرسول صلى الله عليه وسلم وحده هو الذي له هذا الحق، النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ[الأحزاب:6]، أما من دونه فليس أولى بالمؤمنين من أنفسهم، كل إنسان له حقه في الاختيار، فـعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه مكث ثلاث ليال لا ينام، وهو في مناجاة مستمرة، واتصال دائم بالناس، وكان يدخل على العذراء في خدرها، ولم يترك أحدًا إلا سأله، فترجح لديه أن جمهور الناس يرون تقديم عثمان، فبايعه، ولم يتهمه الناس في ذلك؛ لأن عبد الرحمن بن عوف محل ثقة، فقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتعيين بالجنة، شهد له في أهل بدر بالجنة، شهد له في العشرة المبشرين بالجنة، وشهد له في بيعة الرضوان بالجنة، وقال: (ما كان لنبي أن يموت حتى يصلي خلف رجل صالح من أمته) فكان عبد الرحمن بن عوف هو الوحيد الذي صلى وراءه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك رضيت الأمة بحكمه، ولم تسمع أي أحد يقول: إن عبد الرحمن لم يأخذ برأي الأكثر، ولم تسمع أي أحد يتهمه، لكن اليوم ليس لدينا شخص مثل عبد الرحمن بن عوف محددًا شرعًا، فاحتجنا إلى البحث عن وسيلة وآلية، ولا مانع من استيرادها من الخارج، كما نستورد كل الآلات، ونستورد آلات حتى لمعرفة أوقات صلاتنا.
والنبي صلى الله عليه وسلم استورد الأفكار الخارجية النافعة، ففكرة الخندق من حضارة فارس، وفكرة الخاتم من حضارة الروم، وفكرة المنبر من حضارة الحبشة، كلها من حضارات خارجية لم يكن العرب يعرفونها، فدل هذا على جواز الاستيراد في الأفكار، والديمقراطية إذا أخذت بهذا المعنى، كانت مجرد وسيلة لمعرفة رأي الأكثر، فهي معيار، مثل المكيال يكال به اللبن، ويكال به الخمر، صندوق الاقتراع يعرف به رأي الأكثر، قطعًا هو وسيلة لمعرفة رأي الأكثر، إنك إذا فرزت الأصوات، تعرف من يرى هذا الرأي، ونسبتهم إلى من يرى الرأي الآخر.
فإذًا: هذه الوسيلة لا حرج شرعًا في الأخذ بها، إذا جردت عن المعنى الأيديولوجي للديمقراطية، الديمقراطية لها معنًى آخر وهو المعنى الأيديولوجي، وهو حكم الشعب بالشعب إلى آخره، لكن إذا أخذناها بهذا المعنى، أنها آلة يعرف بها عدد المختارين لهذا الشخص، أو عدد المختارين لهذا الرأي، أي: مجرد آلة لمعرفة عدد المختارين، فلا حرج فيها شرعًا، بل تتعين إذا كانت في مقابل الاستبداد، نحن نعلم أن الديمقراطية فيها مشكلة -حتى ولو كانت آلة- وهي أن أصوات الناس فيها متساوية، العالم والجاهل، والرشيد والسفيه، أصواتهم متساوية، كل له ورقة، والله تعالى يقول: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ[القلم:35-36]، ويقول: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ[السجدة:18]، وهذا الاستواء يمكن أن يحمل على أنهم لا يستوون عند الله، وهذا في مقام الأجر والثناء، وهذا صحيح، يعني: لا اعتراض عليه، لكن يمكن أن يحمل-أيضًا- على العموم حتى يكون الرأي مختلفًا، ويكون مستوى التملك مختلفًا، وإذا حملناه على المعنى الأول، كان الفرق ضيقًا، فيكون الإنسان له حق التملك مطلقًا سواء كان سفيهًا أو رشيدًا، سواء كان صالحًا أو طالحًا، فله حق التملك، وهذا ملكه لا يتصرف فيه إلا بإذنه.
ومع هذا، فارتكاب هذا الحرام، لو قدر أنه حرام - الذي هو عدم التفريق في الأصوات بين درجات الناس- هو قطعًا أولى من الاستبداد الذي هو مخالف للمقصد الشرعي الكبير الذي سبق.
كذلك قد لا يصل الإنسان إلى التمكين إلا إذا مر بطرق -مثلًا- فيها القسم على دستور معين، وهذا الدستور فيه بعض المخالفات الشرعية، ويشترط عليه شروط قانونية، وهذه الشروط كثير منها مخالف للشرع، لكن لا يستطيع الوصول إلى تحقيق ما هو أكبر من المقاصد الشرعية إلا بها، وحينئذ تعارض عليه الفعل والترك، بين أن يترك، فيكون ذلك حكمًا بالمذلة، والهوان، والخنوع على هذا الدين وأهله إلى أبد الآبدين، وبين أن يشارك، فيكون ذلك وقوعًا في معصية معينة، ولكن فيه عز للإسلام والمسلمين، وفيه تخلص من تلك المعصية بالتدريج والتقسيط مع المدة، فحينئذ تأتي قاعدة ارتكاب أخف الضررين والحرامين، كما قال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام في مصالح الأنام: فسق الأئمة يتفاوت: فمن كان فسقه بالاعتداء على الأنفس، فهو أعظم ممن فسقه بالاعتداء على الأبضاع، ومن كان فسقه بالاعتداء على الأبضاع، فهو أعظم ممن فسقه بالاعتداء على الأموال، فترتكب أدنى المفسدتين والحرامين، هذه قاعدة العز بن عبد السلام، وهي قاعدة إجماعية.
فعلى هذا: يمكن أن يرتكب الإنسان هذا، ولا يلزمه الشروط القانونية المخالفة للشرع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعائشة رضي الله عنها: (اشترطي لهم الولاء، وأعتقيها؛ فإنما الولاء لمن أعتق. ثم وقف على المنبر خطيبًا، فقال: ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، كتاب الله أصدق، وشرط الله أوثق، والولاء لمن أعتق)، وهذا نص صريح: (اشترطي لهم الولاء وأعتقيها)، فـعائشة رضي الله عنها اشترطت لهم الولاء على ما شرطوا، ولكنها تعلم بطلان ذلك؛ لأنها لا يمكن أن تتوصل إلى مقصودها الذي هو عبادة لابد منها إلا بهذا.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر