إسلام ويب

متن ابن عاشر [2]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من مراتب الدين الإيمان, وهو قول باللسان, واعتقاد بالجنان, وعمل بالجوارح والأركان, وأركانه: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. ومن مراتب الدين: الإحسان, وهو إحسان العبادة, ومنه حسن الخلق مع الله ورسوله.

    1.   

    أركان الإيمان والمسائل المتعلقة بها

    الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد, وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فقد وصلنا إلى قول المؤلف رحمه الله:

    [ الإيمان جزم للإله والكتب والرسل والأملاك مع بعض قرب ].

    وقدر كذا صــــــــــراط ميــــزان حـــــــــــوض النبي جــنة ونــيران ]

    بعد أن عرف المؤلف الإسلام أولاً بالحد ثم عرفه بالتقسم -وهذان نوعان من أنواع التعريف- فتعريفه الأول هو تعريفه بالحد، وهو قوله: (وطاعة الجوارح الجميع قولاً وفعلاً هو الإسلام الرفيع).

    وعرفه بعد ذلك بالتقسيم بقوله:

    (قواعد الإسلام خمس واجبات هي الشهادتان شرط الباقيات

    ثم الصلاة والزكاة في القطاع والصوم والحج على من استطاع)

    بعد ذلك عرف الإيمان, وهذا ترتيب حديث عمر رضي الله عنه في حديث جبريل في صحيح مسلم، بدأ أولاً بتعريف الإسلام، ثم بتعريف الإيمان، فقال: (الإيمان جزم) أي: هو جزم بهذه الأركان الستة، أي: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره.

    تعريف الإيمان

    قال: (الإيمان جزم)، والمقصود به: الاعتقاد الجازم الذي لا يقبل الشك ولا الريب, (بالإله) أي: بالله جل جلاله أن تؤمن بالله.

    معنى الإيمان بالكتب

    (والكتب) أي: بكتبه المنزلة جملة، وبالأربعة المذكورة في القرآن، وهي: التوراة والإنجيل والزبور والقرآن تفصيلاً. ومثل ذلك صحف إبراهيم، وإن لم تسم، لكنها ذكرت في القرآن.

    معنى الإيمان بالرسل

    قال: (والرسل)، وهذا الركن الثالث من أركان الإيمان، وهو الإيمان برسل الله جميعاً، ورسل الله منهم رسل من الملائكة ورسل من البشر، كما قال الله تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75]، فرسله من الملائكة منهم جبريل عليه السلام، وهو أمينه على الوحي، ورسله من البشر قد سمي في القرآن منهم خمسة وعشرون، وأول الرسل إلى أهل الأرض نوح، وقيل: آدم، لكن الصحيح أن نوحاً كان أول الرسل إلى أهل الأرض عموماً، وأن آدم كان رسولاً إلى أولاده وحدهم فقط، ونوح كان مرسلاً إلى كل أهل الأرض بمن فيهم أولاده ومن سواهم، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، وهو خاتم النبيين وإمام المرسلين، ولم يرد حصر صحيح للرسل, وإن كان ورد في حديث أبي ذر عند ابن حبان حصرهم، ولكن الحديث لا يصح، وقد جاء فيه أن الأنبياء أربعة آلاف ومائة وأربعة وعشرون، وأن المرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشرة.

    معنى الإيمان بالملائكة

    قال: (والأملاك)، وهذا الركن الرابع من أركان الإيمان، وهو الإيمان بملائكة الله جل جلاله، وملائكة الله هم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، محضهم الله لطاعته وعبادته، ويجب الإيمان بهم إجمالاً، ويجب الإيمان تفصيلاً لمن ذكر في القرآن، وهم: جبريل وميكائيل، وكذلك روح القدس، وقد تكرر في القرآن، وكذلك مالك خازن النار، فهؤلاء جاء ذكرهم في القرآن، والراجح أن روح القدس هو جبريل عليه السلام، وكذلك ملك الموت، وقد سمي بملك الموت في القرآن، وسمي إسرافيل كذلك في أحاديث صحيحة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء يجب الإيمان بهم تفصيلاً: جبريل، وميكائيل، ومالك، وهؤلاء جاء ذكرهم في القرآن، وإسرافيل قد جاءت به الأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع ذلك جاءت أحاديث أخرى صحيحة بأسماء ملائكة آخرين، مثل ملكي السؤال، هما منكر ونكير، وقد صح بذلك أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    وهم لا يحصرون، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أطت السماء وحق لها أن تئط، فما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك لله فيه ساجد أو راكع )، والبيت المعمور رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، فإذا هو كل يوم يدخله سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه كل يوم، ويكفي من كثرتهم أن كل واحد من البشر معه واحد وعشرون من الملائكة، معه صاحب اليمين الذي يكتب الحسنات، وصاحب الشمال الذي يكتب السيئات، والقرين الذي يرشده إلى الخير وينهاه عن الغواية، وملائكة الجوارح على كل جارحة ملك، والمعقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله، والملائكة الذين يتعاقبون في الناس يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار )، فجميع ذلك واحد وعشرون ملكاً مع كل إنسان.

    معنى الإيمان باليوم الآخر

    قال: (مع بعثٍ قرب), هذا الركن الخامس من أركان الإسلام، وهو الإيمان باليوم الآخر، وهو هنا نوه له بالبعث، وقد جاء في حديث أبي هريرة في حديث جبريل من رواية أبي هريرة في صحيح البخاري وليس في حديث عمر ؛ فحديث عمر فيه: ( أن تؤمن بالله وملائكة وكتبه ورسوله واليوم الآخر )، وحديث أبي هريرة في صحيح البخاري: ( والبعث الآخر )، والبعث الآخر معناه: البعث بعد الموت، فالإنسان بعث البعث الأول في رد الروح إلى جسمه؛ لأن أعمار الإنسان خمسة: العمر الأول ما كان في عالم الذر ( عندما مسح الله ظهر آدم فأخرج منه ذرية، فقال آدم: أي رب من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للجنة فبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره أخرى فأخرج منه ذرية فقال آدم: أي رب من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للنار وبعمل أهل النار يعملون، ثم خلقهم حتى ما يتميزون فناداهم، فقال: ألست بربكم، قالوا: بلى، قالها مؤمنهم وكافرهم، وبرهم وفاجرهم جميعاً قالوا: بلى، فأخذ عليهم العهد في ذلك الوقت أن يعبدوه وألا يشركوا به شيئاً )، قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس:60-61].

    فأنت دخلت الوجود في حياة آدم؛ لأنك تكلمت فقلت: بلى، وأخذ عليك العهد، وأنت الآن تجدد ذلك العهد، كما أخرج البخاري في صحيحه من حديث شداد بن أوس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت, خلقتني وأنا عبدك, وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفري فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالهن في يومه فمات فيه دخل الجنة، ومن قالهن في ليلته فمات فيها دخل الجنة )، فهذا تجديد لذلك العهد الذي بينك وبين الله: (أنا على عهدك ووعدك ما استطعت)، فالعهد ألا تشرك به شيئاً، والوعد وعده لمن مات لا يشرك به شيئاً أن يدخله الجنة.

    ثم بعد ذلك حبست الأرواح في السماء الدنيا، وفي حديث المعراج: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما فتحت له أبواب السماء الدنيا، قال: فإذا آدم وعن يمينه أسودة وعن شماله أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فسألت جبريل: ما هذه الأسودة؟ فقال: نسم بنيه، أي: نسمات بنيه، أما الذين عن يمينه فأهل السعادة، وأما الذين عن شماله فأهل الشقاوة، إذا نظر قبل يمينه ضحك لكثرة أهل السعادة من بنيه، وإذا نظر قبل شماله بكى لكثرة أهل الشقاوة من بنيه ).

    ثم بعد ذلك تنزل الأرواح من السماء الدنيا إلى الأجنة في بطون أمهاتها فتنفخ فيها، كما في حديث ابن مسعود في الصحيحين: ( حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح )، و(أل) التي في كلمة (الروح) عهدية، وهي روحه المختصة به التي كانت محبوسة في السماء، ( فينفخ فيها الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه, وأجله، وعمله, وشقي أو سعيد )، ومن نفخ الروح في الجنين يبدأ العمر الثاني، فهذا العمر هو بعث، ولكنه البعث الأول، وليس البعث الآخر، فالبعث الأول: هو نفخ الروح فيك وأنت جنين في بطن أمك، وتمر بتسع مراحل في الخلق ذكرها الله سبحانه وتعالى في سورة المؤمنون فقال: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:12-14]، والمقصود بإنشائه خلقاً آخر تناميه من الصبا والضعف إلى القوة وتمام الأيدي، فعندها يبلغ أشده، ثم يرجع إلى الضعف والشيبة، ولذلك قال: ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:14-16]، فهذه تسع مراحل، وهذا العمر الثاني هو عمر الإنسان في هذه الحياة الدنيا فوق الأرض، ثم بعده العمر الثالث، وهو عمر الإنسان تحت الأرض في البرزخ، والعمر الرابع هو عمر الإنسان فوق الساهرة في المحشر، والعمر الخامس: هو عمر الإنسان الأبدي السرمدي في جنة أو في نار.

    فلذلك كان البعث الأخروي هو البعث الآخر؛ لأن قبله بعثاً، وهو نفخ الروح في البدن.

    قال: (مع بعث قرب) أي: هذا البعث قريب لا محالة، وكل ما هو آتٍ قريب، والله سبحانه وتعالى يقول: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1]، وأدلة قربه واضحة بارزة، فمنها أن هذه الدنيا أمم، وآخر الأمم فيها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم قرون، وقد مضى منها إلى الآن أربعة عشر قرناً، ونحن في القرن الخامس عشر الآن، فهذا يدل على أننا قطعاً في آخر أمم الدنيا، وأيضاً قطعاً في آخر هذه الأمة التي هي آخر أمم الدنيا، فلذلك لا ننتظر إلا الأشراط الكبرى، ومن بعد بعث محمد صلى الله عليه وسلم ما من دابة في يوم الجمعة إلا وهي مطرقة مصيخة تنتظر الساعة إلا الإنس والجن، كما ثبت في صحيح مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم وفيه أهبط وفيه تيب عليه، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مطرقة مصيخة من طلوع فجره إلى طلوع شمسه تنظر الساعة إلا الإنس والجن )، فجميع الدوام ما عدا الإنس والجن تنتظر الساعة من طلوع فجر يوم الجمعة إلى طلوع شمسه، إلا الإنس والجن. فلذلك البعث قريب لا محالة.

    الأمور الواجب الإيمان بها في اليوم الآخر على سبيل التفصيل

    وفصل المؤلف بعض ما هو داخل في الإيمان باليوم الآخر، فقال:

    (كذا صراط ميزان حوض النبي جنة ونيران)

    فهذه كلها داخلة مع البعث في الإيمان باليوم الآخر، فالصراط هو الجسر المنصوب على متن جهنم، وهو أرق من الشعر وأحد من السيف، وعليه كلاليب كشوك السعدان، يدخل في الكلوب الواحد سبعون ألفاً في النار، يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم من يزحف على مقعدته، فناجٍ مسلم, ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم، ونحن اليوم على صراط دنيوي هو تمديد للصراط الأخروي، وهو المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فبقدر استقامة الإنسان على الصراط الدنيوي تكون استقامته على الصراط الأخروي.

    قال: (ميزان), والميزان هو الذي توزن فيه أعمال الإنسان، وهو ميزان القسط يوم القيامة، له كفتان ولسان، توزن في الكفة اليمنى حسناته، وفي الكفة اليسرى سيئاته، كذلك هو من مشاهد القيامة.

    قال: (حوض النبي) صلى الله عليه وسلم وهو الكوثر المورود الذي لا يظمأ من شرب منه أبداً، وقد وعده الله رسوله صلى الله عليه وسلم: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1]، وهذا الحوض ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وكيزانه بعدد نجوم السماء، لا يظمأ من شرب منه أبداً، ويقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسقي الناس يردون إليه فيسقيهم ويطرد دونه نوعان من أمته:

    النوع الأول: المبتدعة الذين غيروا وبدلوا، فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا لا ألفين أقواماً أعرفهم، فيطردون دوني وأنا على حوضي، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فأقول: فسحقاً فسحقاً فسحقاً ).

    النوع الثاني: أعوان الظلمة الذين يعينون على المنكر، فقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنه سيستعمل عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن أوقاتها، ويكذبون في الحديث ويظلمون الناس، فمن صدقهم في كذبهم أو أعانهم على ظلمهم فلن يرد علي الحوض )، هؤلاء أيضاً دون النبي صلى الله عليه وسلم كما تطرد غرائب الإبل.

    قال: (جنة ونيران) أي: الجنة والنار، والجنة هي الجنان، فالجنة جنس، وفيها جنان متفاوتة، ففيها جنتان للمقربين، وجنتان لأصحاب اليمين، وقد بين الله تفاوت أهلهما في سورة الرحمن وفي سورة الواقعة، وفي الحديث: ( وإن أهل الجنة ليتراءون الغرف كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري في السماء لشدة تباعد منازلهم )، فهم درجات عند الله.

    والنار كذلك نيران، بتفاوت أهلها، فالمنافقون في الدرك الأسفل من النار، وفوقهم الكفار، وفوق ذلك عصاة المؤمنين، فهي أطباق ودرجات متفاوتة، لذلك قال: (جنة ونيران)، وكل هذا داخل في الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالبعث، والإيمان بسؤال الملكين، والإيمان بأشراط الساعة، والإيمان بالحشر إلى الساهرة، والإيمان بتجلي الباري جل جلاله لفصل الخصام، والإيمان بعرض الناس على الله عفاة عراة غرلاً مشاة: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104]، والإيمان بمجيء الإنسان يحمل طائره في عنقه، والإيمان بأخذه كتابه بيمينه, إن كان من أهل الإحسان يبيض الله وجهه حتى يحترق من نوره مسيرة خمسمائة عام، ثم تطيب يمينه فيعطى بها كتابه تلقاء وجهه، فيصيح من الفرح فيقول: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ [الحاقة:19-23].

    ومن كان من أهل الشقاوة ربطت يمينه فغلت إلى عنقه بسلسلة طويلة طولها سبعون ذراعاً، فتغل بها يمينه إلى رقبته، ثم بعد ذلك يثقب صدره من بين ثدييه حتى يخرج الثقب من بين كتفيه، ثم تدخل شماله من بين ثدييه حتى تخرج من وراء ظهره، فيعطى بها كتابه بشماله وراء ظهره، فيصيح من الجزع: فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ [الحاقة:25-27]، أي: يا ليت الثقب الذي كان في صدره كانت القاضية أي: المهلكة, فكل ذلك من الإيمان باليوم الآخر.

    مراتب الإيمان بالقدر

    قال: (وقدر)، وهذا هو الركن السادس من أركان الإيمان، وهو الإيمان بالقدر خيره وشره, حلوه ومره.

    والقدر أربع مراتب:

    المرتبة الأولى: علم الله بجميع الأشياء إجمالاً وتفصيلاً، فقد علم كل ما هو كائن قبل خلقه للكون كله، ولم يتجدد له علم بعد ذلك.

    المرتبة الثانية: كتابته لكل ما هو كائن في الصحف التي عنده فوق عرشه, وهي أم الكتب، ففيها كل ما يكون، وهاتان المرتبتان من القدر قديمتان، وهما المذكورتان في قول الله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59]، فهتان المرتبتان قديمتان.

    المرتبة الثالثة: توزيع ما هو كائن على الزمن، ففي ليلة القدر يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا [الدخان:4-5]، ومع كل جنين يكتب معه رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، وإن لهذه الأشجار لآجالاً كآجاله، حتى الشجر له آجال، فكل ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، وهو من خطة العام التي تنزل ويطلع عليها الملائكة.

    المرتبة الرابعة: تنفيذ ما علمه الله وكتبه وقدره في هذا العام في وقت وقوعه، فجلستنا هذه علمها الله قبل خلق آدم وقبل خلق السموات والأرض، وكتبها في أم الكتاب أيضاً، وقدرها في هذا العام أن تكون في هذا الوقت، ونفذها الآن، فجاءت على وفق ما علم قبل خلق آدم.

    أنواع الإيمان بالقدر

    ثم القدر أيضاً أربعة أنواع يجب الإيمان بهذه الأقسام الأربعة, وهي:

    النوع الأول: القدر الخير الحلو، وهو ما يقدر الله لعبده المؤمن مما يعينه على الطاعة، وما ينفقه من الرزق الحلال الذي يعينه على طاعة الله, ويغنيه عن المعصية، فهذا قدر خير؛ لأنه يقرب من الجنة ومن رضوان الله، وهو حلو؛ لأنه موافق لما يرده الإنسان ويهواه، فإذا أعطاك الله عمراً مديداً, وصحة في البدن, ورزقاً واسعاً ومالاً وأهلاً وولداً، فكل ذلك من القدر الخيري الحلو، فهو خير لك؛ لأنه يعينك على الطاعة, ويصرفك عن المعصية, ويغنيك عن المعصية، وفي الحديث: ( اللهم أغنني بحلالك عن حرامك, وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عن من سواك )، فهذا إغناء بالحلال عن الحرام، فهو خير، وهو كذلك حلو؛ لأنه موافق لما تحبه, فهذا النوع الأول.

    النوع الثاني: القدر الخير المر، وهو ما يصيب الله به عبده المؤمن من المصائب، فالمصائب التي تصيب المؤمنين هي من القدر الخيري؛ لأنهم إما أن تكفر سيئاتهم, وإما أن ترفع درجاتهم, فهي خير لهم على كل حال، ولكنها مرة؛ لأنها لا توافق هواهم، ولذلك قال الله تعالى: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3]، وقال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، وإنما يبتلى الرجل على قدر دينه )، فهذا البلاء ليس شراً للمؤمنين، وهنا حكمة عجيبة ذكرها ابن كثير رحمه الله في تفسيره في تفسير سورة الأنبياء في قصة أيوب عليه السلام، وأنتم تلاحظون أن قصة أيوب جاء فيها في سورة الأنبياء: وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:84]، وفي سورة ص: وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [ص:43]، فقوله: (ذكرى للأولي الألباب) الأمر فيها واضح؛ لأن أولي الألباب هم الذين يتذكرون ويعتبرون، لكن (ذكرى للعابدين)، لماذا خُصص العابدون؟ قال ابن كثير في تفسيره: أي: لا يظنوا أننا إنما نبتليهم لهوانهم علينا. فلا يظن العابدون أننا إنما نبتليهم لهوانهم علينا فقد ابتلينا من هو خير منهم، فإذاً: هذه هي الحكمة في قوله: وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:84]، أي: تذكرة للعابدين أن ما يصيبهم من المصائب ليس لهوانهم على الله؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ). وهذان النوعان من أنواع القدر يختصان لأهل الإيمان.

    النوع الثالث من أنواع القدر: القدر الشر الحلو، وهو ما يعجله الله لأعدائه من الكفرة والفجار، مما يعينهم على معصيته وهو موافق لهواهم، كما يفتح لهم من التكنولوجيا، وما يعجل لهم من قوة الدنيا، وما يحقق لهم من آمالهم في الحياة الدنيا، فكله من القدر الشر الحلو، فهو شر؛ لأنه يزيدهم طغياناً واستكباراً وجراءةً على الله وجسارة، كعاد الذين قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15]، وكفرعون الذين قال: أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى [النازعات:24]، وقال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي[الزخرف:51].

    وككفارنا المعاصرين اليوم الذين بلغوا من الطغيان ما بلغ فرعون وما بلغ عاد، وقد نبه الله على قدرته عليهم وأخذه لهم، ففي سورة القمر بعد أن بين الله لنا الطريقة التي أهلك بها الذين كذبوا نوحاً حين أمر السماء فانفتحت أبوابها بالماء المنهمر، وأمر الأرض فتفجرت عيوناً فَالْتَقَى المَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ[القمر:12].

    وأخبرنا بالطريقة التي أهلك بها الذين كذبوا هوداً حين سخر عليهم الريح العقيم ثمانية أيام حسوماً، فتركهم كالنخل المنقعر.

    وقص علينا الطريقة التي أهلك بها الذين كذبوا صالحاً حين أرسل عليهم الصيحة، فشقت أشغفة قلوبهم، فماتوا موتة رجل واحد.

    وقص علينا الطريقة التي أهلك بها الذين كذبوا لوطاً، حين أرسل عليهم الحاصب، فحمل قريتهم حتى سمع أهل السماء أصوات كلابهم ثم قلبها على الأرض وجعل عاليها سافلها، وأمطر عليها حجارة من سجيل منضود، مسومة عند ربك.

    وقص علينا الطريقة التي أهلك بها فرعون وجنوده، حين أمر البحر فالتطم عليهم، قال بعد ذلك: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ[القمر:43] أي: هل الكفار الذين يعاصرونكم وتخالطونهم وتخافونهم خير من أولئكم؟ هل الكفار الذين نعاصرهم اليوم هل هم خير من أولئك؟ الجواب: لا، ليسوا خيراً منهم في أي معيار من معايير الدنيا أو بمعايير العقل ليسوا خيراً منهم.

    ثم جاء الالتفات -وهو الانتقال من خطابنا نحن إلى خطاب الكفار مباشرة- فقال: أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ [القمر:43] أي: أم لكم أيها الكفار براءة في الزبر: أي في الكتب المنزلة من عند الله؛ ألا يأخذكم بمثل ما أخذ به السابقين، فأنتم جميعاً تؤمنون أن قدرة الله لم ينتقص منها شيء بعد إهلاكه لقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط، وفرعون وجنوده، لم ينتقص شيء من قدرته قدراً قطعاً.

    كذلك توقنون أنه قطعاً لم يحب الكفار ولن يحبهم، إذاً: هذا محل يقين، فلذلك ما أهون الأرض وأهلها على الله إذا عصوه، فمجرد نظرة واحدة تحرق الأرض ومن عليها، كما ثبت في صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله قيوم لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه، يرفع إليه أمر الليل قبل النهار، وأمر النهار قبل الليل حجابه النور -وفي رواية: حجابه النار, وفي رواية: قد احتجب بسبعين حجاباً: حجاب نور وحجاب نار، وحجاب نور وحجاب نار- لو كشف الحجاب عن وجهه لحظة لأحرقت سبحات وجهه ما وصل إليه بصره من خلقه).

    فإذاً: سهل على الله أن يأمر البحر فيبتلع ما فيه، والبر فيبتلع ما فيه، والجو فيبتلع ما فيه، والفضاء الخارجي فيبتلع ما فيه، لا يعجزه شيء من ذلك، فإذاً هذا النوع من القدر هو القدر الشر الحلو.

    النوع الرابع: من القدر هو القدر الشر المر؛ وهو ما يعجله الله من البلايا والمصائب لأعدائه الكفرة، مثل: ما يسلط عليهم من تحطم الطائرات، ومن حوادث السير، ومن الانفجارات وتحطم المراكب الفضائية, وتسرب الأشعة النووية، والأوبئة القاتلة, وانفلونزا الطيور، وغيرها من أنواع الأدواء، فكل ذلك من القدر الشر المهلك، فهو شر لهم؛ لأنه يعجلهم على النار، وهو مر؛ لأنه مخالف لهواهم وهم يكرهونه.

    إذاً: أنواع القدر أربعة:

    الأول: القدر الخير الحلو.

    الثاني: القدر الخير المر.

    الثالث: القدر الشر الحلو.

    الرابع: القدر الشر المر.

    إذاً: أركان الإيمان هي المذكورة هنا وهي ستة: الإيمان بالله، والإيمان بكتبه، والإيمان بملائكته، والإيمان برسله، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، وقد ذكرها هو فقال:

    (الإيمان جزم بالإله والكتب والرسل والأملاك مع بعث قرب

    وقدر كذا صــــــــــراط ميــــزان حـــــــــــوض النبي جــنة ونــيران)

    1.   

    مرتبة الإحسان

    ثم بعد أن عرف الإيمان ذكر تعريف الإحسان فقال:

    [ وأما الإحسان فقال من دراه أن تعبـــــد الله كأنك تــراه

    إن لم تكـن تـــراه إنه يـراك والدين ذي الثلاث خذ أقوى عراك ]

    قال: (وأما الإحسان)، فاقتصر في تعريفه على تعريف النبي صلى الله عليه وسلم له، (فقال من دراه) أي: من عرفه؛ وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل عنه، فقال: ( أن تعبد الله كأنك تراه ), فإحسانك للعبادة هو تزيينك لها.

    إحسان الإسلام والإيمان

    فالإيمان له إحسان, والإسلام له إحسان، وكل عبادة لله فيها إحسان، فالإسلام يُحسن، وكثير من الناس مسلمون ولكن لم يحسنوا إسلامهم، وكثير من الناس مؤمنون لكن لم يحسنوا إيمانهم، فتحسين الإيمان: أن يكون نوراً مشعاً يقتضي من صاحبه رقابة لأوامر الله ورقابة لنواهيه, وطلباً لمرضاته وخوفاً من عقابه, وأداء لحقه، هذا تحسين الإيمان.

    وتحسين الإسلام: أن تكون الطاعات على وفق ما شرع الله، فتأتي بالفرائض ثم تكملها بالسنن ثم تكملها بالمندوبات: ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه )، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: ( إن العبد إذا أسلم فحسن إسلامه محى الله عنه كل سيئة كان زلفها، ثم كان ذلك القصاص الحسنة بعشر أمثالها, والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوزها الله عنه ).

    ومن الأمثلة على حسن الإسلام حديث: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ). هذا من حسن الإسلام، فمن حسن إسلام الإنسان: أن يترك ما لا يعنيه، وأن يهتم بما يعنيه, وأن ينشغل به, فواجباته أكثر من أوقاته.

    الإحسان في حسن الخلق مع الله ورسوله

    ثم بعد ذلك حسن الخلق هو من الإحسان، وأعظمه: حسن الخلق مع الله، فالله جل جلاله يستحق أن يتأدب معه، وسوء الأدب معه جل جلاله: أن تريه من نفسك معصية، وأنت بين سمائه وأرضه وفي قبضته، وتحت سلطانه وسطوته.

    وكذلك من حسن الخلق مع الله: الكرم معه، فالإنسان الذي هو بخيل مع الله لئيم معه، كالذي ينذر أنه إذا أعطاه الله مالاً تصدق بكذا، فهذا بخل مع الله؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( النذر لا يرد من قدر الله شيئاً، وإنما ينتزع الله به من يد البخيل ).

    فالبخل مع الله هو شر الوعيد، واللؤم معه هو شر أنواع اللؤم، وسوء الأدب معه هو شر أنواع سوء الأدب.

    ثم بعد ذلك حسن الخلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بالنصيحة له, وحسن التأدب معه, وإكرامه غاية الإكرام، وإجلاله وتوقيره، فقد أمرنا الله بذلك فقال: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفتح:8-9].

    وقد قال مالك رحمه الله: لو أدركتم ما أدركت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، فقد أدركت جعفر بن محمد وكان ذا دعابة، فإذا ذكر عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى كأنه ما عرفك ولا عرفته، وأدركت محمد بن المنكدر وكان إذا حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصفر وجهه عنه حتى قمنا عنه ورحمناه.

    فقد كانوا يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً شديداً، وقد خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات ليلة يعس في المدينة، فسمع عجوزاً من الأنصار تنشد:

    على محمد صلاة الأبرار صلى عليه الطيبون الأخيار

    قد كنت قواماً بكاءً بالأسحار يا ليت شعري والمنايا أطوار

    هل تجمعني وحبيبي في الدار

    فجلس عمر على بابها يبكي حتى سمع الأذان؛ حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

    معنى الإحسان

    فالإحسان عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ( أن تعبد الله كأنك تراه)، ومعناه: أن تحسن العبادة؛ لأنك موظف في ديوان الخدمة عند الله جل جلاله، وقد وظفك في هذه العبادة، فالموظف إذا كان بين يدي من يوظفه ومن هو قادر على عزله سيحسن عمله، فكذلك أنت في عبادتك إذا أردت إحسانها فاعملها كأنك تراه جل جلاله، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فأنت إن لم تصل إلى هذا المستوى فاعلم أنه هو يراك قطعاً، فهو لا تحجب عنه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره، يعلم السر وأخفى، فهو أقرب إليك من حبل الوريد, فلذلك لا تستطيع أن تخفي عنه شيئاً.

    دخول المراتب الثلاث: الإسلام والإيمان والإحسان في مسمى الدين

    ثم قال: (والدين ذي الثلاث), ومعنى ذك: أن هذا الدين الإسلام الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله هو هذه الثلاثة: الإيمان، والإسلام، والإحسان.

    وقوله: (خذ أقوى عراك) معناه: تمسك من الإسلام بالعروة الوثقى، وهي أقوى ما لديك من العرى، والعرى: الأسباب التي ترتبط بها، فأقوى ما ترتبط به من العرى هو هذا الدين، فارتبط به فهو أقوى من رابطة النسب, وأقوى من رابطة المصلحة، وأقوى من كل الروابط الأخرى.

    نكتفي بهذا, والله تعالى أعلم, وصلى الله وسلم على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767946464