إسلام ويب

تفسير سورة الشمس [1]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أقسم الله في سورة الشمس بأحد عشر قسماً، وكان المقسم له هو فلاح من زكى النفس، وخيبة من دساها وهذا يدل على عظم شأن النفس عند الله جل وعلا، وإن صلاحها صلاح الدنيا والآخرة، ولا يكون ذلك إلا بتطهيرها من الأمراض والأدواء التي تعتريها وتستجلب غضب الله وعقابه، كالإشراك بالعبادة والتشريع والمحبة وغيرها، ثم علاجها من الصفات الذميمة كالبخل والغضب والكبر وغيرها

    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

    فقد كان من قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حادثة الإسراء والمعراج، أنه أسري به إلى بيت المقدس، حيث ربط البراق، وجمع له الأنبياء جميعاً فصلى بهم إماماً هنالك، ثم أصبح ببيته بمكة، فلما حدث بذلك قالت له أم هانئ : ( يا رسول الله! لا تحدث أهل مكة بهذا فيكذبوك، فقال: لأحدثنهم بذلك، فأتى ناديهم فأخبرهم فقالوا: ما سمعنا قولاً كهذا، إنه ليسير أحدنا إلى الشام شهراً ذهاباً وشهراً إيابا، وتزعم أنك سرت إليه ورجعت في ليلة واحدة، فما آية صدقك في ذلك؟ فأخبرهم أنه لقي عيراً لبني فلان من قريش بعقبة قريبة من بيت المقدس، وأنه قد ضل، وأنهم قد أضلوا بعيراً فدلهم على مكانه، وأنه مر على عير أخرى لهم في الليل ووجد قدحاً فيه لبن قد غطوه أي: قد خمروه، فشرب اللبن الذي فيه، ورد عليه الغطاء، وأخبرهم أنه مر على عير لبني فلان بالتنعيم وهو مكان قريب من مكة، وأنه يقدمها جمل أورق عليها غرارتان إحداهما بيضاء والأخرى سوداء، فقالوا: أما هذه فأقرب، فالأولى بعيدة مسافتها شهر وهذه قريبة، فخرج عاديهم -أي: المسرع منهم- يستقبل العير فوجدوها قد صعدت من الثنية، كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدمها الجمل الأورق، وعليه غرارتان إحداهما بيضاء، والأخرى سوداء. وكان أبو بكر غائباً فاستقبلوه فقالوا: أما سمعت ما يقول صاحبك؟ فحدثوه بذلك، فقال: إن كان قد قالها فقد صدق، فمن يومئذٍ لقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بـالصديق )، وقد جعل الله هذه القصة محنة للناس ليؤمن بها المؤمن ويصدق، وليكفر بها من لم يرد الله به الخير، ولذلك قال الله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً [الإسراء:60]. ‏

    وَالسَّمَاءِ [الشمس:5] ثم ذكر خلق السماء السادسة بقوله: وَمَا بَنَاهَا [الشمس:5]، فأقسم بنفسه سبحانه وتعالى، ووصف نفسه ببعض فعله وهو بناؤه للسماء، فالسماء بناها سبحانه وتعالى بأيد، وقد أثنى على نفسه ببنائه لها، فأفعال الله سبحانه وتعالى مثل صفاته يثنى بها عليه؛ لأن أفعاله غير معطلة عن الحكمة، فكل ما يفعله فهو منطلق من حكمته البالغة: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].

    والأصل أن (ما) لغير العالم، لكنها تستعمل للعالم نادراً مثلما هنا، ولذلك أمثلة في القرآن، كمثل قول الله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:1-6].

    ومثل قوله تعالى: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا [الشمس:5-6]. ومثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( سبحان ما سخركن لنا وما سبح الرعد بحمده ). كل ذلك من هذه النصوص التي استعملت فيها (ما) بمعنى (من)؛ لذلك قال ابن مالك في التسهيل عند ذكر الموصول المشترك:

    أما (من) فإنها للعالم وحده وله مع غيره بواسطة تشبيه به أو تغليبه عليه باختلاط، أو اختلاطه معه في عموم فصل بمن إلى أن قال: وأما (ما) فإنها لغير العالم وحده، وقد ترد للعالم نحو: سبحان ما سخركن لنا وما سبح الرعد بحمده، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون:3]، وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [الشمس:5]، ومعنى وَمَا بَنَاهَا [الشمس:5] أي: أن بنائها كان في يومين كما أخبر بذلك سبحانه وتعالى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت:12].

    والقسم هنا بالله سبحانه وتعالى مع إضافة هذه الصفة إليه دليل على عظمة هذه الصفة، فبناء السماء من عجائب خلق الله، ومن أعظم الأفعال، فلذلك وصف به نفسه وأثنى به على نفسه هنا، ولو كان هذا الفعل أقل شأناً لم يذكر في هذا المقام، ولذلك فإن من أدلة البعث بعد الموت الاستدلال بالخلق الأكبر على الخلق الأصغر، وقد ذكر الله أدلة البعث بعد الموت في خواتم سورة يس فقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس:77-81].

    فهنا استدل بخلق الأكبر على خلق الأصغر مع غيره من الأدلة الدالة على البعث بعد الموت، وقد بين الله سبحانه وتعالى كذلك أن خلق السماوات أعظم مما يستعظمه الناس من تصرفات المسيح الدجال فقال سبحانه وتعالى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57]، وهذه الآية الوحيدة التي جاء فيها ذكر الدجال في القرآن، فلم يرد للمسيح الدجال ذكر في القرآن إلا في هذه الآية وحدها، فالراجح في تفسير قوله تعالى: مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57]. أي: من خلق المسيح الدجال وما يصنعه، فالمقصود بخلقه فعله فقط؛ لأنه لا يخلق لأنه مخلوق والمخلوق لا يخلق، فالله هو خالق كل شيء.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088536254

    عدد مرات الحفظ

    777190529