إسلام ويب

تفسير سورة الشمس [1]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أقسم الله في سورة الشمس بأحد عشر قسماً، وكان المقسم له هو فلاح من زكى النفس، وخيبة من دساها وهذا يدل على عظم شأن النفس عند الله جل وعلا، وإن صلاحها صلاح الدنيا والآخرة، ولا يكون ذلك إلا بتطهيرها من الأمراض والأدواء التي تعتريها وتستجلب غضب الله وعقابه، كالإشراك بالعبادة والتشريع والمحبة وغيرها، ثم علاجها من الصفات الذميمة كالبخل والغضب والكبر وغيرها

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والسماء وما بناها)

    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

    فقد كان من قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حادثة الإسراء والمعراج، أنه أسري به إلى بيت المقدس، حيث ربط البراق، وجمع له الأنبياء جميعاً فصلى بهم إماماً هنالك، ثم أصبح ببيته بمكة، فلما حدث بذلك قالت له أم هانئ : ( يا رسول الله! لا تحدث أهل مكة بهذا فيكذبوك، فقال: لأحدثنهم بذلك، فأتى ناديهم فأخبرهم فقالوا: ما سمعنا قولاً كهذا، إنه ليسير أحدنا إلى الشام شهراً ذهاباً وشهراً إيابا، وتزعم أنك سرت إليه ورجعت في ليلة واحدة، فما آية صدقك في ذلك؟ فأخبرهم أنه لقي عيراً لبني فلان من قريش بعقبة قريبة من بيت المقدس، وأنه قد ضل، وأنهم قد أضلوا بعيراً فدلهم على مكانه، وأنه مر على عير أخرى لهم في الليل ووجد قدحاً فيه لبن قد غطوه أي: قد خمروه، فشرب اللبن الذي فيه، ورد عليه الغطاء، وأخبرهم أنه مر على عير لبني فلان بالتنعيم وهو مكان قريب من مكة، وأنه يقدمها جمل أورق عليها غرارتان إحداهما بيضاء والأخرى سوداء، فقالوا: أما هذه فأقرب، فالأولى بعيدة مسافتها شهر وهذه قريبة، فخرج عاديهم -أي: المسرع منهم- يستقبل العير فوجدوها قد صعدت من الثنية، كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدمها الجمل الأورق، وعليه غرارتان إحداهما بيضاء، والأخرى سوداء. وكان أبو بكر غائباً فاستقبلوه فقالوا: أما سمعت ما يقول صاحبك؟ فحدثوه بذلك، فقال: إن كان قد قالها فقد صدق، فمن يومئذٍ لقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بـالصديق )، وقد جعل الله هذه القصة محنة للناس ليؤمن بها المؤمن ويصدق، وليكفر بها من لم يرد الله به الخير، ولذلك قال الله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً [الإسراء:60]. ‏

    وَالسَّمَاءِ [الشمس:5] ثم ذكر خلق السماء السادسة بقوله: وَمَا بَنَاهَا [الشمس:5]، فأقسم بنفسه سبحانه وتعالى، ووصف نفسه ببعض فعله وهو بناؤه للسماء، فالسماء بناها سبحانه وتعالى بأيد، وقد أثنى على نفسه ببنائه لها، فأفعال الله سبحانه وتعالى مثل صفاته يثنى بها عليه؛ لأن أفعاله غير معطلة عن الحكمة، فكل ما يفعله فهو منطلق من حكمته البالغة: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].

    والأصل أن (ما) لغير العالم، لكنها تستعمل للعالم نادراً مثلما هنا، ولذلك أمثلة في القرآن، كمثل قول الله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:1-6].

    ومثل قوله تعالى: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا [الشمس:5-6]. ومثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( سبحان ما سخركن لنا وما سبح الرعد بحمده ). كل ذلك من هذه النصوص التي استعملت فيها (ما) بمعنى (من)؛ لذلك قال ابن مالك في التسهيل عند ذكر الموصول المشترك:

    أما (من) فإنها للعالم وحده وله مع غيره بواسطة تشبيه به أو تغليبه عليه باختلاط، أو اختلاطه معه في عموم فصل بمن إلى أن قال: وأما (ما) فإنها لغير العالم وحده، وقد ترد للعالم نحو: سبحان ما سخركن لنا وما سبح الرعد بحمده، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون:3]، وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [الشمس:5]، ومعنى وَمَا بَنَاهَا [الشمس:5] أي: أن بنائها كان في يومين كما أخبر بذلك سبحانه وتعالى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت:12].

    والقسم هنا بالله سبحانه وتعالى مع إضافة هذه الصفة إليه دليل على عظمة هذه الصفة، فبناء السماء من عجائب خلق الله، ومن أعظم الأفعال، فلذلك وصف به نفسه وأثنى به على نفسه هنا، ولو كان هذا الفعل أقل شأناً لم يذكر في هذا المقام، ولذلك فإن من أدلة البعث بعد الموت الاستدلال بالخلق الأكبر على الخلق الأصغر، وقد ذكر الله أدلة البعث بعد الموت في خواتم سورة يس فقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس:77-81].

    فهنا استدل بخلق الأكبر على خلق الأصغر مع غيره من الأدلة الدالة على البعث بعد الموت، وقد بين الله سبحانه وتعالى كذلك أن خلق السماوات أعظم مما يستعظمه الناس من تصرفات المسيح الدجال فقال سبحانه وتعالى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57]، وهذه الآية الوحيدة التي جاء فيها ذكر الدجال في القرآن، فلم يرد للمسيح الدجال ذكر في القرآن إلا في هذه الآية وحدها، فالراجح في تفسير قوله تعالى: مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57]. أي: من خلق المسيح الدجال وما يصنعه، فالمقصود بخلقه فعله فقط؛ لأنه لا يخلق لأنه مخلوق والمخلوق لا يخلق، فالله هو خالق كل شيء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والأرض وما طحاها)

    وقال سبحانه: وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا [الشمس:6]، وهذا القسم السابع وهو قوله: (والأرض)، فقد أقسم الله سبحانه وتعالى بهذه الأرض، وهي مخلوق عظيم من مخلوقاته، وهي تشمل الرطب واليابس، فربعها هو اليابس وثلاثة أرباعها هي البحار، وهذا الربع وحده جعله الله مأوىً ومسكناً للناس، كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً [المرسلات:25-26].

    فالأموات تؤويهم في بطنها، والأحياء تؤويهم فوق ظهرها، وقد جعلها الله سبحانه وتعالى تدور في هذه الفلك مثل غيرها من الكواكب، وسخر فوقها ما يحتاج إليه الخلائق من الحوائج، وجعل منها مثل السماوات أي سبع أرضين أيضاً؛ كما قال سبحانه: وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ [الطلاق:12].

    ولذلك صرح بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعاء دخول المدينة والذي فيه: ( اللهم رب السماوات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن ).

    أنواع الخلق والمنافع في الأرض

    وهذه الأرض جعل الله فيها من أنواع المنافع الشيء الكثير، وجعل فيها ثلاثة أنواع من أنواع الخلق؛ كما قال تعالى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت:8-9].

    وهذه الثلاث أنواع من أنواع الخلق وهي:

    النوع الأول: الجبال الراسيات التي تمنع الأرض أن تميد بالناس.

    والنوع الثاني من أنواع الخلق على هذه الأرض: البركة التي جعل الله فيها، وهي التي تقتضي الانتفاع بمياهها وثمراتها ونباتها.

    والنوع الثالث من أنواع الخلائق: هو تقدير الأقوات فيها، وهذا يشمل كل ما يحتاج إليه الإنسان من الأقوات كالأكسجين الذي يتنفس به فهو أعظم أقواته، وكالمواد التي يأكلها ويشربها ويلبس منها ويبني منها، وهذه هي ضروريات الإنسان الأربع التي تكفل الله بها لآدم في الجنة قال تعالى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى [طه:118-119]، ومعنى (ولا تضحى) أي: لا تبرز للشمس، والذي يحقق ذلك هو المسكن.

    فإذاً هذه هي الضرورات الأربع: المأكل والمشرب والملبس والمسكن، وكلها من الأقوات التي قدرها الله في الأرض، ( وهذه الأرض تكون يوم القيامة خبزة يتكفأها الجبار بيمينه، كما يتكفأ أحدكم خبزته نزلاً لأهل الجنة )، ولذلك يقول أهل الجنة: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ [الزمر:74]، فيورثهم الله الأرض نزلاً لهم يأكلونه وإدامها بلام ونون قيل: ما هذا؟ فقال: سمك وثور يشبع من زائد كبدهما سبعون ألفاً، وهذه الأرض تتبارك بركةً عظيمةً بخبز الجبار لها سبحانه وتعالى عندما يتكفأها بيمينه، فيزول عنها كل ما كان فيها من الأقذار والأوساخ والأضرار؛ لبركة يمين الجبار سبحانه وتعالى.

    وقد جعل الله فيها خلائق عظيمة وهي ما فيها من المعادن والأثقال والأحمال، وستلقي الأرض كل ذلك يوم القيامة قال تعالى: إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا [الزلزلة:1-2]، وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ [الانشقاق:3-5].

    وتشهد يوم القيامة كذلك إذا أذن الله لها بالكلام على كل عمل عُمل عليها.

    معنى قوله تعالى: (وما طحاها)

    وقال سبحانه: وَمَا طَحَاهَا [الشمس:6]، هذا القسم التاسع الذي أقسم الله به هنا فقد قال الله تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا [الشمس:1-6].

    فيكون القسم بقوله تعالى: (وما طحاها) هو القسم التاسع في هذه السورة، فقد أقسم الله سبحانه وتعالى بنفسه هنا، وأثنى على نفسه كذلك بصناعته للأرض وتهيئته لها للسكن، فلو كانت الأرض مستويةً تماماً لم يستطع الناس الاستقرار عليها؛ لكثرة ما ينتابها من الأمواج والتيارات المتحركة التي يحتاج الإنسان إلى ما يكافحها ويردها به.

    الحكمة من عدم استواء مناخ الأرض

    فلو لم تكن الأرض فيها تلال وفيها أودية وفيها جبال، وكانت مستوية تماماً لما استطاع الإنسان أن يبني عليها بناءً ولم يستقر عليها بحال من الأحوال، ولم يستطع الشجر أن يأخذ حياته وتمدده عليها.

    ولو كانت أيضاً على صورة متقاربة المناخ لما استطاعت أنواع الخلائق المتنوعة السكن عليها؛ لأنها لا يمكن أن تناسبها بيئة واحدة.

    فلذلك جعل الله منها تلالاً وجبالاً وسهولاً وأدوية، وجعل منها أماكن تصلح لزراعة نوع من النبات وأماكن أخرى لا تصلح لذلك وتصلح لنوع آخر، وجعل فيها من أنواع الأعشاب ما يتلاءم مع حاجة الناس، وجعل فيها كذلك من أنواع الطبقات التي تؤثر في المياه ملحاً وصفاءً وعذوبة، وغير ذلك مما تقتضيه حاجة البشر والحيوانات، فكل هذا من عجائب خلق الله في هذه الأرض، فلذلك أثنى على نفسه بهذا الفعل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ونفس وما سواها)

    ثم يقول الله تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا [الشمس:7]، هذه نكرة في سياق الإثبات فهي من ألفاظ الإطلاق، والمقصود بذلك: كل نفس وما سواها، فالأصل في هذا هو الشمول ولا يقصد به نفس واحدة، وقد ترد النكرة في سياق الإثبات للعموم؛ كقول الله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الانفطار:5]، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التكوير:14]. والمقصود بذلك علمت كل نفس ما أحضرت، علمت كل نفس ما قدمت وأخرت.

    الفرق بين المطلق والعام وعلاقة ذلك بقوله تعالى: (ونفس وما سواها)

    والفرق بين المطلق والعام: أن العام لفظ يتناول الصالح له من غير حصر دفعة واحدة، فإن لفظ الرجال يصدق على كل ما في علم الله من الذكور الآدميين، والمطلق لفظ يتناول الصالح له من غير حصر لكن على سبيل البدلية لا دفعة واحدة، كرجل في سياق الإثبات فإنه في الأصل يصدق على رجل واحد، لكن على كل رجل وحده ولا يصدق على الرجال جميعاً.

    وكل كذلك بحسب ما تضاف إليه ففي هذا المقام لو قيل: علمت كل نفس ما قدمت وأخرت، وكل نفس وما سواها مثلاً؛ لكان المقصود القسم بكل نفس وحدها، وذلك للتكثير فكل نفس قد خلقت خلقاً مستقلاً عن خلق غيرها من النفوس، ونفس الإنسان تختلف عن نفس الملك، وعن نفس الجان، وعن أنفس الحيوانات وعن أنفس ما لا نعلمه نحن من جنود الله سبحانه وتعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر:31].

    والنفس هي: ما به الحركة، أي: القوة التي يتحرك بها الشيء؛ ولذلك تطلق على الرياح، فيقال: أنفاس الهواء، والراجح أن أنفاس الهواء هي من النفس لا من النفس، والنفس هو: الهواء الذي يتنفس به، والذي يسمى علمياً بالأكسجين، فهذا الذي يسمى بالنفس وجمعه أنفاس، وأما النفس بالإسكان فجمعها نفوس، وقد تجمع على أنفاس نادراً، فمن الأنفاس قول الشاعر:

    سبحان من خص القليل بعزه والناس مستغنون عن أجناسه

    وأذل أنفاس الهواء وكل ذي نفس فمحتاج إلى أنفاس

    النفس والروح.. وعلاقة كل منهما بالآخر

    واختلف في النفس هل هي مرادفة للروح، أو هي أخص منها أو هي أعم منها؟ على أقوال يصعب الحسم فيها، فقد قالت طائفة من أهل العلم: النفس هي الروح، فما به الحياة هو الذي به الحركة، والحياة إنما تكون بقوة باطنية في النفس.. في الجسم، فإذا انتزعت منه مات، ولذلك تزايله وتنفخ فيه، والذي ينفخ هو الروح؛ لقول الله تعالى في ذكر مريم بنت عمران : فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا [الأنبياء:91].

    فكل ذلك المقصود به الروح التي يحيا بها الخلائق، وهي التي كان بها عيسى بن مريم ، ولذلك سمي عيسى روح الله .. روح منه، فهو الروح التي نفخت في جيب مريم ، أنفخها روح القدس الذي هو جبريل في جيب مريم فكانت عيسى بن مريم عليه السلام.

    هذا القول: بأن الروح هي النفس، هو قول كثير من المفكرين قديماً، وهو مذهب الفلاسفة، والقول الثاني بالتفريق بينهما: بأن النفس أخص من الروح فمعناه بعض قواها، يجعل الإنسان مؤلفاً من عنصرين كبيرين: عنصر ظاهري وهو البدن، وعنصر باطني وهو الروح، وكما أن للبدن أطرافاً وأعراضاً وألواناً، فكذلك للروح أطرافاً وأعراضاً وألواناً، فمن أعراض الروح عندهم النفس ومنها العقل، ومنها القلب ومنها البصيرة.

    وقد ذهب بعض أهل العلم أن هذه إنما هي أسماء للقوة نفسها، ولكنها تسمى باعتبار وظائفها، فإن أريد بها القوة التي بها الحركة سميت نفساً، وإن أريد بها القوة التي بها التفكير سميت عقلاً وذلك لأنه يعقل صاحبه عن المعاصي، وكذلك إن أريد بها ما به العاطفة والمحبة والكره ونحو ذلك سميت قلباً، والقلب سمي قلباً لتقليبه الأشياء حتى يظهر على حقيقتها، وإن أريد بها استشراف المستقبل سميت بصيرة، وهكذا كل قوة واحدة تسمى باعتبار وظائفها.

    وقيل: بل النفس عدد من القوى، فمنها النفس الأمارة بالسوء، ومنها النفس اللوامة، ومنها النفس المطمئنة، وقد سبق ذكر هذا التقسيم وهو تقسيم الصوفية لأنواع النفس، ويجعلون هذه مراحل فيمكن أن تكون نفس الإنسان أمارة بالسوء، ثم تنتقل وتصلح حتى تكون لوامة، ثم تترقى وتصعد حتى تكون مطمئنة، وقيل: أن للإنسان عدد من الأنفس، فله نفس خيرة ونفس شريرة، فالنفس الخيرة هي الداعية إلى الأعمال الصالحة، والنفس الشريرة هي الداعية إلى الأعمال السيئة.

    أنواع الخواطر التي تؤثر على توجه الإنسان

    وهذا القول لا يبعد عن القول السابق باعتبار القوى فإن المؤثرات التي تؤثر في توجه الإنسان في أصلها أربعة هي التي تسمى بالخواطر وهي: خاطر رباني من عند الله سبحانه وتعالى، وهو الإلهام الذي يقذفه الله في قلب العبد لتحرك دواعيه لفعل ما أمره به، وهذا الخاطر لا يكون إلا بالخير؛ لأن الله لا يأمر بالفحشاء، وهو ثابت لا يتزلزل فلا يجد الإنسان بد من أدائه؛ لأنه ألقي في روحه فتحركت له قواه الباطنية قبل أن تتحرك قواه الظاهرية.

    النوع الثاني: الخاطر الملكي، وهو اللمة في قرين الإنسان من الملائكة، ولكل إنسان قرين من الملائكة لا يأمره إلا بالخير، وهو الذي يسدده ويرشده، لكن أمره متذبذب فيأمره مثلاً بالصلاة فإذا امتنع أمره بقراءة القرآن، فإذا امتنع أمره بالذكر، فإذا امتنع أمره بالنوم ليصرف جوارحه عن المعصية، وهكذا فيختار للإنسان الأفضل فالأفضل، فإذا امتنع من أداء الأفضل دعاه إلى المفضول، وآخر ذلك النوم ليعطل جوارحه عن المعصية، فهو متذبذب، وقد يترقى الإنسان في بعض الأحيان بزيادة الإيمان والتقوى والعمل الصالح حتى يحس بقرينه من الملائكة، بل قد يحس بغيره من الملائكة، ولذلك في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لو تدومون على ما تكونون عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن ساعة وساعة ).

    وقد جاء عن عمران بن الحصين -رضي الله عنهما- أنه كان يسمع صاحب اليمين وصاحب الشمال وما يكتبان عليه، وكان يسلمان عليه إذا خرج من الخلاء، يسلمان عليه فيرد عليهما السلام، فلما اكتوى من مرض احتجب عنه شهراً فحزن على ذلك حزناً شديداً فلما برئ عاد إليه.

    وقد صح في الصحيحين أن أسيد بن حضير رضي الله عنه كان يقرأ القرآن بالليل وابنه يحيى في حوله في باحة الدار وحوله فرسه مربوطة فكان إذا قرأ نزلت من السماء ظلة فيها قناديل مضيئة، فإذا اقتربت من الفرس جالت الفرس وتحركت، فيخاف على ابنه من الفرس فيسكت فإذا سكت ارتفعت الظلة وسكتت الفرس، فبات على هذا فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: ( تلك الملائكة تنزلت لتسمع القرآن ).

    وقد رأى عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الملائكة المقاتلين معهم في المعارك التي شهدتها الملائكة وسمعوا بعض أصواتهم، ولم يزل الناس إلى زماننا هذا يسمعون بعض أصواتهم، منها ما يكون في المطر، ومنها ما يكون في الطواف، ومنها ما يكون في ليلة القدر من تسليمهم على الناس، ولم يزل الناس يسمعون ذلك إلى وقتنا هذا، فالذي يحس بذلك هو تلك القوة التي يدرك بها الإنسان اللمة الملكية.

    النوع الثالث من الخواطر: الخاطر النفساني، أي: الراجع إلى نفس الإنسان، وهذا تارة يكون بالخير وتارة يكون بالشر، والغالب فيه الثبات؛ لأن النفس لجوج، فإذا هوت شيئاً لجت به حتى يؤديه الإنسان.

    وقد وصفها عنترة بذلك في قوله:

    إني امرؤ سمح الخليقة ماجد لا أتبع النفس اللجوج هواها

    والخاطر الرابع: هو اللمة الشيطانية، فلكل إنسان قرين من الشياطين أيضاً وقرينه من الملائكة لكنه لا يأمره بالخير أبداً، بل لا يأمره إلا بالشر وأمره متذبذب فيأمره بالكفر، فإن عجز أمره بالكبائر، والفواحش فإن عجر أمره بما دونها من اللمم فإن عجز أمره بالمكروهات، فإن عجز أمره بخلاف الأولى، وهكذا يتدرج معه بالأوامر في المعاصي، فإن عجز عن وقوعه في المعصية دعاه بالاشتغال عن المفضول بالفاضل لئلا يربح الوقت، وهكذا.

    ذكر بعض لطائف وغرائب النفس البشرية

    وهذه النفس فيها عجائب عجيبة على أي قول من الأقوال درجنا، فلاشك أن هذه الحياة التي تحل في هذا الجسم الذي هو من تراب وهو هامد فتجعله يتحرك، وتجعله يسمو تارة، ويتردى تارة أخرى، وتجعل همته ترتفع وتنخفض، كل ذلك من عجائب صنع الله سبحانه وتعالى.

    ومن الغريب لطفها ودخولها إلى كل مكان من الجسم، فكل شعرة من الإنسان فيها روح وفيها نصيبها من الحياة، وفيها تغذيتها من الدم، وهي تمرض وتصح، وكل عضلة منه كذلك، وكل خلية من خلايا بشره فيها هذه الحياة، ثم من الغريب كذلك انتزاعها دفعة واحدة عند الموت فتخرج من كل شعرة ومن كل خلية ومن كل نواة ومن كل نوية في جميع أطراف الجسم في طرفة عين.

    ومن غرائب أمورها كذلك الإحساس باللذة والألم، فإذا الإنسان أوتي ثلاثة أنواع من أنوع الحس والإدراك وهي: الحس البدني الذي هو بواسطة الحواس الخمس، والحس العقلي الذي هو بواسطة الإدراك العقلي لترتيب المقدمات بعضها على بعض، والحس النفسي الروحي وهو الذي يحس به الإنسان اللذة والألم، وهذا الحس لا يستطيع الإنسان إقناع الآخرين به؛ لأنه قاصر عليه؛ ولهذا ينام الشخصان على فراش واحد وفي لباس واحد فيبيت أحدهما في روحه ورؤياه في غاية اللذة، والآخر في غاية الألم، وهما في نفس المكان ونفس اللباس، ولكن أحدهما رأى رؤيا مروعة مرعبة آلمته وآذته، والآخر رأى رؤيا سارة فألتذ لها .. وهكذا.

    فهذه من العجائب وهي مثل قضايا القبور، فالقبر الواحد يجتمع فيه من هو في غاية النعيم، ومن هو في غاية العذاب، وتخلط عظامهما وذراتهما فلا هذا يحس بشيء من نعيم هذا، ولا هذا يحس بعذاب هذا، لا يصل إلى هذا شيء من نعيم هذا ولا هذا شيء من عذاب هذا، كما يحصل تماماً للنائمين يضع أحدهما رجله على رجل الآخر، أو يده على يده وهذا يحلم برؤيا مروعة مرعبة والآخر يرى رؤيا سارة.

    وهذه الروح بعد نفخها في البدن تكون حياتها حياةً مشتركة مغلوبة بالبدن، فالحياة الدنيا يغلب فيها البدن على الروح، والحياة البرزخية يغلب فيها الروح على البدن، فالبدن تأكله التراب في أغلب الأحيان، أما الحياة الأخروية فلا تغلب فيها الروح على البدن ولا البدن على الروح، ولذلك كانت الحياة الحقيقية كما قال الله تعالى: وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64]، أي هي الحياة المتجددة الحقيقية التي لا تغلب فيها الروح على البدن ولا البدن على الروح، بخلاف هذه الحياة الدنيا التي يغلب فيها البدن على الروح، وبخلاف الحياة البرزخية التي يغلب فيها الروح على البدن.

    ولذلك فإدراك الروح غير معقول، ولا يمكن أن يضبط بضوابط العقل ولا بضوابط الحس، فمادام الإنسان يقضاناً لا يستطيع أن يرى المستحيل؛ لأن عقله يمنعه ويحجزه عن التفكير في المستحيل، وجوارحه أيضاً تريه الزمان والمكان وهما حدوده فلا يستطيع الحركة منهما، فإذا نام رأى المستحيل فانطلقت نفسه فيمكن أن يرى القرون السالفة، ويمكن أن ينتقل من مكان إلى مكان ناء في طرفة عين؛ لأنه لم يعد محجوزاً بحاجز الزمان ولا بحاجز المكان ولا بحاجز العقل.

    تأثير الرياضة الروحية على عناصر الإنسان الأساسية

    وقد يقع هذا للإنسان اليقظان ولكن بسبب الرياضة الروحية، وهذه الرياضة تؤثر في البدن وفي العقل وفي الروح، فالإنسان عناصره ثلاثة قابلة للترويع، فرياضة العقل تقتضي من الإنسان أن يصل إلى مستوى من الإدراك والتفكير شبه مستحيل لدى غيره، ولذلك الذين اكتشفوا القوانين الرياضية الكبيرة كالقانون الذي بسببه صنعت القنابل النووية والذرية مثلاً، ومثل قانون الكهرباء الذي بسببه انتقل العالم نقلة نوعية لم يعهد لها مثيلاً، أو قانون السلكون الذي بسببه أيضاً انتقل العالم نقلة عجيبة في مجال تخزين المعلومات والكمبيوتر ونحوها، أو قانون الطيران الذي بسببه أيضاً انتقل العالم هذا الانتقال العجيب، أو قانون الاتصال الذي بسببه حصلت النقلة العجيبة، فهذه كلها رياضات عقلية أدت بأصحابها إلى اكتشاف ما كان موجوداً من قبل، ولم يزل موجوداً منذ الأيام الأربع الأولى في خلق الأرض، فكل هذه الأمور كانت مخلوقة في الأيام الأربع الأولى في خلق الأرض؛ كما قال الله تعالى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت:8-9].

    لكن لم تكن عقول البشرية متجهة لاكتشافها ومع ذلك أيضاً جعل الله لكل شيء قدرا، فلم يكن أحد ليسبق القدر وإنما كتب الله ذلك للذين نالوه في وقته، وقد يكون تشريفاً، وقد يكون أيضاً امتحاناً بالمقابل؛ كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35].

    ولهذا يقول ابن متالي :

    وقسمة الحظوظ فيها يدخل فهم المسائل التي تنعقل

    فيحرم الذكي من فهم الجلي إن لم يكن من حظه في الأزل

    كذلك رياضة البدن فإنها تقتضي أن يفعل الإنسان أفعالاً لم يكن مدركاً لها ولا مستطيعاً لها، فيمكن أن يتعود على السباحة فيقطع ثلاثين ميلاً بحرياً في الساعة، وقد حصل ذلك لكثير من السباحين في عصرنا الحاضر، أو يكون عداء فيقطع ثلاثين كيلو متراً في الساعة الواحدة في البر، وكذلك أفعال أهل الرياضات كحمل الأثقال، فيحمل الإنسان الذي وزنه لا يزيد عن ستين كيلو جرام ثلاثمائة كيلو جرام، ومثل هذا في المشي على الحبال، أو المشي المعكوس فيمشي الإنسان على يديه ويرفع رجليه، فهذه الرياضات صعبة جداً، ومنها رياضة التسديد في الضربات، فيضع الإنسان مثلاً الجزرة أو واحدة الخيار على جبين إنسان ويضربها بالسيف ضربة حادة يقسمها دون أن يتأثر الإنسان.

    فهذا نوع هو من الرياضات التسديد الحاصلة التي أبدع فيها البشر ووصلوا فيها إلى مستويات عجيبة كلها بالترويض، كما كان الأولون يفعلون في ترويض البهائم على القفز كالقفز على الحواجز والقفز على الأنهار .. وغير ذلك.

    رياضة الروح وتأثير ذلك على الإنسان في النوم واليقظة

    وكذلك رياضة الروح فهي من هذا القبيل؛ ولذلك فأنا لا أنكر أن الذين ادعوا أنهم رأوا بعض ما يمكن أن يرى في الأحلام أنهم رأوه في اليقظة أن يكون هذا صحيحاً، وأن يكونوا غير كاذبين، ولكن عندما رأوا رؤيا في اليقظة فذلك راجع إلى ضعف عقولهم وأبدانهم في ذلك الوقت، فلما ضعفت العقول والأبدان قويت الروح عليها، فأصبحت لا يحجزها الزمان والمكان ولا يحجزها العقل أيضاً على أن تتصور المستحيل، فتصورته فكانت رؤياهم، ولكن رؤيا اليقظة أنزل وأضعف من رؤيا النوم، فرؤيا النوم أمر طبيعي للبشر ولذلك تفسر وتشرح، وتتحقق وهي من المبشرات، وهي تسر ولا تضر، ورؤيا اليقظة أدنى منها وأضعف وقد لا تكون قابلة للتفسير، وقد لا تكون قابلة لأن تكون من المبشرات.

    ولهذا تجد أن بعض العلماء كـالسيوطي وغيره جعلوا يعتذرون أو يلتمسون الصدق من الذين يزعمون أنهم رأوا الأنبياء في اليقظة كالنبي صلى الله عليه وسلم مثلاً، ويقيسون ذلك على رؤية الملك والجن -وهذا غير صحيح بالنسبة لرؤية الملك والجن- من الأمور التي يمكن أن تقع بواسطة الحس؛ لأنهم موجودون على وجه الأرض أحياء، وهي حياة ليست كالحياة البرزخية، بل هي حياة عادية، وأما الأنبياء فلا أحد منهم اليوم على وجه الأرض، وحياتهم إنما هي حياة برزخية ليست كالحياة الدنيوية، ولذلك لا يأكلون اليوم ولا يشربون، ولا يكلفون بالصلاة ولا بالصوم ولا بالجهاد ولا بالعبادات فقد قطعت تكاليفهم، ولو كانت حياتهم حياة دنيوية لوجب عليهم الجهاد اليوم، ولما قصروا فيه، ولكانوا يأكلون ويشربون، ولما جاز أن يخلفهم يخلفوا، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم حياً حياةً دنيوية لم يكن أبو بكر خليفة ولا عمر ولا عثمان ولا علي .

    الفرق بين رؤيا النوم ورؤيا اليقظة

    ولذلك الذين يزعمون أنه يسافر فوق الأرض ويحل ضيفاً على مكان كذا ويأتيه بوقت كذا، هؤلاء إنما يعتمدون على التخييل، ومن كان منهم في حال الترويض الروحي -وهو نادر جداً- ووصل إليه منهم سواءً كان مسلماً أو غير مسلم -فالترويض الروحي لا يختص بالمسلمين؛ لأنه مجرد رياضة روحية- يمكن أن يراه في اليقظة كما يراه في النوم رؤيا نوم، لكنها مجرد تخييل روحي كرؤيا النوم تماماً، إلا أنها أضعف منها، فرؤيا النوم لا يتمثل به الشيطان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من رآني في المنام فقد رآني؛ فإن الشيطان لا يتمثل بي ).

    أما رؤيا اليقظة فيمكن أن يتمثل به الشيطان، ويمكن أن لا تكون رؤية حقيقية، ولذلك لا يراه على صورته الحقيقية، فيراه شيخاً كبيراً قد انحنى ظهره أو شاباً، أو يراه أسوداً، أو غير ذلك من الأوصاف التي ليست هي من صفات النبي صلى الله عليه وسلم.

    فعموماً هذه النفس هي من عجائب صنع الله سبحانه وتعالى وعجائب خلقه؛ ولذلك أقسم الله بها ولا يقسم بشيء من خلقه إلا لمزيته كما ذكرنا من قبل.

    معنى قوله تعالى: (وما سواها)

    وَمَا سَوَّاهَا [الشمس:7]، أقسم بنفسه سبحانه وتعالى، وقد سبق الكلام في (ما) وإطلاقتها وتسوية النفس أي: جعلها مساويةً للبدن ليست أكبر منه ولا أصغر منه، وجعلها مساوية لما ينبغي أن يتجه إليه البدن أيضاً، فمن الخلائق ما تكون روحه نفسه داعية له إلى المآكل والمشارب فقط، ولا يفكر في غير ذلك كالحيوان البهيمي، ومنها ما تكون روحه داعية له إلى العبادات فقط، لا تدعوه إلى المآكل ولا إلى المشارب كما في الملائكة، وبعضها تدعوه إلى كل ذلك كالإنسان الذي يجمع بين خصائص مختلفة، فذلك كله بتسوية النفس، والنفس السوية هي التي تدعو الشيء إلى ما خلق له هذا السوي، فالنفس التي تدعو الإنسان إلى المعاصي هذه نفس غير سوية، والنفس التي تدعوه إلى التحلل من الأخلاق والقيم نفس غير سوية، والنفس التي تدعوه كذلك إلى الترهب والتزهد والإعراض عن مخالطة الناس نفس غير سوية، فالنفس السوية هي التي تجعله إلى الوسط بين هذا وتجعله يزاول عمله خليفة في الأرض بإصلاح ما فيها، والانتفاع بما فيها من وسائل النفع التي أعدها الله له. فإذاً أثنى على نفسه بفعل من أفعاله وهو تسويته للنفوس، والله سبحانه وتعالى يستحق الثناء لذاته، ويستحق الثناء لصفاته، ويستحق الثناء لأفعاله، فلذلك أثنى على نفسه بهذا الفعل العظيم وهو تسويته للنفوس.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فألهمها فجورها وتقواها)

    وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:7-8]، رتب على تسوية النفوس إلهامها فجورها وإلهامها تقواها، فالفجور هو الانحراف عن الطاعة، والتقوى: التزام الطاعات، والفجور مصدر فجر إذا عصا، والتقوى أصله وقى من الوقاية، ومعناه: أن تجعل بينك وبين سخط الله وقاية من طاعة الله، وإلهام ذلك أي: جعل النفس تتوجه إليه، فالنفوس قسمان: فمنهم شقي ومنهم سعيد، فالشقي ألهم الفجور، والسعيد ألهم التقوى، وكلاهما خلق لذلك، كما قال تعالى: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:118-119]. وكما قال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ [الأعراف:179]. فهم ذرئوا لذلك.

    ولذلك جاء في حديث مسح الله ظهر آدم أن الله تعالى مسح بيمينه ظهر آدم ببطن نعمان، وبطن نعمان هو: وادي عرفة الذي يقف فيه الناس الموقف في كل سنة، ويسمى بطن نعمان، ولذلك قال النميري:

    تضوع مسك بطن نعمان أنبشت به زينب في نسوة الخذرات

    يخبئن أطراف البنان من التقى ويخرجن جرح الليل مختبرات

    ومسح الله فيه ظهر آدم بيمينه فأخرج منه ذرية فقال: رب! من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره ثانية فأخرج منه ذرية فقال: أي رب! من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للنار وبعمل أهل النار يعملون، ثم جمعهم حتى ما يتبينون، جمعهم جميعاً حتى لا يفصل بين من هو شقي ومن هو سعيد، من خلق للجنة ومن خلق للنار، فناداهم جميعاً فقال: ألست بربكم؟! قالوا: بلى. قالها مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، فأخذ عليهم العهد في ذلك الوقت بعبادته وعدم عبادة الشيطان؛ كما قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس:60-61].

    سبب أفضلية سيد الاستغفار وشرحه

    وهذا العهد هو الذي يذكره الإنسان في الصباح والمساء في حديث سيد الاستغفار، فقد أخرج البخاري وغيره من حديث شداد بن أوس -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت )، ولهذا هو سيد الاستغفار، فهو أفضل الاستغفار، وهو: (اللهم أنت ربي) إقرار بربوبيته (أنت ربي لا إله إلا أنت)، إقرار بألوهيته ونفي الإلاهية عمن سواه.

    وقال: (خلقتني): إقرار له بذلك، (وأنا عبدك)، وهذا من مقتضيات خلقه، (وأنا على عهدك)، وهو هذا العهد: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [يس:60].

    وقال: (ووعدك) وهو وعده لمن مات لا يشرك به شيئاً أن يدخله الجنة، (وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت) أي: على حسب الاستطاعة؛ لأن الإنسان كما ذكرنا عرضة للانحراف لما يحيط به من الجبهات الخمس المفتوحة، (أعوذ بك من شر ما صنعت) هذا استغفار واستقالة للعثرة (أعوذ بك من شر ما صنعت)، وشر ما صنعه الإنسان هو الذنوب.

    ومعنى قوله: (أبوء لك بنعمتك علي) أي: أقر لك بنعمتك علي، ومنها نعمة الخلق والرزق والهداية.. إلى آخره، (وأبوء بذنبي) معناه: أقر لك بذنبي وتقصيري، (فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).

    مسح الله لظهر آدم لتمييز الشقي من السعيد من ذريته

    وهنا هذا المسح لظهر آدم تمايزت فيه ذريته من أهل الجنة ومن أهل النار، وفي حديث المعراج أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح له باب السماء الدنيا رأى آدم وعن يمينه أسودة، وعن شماله أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل يساره بكى، فسأل جبريل فقال: نسم بنيه، فالذين عن يمينه أهل الجنة، والذين عن شماله أهل النار.

    فلذلك لا يمكن أن يخلف ما كتب، ففي أم الكتاب كتب سعادة السعداء وشقاوة الأشقياء، وينزل ذلك مع الإنسان وهو جنين في بطن أمه؛ كما في حديث ابن مسعود في الصحيحين: ( حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات ). وهذه هي السابقة كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:101-103].

    فمن سبقت له الحسنى من الله سبحانه وتعالى فهو السعيد، ومن سبقت له السوأى فهو الذي يختم له بخاتمة السوء -نسأل الله السلامة والعافية- وهو الشقي؛ ولذلك قال السيوطي رحمه الله:

    من كتب الله سعيداً في الأزل فهو السعيد ثم بعد لا بدل

    وهكذا هو الحال مع الشقي، فكل بحسب ما كتب له، ولكن هذا القدر من الكتابة والسابقة ليس بها تكليف أمر، فكل ميسر لما خلق له، فالتكليف إنما هو بالشرع لا بالقدر، فإذا قدر الله على الإنسان أن يكون تقياً فلابد أن يعمل عمل الأتقياء، وإذا قدر عليه أن يكون شقياً فلا بد أن يعمل عمل الأشقياء، ولو كان فيما يرى الناس في فترة من حياته يعمل عمل الأتقياء، ففي باطنه خلاف ذلك، ولذلك يظهر عند الموت.

    وكذلك إذا كان يعمل فيما يظهر للناس عمل الأشقياء، وهو من الأتقياء فلابد أن يكون في باطنه حزيناً ندماناً على ما يبلغ منه، تائباً إلى الله والناس لا يستشعرون ذلك؛ ولهذا يظهر هذا عند الموت، كالرجل العاصي الذي أخذ على بنيه العهود والمواثيق إذا هو مات أن يحرقوا جثته، وأن يجعلوا رماده نصفين، فيذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، قال: فلئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات فعلوا به ما أوصى، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، فقال: أي عبدي ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا ربي! فغفر له.

    فهذا على فجوره وعصيانه كان في باطنه يخاف الله، ويشبهه في ذلك رجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقب حماراً؛ لكثرة ما يشرب الخمر ويؤتى به رسول صلى الله عليه وسلم ويجلده، فلما مات تكلم فيه رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو في حياته، فقال: ( لا تفعل فإنه يحب الله ورسوله )، فهذا الرجل باطنه يختلف عن ظاهره ولذلك فلابد أن يختم له بالخاتمة الحسنى؛ لأنه يحب الله ورسوله.

    ومثل هذا ما حصل في قزمان وكان من أشد الناس شجاعة في قتال العدو يوم أحد، فلما رأوه وأعجبهم بلاؤه سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه، فقال: ( هو في النار ). فلما قال ذلك عجب أصحابه، فتعجبوا من هذا الرجل الذي يقاتل العدو ويجالدهم بأشد القتال بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في النار على ذلك نسأل الله السلامة والعافية، فخرج أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتابعه حتى يعرف خاتمته، فلما أثخنته الجراح وأثقلته وضع قائم سيفه في الأرض واتكأ عليه في بطنه حتى خرج من ظهره، فقتل نفسه حين آلمته الجراح، فكان ذلك خاتمته، نسأل الله السلامة والعافية.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767964158