بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى تفضل على عباده بأن جعل لهم مواسم للخيرات، يتسابق فيها المتسابقون، ويتنافس فيها المتنافسون، ويفضل الله سبحانه وتعالى فيها العمل ويزيد ثوابه، ويرجحه في كفة الحسنات ويضاعفه، ومن أعظم هذه المواسم في السنة شهر رمضان المبارك الذي خصه الله بكثير من الخصائص، من أعظمها؛ أنه جعل صيامه ركناً من أركان الإسلام، فمن أنكر وجوبه كفر، ومن أقر بوجوبه وتعمد تركه كسلاً أو تكاسلاً فإنه يحال بينه وبين الأكل والشرب والمفطرات طيلة النهار، ويعاقب بالتعزير حتى يتوب.
وكذلك من خصائصه: أن الله سبحانه وتعالى أنزل فيه هذا القرآن الذي ختم به الكتب المنزلة إلى أهل الأرض، فقد نزله في ليلة القدر من شهر رمضان، يقول الله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]، وكذلك قال الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1].
وخصه الله سبحانه وتعالى كذلك بأن جعل فيه ليلتين عظيمتين هما: ليلة القدر التي نوه الله بشأنها، ورفع قدرها، ونسبها إلى القدر، وقد اختلف أهل التفسير في معناه على قولين:
القول الأول: أن معناها التقدير، ففيها يفرق كل أمر حكيم أمراً من عند الله سبحانه وتعالى.
والقول الثاني: أن القدر معناه الشأن، فقد عظم الله منزلتها، وقدرها قدرها، فلذلك سميت ليلة القدر، والليلة الثانية هي ليلة العتق من النار، وهي آخر ليلة من ليالي رمضان، فإن الله سبحانه وتعالى يعتق الصائمين والصائمات المقبولين عند الله سبحانه وتعالى من نار جهنم في هذه الليلة، وقد سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أليلة القدر هي؟ قال: لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره عند نهاية عمله ).
كما خص الله هذا الشهر بوجود العشر الأواخر منه، ولها مزيتها وفضلها، وهي مجال من مجالات التنافس، ولذلك خصها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمزيد عناية كما في الصحيح من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر جد واجتهد، وشد المئزر، وأيقظ أهله، وأحيا ليله، ودخل معتكفه ).
وكذلك مما خصه الله به أنه جعله عوناً للمؤمنين على الجبهات المفتوحة عليهم في الحياة الدنيا، فالإنسان جعل الله له هذه الحياة الدنيا دار امتحان، وفتح عليه فيها خمس جبهات يجاهد فيها، فإذا انهزم أمام أي جبهة من هذه الجبهات كان من الخاسرين الغاوين، وإذا استطاع المقاومة والصبر والصمود أمام جميع الجبهات كان من الفائزين الناجحين المفلحين.
والجبهات الخمس أولاها جبهة الشيطان الذي يأتي الإنسان من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، يريد إغوائه عن طريق الله، قال: ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:17].
وقد أقسم بعزة الله ليغوين أكثرهم: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]، وقد أخبر الله أن يمينه تحققت في أكثر الناس، قال الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ:20]، وهذه الجبهة أعان الله عليها في رمضان بتصفيد مردة الشياطين، وتصفيدهم معناه: جمع أيديهم وأعناقهم في سلاسل، لا يستطيعون الحراك ولا التصرف معها، فهم أسرى طيلة هذا الشهر، ولا يفكون من أسرهم إلا بعد صلاة العيد كما ذكر محمد بن عبد الباقي الزرقاني وغيره.
والمردة هم أقوى الشياطين، ولذلك اسمهم مشتق من التمرد الذي هو الخروج عن الطاعة، أو التعود على المعصية، فيقال: مرد فلان على الطاعة معناه: خرج منها، ومرد على المعصية معناه: تعود عليها، ولذلك قال الله تعالى: مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ [التوبة:101] معناه: تعودوا عليه، فيقال: مرد على الطاعة بمعنى: خرج عنها، وتمرد عليها، ويقال: مرد على المعصية أيضاً معناه: تعود عليها ولزمها.
وقد ذكر أهل العلم المعتنون بعجائب المخلوقات أن الواحد من المردة قوته كقوة مائة وعشرين من بقية الجن، وقد أعاننا الله بتصفيدهم جميعاً، فضاقت جنة إبليس، وقل أعدادها، وضعف جندها بهذا التصفيد، ولذلك تجدون المعرضين عن الله جل جلاله الذين لا يتحملون شهود الصلاة في الجماعة، ولا يتحملون ختم القرآن، في رمضان يسهل عليهم ذلك، ويتيسر لهم، فتجدون المساجد تمتلئ في الأوقات كلها، مما يدل على أن هؤلاء المردة لهم قوة عجيبة رهيبة في التأثير على الإنسان، والحيلولة بينه وبين الخير.
ثم الجبهة الثانية: هي جبهة النفس الأمارة بالسوء، فنفس الإنسان التي بين جنبيه عدو له إلا من رحم الله، وذلك أنها أمارة بالسوء كما قال الله تعالى: إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف:53]، ووجه أمرها بالسوء أنها تركن دائماً إلى الهدوء والراحة، فتريد من الإنسان النوم، والإخلاد إلى الراحة، ولا تريد منه التضحية والبذل، ولا تريد منه التعب والنصب، بل تريد منه أن يكون مطففاً، يأخذ كل حقه دون استثناء، ويتساهل في أداء حقوق الآخرين ما استطاع، وقد قال الله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:1-6].
وقد قال الإمام مالك رحمه الله في الموطأ: يقال لكل شيء: وفاء وتطفيف، فما من شيء إلا وفيه وفاء في إكماله وإتمامه، وفيه تطفيف بنقصه والتقصير فيه، ولذلك أخرج مالك في الموطأ: أن عمر كان يخطب يوم الجمعة على المنبر، فدخل رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرآه عمر فقال: ما هذا التأخر يا فلان؟! قال: ما هو إلا أني كنت في عملي فسمعت النداء فتوضأت وأتيت، فقال: والوضوء أيضاً! لقد طففت.
فالغسل يوم الجمعة قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم )، والمفروض أن يأتي الإنسان مبكراً؛ لأن ( من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنةً، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرةً، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجةً، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ).
فهو جاء متأخراً بعد أن فاتت الساعات الخمس كلها، ومع ذلك توضأ أيضاً ولم يغتسل، فلذلك قال: والوضوء أيضاً! لقد طففت. فكذلك النفس لا ترضى من الإنسان إلا أن يكون مطففاً يحاول نقص حقوق الآخرين تجاهه، ويحاول أن يأخذ هو كل حقوقه من الآخرين، فإذا نقص شيء من حقوقه ثارت ثائرته، وتحرك لأخذ حقه كاملاً، ويغضب إذا ووجه بما يكرهه وهو يواجه الآخرين بما يكرهون، ويغضب إذا نقص شيء من راتبه أو من حقه غضباً شديداً، وفي المقابل ينقص هو من العمل.
ونجد هذا التخفيف في التعامل مع الأزواج، ومع الأولاد، ومع الوالدين، ومع الجيران، ومع الدعوة، ومع القرآن، ومع الوظيفة العملية، ومع جميع الناس، فكل ذلك من التطفيف الذي حذر الله منه، وأعاننا الله على النفس الأمارة بالسوء الداعية إلى التطفيف في رمضان بأن حال بينها وبين هواها، فالنفس تهوى المطاعم والمشارب والملذات والشهوات، وقد حيل بينها وبين ذلك بصيام رمضان، فالإنسان ما دام صائماً لا يحتاج إلى أكل، ولا شرب، ولا جماع، ولا شهوة، فاشتغاله إنما يكون بالطاعة التي خلق من أجلها، والنفس تنقاد لذلك وتستجيب له إذا عودها الإنسان عليها، فأهل العلم يمثلون للنفس بالدابة إذا عودها الإنسان على العمل فإنها تكون منقادةً له، تتهيأ له إذا رأت لجاماً أو بردعةً أقبلت، وأما إذا أهملها فإنها تكون كالدابة الحرون الشرود إذا رأت لجاماً أو بردعةً نفرت؛ لأنها تكره العمل، فإذا تعودت عليه أحبته، وكان من عادتها الطبيعية كالسواني التي تسقي بلا سائس يسوقها، فهي تتعود على الذهاب والرجوع وحدها، فكذلك النفس، ولهذا قال البوصيري :
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فهي محتاجة إلى فطمها عن المعاصي، وإلى تعويدها على الطاعات؛ لما في ذلك من ترويضها وتهيئتها لتحمل مسئولياتها.
ثم بعد ذلك الجبهة الثالثة من هذه الجبهات الخمس: وهي جبهة قرناء السوء، فالإنسان في هذه الحياة لا بد أن يعامل الناس، ويخالطهم، والناس ثلاثة أقسام: أخ كالغذاء لا يستغني عنه الإنسان أبداً، وهو الذي يعينه على أمور دينه، فيذكره إذا نسي، ويعلمه إذا جهل، ويساعده إذا ذكر، ويذكره بالله سبحانه وتعالى بمجرد رؤيته وبقوله وباشتغاله وعمله، فهو مشتغل بالله طيلة وقته، فإذا رآه الإنسان ذكر الله بذلك، كما قال ابن عاشور رحمه الله: يذكره الله إذا رآه؛ وذلك بانشغاله بالله جل جلاله، وقد قال ابن عطاء الله الإسكندراني رحمه الله في حكمه: لا تصحب من لا ينهضك حاله، ولا يدلك على الله مقاله، فمن ينهضك حاله أن يقوي عزيمتك، ويرفع همتك ما هو مشتغل به وما هو عامل؛ هو الذي ينبغي أن تصحبه، ومن ليس كذلك فعليك أن تنفر منه؛ لأنه لا يدلك على الله مقاله، ولا ينهض همتك حاله.
والأخ الثاني: أخ كالدواء يحتاج إليه الإنسان في بعض الأحيان دون بعض، وهو الذي يعين على أمور الدنيا، فيقرض الإنسان إذا احتاج إلى القرض، ويتصدق عليه إذا احتاج إلى الصدقة، ويبيع له بالدين إذا احتاج إلى ذلك، وينصح له في أمور دنياه إذا شاوره، هذا الأخ ينبغي أن يزهد الإنسان فيما في يده، وأن يتقلل منه ما استطاع؛ لأنه دواء، والدواء لا يستعمل إلا عند أمس الحاجة إليه، فالإنسان ما دام يجد حمى خفيفة أو نازلة خفيفة لا ينبغي أن يستعمل الدواء، ولا يستعمله إلا بإشارة الطبيب، وأيضاً لا يستعمله إلا في أوقات محددة، وتعرفون الإعلان العالمي المكتوب على جميع الأدوية وهو: إن هذا الدواء مستحضر مضر بصحتك، فننصحك بالابتعاد عنه، فهذا الذي ينبغي أن يكتب على إخوان الدنيا جميعاً، الذين يعينون عليها، فيقال: إن هذا الأخ معين على أمور الدنيا فقط، فننصحك بالابتعاد عنه، وعدم اللجوء إليه إلا للضرورة القصوى، أو ما ينزل منزلة الضرورة من الحاجة، وهذا النوع من الإخوان في هذه الحياة لا يعدون من قبيل الأعداء؛ لأن فيهم نفعاً ولو كان ذلك النفع دنيوياً لكنه نفع موجود، والدنيا هي مطية الآخرة، وقد تنفع فيها.
أما القسم الثالث: فهو أخ كالداء لا ينفع الإنسان في دين ولا ينفعه في دنيا، فلا يعظه، ولا يذكره، ولا يعلمه ما جهل، ولا يعينه على أمور الدنيا، فلا يجد منه أي نفع، يشغل وقته في غير طائل، ويضيع عمره في غير مقابل، وتصل إليه عدواه من أقواله وأفعاله وأخلاقه وتصرفاته، فهذا النوع من الإخوان هو مهلكة للعمر، ومضيعة له، ولذلك جعلهم الله أعداءً للإنسان، فقال تعالى: الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67].
وقال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].
فلذلك كانت هذه الجبهة جبهةً عظيمةً مثل سابقتيها، وعكسها إخوانه في الخير الذين يعينون الإنسان عليه، فقد أمر الله بملازمتهم ومصاحبتهم، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، وقال: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28].
وهذه الجبهة أعان الله عليها بشهر رمضان، وذلك أن إخوان السوء لا يركنون إلا إلى مجالس اللهو واللعب، والإقبال على الحياة الدنيا، والإعراض عن الآخرة، فإذا وجدوا مجلساً جاداً يقبل أهله على الله، فيتعظون، أو يقرءون القرآن، أو يسمعون درساً، أو يصلون فإن إخوان السوء سيفرون من هذا المجلس ولا يتحملونه ولا يطيقونه أصلاً، فهم لا يريدون إلا المجالس التي دأبوا عليها، وهي من جنسهم، وهم بمثابة ذباب لا يقع إلا على القذر، فهم يبحثون عن مجالس اللغو واللهو، ومعصية الله، والإدبار عن الآخرة، والإقبال على الدنيا، فتلك مجالسهم، وإن الطيور على أمثالها تقع.
والجبهة الرابعة: هي مفاتن هذه الحياة الدنيا وشهواتها، فالدنيا ضرة الآخرة، وفيها مفاتن وشهوات، والإنسان مغرم بها مولع بها، ولا يمكن أن يتخلص منها إلا بمعرفته بها، وحذره من غوائلها، واجتنابه لمضارها، وهذه الحياة الدنيا وحل، فتمسك الإنسان وتقيده عن الإسراع في إقباله على الله سبحانه وتعالى، إن لم تصرفه عن الدار الآخرة بكلية عطلته وأخرت سيره عنها، وفيها كثير من الملهيات والمشغلات التي تدل الإنسان على التسويف وطول الأمل، فيؤخر عمل اليوم لغد، وقد يأتي الموت قبل غد، ويقبل على المفاتن التي لا يدري هل ينجو منها أم لا، فالنظرة الواحدة قد توبقه؛ لأنها تقود إلى ما وراءها، وقديماً قال ابن القيم رحمه الله:
كل الحوادث مبدأها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم عورة بلغت في قلب صاحبها كمبلغ السهم بين القنص والوتر
والمرء ما دام ذا طرف يقلبه في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
وكما قال الآخر:
فإنك إن أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
وكذلك تعلق النفس بأي شيء من زخارفها، فإنه يقتضي الانشغال به، والاهتمام به، ولو كان الإنسان لا يدركه، وقد قال عمرو بن العاص رضي الله عنه:
إذا المرء لم يترك طعاماً أحبه ولم ينه قلباً غاوياً أين يمما
قضى وطراً منه وغادر سبةً إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما
فلذلك هذه الدنيا في الواقع عدو للإنسان، وضرر ماحق به، ولذلك حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا، فإنها خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم، إلا آكلة الخضر، فإنها رتعت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت، ثم رتعت، ولنعم صاحب المسلم هي إن أطعم منها الفقير والمسكين وابن السبيل ).
والله تعالى يقول: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:131-132].
فمفاتن الدنيا وشهواتها جبهة مفتوحة على الإنسان، ومما يعين الإنسان عليها من شهر رمضان أن رمضان مذكر بالآخرة، والإنسان فيه كأهل الآخرة، فأنتم تعرفون أن أهل القبور أسارى ذنوب لا ينفكون، وأهل قرب لا يتزاورون، والأرواح محبوسة -في بعض الأحيان- بأفنية القبور في أوقات معينة، وأهل الآخرة مشغولون؛ لأنهم قد قدموا إلى ما قدموا، وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47]، والصائمون أيضاً عندنا يشتغلون في الاعتكاف فكأنما هم في قبورهم؛ لأن المعتكف منقطع عن الدنيا وأهلها، ومقبل على الله بطاعته، ومنكسر القلب، ومستعد للبكاء من خشية الله، وللاتعاظ بما يتدبره هو من كتابه، وللأنس به جل جلاله، وللوحشة من خلقه جميعاً، فبينه وبين الناس وحشة، وهو في أنس بالله جل جلاله وإقبال إليه، وهذا عون على مفاتن الحياة الدنيا وشهواتها جميعاً؛ لأن الإنسان إذا تخلص من حقوق الدنيا فإنه يسعد بذلك، فهذه الحياة الدنيا إنما هي عبارة عن حاجات ومشكلات، وأعراض متكررة، فإذا نجا الإنسان من حاجاتها ومشكلاتها فكأنما هو في الآخرة، وقد ذكرت لبعض السجناء من قبل أنهم بمثابة أهل الآخرة؛ لأنه لا يهمهم شيء في الحياة الدنيا، ولا ما فيه أهلها، فليس عليهم تكاليف اليوم فيما يطعمه أهليهم وما يشربونه وما يلبسونه، وليست عليهم أية تكاليف في البيت، إنما يزوروهم الناس كما يزورون المقابر، فهم بمثابة أهل الآخرة، فكذلك الذي يتخلص من شأن الدنيا فإنه عرضة لأن يزهد فيها، ولذلك جاء الهدهد إلى سليمان فقال له: أكلت اليوم نصف تمرة، فعلى الدنيا العفاء، وقد ذكر ذلك عن صرد أيضاً قال: أكلت اليوم نصف تمرة، فعلى الدنيا العفاء، إذا احترقت الدنيا بكاملها، أو شملها الغبار فإنه لا يضره ذلك؛ لأنه أخذ حظه منها هذا اليوم، فكذلك الصائم لا يحتاج إلى طعام، ولا شراب، ولا شهوة أخرى، فهو مشتغل بالله سبحانه وتعالى، مقبل عليه، فلذلك يستغني عن زخارف الدنيا وشهواتها، ولا تساوي عنده شيئاً إذا كان من أصحاب القلوب ومن المتدبرين المتثبتين الذين ينتفعون بالذكرى.
أما الجبهة الخامسة: فهي نعم الله سبحانه وتعالى على عباده، وهي مسبغة لا تحصى، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53].
وهذه النعم العظيمة الناس فيها على أربعة أقسام:
القسم الأول: الذين لا يعرفون النعمة بوجودها، وإنما يعرفونها بزوالها، فما دام أحدهم آمناً في سربه، معافىً في جسمه، لا يشكو سرطاناً في كبده، ولا فشلاً في كلاه، ولا ضعفاً في عضلة قلبه، ولا عمىً في بصره، ولا صمماً في أذنيه، ولا شللاً في أطرافه؛ لا يحس بهذه النعمة، فإذا أصيب بشيء من هذه المصائب ذكر ما كان فيه من النعمة، فحظه منها حينئذ الندم حيث لا ينفع الندم، ولا يمكن أن يشكرها لله بعد زوالها.
أما القسم الثاني من الناس: فهم الذين يعرفون النعمة بوجودها، لكن لا يعرفون من أين أتت، فهم يظنون أنها من كدهم وجدهم واجتهادهم وميراثهم عن آبائهم وأجدادهم، حالهم حال قارون قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ [القصص:78].
وهؤلاء أيضاً لا يشكرونها لله؛ لأنهم يزعمون أنها من عند أنفسهم، وتعرفون حديث الأبرص والأعمى والأقرع، فاثنان منهم قالا للملك المرسل إليهم للامتحان: ( إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر )، وهما كاذبان فيما قالا.
ثم بعد ذلك القسم الثالث: الذين يعرفون النعمة بوجودها لا بزوالها، ويعرفون أنها من عند الله لا من عند أنفسهم، ولكنهم ينشغلون بالنعمة عن شكرها، فهم يهدبونها آناء الليل وأطراف النهار، ويشتغلون بها انشغالاً عظيماً، حالهم حال المخلفين من الأعراب، قال الله تعالى: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنْ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا [الفتح:11]، وقد حذر الله من هذا الحال إذ قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11].
وقد ذكر لي أحد التجار المشتغلين ببيع الأسهم ومتابعتها، جاء إلى مكتبه في الصباح، فجلس على المكتب، وجعل يتابعهم ويشتري الأسهم، إذا ارتفع مؤشر سهم من الأسهم ضغط الزر على وكلائه ليبيعوا ما بأيديهم من تلك الأسهم، وإذا انخفض مؤشر سهم آخر ضغط الزر عليهم ليشتروا تلك الأسهم المنخفضة، ويدخل عليه العامل فيضع على المكتب كأس الشاي، فإذا برد جاء فأخذها ووضع مكانها كأساً أخرى، وهو لم يشرب شيئاً من تلك الكأسات، ولم يلتفت إلى شيء من أعماله الأخرى حتى أغمي عليه، فاتصل عماله بالمستشفى فجاءت سيارة الإسعاف لحمله، فأجريت له الفحوص كاملةً، فإذا هو سليم ليس به أي مرض إلا الجوع والعطش، لانشغاله بالحياة الدنيا واهتمامه بها نسي نفسه، فجعل نفسه خادماً للدنيا بدل أن تخدمه هي، وجعل نفسه راعياً لشئونها وصحتها بدل صحته هو، وهذا النوع من الناس كيف يشكرونها لله وهم مشغولون بها أصلاً.
ثم بعد ذلك القسم الرابع: الذين يعرفون النعمة بوجودها لا بزوالها، ويعرفون أنها من عند الله لا من عند أنفسهم، ولا يشتغلون بها عن شكرها، بل يصرفونها في مرضات الله؛ لأنهم يعلمون أن كل نعمة من عند الله جاء معها كتابها وهو الكتلوج المخصص لها فيه طريقة استعمالها، والمأذون فيه من الاستعمال والمرفوض الممنوع، فهم يطبقون ذلك على وفق ما جاء في كتابها، وهؤلاء لا يزلون ولا تختل أجهزتهم؛ لأنهم مارسوا العمل على وفق التعليمات التي جاءت معها، وهؤلاء هم الشاكرون.
والشكر صرف العبد ما أولاه مولاه من نعماه في رضاه
وهم قليل كما قال الله تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ [سبأ:13] نسأل الله تعالى أن يجعلنا أجمعين منهم.
وهذه النعم فتنة للإنسان كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:14-15]، والفتنة جبهة مفتوحة على الإنسان؛ لأن الله تعالى يقول: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، فيحتاج الإنسان إلى عون عليها، ورمضان معين عليها؛ لأنه معين للإنسان على الكرم والجود والسخاء، ومعين له على استغلال الوقت في الطاعة، فقد برمج له برنامج واضح جداً، فالنهار في صيام، والليل في قيام، وفيه وقت معين للقرآن، ووقت للصدقات، وتفطير الصائمين، ومساعدة المحتاجين، وهي خيرات كثيرة جداً يأتي بها هذا الشهر مما يدل على أنك أعنت فيه على هذه الجبهة أيضاً، وبهذا تكون قد أعنت على جبهاتك الخمس برمضان.
كذلك فإن رمضان منفعة لك بجميع أجزائك وعناصرك، فأنت مؤلف من ثلاثة عناصر: هي العقل والبدن والروح.
العقل الذي به شرف الإنسان على سائر الحيوان، والعقل نماؤه وزيادته وتطهيره مطلب يحتاج إليه الإنسان، فالإنسان العاقل هو الذي لا يرضى عن عقله، ويريد استشارة غيره ليزداد عقلاً، ويريد الدراسة ليزداد علماً حتى يتنور عقله، ولذلك قال ابن عطاء الله الإسكندراني : ما من أحد إلا وهو راض عن الله بعقله، وأقلهم عقلاً أرضاهم به. فأقل الناس عقلاً يظن أنه أعقل الناس، وقد قال أبو الطيب المتنبي :
يخلو من الهم أخلاهم من الفطن
فمن كان أقل فطنةً فهو أخلى الناس من الهم والغم؛ لأنه مرتاح البال دائماً، وقد قال الشيخ محمد علي رحمة الله عليه:
هو الحظ منه نعمة وبلاء وفي كل هذا حكمة وقضاء
فبالكيس يشقى أهله وهو راحة
الكيس: العقل، فبالكيس يشقى أهله، من كان عاقلاً جداً يرى تقلبات الدنيا، ويرى ما حوله من المصائب والفتن فيعيش مغموماً، ويبيت مهموماً.
فبالكيس يشقى أهله وهو راحة ويسعد أهل النوك وهو عناء
النوك: الحمق، يسعد أهل النوك وهو عناء
ترى الحبر بالأسحار تهمي دموعه وترفث في أسحارها الدأثاء
الدأثاء: الأمة الحمقاء.
يهاب أبا الشبلين في الغاب مثله ويأمنه من مستوى الضعفاء
وقد يزدري الآسي الدواء وهو قاتل وليس له في الخافقين دواء
وربة داءٍ أرق العين نبضه وفي طيه عند البلاء شفاء
وتعضد في هودائها السدر والسري وتسلم في جرعائه النسحاء
فلذلك يحتاج الإنسان إلى زيادة عقل، ومن ذلك التجربة وزيادة العلم والاستشارة، ومعرفة الدروس والعبر من هذا الكون، والمقارنة بين الآيات المستورة والمنظورة لتقوم الحجة على الإنسان بها، وكذلك التدبر في معاني القرآن، قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2]، فيحتاج الإنسان إلى زيادة عقله، والصوم فيه زيادة للعقل؛ لأن العقل مناخه الذي يستطيع فيه النماء والزيادة والحركة هو الحرية، فالإنسان ما دام تحت الأغلال والضغوط فتفكيره محدود، لكن إذا وجد فرصةً من الحرية وفساحةً منها فإنه سينطلق في تفكيره، ويستطيع أن يبدع وأن ينتج، والصائم محرر من ضغوط الدنيا، فلا هو محتاج إلى المآكل ولا إلى المشارب، ولا إلى الشهوات الأخرى، فيقتضي ذلك حريةً منه فينطلق في الآفاق الواسعة في رحمات الله، ووقته واسع للتدبر كذلك والعناية، وبالأخص فيما يتعلق بآيات الله المستورة والمنظورة، فآيات الله المستورة القرآن، وآياته المنظورة عجائب الكون، وقد قال الله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53]، وهذه الآية تدل على التآزر بين الآيات المستورة والمنظورة، فالآيات المستورة القرآن تصدقها الآيات المنظورة في أنفسنا وفي الكون من حولنا، سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ [فصلت:53] أي: القرآن (( الْحَقُّ ))، فالإعجاز العلمي وما نكتشفه من العجائب في أنفسنا، وفي الكون من حولنا كلها مؤازرات للقرآن، ومؤيدات له، ومثبتات ومصدقات، وكل هذا يزيد الإنسان عقلاً، ويزيده زكاءً وذكاءً معاً، فالزكاء يدعو إلى الذكاء، والذكاء لا يدعو إلى الزكاء، فليس بينهما تلازم، ولذلك قال ابن تيمية في كبار الفلاسفة قال: أوتوا ذكاءً ولم يعطوا زكاءً. فأعطاهم الله ذكاءً، ولكن لم يعطهم زكاءً، فلم تتطهر أرواحهم وأنفسهم، ولم يؤمنوا ولم يقبلوا على الله، ولكن أعطاهم الله ذكاءً فاستغلوه فاكتشفوا لنا الكهرباء، واكتشفوا لنا الجاذبية، واكتشفوا لنا كثيراً من القوانين التي بها نعمل الآن، ومع ذلك هؤلاء الذين اكتشفوها لم يؤمنوا بالله ولا باليوم الآخر في أغلبه.
العنصر الثاني من الإنسان: هو البدن، وهو من تراب، وهو محتاج كذلك إلى النماء والزيادة؛ لأن الممكن الموجود يحتاج في بقائه إلى المؤثر، وفي علة احتياجه إليه هل الإمكان أو الحدوث أو الإمكان بشرط الحدوث؟ أقوال، فيحتاج إلى رعاية وعناية، وإلى تدريب، وإلى تغذية، وإلى صحة ونظافة، وإذا فقد ذلك الإنسان فسيموت لا محالة، البدن هل يستغني عن الأكل والشرب والحركة؟ لا يستغني عن ذلك، الإنسان إذا اضطجع على ظهره، ومد أطرافه في هيئة هي أيسر الهيئات بالنسبة إليه، ليس فيها أي عناء، فالنفس لا يجد ضيقاً في الارتفاع؛ لأنه يدخل الأكسجين نقياً من الأنف، ويخرجه زفيراً من الرئتين بعد أن يتلوث دون عناء، وهذا الوضع تكون فيه الأجهزة جميعاً على مقابلة واحدة، لا تحتاج إلى ضغط في الدم، ولا إلى تحريك في الأمعاء، ولا غير ذلك، ولو دام على هذا الوضع أربعاً وعشرين ساعة لا بد أن تتورم أطرافه، فلا يمكن أن يضطجع الإنسان أربعاً وعشرين ساعةً على ظهره بكل هدوء وراحة إلا تورمت أطرافه، ويبدأ في التحلل مع طول الوقت، فهذا يدل على أن الإنسان محتاج إلى الحركة، ومحتاج إلى النشاط، وأن بدنه محتاج إلى الاستعمال، ولهذا أثنى الله على أنبيائه باستعمال جوارحهم، فقال: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنْ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ [ص:45-47]، فأثنى عليهم بأنهم من أولي الأيدي والأبصار، وليس المقصود أن لهم أيدياً وأبصاراً، فهذا لدى كل الناس، بل المقصود أنهم يعملونها، فالثناء عليهم ليس بوجودها -لأن ذلك ليس من شغلهم، وإنما هو من صنعة الله جل جلاله- بل الثناء عليهم إنما هو بإعمالها، فهم يعملون أيديهم وأبصارهم، ولهذا يحتاج الإنسان إلى الحركة والتصرف.
ورمضان عون للإنسان في بدنه على ذلك، فالدم محتاج إلى تجديد، ولذلك كان من العلاج الحجامة والفصد، والإنسان محتاج إلى تحريك الدم؛ لئلا يتعفن، ومن تحريكه الصيام، فظمأ الإنسان يحرق دمه فيه كثيراً من الكائنات التي الإنسان مستغن عنها، وأيضاً الإنسان له هيكل عظمي هو أساسه، وهو بمثابة هيكل السيارة، وكل سيارة لها وزن هو الذي تتحمله، وإذا زادت عليه كان ذلك سبباً لخراب فيها، إما بعجاز في هيكلها، وإما بتشقق ما فيها من البلاستيك أو نحو ذلك، فيحتاج الإنسان إذاً إلى حمولة محددة مساوية لما يتحمله هيكله العظمي، فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، فجعل اليدين متساويتين، والذراعين متساويتين، والعضدين متساويتين، والكتفين متساويتين، والرجلين، والفخذين، والساقين، والعينين، والأذنين.. وهكذا، وهذا هو أحسن تقويم، أي مساواة لكل الأعضاء، وإذ حصل نقص ولو كان يسيراً جداً في النمو بأن تقلص المشاش في أي عظم من عظام الإنسان فإنه لن يكون معتدلاً أبداً، ويكون على عرج في مشيه، ويكون كذلك على خلل حتى في ضغط دمه ودورته الدموية، ومن هنا احتاج الإنسان إلى تخفيف الوزن، وهذا الذي يسمى في الطب الحديث بضبط الوزن، فالوزن تابع لهيكل الإنسان العظمي وقامته، فإذا كان طول الإنسان مثلاً مائة وسبعين سنتيمتراً فينبغي أن يكون وزنه سبعين كيلو، وإذا زاد يكون ثمانين كيلو، ولا يتعدى ذلك، وإذا كان -مثلاً- طول الإنسان مترين -وهذا نادر جداً-، فينبغي أن يكون وزنه أيضاً في حدود ما زاد على المتر الأول أي مائة كيلو، فما زاد على المتر، ينزع المتر من طوله، وما زاد عليه فهو الوزن المعتمد له، والإنسان محتاج إلى تخفيف الوزن، فلذلك احتاج إلى الصوم، ومحل هذا إذا أتقن استغلال الصوم.
نحن نعلم أن بعض الناس يكون صائماً في النهار، ولكنه يبدأ من غروب الشمس فيجعل نفسه في انشغال دائم بالمآكل والمشارب؛ حتى يعوض ما فاته في النهار ويزيد على ذلك، وبهذا لا يستفيد من الريجيم الذي حصل عليه طيلة اليوم؛ لأنه عوضه وزاد عليه، لكن الإنسان المعتدل الذي يأخذ بقدر، ولا يريد تعويض ما مضى في النهار، بل يريد أن تكون وجباته موزونةً بالليل فقط، فيها إفطار، ثم فيها سحور، وهاتان الوجبتان هما المباركتان، ما زاد على ذلك يتقلل منه الإنسان ما استطاع، فإذا فعل ذلك كان ذلك نقصاً لوزنه، واعتدالاً لجسمه، بالإضافة إلى أن بدن الإنسان عبارة عن مجموعة من الأجهزة، وهذه الأجهزة تحتاج إلى راحة، فهذا الجهاز هل يستطيع أن يتكلم الإنسان فيه، فإذا تعب سلمه لإنسان آخر بالاستمرار؟ فالسيارة هل يمكن أن تشتغل سنةً كاملةً اثنا عشر شهراً؟! أي ماكينة هل يمكن أن تستمر مشتغلةً طيلة السنة؟ لا يمكن، فكذلك الإنسان يحتاج إلى راحة، وتحتاج أجهزته إلى راحة، فلذلك جعل الصيام راحةً لكثير من أجهزته كالجهاز الهضمي، وكثير من الأجهزة الداخلية الأخرى، وتنشيط لدورته الدموية، وفيه تنمية لكثير من الأنسجة والخلايا في داخل الأنسجة، وفي غشاء السيتوبلازم وفي سائل السيتوبلازم، وفي أجسام جولجي، وفي الميكربونات، وفي كثير من تشكيلة الإنسان الداخلية يحتاج إلى راحة سنوية. وهذه الراحة يحتاج إليها الحيوان أيضاً، فأنتم تعرفون أن الله جعل في البر السنة أربعة فصول؛ ففيها فصل شتاء، وفصل صيف، وفصل خريف، وفصل ربيع، وهذه الفصول تحتاج إليها الحيوانات، ولو كانت السنة كلها خصباً لهلكت الحيوانات، ولو كانت كلها صيفاً وجدباً لهلكت الحيوانات؛ فلذلك تحتاج إلى تخلص مما أخذته في الخريف والربيع، فتتخلص منه في الصيف.. وهكذا، وكذلك الراحة البيلوجية التي يحتاج إليها الأسماك في البحار في فترة الإخصاب والتبييض، فيتوقف صيد البحر فيها لحاجة الأسماك إلى ذلك، فيعتبر رمضان راحةً بدنيةً بالنسبة للإنسان، يستريح فيها من كثير مما كان يثقله، ويتعود جسمه على الراحة من الانشغال الدائم بالمآكل والمشارب.
ثم العنصر الثالث من عناصر الإنسان هو الروح، وهي نفخة غيبية من أمر الله، يَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85].
وهذه الروح تنميتها وتربيتها تكون بزيادة التقوى لله سبحانه وتعالى، وبحسن الخلق.
أما زيادة التقوى فإنها تقع بالصيام لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ [البقرة:183-184]، أولاً قال: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183]، وهذا من أدب الرب جل جلاله مع المخلوق، فقال: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ [البقرة:183]، ولما فيه من المشقة والجهد، لم يقل: كتبت عليكم الصيام، قال: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183]، وفي هذا تسلية وتعزية لنا، فقد كتب على الأمم من قبلنا، فأصبح أمراً معتاداً لدى البشرية. ثم قال: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] وهذه علة الصيام وحكمته، فمعناه أن الصيام مشروع من أجل أن نتعود به على التقوى، فالإنسان إذا امتنع من شرب الماء البارد على الظمأ، وامتنع من أكل ما يحبه من المأكولات، وامتنع عن مواقعة غير ذلك من الشهوات التي يحبها، واستطاع أن يفعل ذلك طائعةً به نفسه في يوم الصوم؛ فإن ذلك تعويد له على ترك المحرمات أيضاً في السنة كلها، فهذه محرمة فقط في النهار في رمضان، أما غيرها من المحرمات فمحرم في النهار والليل طيلة العام، فكما تعودت على ترك هذه المحرمات طيلة النهار فتعود على ترك المحرمات الأخرى التي تحرمها دائماً طيلة العام، وهذا معنى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
وقوله: أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184] هذا في بداية التشريع، والصيام تخفيف على النفوس، فهو مجرد أيام معدودات، لكن بعد أن ثبت واستقر قال: شَهْرُ رَمَضَانَ [البقرة:185] فعرفنا أنه شهر بدل أن كان أياماً، وهذا من الأساليب العجيبة التي فيها دعوة للامتثال، وتسهيل للطاعة، ففي بداية الأمر قال: أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184]، وبعد ذلك قال: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185].
فالروح تزداد تقوىً بالصيام.
وكذلك تحسين الخلق، فالصوم سبب له.
فمن شر أمراض القلوب وأعظمها حب الدنيا، وهو أصل من أصولها كما قال العلامة محمد مولود رحمه الله:
وأصلها حب الدنى لذاتها أو لتنال النفس من لذاتها
عالج بمن في جمعها قد تعبوا دهراً طويلاً فحووا ما طلبوا
فبينما هم دارجو مراقي زهرتها إذ هجمت حلاق
حلاق: الموت.
قال: (وأصلها) أي: أصل أمراض القلوب، (حب الدنى لذاتها)، أي: حب الدنيا لذاتها، (أو لتنال النفس من لذاتها)، وهذا المرض يعالجه الصوم؛ لأن الصائم لا يرغب في شيء من الدنيا في وقت صيامه، فأحب شيء في الدنيا إلى الإنسان المطاعم والمشارب والشهوات، وهذه لا يحتاج إليها الصائم؛ فلذلك عوفي من حب الدنيا.
كذلك من أعظم أمراض القلوب: البخل والشح، والصوم عدو لهذا المرض قاض عليه، وفي ذلك يقول الله تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]، والمفلحون معناه المتصلون بالفلاح، والفلاح هو صلاح الدنيا والآخرة، فالإنسان الذي يريد أن يكون صالحاً في الدنيا والآخرة يتخلص من البخل؛ لأن الله قال: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]، والبخل داء من أدواء القلوب، وقد اختلف أهل التربية في أمراض القلوب: هل هي أصلية في الإنسان أو عارضة فيه؟ فذهب جمهور أهل العلم إلى أن أمراض القلوب عارضة في الإنسان، وأن الأصل السلامة منها، واستدلوا لذلك بقول الله تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الروم:30]، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه )، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما منكم أحد إلا ويولد كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء، فهل ترى فيها من جدع؟ )، وفي رواية: ( فهل ترى فيها من جدعاء؟ )، فهذا يدل على أن الأصل السلامة من أمراض القلوب، وذهب الغزالي رحمه الله إلى أن الأصل في الإنسان وجود أمراض القلوب، وأن العارضة هو السلامة منها، واستدل لذلك بشق صدر النبي صلى الله عليه وسلم، وانتزاع المضغة السوداء منه وغسله بزمزم، فقال: لو كان أحد ينجو من أمراض القلوب، لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما احتاج إلى شق صدره وانتزاع المضغة السوداء منه. والذي يظهر لي أنه لا منافاة بين الدليلين، ويمكن الجمع بينهما، فيقال: الأصل في الإنسان السلامة من أمراض القلوب، والأصل فيه قابليتها، فالذي نزع من النبي صلى الله عليه وسلم ليس أمراض القلوب، فلم تسبق عليه قط، والذي نزع منه هو قابليتها، كما أن الإنسان الآن قابل لجميع أمراض البدن، قابل للسل الرئوي، وقابل لداء السكري، وقابل لغير ذلك من الأمراض، لكن الأصل سلامته منها، فهو الآن سليم منها، ولكن قد يصاب بها؛ لأن لديه قابليةً لها، فكذلك أمراض القلوب الأصل السلامة منها، ولكن الأصل في الإنسان قابليتها أيضاً، وهذا ما يجمع بين الدليلين ويوحد بين القولين، وبهذا نعلم أن الإنسان محتاج عموماً لفحص نفسه، ومعرفة أخلاقه، وبالأخص أن الأخلاق تتغير وتتأثر بكثير من العوامل، فالإنسان الذي هو شاب له خلق معين، فإذا وصل إلى النضج زايله ذلك الخلق، فإذا شاخ وشاب تغيرت أخلاقه؛ ولذلك يقول الشاعر:
فأجبتها أمن يعمر يدكر ما تذكرين وينبوَّ عنه المنظر
ولقد رأيت شبيه ما عيرتني يغدو علي به الزمان ويبكر
فغدوت يغضبني اليسير وملني أهلي وكنت مكرماً لا أكهر
فكلما تقدم العمر بالإنسان وجد هذه الأمراض، فوجد ضيقاً في التحمل، وضعفاً في الجسم، واستنكاراً لكثير مما كان يعرفه في نفسه من القوى، كما قال الشاعر الآخر:
فما تشتهي غير أن تشتهي
يريد أن يشتهي أي شيء، فهذا يدل على أن الإنسان محتاج إلى الفحص دائماً، فالطالب له أخلاق ومسلكيات وقيم، فإذا تخرج وتوظف فالموظف له أخلاق أخرى، فلا بد من فحص دوري هنا لأخلاقه، والشخص الذي ليس له أسرة له أخلاق وقيم معينة، فإذا تزوج أصبحت لديه أخلاق وقيم أخرى، وأصبح مسئولاً فيحتاج إلى فحص أخلاقه.. وهكذا، وقد قال مالك رحمه الله: إنه ما ولي القضاء أحد في المدينة إلا عرفت في وجهه الكآبة إلا رجلين، فالأخلاق تتغير بالوظائف؛ ولذلك قال رجلاً يهجو رجل تولى وزارةً، فقال له:
قل للخسيس أبي رياش لا تبل ته كل تيهك بالوزارة والعمل
ما ازددت حين وليت إلا خسةً كالكلب أنجس ما يكون إذا اغتسل
وهذا على مذهب الشافعية والحنابلة والجمهور أيضاً، والحنفية الذين يرون أن الكلب نجس، وأنه إذا اغتسل وصب عليه الماء تزداد نجاسته؛ لأنه إذا كان يابساً لا يتنجس به إلا ما خالطه، وإذا كان رطباً فإنه ينتفض فينجس ما حوله جميعاً، فلذلك قال هذا الشاعر:
قل للخسيس أبي رياش لا تبل ته كل تيهك بالوزارة والعمل
ما ازددت حين وليت إلا خسةً كالكلب أنجس ما يكون إذا اغتسل
فلذلك يحتاج الإنسان إلى فحص لأخلاقه، وهذا الفحص من آكده الفحص بشهر رمضان شهر الصيام والقيام، ففيه فحص لأخلاق الإنسان وقيمه، وهو سبب لتحسينها، فالبخل الذي هو من أشد أمراض القلوب يزيله الصيام؛ لأن الإنسان يذوق مرارة الحرمان فيحنو على الفقراء والضعفاء والمحرومين كما قال حاتم بن عبد الله الطائي :
لعمري لقدماً عضني الجوع عضةً فآليت ألا أمنع الدهر جائعا
وبالأخص أنه وقت تنزل الملائكة، وبالأخص في ليلة القدر، فالملائكة يتنزلون على المؤمنين ويسلمون عليهم، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر:4-5]، والله تعالى يقول: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32].
فـ (الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة)، تتنزل عليهم بالتثبيت، والتمكين، والنصر، والإعانة، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30] معناه قائلين: أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [فصلت:30-31]، وهذا يدل على أن هذا التنزل دنيوي؛ لأنه قال: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:31-32]، وتنزل الملائكة مقتض لحسن أخلاق الإنسان بلقائه للملائكة وقربهم منه.
ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أسخى الناس وأكرمهم، ففي صحيح مسلم : عن جابر رضي الله عنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، ما سئل شيئاً قط فقال: لا، إن كان عنده أعطى، وإلا رد بميسور من القول ).
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان يدارسه القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة )، فكانوا يعرفون زيادةً في كرمه وسخائه في شهر رمضان على غيره من الشهور، وهو أكرم الناس في كل الشهور، لكنه كان يزيد كرماً وسخاءً في رمضان؛ لأنه يلقاه جبريل في كل ليلة من ليالي رمضان فيدارسه القرآن؛ فلذلك رمضان معين على البخل عدو له، وكذلك هو معين أيضاً على كثير من أمراض القلوب الأخرى كالغضب الذي هو من أشد أمراض القلوب، ولذا قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال له: ( إني أريد الرجوع إلى أهلي فأوصني، فقال: لا تغضب، فردد مراراً قال: لا تغضب )، كما أخرج البخاري في الصحيح وغيره، فالإنسان محتاج إلى ذلك.
ورمضان معين له على عدم الغضب؛ لأن الغضب سببه الحاجة إلى الدنيا، والرغبة فيها، فإذا زهد الإنسان فيها، وعرف أنها لا تساوي شيئاً لم يغضب لما يناله من حوادثها، إذا أصابته مصيبة عرف أنها كانت مكتوبةً، وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن فلم يغضب، وإذا واجهه إنسان بما يكره علم أن ذلك من تلقاء سيئاته، وهو امتحان وابتلاء له، فلم يغضب من أجله، فلذلك كان شهر الصيام أيضاً مصلحةً للإنسان في عقله، وفي جسمه، وفي روحه، وهي عناصره الثلاثة.
لكن كيف نستقبله الآن ونحن في هذه العشية ننتظره بعد مدة يسيرة محصورة بالدقائق؟ فهذا الشهر الكريم -كما ذكرنا- موسم عظيم، ولكن يا رب صائمه لن يصومه، ويا رب قائمه لن يقومه، فكثير من الذين ينتظرونه الآن لا يصلون إليه، يموتون قبله، وكثير من الذين ينتظرونه ويعزمون فيه على الطاعات قد يحال بينهم وبينها؛ إما بالمرض، أو بالكسل، أو بالغفلة، أو بغير ذلك، وكثير من الذين يحضرونه ويصومونه ويوفقون فيه للطاعات لا يعود عليهم رمضان القادم إلا وهم بين الجنادل والتراب، قد قدموا إلى ما قدموا، وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون؛ فلذلك لا بد أن نأتيه بروح التوديع، وأن نتأهب له ونتهيأ، فلا بد أن نحاول الآن في هذه الدقائق الإعذار إلى الله بالتوبة النصوح، فنتوب إلى الله جل جلاله كما أمرنا، فقال: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [التحريم:8]، فلا بد أن نتوب إلى الله سبحانه وتعالى، وأن نستغفره من ذنوبنا، وأن نعرض ذلك على نفوسنا، فالتوبة ليست كلاماً يقال كما قال السهروردي: استغفارنا هذا يحتاج إلى استغفار كثير. التوبة قرار يتخذه الإنسان من نفسه بالندم على ما فرط فيه بجنب الله، والعزيمة أن لا يعود إلى هذه المعصية بعد، وذلك لا يتم إلا بعرضه على النفس، ومناقشته معها، فليعرض كل واحد منا على نفسه الآن أن تتوب إلى الله جل جلاله، وأن تخرج مما هي فيه من معصيته، وأن تحسن فيما بقي، فلعل هذا آخر رمضان نعيشه، وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ [الأعراف:185]؛ فلذلك لا بد أن نصومه بنية التوديع كما نصلي بنية التوديع، كما نقول عند الصلاة: صلوا مودعين، كذلك نقول عند الصيام: صوموا مودعين.
ولا بد أن نتأهب كذلك له بروح المنافسة، فنحن نعلم أنه موسم عظيم من مواسم الخير والمنافسة، وأن ربنا جل جلاله يقول: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، ويقول: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، ويقول: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحديد:21]، ويقول: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، فهو سوق الله المفتوح، والناس فيه يتنافسون ويتغابنون.
والمغبون فيه من أدركه ولم يغفر له، فباب الرحمات فيه مفتوح، فتفتح فيه أبواب السموات، وتفتح فيه أبواب الجنة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( قد أظلكم شهر كريم، توصد فيه أبواب النار، وتصفد فيه مردة الشياطين، وتفتح فيه أبواب السماء )، وفي لفظ: ( وتفتح فيه أبواب الجنة، فيه ليلة هي خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم ).
فتفتح أبواب السماء إنما هو لاستجابة الدعاء؛ ولتسابق الأعمال إلى الله جل جلاله، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، وتفتيح أبواب السماء إنما هو ليصل إلى الصائمين شيء من روحها وريحانها وبركاتها، ومن المعلوم أن أبواب النار تغلق في رمضان، فلا يصل إلى أهل الأرض شيء من شؤمها وضررها، والأمراض التي تقع في الأرض سواءً كانت من البرد أو من الحر كلها من شؤم جهنم، كما ثبت في الصحيح: ( اشتكت النار إلى ربها، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، وذلك أشد ما يكون من الحر والبرد )، فالبرد الشديد الذي يمرض الناس منه من شؤم جهنم، وهو آت منها بواسطة كواكب أخرى، والحر الشديد الذي يمرض الناس منه أيضاً من شؤم جهنم، وهو قادم منها بواسطة الشمس، فحرها يجتمع في الشمس، وبردها يجتمع في كواكب أخرى ثم يصل إلى الأرض بعد ذلك، ففي رمضان توصد أبوابها فلا يصل إلى أهل الأرض شيء من ضررها لا من حرها، ولا من بردها، وهذه نعمة عظيمة، فما نجده في رمضان من الحر أو من البرد ليس خارجاً من جهنم في هذه الأيام، وإنما هو من سنوات مضت من سنوات شمسية، أو من فترات قد انقضت، وكذلك تفتيح أبواب الجنة ففيه رحمات وبركات تصل إلى أهل الأرض من الجنة.
فلذلك لا بد أن نستعد بروح المنافسة، وأن نعلم أن الناس في رمضان يتنافسون، فمنهم الفائزون الرابحون، وهم السابقون بالخيرات بإذن الله، سلموا لرمضان حتى بلغوه، ثم سلم لهم رمضان، ثم سلم منهم فلم ينقصوا التزامهم، ولم ينقصوا ما تعهدوا به من الطاعات، ووفقوا فيها فجعلوها موافقةً لمقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وبالإخلاص لله، ومطابقة لمقتضى شهادة أن محمداً رسول الله بالمتابعة لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحققوا فيها إيمانهم، فنجوا بها.
والقسم الثاني: من المتنافسين هم المقتصدون الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، عسى الله أن يعفو عنهم، وأن يتوب عليهم.
والقسم الثالث: الظالمون لأنفسهم، الذين أدركوا رمضان فقصروا، وهم درجات عند الله سبحانه وتعالى، فالذين تابوا فتاب الله عليهم هم الموعودون بالجنة كما قال الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا [فاطر:32-33]، فلا بد أن نستعد الآن للمنافسة، وأن نتهيأ لها بعزيمة صادقة، ونية خالصة، ثم بعد ذلك لا بد أن ننظر في العمل الصالح إلى من فوقنا، وأن ننظر في العمل السيئ وتقصيرنا من دوننا، ننظر في الدنيا إلى من دوننا، وننظر في الطاعة وفي أمر الدين إلى من فوقنا؛ لعلنا نقتدي بهم، وإن لم نستطع فلنحبهم؛ ولذلك ( جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأى ما هو فيه وأصحابه، فقال: يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ قال: أنت مع من أحببت )، فإذا لم نستطع أن نكون مثل الصالحين، فعلى الأقل نحبهم، ونحب ما هم فيه؛ لعل الله يلحقنا بهم.
والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر