إسلام ويب

كيف نستقبل رمضان [3]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن رمضان شهر الخيرات، شهر أنزل فيه القرآن، واختص الله هذه الأمة بصيامه وقيامه، فعلى كل عاقل الحرص على استغلال الأوقات فيه بما ينفعه في الآخرة.

    1.   

    فضائل رمضان

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:

    فإن الله تعالى جعل من الأوقات مواسم للخيرات، يضاعف الله فيها الحسنات، ويوفق فيها للتسابق إلى الخيرات، وقد جعل أعظم هذه المواسم في السنة موسم شهر رمضان المبارك، فشرفه بأنواع التشريف.

    نزول القرآن الكريم فيه

    فأنزل فيه القرآن كله، وابتدأ نزول القرآن فيه في ليلة القدر منه، ولذلك قال الله تعالى في بيان نزول القرآن في شهر رمضان: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].

    وقال في نزوله في ليلة القدر: بسم الله الرحمن الرحيم. إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ [القدر:1-2].

    وقد اختلف أهل العلم في معنى نزوله جميعاً في رمضان، فقالت طائفة منهم: نزل إلى سماء الدنيا، ثم بعد ذلك نزل بالتدريج في ثلاث وعشرين سنةً إلى الأرض، وقالت طائفة: بل المقصود بذلك بداية نزوله، وعلى هذا فإن المقصود بنزوله في رمضان هو المقصود بنزوله في ليلة القدر فهي من رمضان قطعاً.

    عظم الأجر في صيام وقيام رمضان

    وقد شرف الله هذا الشهر بأن جعل صيامه ركناً من أركان الإسلام، وجعله سبباً لتكفير السيئات، وجعل قيام ليله كذلك سبباً لتكفير السيئات، وجعل قيام ليلة القدر وحدها منه خيراً من ألف شهر، أي: من عبادة ألف شهر، فالناس يحرصون على طول العمر، وفائدة طول العمر إنما هي ما يقرب من الله ويرجح كفة الحسنات على كفة السيئات، ولا فائدة في أيام العمر ولياليه التي تضيع في الملذات والشهوات، وما لا يعني، والانشغال بأمور الدنيا، وإنما فائدة العمر ما لا يندم عليه الإنسان منه يوم القيامة، وهو ما يجده في كفة حسناته يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:30].

    وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه باقتراب شهر رمضان كما أخرج النسائي في السنن بإسناد صحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لهم إذا أقبل رمضان: قد أطلكم شهر مبارك، تفتح فيه أبواب الجنان، وتوصد أبواب النيران، وتصفد فيه مردة الشياطين )، وقد ثبت آخر هذا الحديث في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في رمضان: ( تفتح فيه أبواب الجنة، وتوصد أبواب النار )، وفي رواية: ( تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب جهنم، وتصفد فيه مردة الشياطين ).

    وهو شهر المغفرة، فلله تعالى في كل ليلة من لياليه عتقاء من النار، ثم يختمه الله بليلة ليست هي ليلة القدر، وإنما هي ليلة العتق، وهي آخر ليلة من ليالي رمضان يغفر الله فيها للصائمين والصائمات، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله تعالى يغفر للصائمين والصائمات في آخر ليلة من ليالي رمضان. فقيل: يا رسول الله! أليلة القدر هي؟ قال: لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره عند نهاية عمله ).

    اختصاص أمة محمد بهذا الشهر

    وكذلك فإن من مزايا هذا الشهر وفضائله أن الله سبحانه وتعالى شرف به هذه الأمة المشرفة زيادةً في أعمارها، وتكثيراً لحسناتها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً عجيباً ضربه لهذه الأمة بين الأمم، ( ضرب لها مثلاً برجل استأجر أجراء على أن يعملوا له من الصباح إلى صلاة الظهر على قيراط قيراط، ثم استأجر أجراء على أن يعملوا له من صلاة الظهر إلى صلاة العصر على قيراط قيراط، ثم استأجر أجراء يعلمون له من صلاة العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين )، فالذين استئجروا من صلاة الفجر إلى صلاة الظهر اليهود، والذين من بعد الظهر إلى العصر النصارى، والذين من بعد العصر إلى المغرب هذه الأمة، وقد ضاعف الله لها الأجر فقالت اليهود والنصارى: لم؟ ( فقال: هل نقصتكم من حقكم شيئاً؟ -وفي رواية: هل ظلمتكم شيئاً؟- فقالوا: لا. فقال: ذلك فضلي أوتيه من أشاء ).

    فهذا فضل الله الذي فضل به هذه الأمة وشرفها بين الأمم، فلذلك خصها من بين الأمم بهذا الشهر.

    تنوع الدرجات في شهر رمضان

    كذلك فإن من فضل هذا الشهر أيضاً أن الله سبحانه وتعالى جعله ثلاث درجات، فأدنى درجة فيه العشر الأوائل منه، وفيها خير كثير، ولكن العشر الأواسط أفضل منها، ثم بعدها العشر الأواخر وهي أفضل رمضان كله، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه اعتكف في العشر الأوائل من رمضان، فأتاه جبريل فقال: إن الذي تطلبه أمامك. فاعتكف العشر الأواسط فـأتاه فقال: إن الذي تطلبه أمامك، فاعتكف العشر الأواخر من رمضان، ولم يزل يعتكفها ) بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.

    غفران الذنوب

    وكذلك من فضائل هذا الشهر العظيم أنه أيضاً سبب لمغفرة السيئات الماضية، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من أدرك رمضان فلم يغفر له فلا غفر له )، فبين أن من أدرك هذا الشهر فقد أتيحت له فرصة المغفرة لتكفير كل ما مضى من سيئاته؛ وذلك لأن صيامه غفران للذنوب، وقيامه غفران للذنوب، والصدقة فيه مكفرة مطفئة للخطايا كما يطفئ الماء النار، وقراءة القرآن فيه ذات أجر عظيم، وعمارة المساجد فيه محاكاة للملائكة، وتخلق بأخلاقهم، فهذا الفضل الجزيل العظيم من أدركه فلم ينل منه حظه كان مغبوناً، وقد حلت عليه دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    ذكر ما يقتضيه رمضان قبل دخوله

    تعلم أحكام رمضان

    إن هذا الفضل العظيم يقتضي منا قبل رمضان أن تشرئب نفوسنا إليه، وأن نتهيأ له، وأن نتعلم ما أمرنا ربنا جل وعلا به من الأحكام فيه، وأن نتعلم هدي نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان في هذا الشهر الكريم، ولا شك أن العلم قبل العمل، فقد عقد البخاري لذلك باباً في الصحيح فقال: باب العلم قبل القول والعمل، لقول الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19]، فبدأ بالعلم قبل العمل، فلذلك نحتاج قبل دخول شهر رمضان أن نتعلم هذه الأحكام، فمن عاش منا حتى بلغ رمضان جاءه على علم، ولم يفته شيء منه، وقد استعد له من بدايته، ومن مات منا قبل رمضان ولم يدركه فإنه بعزيمته ونيته يكتب له أجر القائمين الصائمين، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( نية المؤمن أبلغ من عمله )، وفي رواية: ( نية المؤمن خير من عمله ).

    وعلى هذا فعلى كل إنسان منا أن ينوي من الآن أنه إن شاء الله تعالى سيتعلم ما يتعلق برمضان من الأحكام، وإذا بلغه فسيطبق هذه الأحكام على الوجه الذي تعلم، فقد أحسن من انتهى إلى ما تعلم.

    التنافس في الخيرات

    ثم لا شك أن استعدادنا له مما يقتضي منا التنافس، فهو موسم للمسابقة إلى الله، والله تعالى يقول: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، ويقول: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحديد:21]، ويقول: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، وهذه المنافسة والمسابقة لا تكون إلا بعد أن يعرف الإنسان فضل ما يسابق فيه وينافس؛ لأن الإنسان إذا تعب في المسابقة، وكانت جائزته ضئيلة يسيرة، كانت ذلك مما يؤدي إلى تأثر نفسه، وربما أدى به إلى الإحباط والامتناع من العود لمثلها، وهذا ليس في أعمال الآخرة فإن الإنسان فيها لا يظلم شيئاً، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يؤتى برجل يوم القيامة حتى إذا عرضت عليه أعماله إلى صحائف أو سجلات مد البصر من السيئات، فيقول الله تعالى لملائكته: انظروا هل لعبدي من عمل صالح؟ فيلتمسون فيخرجون قصاصةً قدر الظفر كتب فيها لا إله إلا الله، فيقول ذلك الرجل: وما تغني هذه عن هذه السجلات؟ فيقول الله تعالى: إنك لا تظلم شيئاً. فتوضع السجلات في كفة ولا إله إلا الله في كفة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فطاشت السجلات ورجحت لا إله إلا الله ).

    فإذا عرف الإنسان أن المتعامل مع الله تعالى، والمتجر معه، ومن أقرضه قرضاً حسناً هو الرابح لا محالة، وهو الذي يضاعف له بما لا يمكن أن يخطر على بال، ( أعددت لعبادي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ [السجدة:16-18].

    وأعظم ذلك لذة النظر إلى وجه الله الكريم، التي هي الزيادة، وهي المزيد، فالزيادة في قول الله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، والمزيد في قول الله تعالى: وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35]، فهذا المزيد هو لذة النظر إلى وجه الله الكريم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع عليهم نور من فوقهم، فيرفعون أبصارهم، فإذا الرب جل جلاله يناديهم من فوقهم: سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58]، فلا ينظرون إلى شيء مما هم فيه ما داموا ينظرون إلى وجهه الكريم ).

    استغلال الوقت في هذا الشهر المبارك

    فلذلك إذا عرف الإنسان ما عند الله تعالى من الأرباح، ورغب فيه، فذلك مقتض منه للإقبال على المنافسة في هذا الموسم الكريم، وفي الأخص إذا عرف أن كثيراً مما مضى من أوقاته قد ضاعت في غير طاعة الله، فكم فرطنا في جنب الله فيما مضى من أوقاتنا، كم أضعنا من الليالي والأيام، وكم مر علينا من السنوات وقد ذهبت هباءً منثوراً، إننا ينبغي أن نأسف غاية الأسف على ماضي أعمالنا، وما فرطنا فيه في جنب الله، وعلى الأوقات التي تذهب سدى لا يجدها الإنسان يوم القيامة في كفة الحسنات، وهو يلاحظ الميزان قد وضع بين يديه ليس له إلا كفتان، فتشرئب نفسه لرجحان كفة الحسنات، ويعلم أن الرجحان يكون بقدر الذرة، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه [الزلزلة:7-8].

    أقسام الناس في رمضان

    فلذلك إذا عرفنا حجم إضاعتنا لأوقاتنا في الماضي فهذا معين لنا على استغلال الموسم قبل فواته، كثير منا رأى المتنافسين في رمضان الماضي، وكيف تنافسوا في الطاعات والقربات، وكانوا في نهاية الشهر على ثلاثة أقسام: قسم فازوا فوفقوا للخيرات من أول الشهر إلى آخره، فكان الشهر لهم لا عليهم، وهؤلاء سلموا من رمضان وسلم لهم رمضان، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو: ( اللهم سلم لي من رمضان، وسلم لي رمضان )، فسلم لهم الشهر وسلموا منه، وقوم آخرون فاتهم أول الشهر في التسويف والتأني وتطويل الأمل، ثم بعد ذلك أحسوا بالخطر فأدركوا بقيته فلحقوا بمن سبقهم بفضل الله تعالى.

    والقسم الثالث: وهم الخاسرون المغبونون الذين تقضت أيام الشهر ولياليه وهم ينتظرون حتى فات الأوان، وتعداهم الركب وقد انطلق القطار فبقوا على الأثر، فلا شك أن من أدرك هذه النتيجة وعرفها سيعزم من الآن ويقوي عقدة عزمه، ويشدها بنور الإيمان، وبمعاهدة الله تعالى على الطاعة، وسيزداد حرصاً على كل وقت من رمضان ليكون مدرسةً له لتعلم التقوى والاقتراب من الله تعالى، والمنافسة في الصالحات، وبالأخص أن كثيراً من الذين سيدركون رمضان هذا العام لن تتاح لهم الفرصة في المستقبل كحال الماضين، فرمضان الماضي كم صامه هنا في هذا البلد من الذين ماتوا وأصبحوا الآن تحت التراب؟ يا رب صائمه لن يصومه، ويا رب قائمه لن يقومه.

    الاجتهاد في الطاعات

    فلذلك كل هذا يقتضي منا قبل رمضان أن نأتيه بأرواح مطمئنة، وبنفسيات عالية، وأن نتأهب له تأهباً عظيماً، وقد كان سلفنا الصالح يمكثون ستة أشهر بعد رمضان وهم يسألون الله قبوله، ثم يمكثون بعد ذلك بقية السنة يسألون الله أن يبلغهم رمضان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من عرفتم، فقد قال عن نفسه: ( فإن أتقاكم لله وأخشاكم لله أنا )، وقال الله عنه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وقال عنه أصحابه: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، فما سئل شيئاً قط فقال: لا، إن كان عنده أعطاه، وإلا رد بميسور من القول )، مع كل هذا كان الناس يلحظون تغيراً في حياته إذا دخل شهر رمضان، فيزداد من الخيرات والطاعات، رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كل أوقاته مشغولة بالطاعة، مع ذلك في رمضان يزداد نشاطه للطاعات وإقباله عليها، ولهذا يقول ابن عباس رضي الله عنهما: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان يدارسه القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة ).

    وفي حديث عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر أحيا ليله، ودخل معتكفه، وشد مئزره، وأيقظ أهله )، هذه أمور تتجدد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان، فكل هذا يقتضي منا نحن معشر الضعفاء الذين نرجو أن نحسب من أمته، وأن نحشر تحت لوائه، ونرجو أن نوفق لما ننجو به من النار من الطاعات، إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة والقدوة هكذا فعلينا نحن أن نكون من المبادرين المنافسين.

    1.   

    الحكمة من تبشير الرسول بقدوم رمضان

    إن بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم برمضان إنما هي تحفيز للهمم، وتهيئة لها؛ لئلا يبقى الناس في غفلتهم منشغلين بأمور الدنيا، ولا يفكرون إلا في الصفق في الأسواق، والغدو والرواح في الأعمال، وفيما يحدث في الدهر من النكبات والمصائب لأقوام، ومصائب قوم عند قوم فوائد، فينشغل الناس بهذا، حتى يبغتهم شهر رمضان، فيأتيهم على غرة، فتمضي منه ساعات أو ليالي أو أيام دون أن يكونوا من المتقربين فيها إلى الله تعالى، والمنافسين في الخيرات، وهذه خسارة عظيمة جسيمة، إننا جميعاً تجار، والتاجر يحرص على ثلاثة أمور:

    الأمر الأول: على رأس المال.

    الأمر الثاني: على الربح فيه.

    والأمر الثالث: على عقليته وتجاريته وتجاربه.

    وهذه الأمور الثلاثة هي التي يمكن أن ينميها التاجر، وأن يحرص عليها، ولذلك بين الله تعالى أنها جميعاً فاتت في حق الكفار، فبين أنهم خسروا رأس المال، وأنهم لم تربح تجارتهم، وأنهم لم يهتدوا، أي: لم ينتفعوا بالتجارب، ولم يزدادوا خبرةً بعملهم هذا ومتاجرتهم، فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16]، بين أولاً أنهم فات رأس مالهم، قال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [البقرة:16]، إذاً هذا فوات لرأس المال، فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [البقرة:16]، إذاً هذا فوات للرزق، وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة:16] فوات أيضاً للعقلية التجارية والاستفادة من التجارب.

    ونحن ينبغي أن نحرص على الأمور الثلاثة، ونحرص على رأس المال، الذي هو الإيمان ومكملاته من فرائض الله سبحانه وتعالى، واجتناب نواهيه، ثم بعد ذلك على الربح وهي النوافل التي يتقرب بها العبد إلى ربه جل وعلا، ثم بعد ذلك على التجارب من هذا الزمن يقوم علينا، وكل عام، بل وكل شهر، بل وكل لحظة ينبغي أن يكون إحساننا قد زاد، وقربنا من الله قد ازداد، ومن هنا قال أحد العلماء: إن العاقل الذي في الصلاة هو الذي يحس بحسن أدائه في كل ركعة، فالركعة الثانية أحسن من الركعة الأولى، والركعة الثالثة أحسن من الثانية، والركعة الرابعة أحسن من الثالثة؛ لأنه يترقى في مدارج الكمال، فكلما قطع مرحلةً ازداد إحساناً وقرباً من الله تعالى، وقد قال ابن الجوزي رحمه الله: إن من الصفوة أقواماً منذ استيقظوا ما ناموا، ومنذ قاموا ما وقفوا، فهم في صعود وترق، كلما قطعوا شوطاً نظروا، فرأوا قصور ما كانوا فيه فاستغفروا.

    فلذلك نحتاج نحن إلى تقويم أنفسنا على ميزان الإيمان وأهله، ونحن نعلم أن الدين مؤلف من هذه العناصر الثلاثة: الإيمان، والإسلام، والإحسان. وعلينا أن نحرص على حظنا منها جميعاً، وأن نحرص على زيادة الإحسان حتى يكون كل إنسان منا يعبد الله كأنه يراه، وبهذا يحسن عبادته غاية الإحسان، ويكملها غاية الإكمال، ويحرص على الازدياد منها كلما تقدم به العمر وكلما تقدمت به الطاعة، ومن هنا فإن الفضل الذي يحصل لكبار السن ولأهل السبق إنما هو بزيادة الإحسان؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه: ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواءً، فأقدمهم هجرة )، وفي رواية: ( فإن كانوا في الهجرة سواءً فأقدمهم سناً )، وفي رواية: ( سلماً ).

    فالتقدم في السن ليس له مزية في ذاته؛ ولذلك قال الشاعر:

    تعلم فليس المرء يولد عالماً وليس أخو علم كمن هو جاهل

    وإن كبير السن لا علم عنده صغير إذا التفت عليه المحافل

    فالعبرة إذاً إنما هي بالازدياد من الطاعات، ولذلك فقدم الإسلام، وقدم السن إذا كان في الخير فهو ازدياد في الطاعة، وتحصيل لها، وتحسين لها، وحسن للخبرة والأداء، ولا شك أن كل إنسان منكم إذا أراد سفراً شاقاً طويلاً يحب أن يسوق به من كان أقدم خبرةً في السياقة؛ لأنه قد تعودت يداه ورجلاه على السياقة، وانتبه قلبه لها، فأصبحت تجري من غير شعور منه في تصرفاته، بخلاف جديد تعلم، فإنه لا ينظر في المرآة إلا بقصد، ولا يستطيع تحريك المقود إلا بقصد، ومن هنا فهو يلتفت إلى كل شيء فيقع في كثير من الأخطاء؛ فلذلك نحتاج في كل سنة إلى أن نأخذ من مدرسة رمضان زيادةً في الإحسان، وزيادةً في القرب.

    1.   

    بعض الفوائد المستنبطة من آيات فرض الصيام

    لا شك أن أول ما يخطر بالبال في رمضان من الأعمال الصالحة هو الصوم، وهذا الصوم ركن من أركان الإسلام، فرضه الله سبحانه وتعالى على المسلمين، فأنزل فيه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:183-184]، وهذه الآية فيها عدد كبير من الفوائد:

    ربط الصيام بالإيمان

    فأولاً: ربط الله الصيام بالإيمان، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:183]؛ لتشرئب نفوس الإيمان بدافعهم العقدي الذي يدعوهم إلى العمل، ثم قال: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ [البقرة:183]، فهو أمر لا مجادلة فيه، ولا مناقشة فقد كتب، ولم يعد قابلاً للنقاش. ثم جاءت التعزية عنه والتسلية ليهون علينا، فقال: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183]، فالأمم السابقة أيضاً كانوا يجب عليهم الصيام، والتشبيه هنا إنما هو في كتابة الصيام لا في قدره، ولا في وصفه، فصيام هذه الأمة يختلف عن الصيام لدى الأمم السابقة في العدل وفي الهيئة؛ فلذلك كانت كتابته علينا مشبهةً بكتابته على من سبق؛ ليكون ذلك تسهيلاً لأمره علينا.

    تدريب الإنسان لنفسه على ترك المعاصي

    ثم قال: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، فبين حكمة مشروعية الصيام، وهي أن يتعود الإنسان على تقوى الله سبحانه وتعالى، فالتقوى اجتناب وامتثال، والاجتناب فيها أعظم من الامتثال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم )، فجانب الحظر مقدم على جانب الأمر، فلذلك لا بد من البداءة أولاً بالاجتناب، والاجتناب أصله أن يجتنب الإنسان محارم الله ما حرمه الله ونهى عنه سواءً كان من كبائر الإثم، أو كان من الفواحش، أو كان من اللمم، وهي في الآية أقسام: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ [النجم:32].

    وإذا كان الإنسان في حياته لا يجتنب محارم الله، فيتجاسر على المخالفة، ولا تطيعه نفسه إذا أراد الإقلاع، فإنه يحتاج إلى تعويد كالدابة التي إذا أراد الإنسان أن يأخذ بخطامها نفرت، ثم إذا اقتادها صعبت عليه وحرنت، ثم إذا حمل عليها أرادت إسقاط ما عليها، والإنسان كذلك يحتاج إلى هذا التدريب والتعويد، وهذا التدريب على التقوى هو في الصيام في شهر رمضان؛ لأنه قال: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، ومعنى ذلك: أن الصيام سيضطرك على ترك ما كان مباحاً في غيره، فإذا تقربت إلى الله بترك ما كان مباحاً في غير الصيام، فمعنى هذا أنك قادر على التقرب إليه بما كان محرماً قبل الصيام، إذا تعودت على كف نفسك عن شرب الماء البارد في وقت العطش؛ فإنك ستتعود على ترك شرب الخمر، وعلى ترك الأكل الحرام، وعلى ترك الربا، وعلى ترك كل ما ليس لك؛ لأنك تعودت على ترك ما هو لك من المباحات في غير الصيام، فكان هذا تدريباً وتعويداً لنا، ولهذا قال: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].

    التسلية للمؤمنين بخفة الصيام

    ثم أتى بتسلية أخرى عجيبة، فنفوس البشر مفطورة على الاستثقال والعنت، فالشهر إذا وصف بأنه شهر كامل من بداية الأمر شق ذلك على النفس، فلذلك قال: أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184]؛ تخفيفاً له على أنفسنا قبل أن يأتي رمضان، يعلم أنه غير شاق؛ لأنه أيام معدودات وتنتهي وتصبح أثراً بعد عين، فلذلك لا يشقن صيامه، ولا قيامه، ولا العبادة فيه على أحد منكم؛ لأنه مجرد أيام معدودات، وهذا في باب التخفيف، أما في بيان فضله وذكر مزيته فيذكر على أنه شهر كامل، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]، ( شهرا عيد لا ينقصان )، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك يذكر في باب المزية على أنه شهر، وفي باب التخفيف على أنه أيام معدودات.

    1.   

    مقدار أجر الصائم

    وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم درجة الصوم من بين الطاعات، فقد أخرج الشيخان في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يقول الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به )، وفي رواية لـمسلم : ( كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به )، وهذه الرواية مفسرة لسابقتها؛ لأن المقصود أن عمل ابن آدم إنما هو تجارة مع الله سبحانه وتعالى، وهذه التجارة يتضاعف ربحها بحسب إخلاصه وصدقه، فمن الناس من يصل إلى سبعمائة، ومنهم من يصل إلى آلاف الأضعاف، ومنهم من يكون دون ذلك، وأقلهم درجةً الذي له عشرة أضعاف، ( والحسنة بعشر أمثالها، إلا الصوم فإنه لي )، أي: هو لله.

    وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم معنى هذه الإضافة، فقال: ( يقول الله تعالى: يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي )، وفي رواية للبخاري : ( يترك طعامه وشهوته من أجلي )، أي: من أجل الله سبحانه وتعالى والتقرب إليه يترك الإنسان طعامه وشرابه وشهوته، فكان هذا الصوم إذاً لله سبحانه وتعالى؛ فلهذا قال: ( وأنا أجزي به )، أي: جزاءً غير مرتبط بهذا العدد الذي ذكر مع كل الحسنات، فالحسنات الأخرى هي بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، والصوم ليس كذلك، فهو خارج عن هذا، بل يجازي الله أصحابه من غير حساب.

    ولذلك اتفق كثير من المفسرين على تفسير قول الله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10] أن المقصود بالصابرين الصائمون، وأنهم يوفون أجرهم بغير حساب، فلا يقابلون بهذا العدد الذي هو في غير الصوم من الحسنات.

    والصوم سماه الله في القرآن صبراً كما في هذه الآية، وسماه سياحةً كما في قوله تعالى: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:112]، ومعنى كونه سياحةً وصبراً أمران:

    الأمر الأول: أن السياحة تقتضي تدبراً في عجائب خلق الله؛ لتتآزر لدى الإنسان الآيات المستورة، والآيات المنظورة، فالآيات المستورة ما تقرءونه في القرآن، وقد قامت به الحجة على الخلائق جميعاً، وها هو ناطق على الناس بالحق، فيه خبر ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وفصل ما بينكم، وقد بين الله فيه كل ما نحتاج إليه بياناً شافياً، تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، فلذلك كانت هذه الآيات المستورة حجةً قائمةً على الناس، لكن إنما يزداد إيمان الإنسان بها إذا آزرتها الآيات المنظورة فرأى عجائب الكون المصدقة لما في القرآن، فالذين يعتبرون ويتدبرون ويتعجبون في خلق الله وآياته هم الذين ينتفعون بآيات القرآن، ويزدادون إيماناً، ويلمس ذلك في تصرفاتهم.

    وقد ذكر لي الشيخ أبو الحسن الندوي رحمة الله عليه أمراً عجيباً، وقد كان من بداية شبابه وصباه معروفاً بحسه اللغوي وإتقانه لفهم العربية، وقد أولع بالقرآن فحفظه في صباه، وحفظ كثيراً من الشعر الجاهلي، ومن المقامات، ومن النصوص الأدبية، وكان يتذوق اللغة العربية كما يتذوق الناس طعم السكر في الشاي أو في الشراب، لكن يقول: إنه ما فهم بعض آيات القرآن إلا حينما خرج مع جماعة الدعوة والتبليغ في خرجة في سبيل الله، فخرج معه بعض عوام المسلمين الذين ليس لديهم من العلم ما معه هو، ولكنه رآهم يتدبرون في عجائب الكون، ينظر أحدهم فيطيل النظر إلى كوكب من الكواكب، أو ينظر إلى المجرة فيرى عجائب خلق الله، فإذا هو يقول: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، وينظرون في الأرض ويتعجبون فيها، فتعلم منهم التعجب من آيات الله، فكان هذا درساً عجيباً للعلماء أخذوه من عوام أهل الدعوة، وهذا الدرس العجيب ينبغي أن يأخذه كل المؤمنين، فقد قال الله تعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية:17-20].

    وقد كنت ذات يوم من الأيام أركب في سيارة مع أحد من مشايخ العلم في مكة المكرمة وهو يسوقها، فدخلنا في شارع من الشوارع وهو مسرع، وأمامنا سيارة فيها جمل تحمله، فكاد يصطدم السيارة حتى نبهته لها، فقلت: أين كنت تنظر أيها الشيخ كدت تصطدم السيارة؟ فقال: كنت أتعجب في خلقة الإبل امتثالاً لقول الله تعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية:17].

    فآيات هذا الكون النظر فيها يزيد إيمان الإنسان بالآيات المستورة، ولهذا قال الله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53]، (سنريهم آياتنا في الآفاق) في خلق السموات والأرض، (وفي أنفسهم) مرةً تجد ألماً، ومرةً تجد لذةً، ومرةً تجد عافيةً، ومرةً تجد مرضاً، ومرةً تجد غنىً، ومرة تجد فقراً، ومرةً إذا أنت راض مسرور، ومرةً إذا أنت مغضب محلق، ومرةً تسمع خبراً يسرك، ومرة تسمع خبراً يسوءك.. وهكذا تتقلب أحوال هذه الدنيا عليك، فترى في نفسك من آيات الله الشيء العجيب، ثم قال: (حتى يتبين لهم أنه) أي: القرآن (الحق) لا ريب فيه ولا مرية، وإنما يتبين ذلك لمن يفكر في آيات الله، كما قال الله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [آل عمران:190-192].

    وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآيات: ( أنزل علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتدبرها ).

    1.   

    ثمار مدرسة رمضان

    يحتاج الإنسان إذاً إلى أن يأخذ الدروس والعبر من واقع حياته ومما حوله من هذا الكون، فإذا أتاك رمضان فاحرص على أن تكون في نهايته متخرجاً من هذه المدرسة بزيادة إيمان، وزيادة تقوى، وزيادة يقين بآيات الله، وزيادة علم بكتابه.

    الابتعاد عن الدنيا وأدرانها

    إن من أبلغ الحكم في تخصيص هذا الموسم في السنة أمراً عجيباً، هو أن الإنسان في هذه الحياة يعيش بين أشباح الدنيا وألوانها وزخارفها وأصواتها وطبولها وحركاتها، وهي مشغلة للإنسان ملهاة له، إذا فتح عينيه وقعتا على بعض زخارف الدنيا وما فيها، إذا مد يده لمست شيئاً مما فيها، إذا استمع سمع شيئاً من أصواتها، فينشغل بها، وهي دار الغرور، وهي ضرة الآخرة، فيحتاج الإنسان إلى أن يبتعد عن الدنيا وقتاً يتطهر فيه أدرانها، وينقطع عن ملذاتها، فمن كان أكمل حالاً وإيماناً كان هذا حاله في كل أوقاته كما قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:131-132]؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وجعلت قرة عيني في الصلاة )، وكان يقول: ( أرحنا بها يا بلال )، ( وكان إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة ).

    أما من كان دون ذلك، فهو محتاج إلى مسافة يجعلها بينه وبين زخارف الدنيا وشهواتها، وهذه المسافة ينبغي أن نجعلها بمثابة راحة في السنة، يرتاح فيها من عناء الدنيا ونصبها، فالبدن راحته بالنوم والسبات في كل ليلة، والروح راحتها إنما هي بالعبادة والانقطاع عن أمور الدنيا، فالنفس غريبة في هذه الدار؛ لأنها نفخة غيبية من أمر الله، وهي مسجونة في هذا البدن الذي هو من تراب، فتحتاج إلى راحة، وراحتها جعلها الله تعالى لهذه الأمة في هذا الشهر الكريم، الذي يحاكي البشر فيه في نهاره الملائكة، فالملائكة لا يأكلون ولا يشربون، ولا يشتغلون بشيء من الملذات؛ لأنهم مشغولون بذكر الله تعالى، كما قال الله تعالى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، فيتشبه الإنسان بهم في يومه، وفي قيامه، ووقوفه في الصف بين يدي الله سبحانه وتعالى، ويتصل بكتاب الله سبحانه وتعالى، ويكثر من ترديده وقراءته، وكلما أكثر الإنسان من ترديده وقراءته كلما فتح له فيه، ومن الغريب أن أحسن الشعر، وأحسن الكلام إذا ردده الإنسان كان حديثاً معاداً ومله الناس، والقرآن ترداده يزداد فيه تجملاً كما قال الشاطبي رحمه الله:

    وإن كتاب الله أوثق شافع وأغنى غناء واهباً متفضلا

    وخير جليس لا يمل سماعه وترداده يزداد فيه تجملا

    إنما يتذوقه الإنسان بكثرة ترداده، وبالخلوة به، وبالأنس به، وهو في ترداده له منقذ له من وحل الدنيا، ومن نتنها، ومما يشتغل فيه الناس من شأنها، فالذي يعيش مع هذا الكتاب، ويتدبر آياته، ويقرأه بقلب سليم حاضر، قلبه ليس منغمساً في وحل الأرض وما فيها من الزخارف، بل هو معلق بالسماء وأرفع منها، بل قد تعداها، فاتصل بالله جل جلاله، وقد قال أبو مدين الجزائري رحمه الله تعالى في استسقائيته المشهورة يقول فيها:

    يا من يغيث الورى من بعدما قنطوا ارحم عبيداً أكف الفقر قد بسطوا

    واستنزلوا جودك المعهود فاسقهم رياً يريهم رضاً لم يثنه سخط

    وعامل الكل بالفضل الذي ألفوا يا عادلاً لا يرى في حكمه شطط

    إن البهائم أضحى الترب مرتعها والطير تغدو من الحصباء تلتقط

    والأرض من حلل الأزهار عارية كأنها ما تحلت بالنبات قط

    وأنت أكرم مفضال تمد له أيدي العصاة وإن جاروا وإن قسطوا

    ناجوك والليل جلاه الصباح سنم كما يجلي سواد الإمة الشمط

    فشارب بذنوب الذنب غص به وآخرون كما أخبرتنا خلطوا

    ومنعم في لفيف العيش وهو يرى في سلك من حام حول العرش ينخرط

    المتصلون بالله سبحانه وتعالى، المتعلقون بكتابه، المتدبرون لآياته، الذين يبادرون إلى طاعاته، ويأنسون به جل جلاله، ويتصلون به، هم مع الحضرة القدسية، فليسوا من أهل هذه الأرض؛ لأنهم يذكرون في الملأ الأعلى، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً )، فلذلك يذكر الإنسان في حضرة القدسي وفي ملأ خير من ملأ أهل الأرض الذي يذكره الله جل جلاله إذا ذكره الله عز وجل.

    لا بد أن يكون الإنسان الذي سجل في مدرسة رمضان مستعداً لهذا الوصف الشريف، ولأن يتطهر من هذه الدنيا وينخلع منها، فتستريح روحه مدة شهر من أمور الدنيا، لا ينصب ولا يتعب في محبة زخارفها وشئونها، وهذا الحال هو الذي يكون به صائماً حقاً، فالإنسان المتعلق بأمور الدنيا، المحب لها، يفكر في الصباح بإفطاره، وعلى أي مائدة سيفطر؟ وعند من سيفطر؟ وبأي الألوان سيبدأ؟ ويبالغ في تحضير ذلك والتفكير فيه، هذا غير صائم في الواقع؛ لأنه شغل بالتفكر في شهوات الدنيا وملذاتها في حال صومه وهو مع الله سبحانه وتعالى.

    ترك التعلق بالدنيا لله تعالى

    وفي وقت الانخلاع من هذه الشهوات والملذات لا بد أن يتذكر الإنسان أنه بصومه قد خرج من هذه الملذات والشهوات، وانفرد لراحة نفسه واتصاله بربه جل جلاله، ولهذا ذكر سيد قطب رحمه الله حكمةً عجيبةً فيما يتعلق بالإحرام بالحج والعمرة، قال: إن المحرم ينخلع لله تعالى من كل شيء حتى من ملابسه الخاصة، يتخلص من كل قيود الدنيا، وكل مشاغلها، يخلع كل شيء حتى ملابسه التي على جسده، يخرج من كل ذلك لله عز وجل، ولهذا أضحوا لربكم، أي: اخرجوا لله ضاحين، أي: ليس على رءوسكم شيء، هذا في الإحرام، فكذلك المستعد لصيام رمضان بهذه الروح يكون قد خرج لله تعالى من شهواته وملذاته، ولهذا يصدق فيه قول الله تعالى: ( يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ).

    حرص الصائم على البعد عن ملاهي الحياة

    أما من ليس كذلك فإنما انشغل في بعض الأحيان بمعصية، وفي بعضها بالتفكر فيما ترك، وإيثاره، فتكون نفسه مشغولةً، وإن كان بدنه لا ينتفع بذلك الانشغال، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ) ورفث مضارعها فيه التثليث، ( فإن أحد سابه أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم )، وقال: ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه )، وقد كان كثير من السلف يقولون: لا يكن حظكم من الشهر العطش أو الظمأ والسهر، بل كونوا من الذين يحيونه فيحيون أنفسهم به، فإحياؤه لا بد أن يكون إحياءً للنفس به، كما قال الآخر:

    لا تجعل رمضان شهر فكاهة تلهيك فيه من القبيح فنونه

    واعلم بأنك لن تقوم بحقه حتى تكون تصومه وتصونه

    وقال الآخر:

    إذا لم يكن في السمع مني تصامم وفي بصري غض وفي منطقي صمت

    فحسبي إذاً من صومي الجوع والظمأ وإن قلت إني صمت يوماً فما صمت

    فلهذا يحتاج الإنسان إلى إعداد نفسه لذلك، وتهيئتها.

    1.   

    الحرص على استغلال الشهر المبارك

    إن كثيراً من الشباب يعدون قبل رمضان آلات التسلية وقتل الوقت، فيعدون الورق للعب طيلة الليل، ويعدون الفرش للنوم طيلة النهار، فيضيعون فرائض الصلوات وهي أهم من الصيام؛ لأنها هي ثانية الدعائم قبل الصوم، وهذا مناف لحكمة مشروعية الصوم.

    فنحتاج يا إخواني إلى أن يكون صياماً حقيقياً مؤثراً، وأن نأخذ منه جرعةً إيمانيةً تكون إشعاعاً لنا طيلة السنة، فهو بمثابة الوقود، وأنتم تشعرون في بعض الأحيان بالضيق في الوقود عندما تجتمع السيارات على محطات البنزين، فتقع الزحمة الشديدة، وكل إنسان يريد أن يحصل على حصة منه ليقطع بها المسافات، وبنزين الإنسان هو تغذية روحه من الطاعة والقرب، وهو الحصة التي يأخذها في شهر رمضان، فإذا لم يأخذ الإنسان الذي يريد السفر من هنا إلى مكان ما مثلاً لم يأخذ إلا ثمانية ألف أوقية من البنزين، وأنتم تعرفون تدني هذه القصة، هل سيصل بهذه القصة إلى نهاية طريقه؟ فإذاً نحتاج إلى أن نأخذ من رمضان جرعةً كبيرةً تصحبنا طيلة السنة، وتكون زاداً لنا في أيامنا وليالينا نتعود بها على قيام الليل، وعلى ختم القرآن، وعلى تدبره، وعلى صيام النفل، وعلى إتقان العبادات، وعلى إحياء المساجد، وعلينا أن نصحب المستوى الإيماني الذي أخذناه في رمضان طيلة السنة، فقد قال أحمد بن حنبل رحمه الله: بئس القوم قوم لا يعرفون الله إلا في رمضان. القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان لا خير فيهم.

    فنحتاج إذاً إلى إتقان هذه المدرسة، والتهيئة لها، وفي النهاية أقسم أعمال الشهر إلى أفعال وتروك وأقوال وماديات:

    فالأفعال منها: قيام الليل، وعمارة المساجد.

    والتروك منها: الصيام، وترك الملذات والشهوات طيلة الشهر.

    والأقوال منها: ختم القرآن، والإدمان على الذكر.

    والماديات منها: الجود والبذل في شهر رمضان.

    فهذه إذاً هي أهم أعمال الشهر.

    وأسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يزيدنا علماً وإخلاصاً ويقيناً، وأن يجعلنا أجمعين ممن صامه وقامه إيماناً واحتساباً، وأن يجعلنا من عتقائه فيه من النار، وأن يبلغنا رمضان، وأن يبارك لنا فيه، وأن يجعلنا ممن وفق لقيام ليلة القدر في هذا العام، وأن يوفقنا لقيامها أعواماً عديدةً وسنوات مديدة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767949871