بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين, وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة للمؤمنين في كل زمان ومكان, وارتضى تصرفه وأفعاله وأقواله وتقديراته تشريعاً لهذه الأمة وبياناً للقرآن, فكانت أحداث سيرته صلى الله عليه وسلم أهلاً لأن تؤخذ منها العبر والدروس, وأن يأتسي بها الناس في حياتهم كلها, وأن يأخذوا منها التجارب الناصعة لأنفسهم ومسيرة حياتهم, والهجرة النبوية انعقد إجماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على جعلها بداية تاريخ هذه الأمة، فهي بداية تأسيس دولة الإسلام, فلذلك كانت من أهم الأحداث في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعظمها.
والصحابة رضوان الله عليهم عندما أرادوا أن يؤرخوا اختلف رأيهم في ذلك, فمنهم من رأى التاريخ بالبعثة, ومنهم من رأى التاريخ بمولد النبي صلى الله عليه وسلم, ومنهم من رأى التاريخ بموته صلى الله عليه وسلم, ثم انعقد إجماعهم على التاريخ بهجرته صلى الله عليه وسلم, وقدموا رأس السنة عنها بشهرين واثني عشر يوماً.
فقد ذكرنا أن مقدمه مهاجراً إلى المدينة كان في يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول.
وجعلوا رأس السنة في اليوم الأول من شهر المحرم؛ لأنه من الأشهر الحرم، ولفضله، ولأمور أخرى وعبرٍ سابقة في التاريخ تؤخذ من هذا الشهر الكريم الذي نحن فيه الآن, فهذا الشهر في اليوم العاشر منه رست سفينة نوح على الجودي, وفيه خرج يوسف من الجب, وفيه أنجى الله موسى وقومه من فرعون وجنوده.
ولذلك صامه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأل اليهود عنه وقد وجدهم يعظمونه فقال: ( ما هذا اليوم الذي تعظمون؟ فقالوا: يوم أنجى الله فيه موسى وقومه من فرعون وجنوده, فقال: نحن أولى بـموسى منكم، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحظ أمته على صيام، ولم يزل يصومه )، إلا أنه في عام وفاته بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم قال: ( لئن بقيت إلى قابلٍ لأصومن التاسع ), وقد حمل ذلك كثير من أهل العلم على أن المقصود أن يصوم التاسع مع العاشر، فدل ذلك على سنية صيام اليوم التاسع معه.
وفي حديث ابن عباس استحباب أن يصوم الإنسان مع يوم عاشورا، يوماً قبله أو يوماً بعده, وهذا الحديث مفسر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع ), وهذه الهجرة قد سردنا تسلسل أحداثها في الدرس الماضي, والآن نذكر بعض العبر والدروس العجيبة التي تأخذ منها, فمنها:
أولاً: أن كل من كان صاحب حق ويسلك منهج الله السوي فلا بد أن يمتحن على ذلك امتحاناً شديدا, ومن هنا فلا بد أن يستحضر جميع العاملين للإسلام والداعين إلى سبيله أنهم عرضة لأن يفتنوا, وأن يؤذوا في سبيل الله، ولا بد أن يعلموا أن هذا من معالم الطريق ومن دلالاته، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم هو أكرم الخلق على الله, والأنبياء من قبله, كذلك أوذوا كما أوذي وأخرجوا من ديارهم, وجاهدوا وقتل بعضهم, وأهدي رأس يحي بن زكريا عليهما السلام لبغي من بني إسرائيل, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أشد الناس بلاءً الأنبياء, ثم الأمثل فالأمثل, وإنما يبتلى الرجل على قدر دينه ), وقد قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3].
ومعنى قوله: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3] أي: ليقيمن عليهم الحجة بذلك, فالله عالم بمآلات الأمور وتفاصيلها قبل أن تكون, ولكنه أراد بيان ذلك وإقامة الحجة به؛ لأنه الحكم العدل: لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس:44].
فلذلك لا يعاقب أحد، ولا يثاب على مقتضى سابق علم الله؛ بل لا بد أن يكون العقاب والثواب مرتبطين بعمل الإنسان وإرادته واختياره, فلذلك أقام الله الحجة على الإنسان, وأقام عليه الشهود الذين لا يجرحون, والحكام الذين لا يبدلون ولا يعزلون.
فمن هنا فإنه قال في هذه السورة بعد هذا المبدأ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ[العنكبوت:10], فلذلك بين هنا أن كثيراً من الناس يقول: آمنا بالله, فيكون مظهره على وجهٍ، ولكن إذا نوقش مخبره لم يأتي مصدقاً لمظهره, فقال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [العنكبوت:10-11].
فلذلك كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم حلقة من حلقات سلسة إيذاء الأنبياء وإخراجهم، فقبله أخرج إبراهيم عليه السلام وهاجر عندما تألب عليه الأقربون من أهله، ومنهم أبوه وأقاربه جميعا, وقد قال الشاعر:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وطءِ الحسام المهند
فهاجر إبراهيم عليه السلام إلى الشام، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها ستكون هجرة بعد هجرة, وهي التي تكون في آخر الزمان فقال: ( ستكون هجرة بعد هجرة, ويوشك أن يكون خير مهاجركم مهاجر أبيكم إبراهيم عليه السلام، فسيهاجر المؤمنون في آخر الزمان إلى المسيح بن مريم عليه السلام عندما ينزل حكماً عدلاً عند المنارة البيضاء شرقي دمشق وقت أذان الفجر، وهو بين ملكين يمينه على ملك، وشماله على ملك، إذا رفع رأسه تحدر منه مثل الجمان، وإذا طأطأه تقاطر كأنما خرج من ديماس, لا يحل لكافر أن يجد ريح نفسه إلا ذاب كما يذوب الملح في الماء, وإن نفسه ليبلغ ما يبلغ بصره, فيهاجر إليه المؤمنون من مشارق الأرض ومغاربها ), وحينئذٍ يتضح الحال فيكون المؤمنون واضحين فيمن سواهم, ويكون الناس على فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه, وفسطاط كفر لا إيمان فيه, ولذلك يحصر المؤمنون مع عيسى بن مريم عليه السلام حصاراً شديداً، حتى يكون رأس البقرة يباع بوزنها كاملة من الذهب, وذلك الحصار الشديد هو بمجيء يأجوج ومأجوج الذين يوحي الله إلى عيسى بشأنهم: إني مخرج قوماً لا قبل لأحدٍ بهم, فيحاصر عيسى والمؤمنون معه ذلك الحصار الشديد، فيجأرون إلى الله ويدعون، فيسلط الله النغف في رقاب يأجوج ومأجوج فيموتون موتة رجلٍ واحد, فتمتلئ الأرض من زهمهم ونتنهم, فيدعو عيسى والمؤمنون معه فيرسل الله مطراً فيغسل الأرض حتى تكون كالكرسفة البيضاء ويزول عنها ما فيها من الأوساخ والأقذار, وبعد ذلك تأتي ريح بينة تأخذ المؤمنين من آباطهم فيموت بها أهل الإيمان ولا تضر أهل الكفر, وتبقى على الأرض حفالة أو حثالة كحثالة الشعر لا يباليهم الله باله, فعليهم تقوم الساعة.
وهذه الهجرة التي هاجر بها إبراهيم عليه السلام إلى الشام , هاجر بها عدد من الأنبياء كذلك، فـموسى بن عمران هاجر أولاً من مصر إلى مدين ثم رجع إليها ثم أمر بالهجرة مع بني إسرائيل من مصر إلى الشام, وكذلك عدد من الأنبياء هاجروا وأوذوا في سبيل الله وأخرجوا من ديارهم, وقد بين الله سبحانه وتعالى إن هذا من معالم طريق الاستقامة وطريق الجنة, فقال تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [آل عمران:195].
وقد قال أهل العلم في التفسير: إن هذه الأفعال لا يشترط حصولها جميعا, بل إذا حصل فعل واحد منها تحقق الوعد المربوط بها, فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا, إذا تحقق فعل واحد من الأفعال الخمسة حصل الوعد المرتب عليه, ولذلك لا بد أن نعلم أن كل واحد منا هو حلقة من سلسلة طويلة فيها نوح ومن بعده من الأنبياء إلى محمد صلى الله عليه وسلم, وفيها المخلصون المضحون من هذه الأمة ومن كل الأمم.
وهذه السلسة تصاب بنكبات، وكل نكبة أصابت حلقة من حلقات السلسلة فلا بد أن تصيب السلسلة جميعا, ولكنها نكبات مباركة أصابت من هو أكرم على الله منا ومن هو خير منا, ولذلك لو أن بباب هذا المسجد مسماراً قد جرح نوحاً , وجرح إبراهيم , وجرح موسى , وجرح عيسى , وجرح محمداً صلى الله عليه وسلم, وكنتم توقنون بذلك, لا شك أنكم ستتنافسون فيمن يجرحه هذا المسمار منكم؛ لأنه مسمار مبارك وأصاب من هو خير منكم, فكذلك كل النكبات على سبيل الهداية والاستقامة، وهي أنواع منوعة، فمنها: نكبات من طرف أعداء الله, فإن الله سبحانه وتعالى جعل لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112]، وجعل فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام:123], وهذه سنته الماضية.
كذلك منها ما يكون ابتلاءً في ذات الإنسان, فـأيوب عليه السلام لم يروَ أن قومه آذوه ولكن الابتلاء أتاه في جسده وأهله ثم رفعه الله عنه.
وكذلك قد يكون الأذى قولياً كأذى بني إسرائيل لـموسى فقد آذوه بأنواع الأذى وزعموا أنه آدر , فخرج يغتسل فخلع ملابسه، وكان بنو إسرائيل يغتسلون عراة فيما بينهم, وكان موسى لا يغتسل معهم, فقالوا: ما منعه من ذلك إلا عيب من جسمه, فخرج موسى يغتسل فجعل ثوبه على حجر, فلما أراد أن يلبسه هرب الحجر بثوبه, فخرج موسى يعدو في أثر الحجر حتى دخل بين ملأٍ من بني إسرائيل والحجر يجري بثوبه, فرأوه فقالوا: والله ما بـموسى من بأس, وهو يقول: ثوبي حجر, ثوبي حجر، فأحذ موسى ثوبه فلبسه بين أيديهم, وضرب الحجر بعصاه فكان فيه ندب من آثار الضرب, (ندب) أي: تورم في الحجر من آثار ضرب موسى بعصاه.
وكذلك فإن الأذى قد يحصل للإنسان بامتحانات أخرى فمنها مثلاً! امتحان الله لبني إسرائيل بتولية من يظنونه دونهم, فإن الله امتحنهم وابتلاهم بتولية طالوت عليهم فقالوا: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:247].
وكذلك قد يكون ابتلاء الإنسان على طريق الحق بقذف الرعب في قلبه والخوف, وهذا الخوف أنواع فمنه:
خوف من أعداء الله، وما يملكونه من وسائل الإرهاب, وهذا الخوف مردود على أصحابه, فإن الله تعالى يقول: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175], فالمؤمن يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب له، وأن الأمة لو اجتمعت على أن تنفعه بشيء لم تنفعه إلا بشيء قد كتبه الله له, وإن اجتمعت على أن تضره بشيء لم تضره إلا بشيء قد كتبه الله عليه, وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن, فلا يمكن أن يصيب الإنسان إلا ما كتب له، وما كتب له لا يستطيع دفعه بحيلة أياً كانت, فهذا الخوف ليس له أي أساس.
ثم بعده الخوف الثاني: وهو الخوف من التشويه، فكثير من الناس يخافون أن تلصق بهم التهم والتصنيفات, وهذا الخوف أيضاً مردود على أصحابه, فإن الله جل جلاله هو المتصف بصفات الكمال وهو المنزه عن جميع النقائص, وما من كمال إلا وهو واجب في حقه, وما من نقص إلا وهو عليه محال، ومع ذلك زعم اليهود أنه فقير, قال تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ[آل عمران:181], وقال: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا[المائدة:64], وزعم النصارى له صاحبة وولداً تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا, فهذا التشويه لا يضر ربنا جل جلاله شيئا, وأنبياء الله وهم خيرة الله من خلقه اصطفاهم الله واصطنعهم على عينه، وكملهم وجملهم وارتضاهم، وأحل عليهم رضوانه الأكبر الذي لا سخط بعده وجعلهم خيرتهم من خلقه, وأيدهم بالمعجزات، وكلمهم بكلامه وملأ قلوبهم من الإيمان به، ومع ذلك ما منهم أحد إلا قيل فيه: مجنون, ساحر, كذاب, كاهن, شاعر, طالب سلطة, أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات:53], لهذا قال الله للنبي صلى الله عليه وسلم: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ[فصلت:43].
والنوع الثالث: من أنواع الخوف: هو الخوف على المصالح, فكثير من الناس يظنون أنهم إذا سلكوا طريق الحق والاستقامة فإنهم سيفوتهم كثير من مصالحهم, وما ذاك إلا اتباع الهوى، ووسوسة من الشيطان, فالمصالح إنما هي من عند الله وحده, وقد قال الله تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ[النحل:53], وأنت تقول في صلاتك: ( لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ), فمن المستحيل أن يستطيع أحد أن يأخذ منك شيئاً خصك الله به, ومن المستحيل أن يوصل إليك أحد شيئاً منعك الله إياه, فلذلك لا معنى للخوف على المصالح, وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:28], وسوف يغنيكم الله من فضله هذا وعد من الله جل جلاله وهو لا يخلف الميعاد, قال تعالى: فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:28].
والنوع الرابع: من أنواع الخوف: هو الخوف من التكاليف, فكثير من الناس يخافون أن يكلفوا أعباءً لا يطيقونها, ولكن أهل الإيمان يعلمون أن الأعباء والتكاليف لا تكون إلا في النفس أو في المال وقد باعهما المؤمن لله جل جلاله, فقد قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111].
فمن هنا لا يمكن أن يجد الإنسان أية تكاليف ليست داخلة في هذه البيعة, وهذه البيعة الإنسان فيها هو الرابح؛ لأن الذي ينفقه ويقدمه يسير ومدخول, ومع ذلك يجد في مقابله ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر, و يجد الحسنى والزيادة ولذة النظر إلى وجه الله الكريم.
ثم بعد ذلك من هذه العقبات والامتحانات عقبة نقص الثقة, وهو كذلك من وساوس الشيطان، فكثيراً ما يوسوس للذي يريد سلوك طريق الاستقامة والهداية ونصرة الحق فيقول له: أنت ضعيف مسكين، لا تستطيع أن تؤدي واجباتك، فواجباتك أكثر من أوقاتك، فكيف تنصر الإسلام؟ وأنت لا تستطيع أن تقوم بأي شيءٍ من واجباتك، ولا تستطيع أن تنفق على نفسك ولديك من المساوئ والدراسة والواجبات والمرضى والضيوف وغير ذلك من نوائب الدهر ما يشغلك عن نصرة الدين.
والجواب أن الإنسان لا يستطيع أن يكتم الله شيئاً مما عنده, فكل ما عنده هو من عند الله جل جلاله، وهو الذي كلفه بهذه التكاليف ولم يكلفه إلا بما يطيق ويستطيع وقد قال الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، وقال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286], فهو مكلف بما يستطيعه ويطيقه، وإذا فعل ذلك فإنه نجح في الامتحان بمجرد الممارسة، كما قال الله تعالى: قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23].
وقد قال حسن الهضيبي رحمه الله: إن من انهزم أمام نفسه في معركة الإصلاح حري أن ينهزم أمام غيره في معركة السلاح, فالذي ينهزم أمام نفسه أولاً في معركة الإصلاح، لا يمكن أن يكون شجاعاً أبداً في مقابلة أي طرف آخر، فنفسه التي بين جنبيه هي أضعف أعدائه, وإذا لم ينتصر عليها فلا يمكن أن ينتصر على غيره أبدا, ولذلك فخلاف هذه القاعدة شبهة أيضاً صحيح, وهو من انتصر على نفسه في معركة الإصلاح حري أن ينتصر على غيره في معركة السلاح.
ثم بعد هذا نقص الثقة فيمن يعمل مع الإنسان لنصرة الدين, وهو كثير, فالكثير من الشباب يقولون: نحن مستعدون لنصرة الله ورسوله ولسلوك منهج الله الذي ارتضاه وجاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عنده, ولكننا لا نجد من يوثق بهم ونعلم أن سلوك هذا الطريق شاق وأنه لا يمكن إلا مع آخرين.
فيقولون: الذين نراهم يسلكون هذا الطريق يمكن أن يكونوا غير مخلصين، ويمكن أن يكونوا غير صادقين ويمكن أن يكونوا مرائين ومسمعين، ويمكن أن يكونوا من المنافقين!
والجواب: أن كل هذه الاحتمالات صحيحة، وتوقع أنها واقعة، لكنها أيضاً احتمالات واقعة عليك أنت, فما الذي جعل كل من سواك غير مخلص وغير صادق، وجعلك أنت الوحيد الصادق المخلص, ما الذي تكفل لك بهذا الضمان؟
فلذلك لا بد أن يكون الإنسان منصفاً، وأن يعلم أن هذه شبهة لها سببان:
السبب الأول: مرض القلب بحيث تتراكم الذنوب على البصيرة حتى تسود, فيكون الإنسان كأنما ينظر بالنظارات السوداء، فكلما يقع عليه بصره يكون أسود كما قال الشاعر:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده بالتوهم
وعادى محبيه بقول عدوه فأصبح في شك من الليل مظلم.
والسبب الثاني: تجارب فاشلة خاضها الإنسان مع آخرين، فظن جميع الناس مثله، وهذا خطأ في التصور وسوء تدبير في الحكم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الناس كإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة ), فلا بد أن تطيل النفس فيما يتعلق بالتجارب مع الآخرين، ولا بد أن تعلم أن قياس الأدنان فاسد، وأن قياس بعض الناس على بعض خطأ, ولذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم في بداية دعوته ذكرنا أنه قسم الناس إلى ثلاثة أقسام: الذين ليس لديهم عوائق في أنفسهم ولا في المجتمع من حولهم، رباهم تربية خاصة في دار الأرقم, والذين ليست لديهم عوائق في أنفسهم ولكن لديهم عوائق في المجتمع من حولهم، رباهم كذلك تربية خاصة في محضنٍ آخر، وهو دار سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل , والذين لديهم عوائق في أنفسهم ردهم إلى المجتمع وقبل منهم الإيمان، وقال لكل واحد منهم: ( ارجع إلى قومك فكن فيهم فإذا علمت أن الله أظهرني فالحقني ).
ومع ذلك فإن الله عاتبه بشأن التأخر في استقبال رجل واحد، وهو عبد الله بن أم مكتوم وقد ذكرنا أثره في الهجرة، فإن الله قال له فيه: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى [عبس:1-4].
كذلك من أنواع نقص الثقة: نقص الثقة بالمستقبل، فكثير من الناس يرون انتفاشة الباطل وانتفاخته فيظنون أن الأمر لا يزداد إلا شدة، وأن الحق لا يمكن أن ينتصر أبداً، وهذا سوء ظن بالله سبحانه وتعالى، وقد بين الله أنه من صفات المنافقين, فقال الله تعالى: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ[الفتح:6], وقد شرح الله هذا الظن بقوله: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا [الفتح:12], فظن السوء أن يظن الإنسان أن الله لن ينصر أهل دينه، ولن ينصر ناصريه، فهذا سوء ظن بالله؛ لأن الله وعد بنصرهم، فقال: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40], وقال: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51], وقال: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105], وقال: إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128], وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7], وقال: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:39-40].
فلذلك لا بد أن نعلم أن انتفاشة الباطل لا تغر، وبالأخص إذا تذكرنا يوم الأحزاب عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم محصوراً في المدينة مع ألف وخمسمائة من الصحابة معه، وجاءهم المشركون من أعلاها، وجاءهم اليهود من أسفلها والتقت حلقة البطون عليهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعدهم بأن تفتح عليهم كنوز كسرى وقيصر، وأن تنفق في سبيل الله, والمنافقون يقولون: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12], ويقولون: يزعم محمد أنه ستفتح عليكم كنوز كسرى و قيصر وها أنتم اليوم لا يستطيع أحد منكم أن يخرج لقضاء حاجته, فلم تمضِ سبع سنوات حتى فتحت كنوز كسرى و قيصر وأنفقت في سبيل الله.
فلذلك لا بد أن نعلم أن الأمور كلها بيد الله أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى:53], وأنه والله ما ضعف شيء من قوته، ولا نقص شيء من سلطانه, وقد قص علينا في سورة القمر الطريقة التي أهلك بها قوم نوح ، عندما أمر السماء فانفتحت أبوابها بالماء المنهمر، وأمر الأرض فتفجرت عيوناً فالتقى الماء على أمرٍ قد قدر، ولم تبقَ منهم باقية.
وقص علينا الطريقة التي أهلك بها الذين كذبوا هوداً، حين سخر عليهم الريح العقيم ثمانية أيام حسوما، فجعلهم كالنخل المنقعر، ولم تبقَ منهم باقية, وقص علينا الطريقة التي أهلك بها الذين كذبوا صالحاً، حين أرسل عليهم الصيحة فصاح عليهم الملك، حتى شق أشرفة قلوبهم فماتوا موتة رجل واحد.
وقص علينا الطريقة التي أهلك بها الذين كذبوا لوطاً، حين أرسل عليهم الحاصب فاقتلع قريتهم، فرفعها حتى سمع أهل السماء أصوات كلابهم، ثم ردها على الأرض مقلوبةً منكوسة، ثم أتبعها بـ: حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:82-83].
ثم قص علينا الطريقة التي أهلك بها فرعون وجنوده عندما فلق البحر، فكان كل فرق كالطود العظيم، فمر موسى وأصحابه في طريق في البحر يبس، لا يخاف دركاً ولا يخشى، ولما اتبعهم فرعون وجنوده فتوسط البحر أمر الله البحر فالتطم عليهم، فلم تبقَ منهم باقية إلا جسد فرعون؛ لأنه قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90]، فقال الله: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً[يونس:91-92], فهي عبرة للمعتبرين، وآية من آيات الله البينات.
قال الله بعد هذه القصص كلها: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ [القمر:43], أي: هل الكفار الذين تخالطونهم وتخافونهم وتستشعرون ما لديهم من الأقمار الصناعية التجسسية، وما لديهم من حاملات الطائرات، وما لديهم من عابرات القارات, وما لديهم من الصواريخ الفلاستية، وما لديهم من كل أنواع الأسلحة، كالقنابل الانشطارية وغيرها قال: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ [القمر:43], أي: هل هم خير من قوم نوح ومن عاد و ثمود وقوم لوط و فرعون وجنوده, ليسوا خيراً منهم قطعاً, فلذلك قال: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ [القمر:43], ثم جاء الالتفات في الخطاب لترقية الأسلوب, فخاطب الكفار مباشرة, فقال: أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ [القمر:43], أم لكم أيها الكفار براءة في الزبر، أي: الكتب المنزلة ألا يبتليكم بمثل ما أبتلى به من سبقكم من الكفار: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ [القمر:44], إذا كان تأويلهم على الدعاية الإعلامية، وما لديهم من وسائل الإعلام التي تغزوا عقول الضعفة، وتشارك في تكوين الرأي العام، فجواب ذلك ما هو؟ قال الله: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر:44-45], فهذه سنة الله الماضية.
وقد شاهدنا بين عشية وضحاها تفكك الاتحاد السوفيتي، وبقاءه في خبر كان, ولم يكن أحد يتوقع ذلك لا من الأمريكان ولا من غيرهم, وشاهدنا كذلك سقوط الأنظمة الشيوعية في العالم تباعاً, وشاهدنا كذلك هدم سور برلين, ولا نزال نشاهد ذلك، ونفس المصير هو الذي ستلقاه قوة الشر والطغيان هو الذي تلقاه دولة الكيان الصهيوني في فلسطين, وهذا التفكك أيضاً هو نفسه مصير أمريكا ومصير غيرها من قوى الظلام والشر.
فإن الله سبحانه وتعالى ما نقص شيء من قوته، فهو الذي يقبض السموات السبع والأرضيين السبع بيمينه فيهزهن فيقول: أنا الملك، أين الجبارون أين المتكبرون؟ قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67].
فو الله ما نقص شيء من قوته، ووالله ما أحب أعداءه أبداً, وليسوا أحب إليه من أوليهم وسابقيهم، وقدرته سبحانه وتعالى لا تقاس بأي شيءٍ من خلقه, فما أهون الأرض وأهلها على الله إذا عصوه، فإنه قادر على أن يأمر البر فيبتلع ما فيه، والبحر فيبتلع ما فيه، والجو فيبتلع ما فيه، والفضاء الخارجي فيبتلع ما فيه، كل ذلك بين الكاف والنون لا يحتاج إلى أي تأخير، ولا أي تدبير، هو بمجرد أن يقول: كن قال تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40], إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
وقد أخرج مسلم في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله قيوم لا ينام ولا ينبغي له أن ينام, يرفع القسط ويخفضه, يرفع إليه أمر الليل قبل النهار، وأمر النهار قبل الليل, حجابه النور )، وفي رواية: ( حجابه النار, لو كشف الحجاب عن وجهه لحظة لأحرقت سبحات وجهه ما وصل إليه بصره وخلقه ), فإذاً هذا الخوف من غير الله سبحانه وتعالى ونقص الثقة كذلك في وعده كله منافٍ للإيمان به ولمعرفته.
ثم بعد ذلك من الدروس المهمة في هذه الهجرة النبوية المباركة، ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين رباهم من التضحية، والربانية، والاتصال بالله جل جلاله، فالرسول صلى الله عليه وسلم بنى هذه الدولة العظيمة, وهذه الجماعة المحكمة التي نصرها الله سبحانه وتعالى وأيدها وأيد بها الدين على خمسة أركان:
الركن الأول منها: الربانية والاتصال بالله جل جلاله، فلم يكن يتوكل على حوله وقوته, ولم يكن يعتمد على تدبيره وإنما كان توكله على الله وقوته بالله جل جلاله, ( عندما رفع عليه دعثور السيف وهو نائم تحت شجرة، فقال: يا محمد من يمنعك مني اليوم؟ فقال: الله، فوقع السيف من يدي دعثور فأمسك به رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف وهزه في وجهه فقال: من يمنعك مني اليوم؟ قال: لا أحد ), ولذلك فإن هذا التوكل وهذه الربانية تجعل كل تصرفاتهم وأعمالهم عبادة لله جل جلاله: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162-163], وقال معاذ : إني لأحتسب في نومتي ما أحتسب في قومتي.
والذين قتلوا كعب بن الأشرف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع أنهم أقدموا على بطولة ومشقة، وجاهدوا وبذلوا لما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى وجوههم، قال: ( أفلحت الوجوه، فقالوا: يا رسول الله قتل الله عدوه ), فلم ينسبوا شيئاً إلى أنفسهم, وهذا من كمال ربانيتهم، فهم يعلمون أن الله قادر على الانتقام من أعدائه, ولذلك فإن الله تعالى بين لهم ما ينبغي أن يقولوه في هذا الشأن، فقال: قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة:52].
الركن الثاني: الذي بنى عليه هذه الجماعة وهذه الدولة: هو التربية، فالإنسان قابل للنماء والزيادة، وإيمانه قابل للزيادة, وبدنه قابل للزيادة, وعقله قابل للزيادة، وخلقه قابل للزيادة, وعلمه قابل للزيادة, وتضحيته قابلة للزيادة, وتصوراته كلها قابلة للزيادة, لكن هو الذي يقرر مصيره، فإن شاء تقدم وجاد، وكانت همته عالية وارتقى الدرجات العلا، ورغب فيما عند الله, كما قال عمر بن عبد العزيز : إن لي نفساً تواقة، تاقت إلى الإمارة فنالتها، ثم تاقت إلى الخلافة فنالتها، ثم تاقت إلى الجنة.
فمن كان ذا همه عالية فإنه لن يرضى بالدون، وسيكون دائماً يومه خيراً من أمسه، وغدوه خيراً من يومه، وهكذا في مسيرة حياته كل يوم يزداد من الله قرباً، ويزداد من الخير تزوداً، وكل يوم يزداد علماً، حتى قال أحدهم: أي يوم لا أزداد فيه علماً، فلا بورك في طلوع شمس ذلك اليوم، وكل يوم يزداد فيه عبادةً ونسكاً وخوفاً من الله سبحانه وتعالى ورضاً بما أعد له واشتياقاً إليه، وإلى لذة النظر إلى وجهه الكريم, فيكون بذلك مستعجلاً في سيره إلى الله, كما قال موسى بن عمران عليه السلام: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84], فهذا هو صاحب الهمة العلية.
أما أصحاب الهمم الدنية فهم يرضون بفتات الدنيا ويأنسون بها ويتعلقون بها، فالدنيا هي أكبر همهم، وهي مبلغ علمهم ولا يدور أمر الآخرة في خلدهم، وإذا تذكر بعضهم الآخرة جاءته الأماني وهو يتمنى أن يكون في أعلى عليين، لكن أنى له ذلك، فقد تمنى ذلك المشركون من قبله، وما كان لديهم إلا هذه الأماني التي لا يترتب عليها عمل ولا أثر.
وقد قال السيوطي رحمه الله:
ومن تكون نفسه أبية يطمح للمراتب العلية
رجاء فخاف فأصاح فأحب مأموره وما نهى عنه اجتنب
فحبه الله فكان عقله وسمعه ويده ورجله
واعتده من أولياه ومن دعاه أجابه أو استعاذه أعاذه
أما الذي همته دنية فلا مبالاة له سلية
ففوق جهل الجاهلين يجهل وتحت سبل المارقين يدخل
فخذ صلاحاً بعد أو فسادا وشقوةً ترضيك أو إسعاد
وقرباً أو بعداً وسقطاً أو رضا وجنة الفردوس أو نار لظى
ثم إن هذه التضحية التي بذلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم تقتصر على هذه التربية على أنفسهم بل ربوا غيرهم أيضاً, فكل من تربى منهم بادر لتربية أهل بيته ومن حوله, وكانت بصماته بارزةً في الناس.
ولذلك يقول أهل الحديث: ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود فكان يحكي دله وهديه وسلوكه, وربى عبد الله بن مسعود علقمة فكان يشابهه, وربى علقمة إبراهيم النخعي فكان يشابهه, وربى إبراهيم النخعي منصور بن المعتمر فكان يشابهه, وربى منصور بن المعتمر سفيان الثوري فكان يشابهه, وربى سفيان الثوري وكيع بن الجراح فكان يشبهه, وربى وكيع بن الجراح أحمد بن حنبل فكان يشبهه, وربى أحمد بن حنبل أبا داود سليمان السختياني فكان يشبهه، فكل هؤلاء قد تناقلوا هذه التربية وهذا الأثر.
فلذلك لا بد أن يحرص الإنسان بعد أن يربي نفسه على أن يترك بصماته على طلابه ومن حوله وأهل بيته.
وقد أذكر شاباً من شباب هذه الصحوة المباركة - نسأل الله أن يرحمه ويغفر له- وهو محمد محمود الأحمد زيدان رحمة الله عليه، هذا الشاب من أغرب تأثيره في أسرته أن أباه وكان شيخاً كبيراً وشيخ القبيلة، ومع ذلك كان محمد محمود من آدب الناس به وألطفهم في تعامله معه، فكانت ثقته به لا حدود لها، فكان الوالد إذا رأى أي أحد من أهل الدعوة خدمه، وقام معه في كل أموره، وأحبه حباً شديداً بشدة تأثير ولده عليه, حتى بعد موته، وعاش الوالد بعد موت ولده، فكان إذا رأى أي أحد من شباب هذه الدعوة أو شيوخها يقول: محمد محمود لا يصحب إلا الصالحين, فمن لا يعرفه منهم يحكم له بالصلاح لعلاقته بـمحمد محمود , وهذا التأثير ينبغي أن يكون عليه الشباب جميعاً، ينبغي أن يؤثروا في آبائهم وأمهاتهم، وأن يبروهم وأن يبروا من حولهم، ويبروا مجتمعهم، حتى يكون لهم الأثر البارز فيه، وأن يحصلوا على ثقتهم ليكون ذلك مؤثرا.
ثم بعد هذا الركن الثالث من أركان بناء النبي صلى الله عليه وسلم لجماعته ودولته: هو الإخاء، فقد آخى بين المهاجرين أنفسهم، وبين المهاجرين والأنصار، وبين الأنصار أنفسهم أخوة الإسلام الحقيقية, هذه الأخوة كانوا يتوارثون بها في صدر الإسلام, كما في حديث أم العلاءء في صحيح البخاري قالت: ( كان المهاجري يرث الأنصاري، والأنصاري يرث المهاجري بإخوة الإسلام حتى نزل قول الله تعالى: وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا [الأحزاب:6], قالت: فكانوا يوصون لهم ), هذا المعروف الذي استثنى الله لهم هو الوصية, فلما منعوا من توريثهم كانوا يوصون لهم, من شدة محبتهم لإخوانهم في الدين, وهذا الإخاء أثره بارز في النفوس وهو محققاً كذلك لقوة لا حصر لها، فإذا تآخى المؤمنون فيما بينهم وتعاونوا، فإن ذلك التعاون والإخاء قوة لا يمكن أن تقف في وجهها أية قوة من قوى أهل الدنيا.
ثم بعد هذا الركن الرابع من أركان عمل النبي صلى الله عليه وسلم هذا: هو الأخذ بالأسباب، فلم يترك النبي صلى الله عليه وسلم أي سبب يؤدي إلى النصر في زمانه إلا عمله، سواءً كان معروفاً في حضارة العرب، أو كان مستورداً من حضارات الأمم الأخرى, فقد أخرج الجيوش والكمندوزات والسرايا والبعوث، وخرج هو في الغزوات، وأخرج أصحابه في السرايا الكثيرة, وكتب إلى كل جبار يدعوهم إلى الإسلام، وعرض نفسه على الناس في المواسم، وناقش الناس وجادلهم بالتي هي أحسن, فجادل أهل الكتاب, وجادل المشركين, وأقام الحجة على الناس ووعظ وذكر وخطب وعلم، فما من وجه يدل على النصر إلا عمله النبي صلى الله عليه وسلم.
حتى ما لم يكن معروفاً في حضارة العرب, فالمنبر الذي اتخذه هو من حضارة الحبشة، وقد صنعه غلام حبشي لامرأة من الأنصار من قرفاء الغابة, والخندق هو من حضارة فارس، أخذه من سلمان قال: كنا إذا خفنا خندقنا، والخاتم الذي كان في يده صلى الله عليه وسلم نقشه: محمد رسول الله، هو مستورد من حضارة الروم, فقيل: ( إنهم لا يقرءون كتاباً إلا مختوماً، فاتخذ خاتماً نقشه: محمد رسول الله، كأني أنظر إلى بياضه في يده ).
فلذلك لم يترك أي سبب يؤدي إلى النصر في زمانه إلا عمله, ولا شك أن وسائل النصر تختلف باختلاف الزمان والمكان, وإعمالها جميعاً لنصرة الله ورسوله واجب, وهو منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذلك الركن الخامس من هذه الأركان: هو التدرج والمرحلية، فلم يقدم النبي صلى الله عليه وسلم على أية مغامرة، ولا أية مخاطرة، فلم يقتل من رموز الشرك بـمكة، ولم يهدم أي صنم من أصنامهم, وقد أنزل عليه في ذلك: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الجاثية:14], فكان في وقت الاستضعاف يعامل الناس باللين والدعوة, وفي وقت الجهاد حينئذٍ قد خرجت, وأصبح له أسلوب آخر ووجه آخر من أوجه التعامل, فإذاً لا بد من الأخذ بهذه الأسباب ثم لا بد من التدرج بها والمرحلية.
فعندما بلغ المقاتلون من أصحابه ثلاثة مائة كانت معركة بدر الكبرى, وعندما بلغوا عشرة آلاف كان فتح مكة, وعندما بلغو ثلاثين ألفاً أو سبعين ألفاً كانت غزوة تبوك، ودخلت الجزيرة العربية كلها في دين الله وخرج إلى قوم في غزوة تبوك, فلذلك لم يقدم على مغامرة ولا مخاطرة قط، وكل أموره مدروسة, وفي صحيح البخاري من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( احصوا لي من دخل في دين الله ), وفي رواية: ( اكتبوا لي من نطق بالإسلام ), فكان يكتب الذين نطقوا بالإسلام والذين دخلوا في هذا الدين, ليعرف عدد جنوده، ومن هو مستعد للجهاد في سبيل الله, ومن هو صالح للدعوة, ومن هو صالح للتعليم, ومن هو صالح للبذل والإنفاق, ومن هو صالح للقيام بشئون كالزراعة والمصالح العامة, فإن التخطيط يحتاج إلى معلومات، ولا يمكن أن يقدم على أي أمر منه إلا بتلك المعلومات.
كذلك من الدروس والعبر المهمة في الهجرة النبوية: ما كان عليه الأنصار هؤلاء الفتية الصغار الذين أثروا في آبائهم وأمهاتهم، وما كانوا عليه من الإيمان والتضحية والبذل، ومحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمهاجرين معه, فكانوا يحبونهم حباً شديداً، بحيث لا يحسدونهم على ما خصهم الله به، وهذا أبلغ المحبة.
وأنت يمكن أن تحب الإنسان، وأن تحب له الخير، لكن إذا زاد عليك في الخير غالباً يقع شيء من الحسد أو من الغبطة أو من تعلق القلب بما لديه, لكن هؤلاء الأنصار لا يجدون في صدورهم حاجةً مما أوتيه للمهاجرون: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
فأحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً شديدا، وتعلقوا به وكانوا يخرجون لما علموا بالهجرة كل يوم إلى ثنية الوداع الجنوبية لاستقباله، حتى يردهم القيض من شدة الحر, وعندما طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الثنية أنشد جواري الأنصار وهن الفتيات الصغار:
طلع البدر علينا من ثنية الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع.
وكذلك عندما يأتي من غزوة من الغزوات يستقبله فتيات الأنصار وهن ينشدن:
نحن جواري من بني النجار يا حبذا محمد من جار.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يسمع نشيدهن يشهد الله على محبته لهن, وكان يحب الأنصار حباً شديداً, وقال: (يا معشر الأنصار! أما ترضون أن يرجع الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله إلى دياركم, المحيا محياكم والممات مماتكم، ولو سلك الناس شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار, ولولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار ).
ولذلك شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه التضحية العجيبة, فقال:( إنهم أدوا الذي عليهم وبقي الذي لهم ), وهذه أكبر شهادة في التضحية والبذل, أدوا الذي عليهم جميعاً وبقي الذي لهم لم يأخذوا منه شيئاً, وبين أنهم سيجدون بعده أثرةً, وأوصاهم أن يصبروا حتى يردوا عليه الحوض بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم, وهذا وعد عظيم أيضاً للأنصار.
كذلك من عبر الهجرة ودروسها المهمة: الاستعانة بعبد الله بن أريقط وهو مشرك بما لديه من الأمانة، ولاستغلال ما لديه من الخبرة والعلم، فهذا الرجل ليس مقاتلاً، ولا عدواً للنبي صلى الله عليه وسلم و أبي بكر ولو كان عدواً لما أطلعاه على شأن الهجرة، ولما استعانا به في هذا الأمر الخطير, فلذلك استعان به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأجره في طريق الهجرة، وهو امرؤ مشرك، ولكن مع هذا فإن استعانته به ليست في صلب العبادة، وإنما هو في وسيلتها وأمورها، وكان صاحب أمانةٍ وصدقٍ، وهذا يدل على أن الصفة لا تنفي إلا ضدها, فهو ولو كان مشركاً فالشرك هو أكبر الذنوب، لكن مع ذلك فيه صفات حميدة، ومنها الصدق، ومنها الوفاء، ومنها خبرته في الطريق ودلالته فيها، فهذه الصفات الحميدة لم يبطلها ما كان عليه من الشرك بالله جل جلاله.
ولذلك قد ذكرنا أن العدل من صفات النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه, فكان يثني على الإنسان بما فيه، ولو كان متصفاً في مقابل ذلك بما هو شر منه، لكن ذلك لا يبطل ما فيه؛ لأن الصفة لا تنفي إلا ضدها, فالشجاعة لا تنفي البخل مثلاً، لكنها تنفي الجبن, والجود لا ينفي كذلك الجبن ولكنه ينفي البخل وهكذا, فالصفة لا تنفي إلا ضدها.
وكذلك من العبر المهمة في هذه الهجرة: رباطة جأش النبي صلى الله عليه وسلم وشجاعته, فهو يخرج من بين ظهراني المشركين، وهم يريدون قتله فيخرج عليهم ويلقي التراب على رؤوسهم جميعاً، ويمر بين أظهرهم، وهم جالسون يتربصون ينتظرون خروجه، فيمر من بينهم, وأيضاً يستقر بهذا الغار القريب منهم، وهو يعلم شدة حرصهم على قتله, وهم يريدون المكر به, كما قال الله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].
وكذلك شجاعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فهو يعلم أن هؤلاء جاءوا واجتمعوا على البيت وحاصروه وهم يريدون قتل النبي صلى الله عليه وسلم بضربة سيوفهم في وقتٍ واحد، ومع ذلك اضطجع على سريره ولبس كساءه وتقنع بعمامته وبقي في مكانه، وذلك ليفدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه, والنبي صلى الله عليه وسلم أهل لذلك، فلا بد أن تكون محبته لدى كل واحدٍ منا تقتضي أن يبادر بفدائه بنفسه وبأهله وبكل ما لديه, كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
فإن أبي ووالدتي وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدره الدلاء
هجوت محمداً فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء
وما نستطيع إكمال هذه الدروس والعبر ولعل الإخوة يحرصون على الإجابة على بعض أسئلتهم بما يتيسر.
السؤال: هذا السؤال عن حكم تعامل مع ما يسمى بالصناديق الشعبية للادخار والقرض, والحج عن طريق هذه الصناديق وبناء البيوت عن طريقها ونحو ذلك؟
الجواب: أن كل مؤسسة من هذه المؤسسات لها مجلس إدارة، وهو يحدد وجه تعاملها، فإذا كان صندوق من هذه الصناديق يعتمد على فقيه ورع، ولا يعقد عقداً إلا بموافقة ذلك الفقيه أو لجنة فقهية، فيجوز التعامل معه والحج عن طريقه وأخذ القرض منه، والمرابحة معه، والمشاركة, وإذا كان الصندوق لا يعتمد على فقيه، ولا على لجنة فقهية، فإن عمر رضي الله عنه يقول: من لم يكن فقيهاً أكل الربا شاء أو أبى, فلذلك أصل المسألة كلها وجود الفقيه, فإذا وجد من لديه فقه في الدين وورع يحميه من اتباع الشبهات والهوى فذلك كافٍ, فأي صندوق عرفت أنه يعتمد على فقيه، فيجوز لك التعامل معه والحج عن طريقه والمرابحة معه.
السؤال: شخص يريد أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ماذا عليه أن يفعل؟
الجواب: أن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام من الكرامات, والكرامات لا ينبغي للإنسان أن يتشوف لها تشوفاً عظيماً، لكن إذا كان هذا من باب المحبة فقط فلا حرج.
وقد عرف بعض أهل العلم أن من كان تائباً لله سبحانه وتعالى منيباً، وذكر أذكار النوم كاملة، وقرأ أحاديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، مثلا قرأ من رياض الصالحين حديثاً أو حديثين، ونام على ذلك في الأغلب أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم, هذا أغلب شيء جرب في هذا الباب مما ليس فيه إشكال شرعي.
السؤال: هذا يقول: ما يفعل من يريد أن يدخل الجنة وينجو من النار؟
الجواب: أن يلتزم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى، وأن يخاف الله سبحانه وتعالى، ويستقيم على منهج الله، فإن سفيان بن عبد الله لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن ذلك قال له : ( قل: آمنت بالله ثم استقم ).
السؤال: هل يجوز طاعة ولي أمر الإنسان إذا لم يحكم بما أنزل الله؟
الجواب: يطاع فيما يوافق أمر الله، ولا يطاع في معصية الله, فما يوافق شرع الله يطاع فيه كل إنسانٍ أمر به؛ لأنه أمر بطاعة, والأمر بالمعصية لا يطاع فيه صاحبه مطلقاً، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
السؤال: هل يجوز ضرب شارب الخمر في الشارع؟
الجواب: لا؛ لأن هذا من إقامة الحدود، وهي إلى السلاطين وليست إلى عوام الناس.
السؤال: هل يجوز التجسس على من شك في اتباعه إلى جماعة متشددة والإبلاغ عنه؟
الجواب: أن التجسس حرام مطلقاً، وقد قال الله تعالى: وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا[الحجرات:12], وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تجسسوا ولا تحسسوا ), فلا يحل للإنسان أن يتجسس مطلقاً، حتى لو سمع أصوات الناس يشربون الخمر أو يمارسون رذيلة وهم جيرانه، وقد أغلقوا عليهم بابهم فلا يحل له التجسس عليهم.
السؤال: هذا يقول: إنني ذكرت في برنامجٍ أن بعض العلوم مندرجة تحت الفقه وأصوله الأشباه والنظائر والقواعد الفقهية وتخريج الفروع على الأصول، فما هي الفرق بين هذه الفروع الثلاثة؟
الجواب: أن هذه داخلة في اسم الفقه بمعناه العام, وأولاً: الأشباه والنظائر، هي المسائل الفقهية المتشابهة التي يجمعها التشابه فيما بينها, ولا يشترط أن تكون مختصرة بلفظ يحفظه الإنسان؛ بل هذه مسألة في الأيمان، ومسألة في النذور، ومسألة في الطلاق، ومسألة في الحدود، ومسألة في العقود وهي مسائل متشابهة, فهذه يجمعها أنها أشباه, وذلك مثل فروع قاعدة وصح بالحرام وعصى فالوضوء بالماء المسروق، والصلاة في الدار المغصوبة، وأخذ الفقير بوصفيه في الزكاة، والحج في المال بالمغصوب أو المسروق هذه كلها متشابهة، هي مسائل متشابهة.
أما ما يتعلق بالقواعد الفقهية: فهي الألفاظ المختصرة التي تجمع فروعاً كثيرة, وأما ما يتعلق بتخريج الفروع على الأصول فهو كيف تبنى الفروع الفقهية الموجودة في كتب الفقه على الأصول، أي: قواعد الأصول الموجودة في علم الأصول.
السؤال: هذا يسأل عن الفنون المندرجة تحت علم الفقه؟
الجواب: منها مثلاً! علم الفقه المذهبي, وعلم الفقه المقارن, وعلم تخريج الفروع على الأصول, وعلم الأصول, وعلم القواعد الفقهية, وعلم القضاء, وعلم النوازل, وعلم طبقات الفقهاء, وعلم الأشباه والنظائر وقد ذكرناه, وكذلك علم الجدل الفقهي والمناورة, وآداب الخلاف فكل هذا من العلوم المندرجة تحت الفقه.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر