الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد خلق الله عز وجل آدم عليه السلام وجعله خليفته في الأرض، وكرمه على الملائكة وفضله عليهم بما علمه من أسماء الأشياء كلها: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ [البقرة:31].
فحكم الله تعالى لصالح آدم في تلك المسابقة العلمية، وبذلك شرف هذا الجنس البشري بالعلم على غيره من سائر الأجناس، وقد كرم الله ذرية آدم بعده بأنواع التكريم فقال: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [الإسراء:70].
وهذا التكريم الذي كرم الله به هذا الجنس البشري يقتضي أنه نكتة هذا العالم، ومن أجله خلقت الأرض وما فيها، ومن أجله شرعت الأحكام لتحقيق مصالح هذا الجنس البشري؛ فقد شرع الله تعالى الأحكام لمصلحة البشر، وهو غني عنهم وعما يعملون، فإذا أحل أو حرم فإنما ذلك لصالح البشر, ولقد كلف الله الإنسان بهذا الاستخلاف، وأصله الإصلاح والقيام بمصالح أهل الأرض، ويبدأ ذلك بإصلاح الإنسان نفسه أولاً, فالإنسان ما لم يكن لبنة صالحة في بناء المجتمع، وما لم يؤدِّ المهمة التي من أجلها ابتعث إلى الأرض ومن أجل ما سبق -فإنه لا يمكن أن يكون طرفاً في إصلاح؛ لأن البسيط مقدم عن المركب، فالإنسان الصالح في نفسه يمكن أن يكون جزءاً من مركب صالح، والإنسان الفاسد إذا كان في مركب لا بد أن يأتي إليه الفساد من قبل ذلك الجزء الفاسد فيه.
فاحتيج أولاً إلى إصلاح الإنسان لنفسه، وإصلاحه لنفسه لا يتم إلا بأربعة أمور هي:
أولاً: تعلم ما أمر الله به، ثم العمل بما تعلمه من أمر الله، ثم الدعوة إلى ما تعلمه وعمل به، ثم الصبر على طريق الحق حتى يلقى الله, فهذه الأربع هي التي تضمنتها سورة العصر التي قال فيها الشافعي رحمه الله: (لو لم ينزل من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سورة العصر لكفت حجة على الناس), يقول الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا[العصر:1-3]، وهذا تعلم ما أمر الله به؛ لأن الإيمان لا يمكن أن يتحقق إلا بتعلم الإنسان لما أمر الله بتعلمه من أمور الإيمان. وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [العصر:3]، وهذا العمل، (( وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ )), وهذه دعوة، وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3]، وهذا الصبر على الطريق، وهو أيضاً وصية لقمان لابنه كما قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، وهذا تعليم ثم قال بعد هذا التعليم: (( يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ )), وهذا العمل، ثم قال: وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ [لقمان:17]، وهذه الدعوة، ثم قال: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17] وهذا الصبر على طريق الحق.
إذا حقق الإنسان هذه الأمور الأربعة في نفس الاتجاه أصبح إنسانا يستحق أن ينضم إليه غيره, وحينئذٍ فإن المرحلة اللاحقة من مراحل الاستخلاف في الأرض تقتضي أن له بناء أسرة, وبناء الأسرة مقصد شرعي، يقصد به بقاء هذا الجنس البشري واستمراره، ويقصد به تحقيق الاستخلاف في الأرض بالقيام ببعض الوظائف الشرعية التي ما وجهها الشارع للأفراد, فالأحكام الشرعية التي ترونها في القرآن وفي السنة وفي كتب الفقه بعضها موجهة للفرد كأحكام طهارته وصلاته وصيامه, وبعضها موجه إلى الأسرة كأحكام الأنكحة والنفقات والرضاع وغير ذلك، وبعضها موجه إلى المجتمع كأحكام العقود والبيوع والشراء ونحو ذلك, وبعضها موجه إلى الدولة كأحكام القضاء والجهاد وإقامة الحدود ونحو ذلك.
فإذاً هذه الأحكام ليست موجهة إلى الفرد كلها، بل بعضها موجه الى الفرد، وبعضها موجه إلى الأسرة وبعضها موجه إلى المجتمع وبعضها موجه إلى الدولة.
ومراحل الاستخلاف لا تتم إلا هكذا: أن يصلح الإنسان نفسه ثم يشارك في بناء أسرة صالحة، ثم يشارك في بناء مجتمع صالح، ثم في بناء دولة صالحة، وحينئذٍ يتكامل البنيان الذي به يتم الاستخلاف في الأرض، فلا نجد حينئذ حكماً معطلاً؛ لأن الحكم ما لم يحصل حصلت وسائله، ومن يوجه إليه لا يمكن أن يقالّ, فالأحكام الموجهة إلى الأسرة ما لم تحصل أسرة لا يستطيع الإنسان القيام بها، وليس معنى ذلك أنه سيعطل جزءاً من القرآن لا يعنيه، فمثلاً في سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا * وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:1-3]، وهذا لا يعني أبداً أن هذا القسم من القرآن لا يعنيه إن كان سيتركه، بل هذا يتعلق بمرحلة بعد إصلاحه لنفسه وهي إصلاحه لأسرته، وحينئذٍ يكون هذا الخطاب موجهاً إليه مع شريكه الثاني في الأسرة، وكذلك الأحكام الأخرى الموجهة إلى المجتمع, وهو قوله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ [المائدة:2], ومثل قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:103-105], فهذه الأحكام أيضاً لا بد أن تكون موجهة إلى من يقوم بها وليست موجهة إلى فرد وحده، بل هي موجهة إلى المجتمع؛ ومنه يلزم أن يقام المجتمع المسلم الصالح الذي يقيم هذه الأحكام ويعرف أنها خطاب الله وأنها موجهة إليه، فيؤديها كما أدى الفرد الأحكام الموجهة إليه، وكما أدت الأسرة الأحكام الموجهة إليها.
ثم بعد هذا تأتي الأحكام الموجهة إلى الدولة، فهذه أيضاً لا بد أن تقوم بها دولة مسلمة ترعى حدود الله وتقيمها، فعندما يأتي الخطاب: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ [النور:2], وقوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللهِ [المائدة:38], هذه الأحكام من عند الله سبحانه وتعالى وليست موجهة إلى الأفراد ولا إلى الأسرة ولا إلى المجتمع، بل هي موجهة إلى الدولة, وما لم تقم دولة ترعى هذه الأحكام وتطبقها ستبقى هذه الأحكام معطلة، فلذلك لا بد من إقامة حكم إسلامي صحيح يقيم أحكام الله الموجهة إلى الدولة ويرعاها ويؤديها.
وما سأتحدث عنه هنا هو بناء الأسرة، وهي المرحلة الثانية بعد بناء الإنسان لنفسه وشخصيته, فبناء الأسرة يبدأ كغيره من الأعمال بالنية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى), فالإنسان ليس مثل الحيوان البهيمي، الذي يأتي شهوته ويأتي حاجته ثم ينطلق كأن شيئاً ما حصل ولا يترتب على ذلك أحكام ولا نفقات ولا التزامات ولا واجبات, بل الإنسان كائن مشرف وكل تصرفاته مبنية على سوابق تتراكم حتى تحصل شخصيته المتكاملة.
وبالتالي لا بد أن تكون له التزامات ولا بد أن تكون له أدبيات وأخلاق، ولا بد أن تترتب على تصرفاته أفعال أخرى، وأحكام تتعلق بتلك الأفعال، ومن هنا فليس للإنسان أن يتزوج لمجرد الزواج، أو أن يفعل ذلك تقليداً كما يفعله كثير من عوام الناس حيث يتزوجون من أجل التقليد, بأن رأوا الناس إذا بلغوا سناً معينة تزوجوا فيتزوجون من أجل التقليد، كما أنهم يرونهم يصلون فيصلون تقليداً، بل قد قال الإمام عبد الحق الإشبيلي : لكنهم كفروا بالله تقليداً نعوذ بالله.
فهذا النوع من التقليد لا يليق بالمسلم، بل لا بد أن يكون عارفاً لماذا يعمل؟
ثم إن كثيراً من الناس أيضاً إذا أراد بناء أسرة فإنما ينوي أن يأتي شهوته فقط, أو ينوي أن يكون له أولاد فقط، وهذه النية لا يحصل للإنسان من مشروعه الذي يقدم عليه إلا هي, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته أو ما هاجر إليه ).
لكن لا بد أن يعرف المسلم النيات التي تلزم عند إرادته بناء الأسرة، وهذه النية مشتركة يلزم أن يعرفها الرجل ويلزم أن تعرفها المرأة, وهذه النيات أرجعها العلماء إلى ست:
النية الأولى: أن يمتثل أمر الله تعالى في قوله: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]، فهذا أمر من الله سبحانه وتعالى ويلزمه الإيفاء به وتطبيقه، ومن فعل ذلك تقرباً لله سبحانه وتعالى أثابه عليه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للسائل حين قال له: ( أرأيت إذا أديت المكتوبات، واجتنبت الحرام، وأحللت الحلال، ثم لم أزد على ذلك شيئاً، أأدخل الجنة؟ قال: نعم ).
والمقصود باستحلال الحلال: إتيانه معتقداً حليته، فذلك يثاب عليه الإنسان؛ لأنه العلامة بأنه رضي بحكم الله واقتنع به وانقاد له, فإذاً هذا هو الأمر الأول، ولا اعتراض على هذا الأمر من جهة أن النكاح قد لا يجب على بعض الناس كالبقية؛ لأنه تعتريه أحكام الشرع، فقد يكون واجباً، وقد يكون حراماً، وقد يكون سنة، وقد يكون مندوباً، وقد يكون مكروهاً كما يأتي، لكن هذا الخطاب موجه من البداية لعباده، فلا بد من امتثاله حتى لو كان على الإباحة, فاستحلال الحلال لتحقيق العبادة لله وتحقيق العبودية له والقيام لأمره أمر مطلوب.
النية الثانية: الامتثال لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، وإلا فعليه بالصوم فإنه له وجاء).
وكذلك الامتثال لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة )، وفي رواية لـأبي داود في السنن: ( فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة ).
فالنبي صلى الله عليه وسلم يكاثر الأنبياء بأمته، وقد صح عنه في ذلك عدد كثير من الأحاديث الصحيحة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان والنبي وليس معه أحد والنبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرهيط، حتى ظهر لي سواد عظيم فقلت: هؤلاء أمتي؟ فقيل: لا, هذا موسى وأمته ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت إلى سواد عظيم قد سد الأفق، فقيل: هؤلاء أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة من غير حساب ولا عذاب).
فالنبي صلى الله عليه وسلم يكاثر الأمم ويكاثر الأنبياء بأتباعه، ويزداد ثوابه كلما ازدادت أمته فرداً واحداً, فكلما ازداد المصلون مصلٍ واحداً يزداد أجر النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما ازداد الذاكرون بذاكر واحد يزداد أجر النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما ازدادت دعاته إلى الله بواحد يزداد أجر النبي صلى الله عليه وسلم ويزداد عمره.
وبذلك أقول في بعض الأحيان لبعض الإخوة الذين أراهم يخرجون في سبيل الله، ويدعون الناس إلى طريق الحق: إنكم في طريقكم هذه تهدون جزءاً من أعمالكم للنبي صلى الله عليه وسلم ليزداد به عمره، فالإنسان حريص جداً على عمر النبي صلى الله عليه وسلم وأنتم تعرفون أنكم يجب عليكم فداؤه بأنفسكم وأموالكم، وليس ذلك شيئاً في مقابل ما له من الحق.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يستحق أن يفدى بأمته بكاملها، ولذلك أنت إذا قمت بالدعوة إلى الله فإنما تزيد عمر النبي صلى الله عليه وسلم بساعة أو ثنتين أو ثلاث من عمرك أنت، أهديتها للنبي صلى الله عليه وسلم لتزيد بها عمره، ولذلك فتلك الساعة التي تنفقها في الدعوة سواء كنت مشاركاً أو مباشراً أو حاضراً أو مستمعاً هي خير ساعاتك، فهي أفضل سائر عمرك؛ لأنها معدودة في عمر النبي صلى الله عليه وسلم، وليست معدودة فقط في عمرك أنت, فعمرك أنت هو ما تقضيه في بيتك وفي أهلك، أما العمر الذي تقضيه في الدعوة إلى الله فهو من عمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه المكلف بتبليغ هذه الرسالة، وقد أداها على أحسن الوجوه، وتبليغها إنما هو قيام بمهمته وأداء لوظيفته.
ولهذا أخرج البخاري في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من نبي بعثه الله قبلي إلا أوتي ما مثله آمن عليه الرسل، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة )، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة، وهذا الرجاء مرتب على قوله: ( وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي).
وهذا القرآن كل من تحمل منه آية واحدة، فقد ازداد بها أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا داخل في: ( فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة ).
ولذلك فالحجة القائمة به تختلف عن الحجة القائمة بمعجزات الرسل السابقين، فمعجزات الرسل السابقين الذين كانت رسالتهم مؤقتة بمدة في علم الله يصلح لها تطبيق ما جاءوا به، وإذا انتهت تلك المدة لم تعد رسالتهم صالحة للتطبيق، ولم يعد ما جاءوا به صالحاً للتطبيق، بل ينسخ ويغير برسالة أخرى, أولئك الرسل كانت معجزاتهم من جنس ما هو سائد لدى البشر في ذلك الوقت، كناقة صالح، والإبل تعرفون مكانتها عند العرب، وكعصا موسى وتعرفون اشتغال أهل مصر إذ ذاك بالسحر، وكشفاء عيسى للأكمه والأبرص وإحيائه للموتى، وميلاده من غير أب، وهي أمور توقف لها الطب والعلم، وتعرفون شغف أهل ذلك الوقت بالعلم والطب، وهكذا فكل رسالة تأتي معجزتها من جنس ما هو أرقى ما اشتغل به الناس في ذلك الوقت، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم لبقائها واستمرارها لم تكن معجزتها معجزة مادية؛ لأن المعجزة المادية إنما تقوم بها الحجة على من رآها أو من نقلت إليه تواتراً ثم تنتهي بعد ذلك.
فكون عيسى يحيي الموتى بإذن الله ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، لو لم يأتِ ذلك في القرآن لما صدق به هذا الرجل قطعاً، لكنه إنما صدق به لأنه جاء في القرآن، فلذلك لو كانت معجزة محمد صلى الله عليه وسلم مادية محضة لقامت بها الحجة على الذين شاهدوها والذين نقلت إليهم تواتراً ثم تنتهي الرسالة، ومن المعلوم أن رسالته مستمرة لكل من بعده: لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19]، إلى قيام الساعة، فلا بد أن تكون معجزته معجزة للجميع، تقوم بها الحجة على أهل كل عصر وأهل كل مصر وأهل كل لسان، وهي هذا القرآن الذي يتلى وقد تحدى الله به الثقلين (الإنس والجن) أن يأتوا بسورة من مثله، والتحدي به باق خالد ما دامت هذه الدعوة قائمة حتى يرث الله الأرض ومن عليها وحتى يرفع القرآن إليه: ( منه بدأ وإليه يعود ).
فلذلك زيادة أفراد أتباع محمد صلى الله عليه وسلم مقصد شرعي، ونية من نيات بناء الأسرة، فلا بد أن يلي الإنسان تحقيقها ويلي امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ).
النية الثالثة: هي طلب النسل الصالح، الذي يكون امتداداً في عمر الإنسان، فالعمر فائدته ترجيح كفة الحسنات، أي: زيادة الحسنات، وكلما ذهب من العمر في غير ذلك فهي باطل ويندم عليه صاحبه، ولذلك قال الشيخ سيدي محمد بن الشيخ أحمد رحمة الله عليهم:
والعمر مدته كمثل دراهم بيد الفتى يقضي بها حاجاته
خسر لذي عقل لبيب مؤمن وقت يمر ولم يزد حسناته
فالوقت فائدته زيادة الحسنات، وأي وقت يمر ولم تزدد فيه حسنات الإنسان يكون ترة عليه بين يدي الله، والإنسان عمره محدود وبقاؤه في هذه الحياة الدنيا قصير، وفي عمله تقصير، والناقد بصير، وسيحتاج إذاً إلى الاستمرار والدوام، وهذا الدوام من الميئوس منه أن يكون في حياته الشخصية، فلذلك يحتاج فيه إلى رافد خارجي وهي الذرية التي بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنها بقاء للإنسان وازدياد في عمره وعمله، فقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية ).
والولد عمله الصالح في كفة حسنات آبائه، وعمله السيئ عليه هو فقط، فلا يصل إلى والديه منه شيء، وعمله الصالح يصله إلى والديه إذا نويا طلب الذرية، فالولد الصالح يزيد حسناتهما.
فإذاً هذه النية على الراجح أيضاً هي شرط لاستمرار العمر في الذرية، وشرط لحصول أجر عمل الأولاد، بأن ينوي الإنسان وجودهم ليكون ذلك زيادة في عمله وعمره، والحمد لله هذه النية بالإمكان أن تلحق العمل؛ لأن تربية الإنسان لأولاده وقيامه عليهم مثل إنتاجهم من جديد، فكل يوم من الأيام هو عمر جديد يتجدد في حياة الأولاد، فبالإمكان أن يجدد الإنسان هذه النية إذا فات من عمره ما تسبب فيه من ذرية، فإذا لم يستحضر هذه النية فبالإمكان أن يجددها في كل وقت في تعامله مع أولاده، وإحسانه إليهم، وتربيته لهم، وقيامه عليهم.
ثم بعد هذا النية الرابعة: هي إعفاف نفسه، فلبدن الإنسان عليه حق أكده النبي صلى الله عليه وسلم وبينه، ويجب عليه أن يصون جوارحه عن المعصية، ولا يكون ذلك إلا بإعفاف نفسه، فإذاً يجب عليه السعي لإعفاف نفسه.
والنية الخامسة: هي السعي لإعفاف الطرف الآخر، أعني الشريك الثاني في الأسرة أيضاً، وإعفافه من المعاونة على البر والتقوى، وقد قال الله تعالى: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:32-33].
فلذلك يساعد الإنسان على إعفاف الطرف الآخر وبالتالي سيشارك في نقص الجرائم المتعلقة بالجنس، كجريمة الزنا وجريمة اللواط وغير ذلك من الجرائم المحرمة، فعندما يسعى الإنسان لإقامة أسرة مسلمة، فإنه يشارك في قطع هذه الجرائم وتقليلها ونقصها، وأنتم تعرفون أن الجرائم إنما تكون ظاهرة بكثرة تكررها وانتشارها، وأنها لا يقضى عليها بقرار سياسي ولا بمحاكمة ولا بقانون، إنما يقضى عليها بالتدريب بإصلاح المجتمع، فهذا الذي يقضي على الجرائم، ومن هنا فهذه النية ذات أهمية كبيرة عندما يكون الإنسان مستعداً لأن يعف غيره حتى يقطع هذه الجريمة ويمنعها، وحتى يقوم بالحق الذي عليه تجاه الآخرين.
ثم النية السادسة: هي إقامة البيت المسلم الذي تقام فيه أوامر الله سبحانه وتعالى التي تتعلق بالبيت، وهذه مرحلة من مراحل الاستخلاف لا بد من تحقيقها، فلا بد من نية إقامة البيوت المسلمة، التي تقوم على أساس من البر والتقوى، ويحترم أهلها أحكام الشرع، ويعلمون أنهم مخاطبون بين يدي الله، ومعروضون عليه، وكل إنسان منهم عليه من الحق مثل الذي له، كما قال الله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ [البقرة:228] أي: للنساء من الحق مثل الذي عليهن بالمعروف، فالحق مشترك بين الطرفين، وكل طرف له من الحق مثل الذي عليه، فعليه أن يؤدي كل الحق الذي عليه، وعليه أن يسامح ما استطاع في الحق الذي له، وإذا حصل هذا فسيقع الإنصاف الذي يمنع الخلاف.
هذه النيات يستحضرها الإنسان عند إرادته لإحداث الأسرة، ثم بعد هذا هدف الإنسان للإقامة في هذه الأسرة لا بد أن يكون حاضراً في ذهنه، وأن يعلم ما يترتب عليه من مسئوليات، فالإنسان إذا أقام أسرة فمعناه أنه أصبح مسئولاً وصاحب قرار في محضن من محاضن التربية ومستوى من مستويات المجتمع, كالذي يعين في وظيفة لا بد أن تحدث لديه مسئولية عندما يقوم بهذا العمل، ولذلك فقد قال الله تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34].
فيجب عليه أن يحرص على قيامه بمهمته حق القيام، وأن يكون راعياً أميناً, فالنبي صلى الله عليه وسلم حض على القيام بهذه المسئولية فقال: ( كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته ), وسيأتي يوم القيامة مسئولاً عما استرعاه الله تعالى من الناس وسيخاطبونه بين يدي الله، فالله يسأل عن صحبة ساعة، وأول من يخاصم الإنسان بين يدي الله أهل بيته فيقولون: يا رب! وليت علينا عبدك هذا فرآنا على المنكر فلم يغيره، ورآنا نقصر بالمعروف فلم يأمرنا به، فلذلك يفر منهم إذا رآهم يوم القيامة: يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].
كل من عرف الإنسان وجهه في هذه الحياة الدنيا يفر منه يوم القيامة ويخاف أن يطالبه بحق بين يدي الحكم العدل الذي لا يظلم عنده أحد, ولذلك لا بد من تحمل هذه المسئولية، وأن يستحضر الإنسان قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
فأولاد الإنسان يشق عليه جداً أن يمرضوا أي مرض، وأن يشاكوا بأية شوكة، وإذا بات أحدهم ساهراً من أجل شوكة أو ألم في ضرسه أو مرضٍ أياً كان فسيسعى للتخفيف عنه بما يستطيع، وسينفق ماله وجاهه من أجل تخفيف معاناته بما استطاع, ولو اعتقل أحدهم لدى شرطة هذه الدنيا الضعيفة المسكينة، التي لا تملك لنفسها ولا لغيرها نفعاً ولا ضراً ولا حياةً ولا موتاً ولا نشوراً: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ [الحج:73]، فإنه حينئذٍ ستضيق عليه الأرض بما رحبت وسيسعى لإنقاذه بما يستطيع، فكيف لا يسعى لإنقاذه من عذاب الله، ومن تعذيب الملائكة الأقوياء الأشداء الذين وصفهم الله بهذا الوصف العظيم، فقال: عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
إن قيام الإنسان بهذه المسئولية يقتضي منه أن يكون منتبهاً، وأن يكون صاحب صدق، وأن يتقي الله في تصرفاته، فالإنسان قبل أن يشارك في بناء أسرة فذنوبه عليه فقط، فإذا كذب فهذا ذنب عليه فيما بينه وبين الله ويمكن أن يتجاوز الله عنه، ويمكن أن يتوب فيتوب الله عليه، لكن إذا كان صاحب أسرة فكذب بين يدي أولاده وأهله، فهذا الكذب ليس كالكذب الأول؛ لأنه تعليم للكذب، فهو الآن بمثابة أستاذ أمام السبورة يعلم الناس الكذب والفجور.
وكذلك تصرفه في أي تصرف من التصرفات، قبل أن تكون له أسرة كان على حسابه الشخصي، أما بعد إقامة الأسرة فقد أصبح أستاذاً معلماً، وقد قال زياد بن أبيه : إن كذبة الأمير على المنبر بلقاء، فمسئوليات الأمير مثلاً أو القائد أو المسئول تختلف تمام الاختلاف عن الأفراد، فلذلك كلما ترقت درجة الإنسان في المسئولية كلما ازداد خطابه.
وهذا الذي نذكره في شأن رب الأسرة الواحدة، أعظم منه من كان ذا مكانة اجتماعية كقائد لمجموعة أياً كانت (قبيلة أو غيرها)، وأعظم من ذلك من كان على قمة الهرم كرئيس دولة أو ملك أو قائد، فكل رعيته يخاطبونه بين يدي الله، وكل إنسان منهم يريد حقه، ولا يظن بهم حينئذٍ العفو في ذلك المقام؛ لأنهم قد أبصروا الحق وعرفوه وهم محتاجون إلى حقوقهم، فلا يرجى منهم المسامحة في ذلك الوقت، فلهذا لا بد أن يكون المقدم على إقامة أسرة يعرف هذه التبعات ويستعد لها؛ ليستعين بالله عليها للقيام بها على الوجه الصحيح.
كذلك بعد هذا تكون مرحلة الاختيار.
ومرحلة الاختيار لابد فيها أن يحذر الإنسان، فالبشر كائن كثير الاختفاء، ولديه كثير من الأسرار والعيوب والأمراض التي لا يطلع عليها إلا علام الغيوب, وهذه شديدة العدوى والسيران للمخالط ولهذا قال الحكيم:
لا تصحب الكسلان في حاجاته كم صالح بفساد آخر يفسد
عدوى البليد إلى الجليد سريعة والجمر يوضع في الرماد فيخمد
فلهذا قد يكون الإنسان نشطاً في الخير والدعوة والصلاة ويقوم الليل ويصوم النفل، ولكن عندما يقيم أسرة ويكون الطرف الآخر له اهتمامات أخرى فيهتم بالموضات والأسواق، ويهتم بأنواع المطاعم والمشارب والمآكل، فإنه يتغير اتجاهه هو وينقلب، فيكون هذا المشروع سلبياً في حقه؛ لأنه سرت إليه العداوة بما يضره ولم يستطع هو التأثير بجلب الجانب الآخر إليه.
وفيروسات الإيمان أخطر من فيروسات البدن, ففيروسات البدن قد يكون الإنسان فيها حاملاً للفيروس، كفيروس السيدا وفيروس الكبد الوبائي، وأي فيروس من الفيروسات يكون قابلاً للانتقال فإنه يخاف الناس منها عند الزواج، لكن أخطر منها وأعظم فيروسات الإيمان؛ أن يكون طرف من طرفي الأسرة يحمل فيروساً من الفيروسات الضارة بالإيمان، كنقص التوكل على الله والرغبة في أمور الدنيا والخوف من غير الله, فالإنسان إذا تضخمت في ذهنه الدنيا وأعجبته، فقد تلبس بفيروس من فيروسات الإيمان ولا يمكن القضاء عليه بسهولة، وكثير من المعاصي سببه تضخم الدنيا في ذهن الإنسان؛ لأنه يظن أن الأمل طويل، وأن العمر طويل، وأنه إن وقع في معصية فسيقع بعدها في طاعة وسيكفرها فيما بعد، وأنه سيتوب في المستقبل، ولكن أنى له ذلك وسيعاجله الموت: وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:185].
وكذلك فإن تضخم الدنيا في ذهن الإنسان يقتضي منه النقص في الإقبال على الآخرة، والتزود لها، فستكون الدنيا أكبر همه، فيحاول الازدياد منها وأن يكون جهده وطاقته مصروفين إلى الدنيا، وهي ضرة الآخرة ولا يمكن إرضاؤهما معاً، فإما أن ترضي ما يتعلق بالآخرة، وإما أن ترضي ما يتعلق بالدنيا, فلذلك لا بد أن يختار الإنسان الشريك الذي بينه وبينه قواسم مشتركة، وهذه القواسم أهمها الإيمان، فقد قال الله تعالى: وَلا تُنكِحُوا المُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [البقرة:221]، وَلا تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221].
فإذا كان الإنسان لديه فيروس من فيروسات الإيمان، ولديه شركيات ومعاص وإقبال على الدنيا ومحبة لها وجهالة لأمر الدين، وليس لديه اهتمام بأمر هذا الدين، ولا يستحضر الوقوف بين يدي الله ولا يدور أمر الآخرة في خلده، فهذا شريك غير مبارك، ولا يمكن أن ينتفع الإنسان بشراكته أبداً.
لذلك لا بد أن يحرص الإنسان أن يكون الطرف الآخر صاحب دين، وصاحب إيمان، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم معايير تلزم مراعاتها، فقال في الرجل كما في سنن أبي داود بسند صحيح: ( إذا أتاكم من ترضونه وخلقه فأنكحوه، وإلا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ), فالرجل في العادة لا ينظر إلى جمال خلقته؛ لأن هذا من الأمور التي يأتي عليها الزمان وشخصيته أهم من ذلك، ولا ينظر أيضاً إلى ما تحت يده؛ لأن الرجال الذين يصونون الأموال ويكنزونها معناه أن لديهم بخلاً فلا ينتفع الشريك الآخر من ماله أبداً، والذي يجمع المال ثم يوزعه في الخير فهذا قطعاً أولى من الذي يجمعه ثم يكنز؛ فلذلك لم يذكر المال في وصف الرجل, فالرجل من طبيعته الاكتساب وإنتاج المال، فإذا كان يكنزه ويجمعه ليتركه لورثته من بعده فلا فائدة فيه, وإذا كان يجمعه ثم يوزعه في أوجه الخير، فهذا المحمود وذلك ناتج عن حسن الخلق، ولذلك قال: ( إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه )، فهما معياران فقط: الدين والخلق، ففي الدين يتحمل مسئولياته ويؤديها على الوجه الصحيح حين يقوم بها, ويكون الطرف الآخر أمانة لديه، ولا يمكن أن يضيع هذه الأمانة لأن دينه يحجزه عن الاعتداء عليها، وبالأخص إذا عرفنا أن الجانب الأضعف في بناء الأسرة هو جانب النساء، ولذلك أوصى الشارع بهن فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته في حجة الوداع أنه قال: ( استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان لديكم، أخذتموه بشرط الله، واستحللتم فروجهن بكتاب الله، وإن المرأة خلقت من ضلع أعوج، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن استمتعت بها استمتعت بها على عوج، وإن ذهبت تقيمه انكسر ), فهذه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنساء خيراً.
وبين النبي صلى الله عليه وسلم كذلك ضرورة الصبر عليهن، عندما ذكر أن المرأة خلقت من ضلع أعوج، فإنك إذا استمتعت بها استمتعت بها على عوج، فلا بد أن تكون من قبل مستعداً للصبر على كثير من الكلام والكثير من التصرفات وكثير من الأفعال، وكثير من النقص، فإذا أقدمت وأنت تريد امرأة كاملة ليس فيها أي خطأ ولا أي نقص، وفيه طاعة كاملة، وفيها التزام بكل شيء، فمعناه أنك تريد نساء الجنة، وهذا مستحيل أن يوجد في الدنيا, لا بد أن تأتي وأنت تعرف أن النقص حاصل، وأن المخالطة أياً كانت تحتاج إلى الصبر، ألست تحتاج إلى الصبر على والدتك ووالدك وأخيك وأختك، وكما تحتاج إلى الصبر على هؤلاء فكذلك اعلم أنك لن تخالط أحداً إلا احتجت إلى الصبر منه، وقد قال الشاعر:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
وقال الآخر:
ولست بمستبق أخاً لا تلمه على شعث أي الرجال المهذب
فلذلك لا بد أن يأتي الإنسان وهو يعلم أنه لن يقدم على نساء الجنة، وإنما يريد نساء الدنيا، وفيهن ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( فإن استمتعت استمتعت بها على عوج، وإن ذهبت تقيمها انكسرت ), وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأمثلة من هذا الاعوجاج، وهو كفران العشير، ( لو أحسنت إلى إحداهن أبد الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط )، وهذا المرض مستشرٍ في النساء كثير فيهن، فإذا أحسن الإنسان إلى إحداهن فستذكر له ذلك لتشكره في وقت الرضا، وتنساه وترفضه في وقت الغضب، وأيضاً سيكون الكلام غير معبر عن القناعة، فكثير من النساء -ويظن ذلك من التدلل- تتكلم بما لا تقتنع به تجاه الإنسان نفسه, فالكلام الذي توجهه إليه لم يعبر عن الحقيقة لديها، فطلباتها قد لا تعبر عن مرادها الواقعي، وقد تطلب الطلاق وهي لا تريد الطلاق، وقد تتنقص الإنسان وهي في واقع الأمر تعجب به.
فلذلك هذا الطرف الأضعف في الأسرة لا بد من مراعاة أحواله، ولا بد من الصبر عليه، ولا بد من احترام مشاعره، ولا بد أن يعرف الإنسان أن مسئوليته عنه تقتضي أن يلطف به وأن يرفق به، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به, ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه), وقال ( ما من راعٍ يوليه الله رعية للأمة فيموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا لم يدخل معهم الجنة )، فلذلك لا بد أن يعرف الإنسان أن رعيته تحتاج إلى أن يصبر عليها، وأن يرفق بها، وأن لا يشق عليها.
أما في جهة النساء فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أربعة معايير، وهذه المعايير قلّما تجتمع، ولكن إذا اجتمعت فقد حصل الكمال، وإذا لم تجتمع بين النبي صلى الله عليه وسلم أرجحها وأفضلها، فقال: ( تنكح المرأة لأربع: لجمالها، ولمالها، ولحسبها، ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك ), فهنا ذكر أربعة أمور: جمالها أي خلقتها، وهذا طبعاً ليس بيد البشر وليس لهم تدخل فيه، إنما هو من صنع الله سبحانه وتعالى، وقد جعل الله تعالى آراء الناس فيه متباينة، وذلك من تمام تدبيره فالحسن لدى بعض الناس والمرغوب فيه يكون غير حسن، وغير مرغوب فيه لدى آخرين، وهذا بفضل الله سبحانه وتعالى وحسن تدبيره وتسييره للكون.
ثم بعد هذا قال: (ولحسبها)، أي: لنسبها ومفاخر آبائها، والمقصود بذلك من حولها؛ لأن الولد إنما يكون تابعاً لآباء المرأة في خلقه وفي تدبيره، فالمرأة تلد خالها غالباً وأخاها نادراً، وقد قال أحد الحكماء:
إذا كنت تبغي أيماً بجهالة من الـ ناس فانظر من أخوها وخالها
فأخوها وخالها مؤثران في ذريتها، حيث تنطبع الذرية بطابعهما.
ثم بعد هذا قال: (ولمالها)، وهذا يشارك في تقليل المسئوليات وفي أن يكون الطرف الآخر أيضاً له مشاركة في الأسرة، فإذا كان الطرف الآخر جاء إلى الأسرة لا يحمل شيئاً معه فسيكون ضعيفاً في المشاركة في القرار، وسيستشعر نقصاً، أما إذا جاء ولديه ما يغنيه ولديه من الوسائل ما يستطيع به تحقيق بعض متطلبات الأسرة، فسيكون مشاركاً في القرار وطرفاً قوياً، والمقصود في بناء الأسرة أن يكون طرفاها مشاركين معاً, فكثير من الناس يظن أن المقصود هو قوة الرجل فقط، وأن المرأة ينبغي أن تكون ضعيفة، وكل ما ضعفت وكانت مطيعة كان ذلك أولى وهذا غير صحيح، فلا يقصد أن تكون الأسرة طرفاً واحداً والطرف الآخر صورة طبق الأصل منه، أو لعبة في يده أو آلة تصرف يصرفها كيف يشاء، فهذا غير صحيح، بل المقصود أن تكون الأسرة متكاملة بما لا يطلع عليه الرجال من أمور المروءة، أو من أمور الدين، فما لا يقومون به تقوم به المرأة، وهي صاحبة القرار فيه، وما لا يطلع عليه النساء يقوم به الرجل، وهكذا حتى يقع التكامل.
فإذا كانت المرأة ليس لها رأي وليس لها مشاركة في أي شيء، وليس لها قرار ولا تأمر ولا تنهى، فالواقع أن الأسرة مكونة من شخص واحد، وليست مكونة من شخصين، والعكس أشد إذا كان الرجل هو الضعيف وكانت المرأة هي صاحبة القرار في كل شيء، فقد انعكست الفطرة وحصل الضرر الماحق، وذلك مذموم شرعاً؛ لأنه من وضع الأمور في غير نصابها، ومن هنا فلا بد أن يكون كل طرف طرفاً كاملاً، قد تكاملت شخصيته حتى يقع الإنضاج للأسرة بين طرفين صالحين وحافزين قويين يمنعان دخول ما لا خير فيه إلى حيز الأسرة.
ثم قال: ( ولدينها )، وهذا هو المعيار الأهم، هو معيار الدين، فالدين يمنعها من طلب ما ليس لها من الحقوق، ويمنعها من الاعتداء على حقوق الزوج، ويحفزها على القيام بمصالحه، وبالأخص أن الشخص الذي ترعاه وأنت مسئول عن دينه وعن خلقه، ولا تستطيع ملازمته في الليل والنهار أبد الآبدين، لا بد أن تجد فيه ما يساعدك على حفظه، فإذا كان لديها دين تثق به، فمعناه أنك قد ارتحت فيما يتعلق بحضانتها وصيانتها.
وأيضاً فهذا الدين يقتضي قيامها بمصالحك وأنت غائب، ورعايتها لما يجب عليك رعايته؛ لأنها تعلم أن المشروع مشترك والرأي مشترك، لذلك ستقوم بما يليها، وقد قال الشيخ محمد سالم حفظه الله:
ما غاب من خلف في الدار من ترعاه في مقامه والمسير
كأنها إياه في كل ما تفعل في غيبته تستشير
تأتي الذي يرضى وتأبى الذي يأبى عليها دينها والضمير
فالمرأة إذا كانت هكذا فقد تحقق المقصد الشرعي، وأدت وظيفتها على أحسن الوجوه، فلهذا قال: ( فاظفر بذات الدين تربت يداك ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (تربت يداك)، تعزيز لهذا الإرشاد، وهو قوله: (فاظفر بذات الدين) وتحفيز للقيام به.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد.
السؤال: ما معنى حديث: ( والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني )؟
الجواب: عرف في هذا الحديث العاجز وهو ضد الكيّس، فالكيس: العاقل، والعاجز من يتصف بالعجز، وهو مرض نفسي، فليس العجز مرضاً بدنياً كما يتوهمه بعض الناس، إنما هو نقص القوة العقلية، فإذا كان الإنسان ضعيف الشخصية فهذا يعني العاجز، فلذلك قال: ( والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني )، فالعاجز هو من أتبع نفسه هواها، فلم يريد أن يضحي ببعض وقته ولا ببعض جهده، ولا ببعض راحته، إذا جاءه وقت فراغ قام إلى النعاس ونام، وإذا جاء وقت المآكل والمشارب كان من المبادرين إليه، فلم يستطع الصيام ولا القيام، ولم يكن ليبادر إلى الطاعات، فهذا هو العاجز؛ لأنه مأسور باتباع الهوى، ( وتمنى على الله الأماني )، فهو يتمنى أن يكون ممن يؤتى صحفاً منشرة، وأن يكون من الذي يبيض الله وجوههم يوم القيامة، ويتمنى جوار النبي صلى الله عليه وسلم والفردوس الأعلى من الجنة، لكن هذا ليس بالأماني ولا بالظنون إنما هو بالعمل.
السؤال: ما حكم ما يفعله بعض الناس من تعليق بعض الأشياء على أعناقهم؟
الجواب: ما يتعلقه الإنسان في عنقه بقصد النفع، الأصل النهي عنه مطلقاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من تعلق شيئاً وكل إليه ).
فهذا يقتضي أن لا يتعلق الإنسان شيئاً أصلاً، وذلك أن محل التوكل والمحبة ينبغي أن يكون مخلصاً فيه لله تعالى وحده.
وقد جاء النهي عن التمائم في عدد من الأحاديث، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له)، وكقوله صلى الله عليه وسلم: ( من تعلق تميمة وكل إليها )، وقد ( رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً في عضده حلقة, فقال: علام تتعلق هذا؟ قال: أتعلقه من الواهنة، قال: أما إنه لا يزيدك إلا وهناً ).
والواهنة: مرض يصيب الإنسان بعلة في القلب وضعف وبكاء، وذكر أنه يتعلق تلك الحلقة من أجل طرد الواهنة عنه، فقال: ( أما أنه لا يزيدك إلا وهناً )، والوهن: الضعف.
فلذلك الأصل أن لا يتعلق بجسمه شيء من ذلك، ومع هذا فإن كان مريضاً ولم يكن يستطيع قراءة الرقى الشرعية ولم يجد من يقرؤها عليه، فإن كتبت وعلقت عليه حتى يبرأ ثم تمزق، فإن كثيراً من أهل العلم لم يرَ بذلك بأساً، وقد ورد عن بعض السلف فعل ذلك، لكن إنما يكون مؤقتاً حتى يبرأ من مرضه ثم يمزق عنه ذلك.
ولا بد أن يكون ذلك محفوظاً بحفظ أي بحرزٍ يستره، فإن كان بادياً فلا يحل له دخول الحمام به، ولا بد من احترام ما كتب فيه القرآن.
أيضاً لا بد أن تكون الرقية الشرعية قرآناً أو حديثاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما ما سوى ذلك من الأمور فلا يرقى به.
السؤال: هل صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أحيا الله له أبويه حتى أسلما؟
الجواب: لم يرد هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه من الأمور الغيبية التي لا تعرف إلا بوحي، ولم يخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل صح في صحيح مسلم أن أعرابياً أتاه فسأله عن أبيه فقال: ( إن أبي وأباك في النار)، وصح في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (سأل الله أن يأذن له في زيارة قبر أمه فأذن له بزيارة قبرها، فسأله أن يأذن له بالاستغفار لها فلم يأذن له، فذهب لزيارة قبرها فرجع يبكي).
السؤال: هذا سؤال عن تفسير قول الله تعالى: وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق:21].
الجواب: أن الله سبحانه وتعالى يصف مشاهد يوم القيامة، فذكر أن كل نفس من أهل الدنيا تأتي يوم القيامة ومعها سائق من الملائكة وشهيد من الرسل، فالسائق من الملائكة هو قرين الإنسان الذي كان معه، وهو ملازم له من ميلاده إلى موته، والشهيد من الرسل يشهد عليه بأعماله، فقد قال الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، وقال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143].
فالرسول صلى الله عليه وسلم هو شهيد هذه الأمة يأتي مع كل نفس يوم القيامة حتى تحاسب، والله تعالى يأتي به وهو أول من يدخل الجنة، وأول من يقعقع حلقة الباب وهي شفاعة من شفاعاته صلى الله عليه وسلم، فالشفاعات ثمانية أقسام:
الشفاعة الكبرى: وهي الشفاعة في أهل المحشر حتى ينطلقوا منه إما إلى جنة وإما إلى نار، وهي من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.
والشفاعة الصغرى: وهي الشفاعة في رجل أوجب -أي مات على الكفر- أن يخفف الله عنه عقوبته فيبقى في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه أو توضع له جمرتان تحت أخمصيه يغلي منهما دماغه، وهذه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً.
والشفاعة الوسطى هي الشفاعة لأهل الجنة في نفس الجنة، وهي من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.
والشفاعات الأخرى الخمس بعضها يشترك فيه الأنبياء والصالحين، فإنهم يشفعون في التخفيف من عذاب المؤمنين الذين دخلوا النار بمعاصيهم فتخفف عنهم ذنوبهم، ويشفعون في آخرين فيخرجون منها قد اسودوا وامتحشوا، ويشفعون في آخرين لترفع درجاتهم في الجنة وهم لا يستحقون الدرجات العالية، فهذه يشترك فيها الأنبياء والصالحون والملائكة، ثم بعد هذا شفاعة أرحم الراحمين، عندما تنقطع الشفاعات يقول الله تعالى لملائكته: ( انتهت شفاعات الشافعين وبقيت شفاعة أرحم الراحمين، فيحثو الله تعالى بيمينه ثلاث حثيات في الجنة، ثم بعد ذلك يقول لملائكته: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ثم يمكث ما شاء أن يمكث ثم يقول: أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله ).
هذه شفاعة الرب سبحانه وتعالى، ومع هذا فالأوقات غير معقولة، فلا يمكن أن يدرك الإنسان أن النبي صلى الله عليه وسلم سيقف على حساب كل إنسان من أمته على كثرة أعدادهم، ومع ذلك هو سابقهم وهو الواقف على الحوض يسقيهم، وهو الذي يطأطئ حلقة الباب ويدخل الجنة أول من يدخلها، فهذه الأمور غير معقولة، ولا يمكن أن يتعلق العقل الآن بتفسيرها، لكنها حق وسيراها الإنسان يوم القيامة.
السؤال: هل هناك قول معتبر يقول: إن المرأة يجوز لها أن تكشف كفها إذا كانت فيها حناء، أو الرمش إذا كان فيه كحل؟
الجواب: نعم جمهور أهل العلم أن ما استثناه الله سبحانه وتعالى لها من الزينة هو ما كان في الوجه والكفين، وقد قال الله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31].
فجمهور أهل العلم أن ما ظهر منها ما كان في الوجه من كحل، وما كان في اليدين من خضاب أو حلي، فهذا هو مذهب كثير أهل العلم، وهذا الاستثناء صريح في كتاب الله: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31]، أي: ما ظهر من الزينة، أي: لا يحل له إلا إبداء ما ظهر من الزينة، وإنما يحل لهن ما ظهر من الزينة، وما ظهر من الزينة محل خلاف على قولين:
القول الأول: هو مذهب الجمهور أنه ما كان في الوجه والكفين.
والقول الثاني: أنه في اللباس، فلباس المرأة هو ما ظهر منها، وعلى القول الثاني لا يحل لها إبداء ذلك، ولكن الاحتياط دائماً هو بستر زينتها مطلقاً، وأن لا تبديها.
السؤال: سائلة عن مرض السل الشعبي وعندها قرن كبش، وفيه حفنة سوداء، ورقية توضع في قرن ثم يدخل في ماءٍ ويشربه المصاب بالسل، فيشفى بإذن الله أو تشربه المرأة التي استعصى عليها النفاس فما هو الحكم الشرعي في ذلك، مع العلم أنها تستخدمه لمنافع المسلمين وهي تعلم أن مضرته ونفعه لا يكون إلا بإذن الله؟
الجواب: هذه الرقى كانت قديمة وكانت من أمر الجاهلية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اعرضوا علي رقاكم )، فما كان فيها فيه تعظيم لله وذكر له أقره النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان غير ذلك رده ونهى عنه, فكل ما لا يعرف الإنسان معناه لا يحل له الرقية به، وبالنسبة لهذه الأمور المجسمات كالقرون ونحو ذلك لا يحل استعماله؛ لأن الإنسان لا يدري ما فيه، وإذا علمه فهو أمور ظاهرها مثل ظاهر السحر، وأنها مجسمات وأمور من هذا القبيل، فلذلك هذا النوع يضر ولا ينفع، وما يشاهد منه من النفع العاجل كالشفاء من مرض من الأمراض إنما هو فتنة لأن الإنسان سيتعلق به ويظن أنه يشفي أو ينفع، فهو فتنة يفتن الله بها، ونحن الآن ننتظر الدجال فعلينا أن نحذر مثل هذه الأمور.
فإذا كان الإنسان يحذر فتنة المسيح الدجال فليعلم أن الدجال يحي الموتى، يناديهم فيقومون من قبورهم، ويمر بالقرية الخربة فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ويأتي أهل قرية وهم في غاية الجهد، فيصدقونه فيأمر السماء فتمطر ويأمر الأرض فتنبت، فتروح عليهم مواشيهم أسبل ما كانت دروعاً، ويمر على أهل قرية مخصبين فيكذبونه فيأمر السماء فتمسك ويأمر الأرض فتقحل، فتروح عليهم مواشيهم وهي أشد ما تكون لأواء، فإذا عرفنا هذا وعرفنا أن هذه الأمور من المشاهدات الدنيوية إنما هي فتن يجريها الله تعالى، كما يجري أشد منها على يد المسيح الدجال ، فعلى الإنسان ألا يغتر بها وأن يعلم أن الفتن موجودة، وأن تقليد الإنسان في اتباعها وشهادته بأن القضية هي مجرد مشاهدة لهذا، شهده فلان فبرئ، وعلق على فلانة فبرئت، فهذا النوع إنما هو من الفتن التي على الإنسان أن يحذرها؛ لأنه لو كان كل من يبرئ مريضاً يتبع لكان الدجال أحق بهذا، فهو يحي الموتى، فلذلك لا بد من الحذر، غاية الحذر من هذا النوع ومن خطره العقدي المؤثر على عقائد الناس، وأن نعلم أن الله سبحانه وتعالى آتانا بما فيه الشفاء والنور، فأنزل علينا هذا القرآن المبين الذي: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، وهو حبل الله المتين، وصراطه المستقيم، من تمسك به عصم، ومن تركه من جبار قصم الله ظهره، وقد قال الله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]، وقال: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا [الإسراء:45-46]، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ المَوْتَى بَلْ للهِ الأَمْرُ جَمِيعًا [الرعد:31].
فلذلك علينا أن نكتفي بكتاب الله تعالى، وأن نلتمس فيه الهدى، وأن نحذر من هذه الشواغل التي تشغل عنه.
السؤال: هل يجوز تغيب الموظفين من أجل الدروس؟
الجواب: من كان في عمل في فرض كفاية يستلم عليه راتباً من بيت مال المسلمين لا يحل له الإخلال بذلك العمل إن كان نافعاً، وليس كل موظف يجوز له أصلاً الاشتغال بوظيفته، وليس كل وظيفة تنفع المسلمين أيضاً، فكثير من الوظائف التغيب عنها والهرب منها واجب أصلاً؛ لأنها هي مضرة لا منفعة، لكن على الإنسان أن لا يتوظف فيها وأن لا يقبل فيها راتباً, أما الوظيفة النافعة كالتدريس والطب ونحو ذلك من الوظائف النافعة للناس، فلا يحل للإنسان أن يأخذ مرتبها ثم يتخلف فيها عن الناس، لكن عليه أن يتعلم أحكامه في وقت آخر، وأن يعلم أنه قائم بفرض كفاية، وخادم للناس في مهمة عظيمة، وإذا تعطلت هذه المنافع فسيتأثر الناس بتعطلها.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر