الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد كان الحديث فيما سبق عن بدايات العلاقة الأسرية في بناء الأسرة المسلمة، والحديث في هذا الدرس موصول بما سبق؛ فأقول: إن الله سبحانه وتعالى عندما جعل هذه العلاقة سبباً للاتصال وصلات الأرحام وربط الوشائج قواها بكثير من الأحكام.
أول ما يبحث فيه من الأحكام حكم هذا العقد أصلاً، أي: حكم الإقدام على عقد النكاح، وحكمه مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال فتعتريه أحكام الشرع الخمسة؛ فقد يكون واجباً، وذلك في حق من يخاف على نفسه العنت، أي: يخاف الزنا على نفسه، فيجب على من خشي العنت على نفسه، أي: خشي على نفسه الوقوع في الزنا أو الوقوع فيما يقرب منه من المحرمات والكبائر، فيجب عليه النكاح إذا استطاع إليه سبيلاً، واستطاعة السبيل إنما هو بوجود الطاقة البدنية وحصول المال المجزئ الكافي، فيشمل ذلك المال المدفوع في الصداق والمال المدفوع في النفقة والسكنى؛ لأنهما من لوازمه.
وإذا كان الإنسان يجد عوناً دون أن يكون له مال للصداق فهل يكفي مجرد القدرة على الاكتساب حتى يجب عليه ذلك؟ محل خلاف بين أهل العلم، فالذين يرون أن الصداق لا بد أن يكون مالاً متمولاً، يرون أنه لا بد من حصوله للوجوب، والذين لا يرون ذلك -وهم الشافعية والحنابلة- يرون أن مجرد الطاقة للإنتاج بأن يكون الإنسان قادراً على الكسب كافياً، واستدل الشافعية والحنابلة بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن امرأة أتته فأهدت إليه نفسها، فصعد فيها النظر وخفضه حتى عرف جلساؤه أنه لا يريدها فقال رجل: يا رسول الله! أنكحنيها، فسأله عن ماله؟ فذكر أنه سيصدقها إزاره فقال: إذاً جلست بلا إزار! فقال: التمس غيره، فذهب فالتمس فلم يجد فقال: لم أجد شيئاً، فقال: التمس ولو خاتماً من حديد فذهب فالتمس فلم يجد شيئاً، فقال: أمعك شيء من كتاب الله؟ )، أي: أتحفظ شيئاً من كتاب الله؟ ( قال: نعم، لسور جعل يعددها.. )، وفي رواية التصريح بسورة البقرة وسورة النساء، ( فقال: أنكحتكها بما معك من القرآن )، وفي رواية التصريح بأن يعلمها السورتين، أي: سورة البقرة وسورة النساء.
وهذه قدرة على الكسب لأنه يستطيع أن يستأجر على تعليم القرآن، وبالأخص إذا قدمه لزوجته فهو نفع والنفع بتحفيظ هاتين السورتين له مقابل معتبر شرعاً؛ لأنه يحل أخذ الأجرة عليه على الراجح، ويرجع البحث هنا إلى أخذ الأجرة على أعمال القرب؛ كتحفيظ القرآن ونحو ذلك.
فمذهب جمهور أهل العلم جواز أخذ الأجرة على ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله )، وذهب الشافعي رحمه الله إلى منع ذلك؛ لحديث عبادة بن الصامت : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يعلم أهل الصفة القرآن، فأهدى إليه أحدهم عصاً، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له وعيداً شديداً في أخذها في مقابل تعليمه )، والجمهور يرون أن حديث عبادة إنما هو في حق من تعين عليه تعليمه؛ فمن تعين عليه تعليم القرآن كـعبادة -الذي كلفه به النبي صلى الله عليه وسلم ووظفه- فيه فهو متعين عليه لا يجوز له أخذ الأجرة عليه، وأما من لم يتعين عليه فيجوز له أخذ الأجرة عليه، والمتعين عليه هو من يسكن في بلدة ليس فيها من يصلح لتعليمه سواه فيجب عليه أن يعلم القرآن بدون أجر حينئذ، والذي يجد من يعلم سواه في البلد الذي هو فيه يجوز له أخذ الأجرة عليه؛ لأنه غير متعين عليه، ومثل هذا الإمامة والقضاء وأعمال القرب كلها؛ فالارتزاق عليها هو محل هذا البحث.
وأخذ أبي بكر رضي الله عنه من بيت المال في مقابل قيامه بالخلافة وإجماع الصحابة على ذلك هو أقوى أدلة الجمهور؛ لأن إجماع الصحابة حاصل على الأخذ، وقد فعله أبو بكر رضي الله عنه ثم عمر من بعده، فلم ينكر ذلك أحد من الصحابة فكان إجماعاً، وبالأخص أن أهل الحل والعقد من المسلمين تداولوا في الأمر حتى اتفقوا على رزق لـأبي بكر رضي الله عنه يتقاضاه من بيت المال.
وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في غزواته: ( من قتل قتيلاً فله سلبه )، وهذا أجر في مقابل قربة وهي قتال العدو وجهادهم وهو واجب، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أجراً مادياً مقابل هذا العمل الذي هو قربة يبتغى بها وجه الله.
وفصل بعض أهل العلم فقال: إذا كان الارتزاق من بيت المال العام فهو جائز، كما فعل أبو بكر وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من قتل قتيلاً فله سلبه )، وإذا كان الارتزاق من مال الأشخاص الذين يعلمهم الإنسان القرآن أو يعلمهم العلم أو يقضي بينهم أو يؤمهم فلا يجوز، وذهب المالكية إلى تفصيل آخر وهو التفريق بين أنواع القرب؛ فما كان منها مرتبطاً بالصلاة فيكره أخذ الأجرة عليه وحده، فيكره للإمام الذي لا يخطب ولا يؤذن أن يأخذ أجرة على مجرد الإمامة، وقد أطلقوا ذلك فيشمل ما كان من بيت المال وما لم يكن منه، وكذلك أخذ الأجرة على نحو الصلاة كقراءة القرآن، وختم القرآن مثلاً، كالذين يقرءون القرآن ليقتدي بهم الناس في طريقة أدائه؛ فيكره أخذ الأجرة على ذلك على انفراده.
وأما أخذ الأجرة على الأذان أو على الإمامة والخطابة معاً فهو غير مكروه لديهم، ولذلك قال خليل رحمه الله في عد جائزات الأذان، قال: (وأجرة عليه أو مع صلاة وكره عليها).
وأجرة عليه أي: يجوز أخذ أجرة عليه، أي: على الأذان، (أو مع صلاة) أن يكون إماماً مؤذناً، (وكره عليها) أي: على الصلاة وحدها، والواقع أن الإمامة فيها جهد لا يجب على الإنسان؛ وهو رفع صوته بالتكبير حتى يسمع ذلك الناس، وأيضاً انضباطه في الوقت؛ فإنه غير واجب عليه في الأصل، وهذا الفعل غير الواجب يجوز له أخذ الأجرة عليه؛ كحال المؤذن، وأما حديث مالك بن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: ( واتخذوا مؤذناً لا يأخذ على ذلك أجراً )، فهذا وصف للأفضل وليس وصفاً للشرط، ليس شرطاً في الأداء، وإنما هو شرط في الكمال فقط.
وقد حصل لأحد القضاة أن معلم القرآن شهد عنده فرد شهادته، فقال: علام ترد شهادتي أيها القاضي؟ قال: لأنك تأخذ أجراً على كتاب الله، فقال: وأنت أيها القاضي تأخذ أجراً على كتاب الله، فقال: أنا مكره، فقال: أكرهوك على القضاء فهل أكرهوك على أخذ الدراهم؟ فقال: هات شهادتك، فقبل شهادته.
ولذلك فإن تعليم المرأة القرآن أو العلم يمكن أن يعد صداقاً لها إذا كان ثمنه يصل إلى ربع دينار لأن أقل الصداق على الراجح هو ربع دينار، ولم يرد في ذلك نص صريح في أقل الصداق، إلا أن البضع عوض وإفساده نظير قطع اليد في السرقة، والنصاب الذي تقطع فيه اليد هو سرقة ربع دينار فلا أقل من ثلاثة دراهم؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإذا بلغ ثمن المجن )، وثمن المجن إذ ذاك ثلاثة دراهم كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقطع اليد في السرقة نصابه الذي نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ربع دينار وهو ثلاثة دراهم، فيقاس إفساد البضع على إفساد العضو، أي: قطع اليد في السرقة؛ فعلى ذلك أقل الصداق هو ربع دينار.
لا حد لأعلى الصداق؛ لأن الله تعالى يقول: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [النساء:20]، والقنطار مائة رطل من الذهب -وهو مبلغ كبير- فعلم أنه يجوز دفعه في الصداق، لكن مع ذلك بشرط عدم الإسراف وتجاوز الحد؛ فلا يجوز ذلك إلا لمن كان غنياً، ولا يؤثر ذلك على ثروته، وأيضاً ألا يكسر نفوس الناس عندما يكون تعجيزاً لهم إذا قاسوا أمرهم عليه، والتبذير في الصداق ليس من المروءة ولا هو من الكمال فيما يتعلق بالعقد؛ ففي حديث ابن عباس : ( أن أفضل هذه الأمة كان أقلها صداقاً )، والمقصود بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فصداق أزواجه وصداق بناته قليل، وهذا يدل على أن الفضل ليس في التغالي في المهور والزيادة فيها.
فإذا وجد الإنسان الطول الذي يمكنه من نكاح الحرة وجب عليه ذلك، وإن عجز عنه فلم يجده جاز له ما دون ذلك وهو نكاح الرقيقة؛ لقول الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ [النساء:25]، وقد شرط الله إذن أهلهن بقوله: فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [النساء:25].
يحرم النكاح في حق المريض المشرف، الذي هو في مرض موته غالباً، أي: في المرض الذي يؤدي إلى الموت غالباً لما فيه من إدخال الضرر على الورثة، وهذا مراعاة لحقوق الأحياء؛ لأنهم أكثر منه، أما إذا كان ورثته أقل؛ كأن كان له وارث واحد كولد واحد واحتاج هو إلى النكاح فيراعى حقه هو، ويقدم على حق وارثه عند طائفة من أهل العلم، وذلك من فقه الموازنات حيث يوازن بين الحقوق، فاعتبار حقوق الأكثر هو الموافق للقاعدة الشرعية، فإذا استوى أصحاب الحقوق فكان الوارث واحداً -والمتوفى طبعاً واحد- فيراعى حقهما معاً، ويقدم حق المريض في ماله؛ لأنه هو الذي اكتسبه فهو مقدم على الوارث فيه.
وكذلك يحرم نكاح المرأة إذا كانت محرماً أو خامسة، والمحارم هن المحرمات على التأبيد بسبب شرعي، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى تحريم خمس عشرة امرأة في كتابه، فقال تعالى: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا * حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:22-24]، وقوله: وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:24]، أي: المتزوجات، فكل امرأة متزوجة فلا يحل نكاحها حتى تطلق أو حتى تقع الفرقة ثم تنتهي عدتها؛ ولذلك استثنى الله من هذا فقال: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24]، أي: بالسبي، فالمتزوجة من نساء الكفار من أهل الكتاب إذا سبيت، فإن السبي يهدم النكاح فينهدم نكاحها السابق بالسبي؛ فحينئذ يجوز نكاحها بعد الاستبراء، وكذلك يجوز وطؤها بملك اليمين بعد الاستبراء؛ فلذلك قال: وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:24]، أي: المتزوجات، إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24]، أي: بالسبي، كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ [النساء:24]؛ فهذه خمس عشرة امرأة هن المحرمات على التأبيد، وزاد عليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجمع أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها لما في ذلك من السعي لقطيعة الأرحام، وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قال: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب )، وذلك زيادة في العدد؛ فجميع ذلك هو المحرمات من النساء على وجه التأبيد.
وقولنا: (على وجه التأبيد) هذا عند جمهور أهل العلم، وزاد المالكية: المنكوحة في العدة، فرأوا أنها أيضاً محرمة على وجه التأبيد، ولكن لم يرد على ذلك دليل صريح من كتاب ولا من سنة وليس محل إجماع، والتأبيد حكم مفسر، والحكم المفسر هو الذي لا يقبل النسخ ولا التغيير ولا التأويل؛ ولذلك فإن الراجح أن التأبيد مقصور على ما جاء به النص من كتاب وسنة، وما سوى ذلك إنما هو اجتهاد، فتقع البينونة والفرقة بالنكاح في حال العدة لكن لا ينبغي أن يقع التأبيد إلا بنص، فيحتاج فيه إلى نص.
ويكون النكاح سنة إذا كان الإنسان لا يخاف على نفسه الزنا، ويجد الطول وليس مريضاً مرضاً مخوفاً ويرجو النسل؛ لما في ذلك من رجاء زيادة أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد سبق حضه صلى الله عليه وسلم على زيادة أعداد هذه الأمة. ويكون مندوباً كما إذا كان الإنسان لا يرجو النسل ولكنه قادر على القيام بحقوق النكاح، ويستطيعه بدنياً ومادياً؛ فهذا يندب له أن يفعله إذا كان لا يخاف العنت على نفسه، وليس مريضاً مرضاً مخوفاً.. إلى آخر الموانع السابقة. ويكون مكروهاً في حق من لا يوقن الوفاء بالحقوق، وخاصة ما يتعلق بالحقوق البدنية، أما الحقوق المادية فالنكاح سبب من أسباب الغنى؛ لأن الله تعالى يقول: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]؛ فهو من أوجه التسبب للمال والكسب، فإن كان الإنسان لا يوقن القدرة على الحقوق فإنه يكره له الإقدام عليه إلا إن كان يخاف العنت على نفسه.
وهذه الأحكام اعتراؤها يختلف من شخص إلى آخر، ومن حال إلى حال، ولكن الأصل الذي يذكره الفقهاء في حكم النكاح الندب مطلقاً، وإنما يقصدون به الحال الذي بيناه، فعندما يطلقون الندب في النكاح لا يقصدون بذلك على كل أحد ولا في كل حال، بل هو مقيد بما ذكرناه من الضوابط.
كذلك فإن الإنسان إذا نكح فلم تسد حاجته بل احتاج في إعفاف نفسه إلى الزيادة على واحدة؛ فإن كان له طول لذلك، وكان يستطيعه بدنياً ومادياً فيرجع الحكم كما كان في عقد الأولى؛ فقد يجب وقد يندب وقد يسن وقد يكره وقد يحرم، وهكذا في الثالثة والرابعة ولا يزيد على الرابعة؛ فذلك الحد الأقصى للقدرة من الرجال؛ فقد قال الله تعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:3]، والمقصود بقوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا [النساء:3]، أي: إن أيقنتم ألا تعدلوا؛ وكان العدل بين النساء متعذراً كما قال الله تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالمُعَلَّقَةِ [النساء:129]، فالمحرم هو كل الميل، فإذا كان الإنسان يخاف على نفسه كل الميل فهذا هو المأمور بقوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3]، أما إذا كان لا يخاف على نفسه كل الميل حتى تكون كالمعلقة ومع ذلك يعلم أنه سيجد ميلاً إلى إحداهن فلا حرج في الإقدام على ذلك، وقد كانت عائشة رضي الله عنها أحضا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده، فذلك النوع من الميل لا حرج فيه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تكلفني ما لا أملك )، والنبي صلى الله عليه وسلم أيضاً لا يجب عليه قسمة، وفي حديث عائشة أنه لم يتوفه الله حتى أحل له كل شيء كان حرمه عليه، وتقصد بذلك ما يتعلق بالنكاح؛ فإن الله تعالى أنزل عليه عندما دخل على ميمونة بنت الحارث في عمرة القضاء في العام السابع من الهجرة: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ [الأحزاب:52]، ثم أخبرت عائشة أنه حل الزيادة، لكن يفعل؛ فهي آخر امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة من العام السابع من الهجرة.
وكذلك فإن لهذه الأحكام أيضاً شروطاً أخرى تأتي بالتفصيل فيما يتعلق بالأركان؛ فهذا العقد الذي هو عقد النكاح يذكر له الفقهاء أركاناً هي الطرفان، أي: الزوج والزوجة، والولي والصداق والصيغة، ويذكر بعضهم الشاهدين أيضاً ركناً مستقلاً؛ فمجموع ذلك يصل إلى ستة أركان؛ فالزوج هو الذي يسمونه أهلاً، أي: هو المتأهل لإيقاع هذا العقد، والزوجة هي التي يسمونها محلاً، أي: هي محل وقوع العقد، والولي هو المرشد القائم بأمر المرأة، وهو الذي يعقد النكاح أو يوكل عليه من يوقعه، والصداق هو المال الذي يبذله الإنسان، وقد سبق البحث في ما إذا كان مجرد منفعة.
والركن الخامس هو الصيغة.
الصيغة هي لفظ العقد، وقد أجمع أهل العلم على أنه يجوز بلفظ (أنكحت) أو (زوجت) واختلف فيما سواهما من الألفاظ التي تدل على التأبيد، والراجح اقتصار هذا العقد على هذين اللفظين، وأنه لا يعقد إلا بهذين اللفظين؛ فما تسمعونه من بعض الناس في العقد بقولهم: (عقدت) أو نحو ذلك لا يصح به النكاح بل إنما يصح بأحد هذين اللفظين (أنكحت) أو (زوجت) وهما المذكوران في كتاب الله وفي عقود رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما سواهما من الألفاظ لا يجزئ في عقد النكاح.
وهذه الصيغة إذا حصل هذا اللفظ وذكر الطرفان بأي وجه فقد حصل النكاح، إلا إذا كان بوجه مخالف للغة العربية؛ كمن قال: أنكحت فلاناً من فلانة مثلاً فهذا يدل على التبعيض؛ لأنه أنكحه بعض فلانة وهذا لا يتجزأ، لكن يجوز أن يقول: أنكحت فلانة من فلان لأنه هو يجوز أن يتزوج أكثر من واحدة، فإذا قال: أنكحت فلاناً فلانة؛ فهذا الأكمل، وإذا قال: أنكحت فلانة من فلان فهو جائز، أما إذا قال: أنكحت فلاناً من فلانة؛ فهذا لا يجوز ولا يصح به العقد؛ لأنه يقتضي إنكاح بعضها فقط.
وله سنن في الصيغة وهي:
أولاً: أن يفتتح الإنسان بخطبة الحاجة التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود : ( إذا أراد أحدكم أن يخطب خطبة من نكاح أو غيره فليقل: إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله )، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بأي صيغة شاء، ثم يقرأ ثلاث آيات، وفي رواية آيتين، فرواية الثلاث المقصود بها أول سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، وآية من سورة آل عمران، وهي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، وآية من سورة الأحزاب، وهي قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]، ولا يقصد بالآية هنا مصطلح أهل القراءة؛ فمصطلح أهل القراءة آية سورة الأحزاب هذه عبارة عن آيتين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [الأحزاب:70]، هذه آية، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:71]، آية أخرى.
وقد أجمع أهل القرآن على أن سورة الأحزاب ثلاث وسبعون آية بجميع الأقوال في عد القرآن، فكلهم اتفقوا على أنها ثلاث وسبعون آية؛ وعلى هذا فلا يقصد هنا مصطلح أهل القراءة في عد الآي، بل يقصد بذلك المقاطع؛ فمقطع من سورة النساء ومقطع من سورة آل عمران ومقطع من سورة الأحزاب، ولا يلزم الترتيب، وفي الرواية الثانية الاقتصار على آيتين، أي: على مقطع سورة النساء ومقطع سورة الأحزاب.
ثم بعد ذلك يوقع العقد، وإيقاعه هنا المقصود به الإيجاب، والإيجاب هو ما كان من طرف ولي المرأة، ويقابله القبول وهو قبول الزوج لذلك العقد فبعد نهاية الولي من العقد أو بعد نهاية وكيل الولي من العقد يقول الزوج: (قبلت ورضيت) أو يقول وليه: (قبلت له ورضيت له) وإذا كان الوكيل وكيلاً على الطرفين فلا يلزم القبول، بل مجرد إيقاع العقد يكفي، والولي يمكن أن يكون وكيلاً عن الزوج، ويمكن أن يكون زوجاً؛ فالزوج قد يكون ابن عم مثلاً فيكون ولياً وزوجاً في نفس الوقت فيعقد لنفسه، كما قال خليل رحمه الله: (ولابن عم ونحوه تزويجها من نفسه بـ(تزوجتك بكذا) وترضى وتولي الطرفين)
أي: وتولى الطرفين، يتولى الطرفين، أي: الإيجاب والقبول.
وإذا كان الوكيل وكيلاً لوكيل؛ كما إذا اعتذر الولي فوكل رجلاً، ثم وكل ذلك الرجل رجلاً آخر لإيقاع النكاح؛ فينبغي أن يقول الوكيل: قبلت لها ورضيت لها، ويقول الزوج أو وكيله أيضاً: قبلت ورضيت، أو يقول وكيله: قبلت له ورضيت له، لأن الوكالة على الوكالة محل خلاف بين أهل العلم وفيها شبهة، وهذا الذي يقطع ذلك بالكلية.
وهذه الصيغة يشترط لها شروط الصيغة المعروفة وهي.
الشرط الأول: وقوع الإيجاب والقبول على محل واحد، فإن وقع الإيجاب والقبول على محلين؛ كما إذا قال الولي: أنكحت فلانة فقال الزوج: قبلت نكاح فلانة الأخرى -لأختها مثلاً أو قريبتها- فهذا النكاح غير صحيح؛ لأن الإيجاب والقبول لم يقعا على محل واحد.
والشرط الثاني: اتصال الإيجاب بالقبول بأن لا يفصل بينهما بما يقتضي الإعراض والانفصال؛ فإذا قال: أنكحتك فلانة فلم يقل: قبلت، ولم يصدر منهما ما يدل على القبول إلا بعد مدة؛ فهذا القبول الجديد لا يعتبر متصلاً بذلك الإيجاب الماضي، بل لا بد من تجديد العقد، إلا إذا كان غائباً عنه فكتب له بذلك فعندما وصل إليه الكتاب وقرأه صدر منه ما يقتضي قبولاً فذلك كاف؛ لأن مجلس وصول الكتاب كمجلس صدور الإيجاب.
الشرط الثالث: صدورها من أهلها، فإنكاح الفضولي -وهو من ليس له ولاية في النكاح- لا اعتبار له على الراجح، وقالت طائفة من أهل العلم: هو صحيح غير لازم، فإذا أقره الولي جاز، واستدلوا بأن عائشة رضي الله عنها أنكحت ابنة أخيها عبد الرحمن مصعب بن الزبير و عبد الرحمن غائب، فلما حضر قال: أمثلي يفتات عليه؟ فقالت: أترغب عن ابن الحواري؟ فقال: قبلت ورضيت فأقر العقد، وهذا العقد افتيت عليه فيه ولم يحضر، فأقره عبد الرحمن بن أبي بكر واتفق الصحابة على ذلك ولم يقع اعتراض عليه؛ فدل هذا على أن عقد الفضولي صحيح غير لازم، ووجه الدلالة في الصحة أنه صح بعد الإمضاء، ووجه الدلالة في عدم اللزوم أنه قال: أمثلي يفتات عليه؟ فراجعته فقالت: أترغب عن ابن الحواري؟
وعموماً فتصرفات الفضولي كلها محل بحث؛ كبيعه، وشرائه، وطلاقه.. ونحو ذلك، كلها محل بحث هل تصح أم لا؟ مع الاتفاق على أنها غير لازمة، إلا إذا صدر ما يدل على اللزوم، والمالكية في هذا الباب يرون صحة تصرفات الفضولي ووقفها على الإمضاء لكنهم يضيقون في باب الطلاق فيرون أن مجرد السكوت على طلاق الفضولي يمضيه، وقد حصلت نازلة هي محل إشكال؛ فقد كان العلامة محمد بن محمد سالم المجلسي رحمه الله في مصلاه مع أولاده وطلابه يصلون صلاة العصر، فجاء مجنون فوقف على باب المسجد فقال: كل من في المسجد زوجاتهم طوالق، فتكلم محمد وهو في الصلاة فقال لهم: تكلموا بأي كلام وهو يقصد أن سكوتهم حينئذ إقرار لتصرف الفضولي، وكانوا في أثناء الصلاة فقطعوها بهذا الكلام، ولكن الذي يبدو أن هذا التصرف غير لازم؛ لأن سكوتهم وهم في أثناء الصلاة لا يلزمهم أبداً، ومع ذلك فقد استحسن علماء أهل هذه البلاد فتوى العلامة محمد في هذه المسألة، ورأوها موافقة لنصوص المذهب، لكني استغرب حصول ذلك؛ لأنه من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن في الصلاة لشغلاً )، والإنسان في الصلاة معذور في كل ما يعرض له من الأمور.
أما أهلية من صدر منه العقد -أي: الزوج- فيشترط له الإسلام والكفاءة، يشترط له الإسلام لأن نكاح غير المسلم بالمسلمة غير صحيح مطلقاً، فلا يجوز له نكاح المسلمة قطعاً؛ لقول الله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، ولا سبيل أقوى من النكاح؛ فلذلك قال: وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، ومع ذلك إذا أسلمت الزوجة أولاً، ثم أسلم زوجها وهي في العدة؛ فإنها ترد عليه بالنكاح السابق إقراراً للعقود وإجراءً لها على ما كانت عليه؛ ( فقد رد النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها لـأبي العاص بن الربيع رضي الله عنه بعقدها الأول )، كما في حديث ابن عباس في صحيح البخاري ، ومن المعلوم أن زينب لم تشرك قط فهي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نشأت في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، و أبو العاص كان امرأً مشركاً، ولكن ما أنزلت هذه الآية إلا بعد الهجرة، وهي: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ [الممتحنة:10]، وقد نزلت آية سورة البقرة بعد قصة أبي العاص وآية سورة البقرة: وَلا تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا المُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [البقرة:221]، فهذه الآية نزلت بعد قصة أبي العاص ؛ لأنها نزلت في سورة البقرة وهي من آخر ما أنزل من سور الأحكام في القرآن، فعلى هذا اختلف هل إذا حصل الانفصال يعتبر العقد الأول كما حصل في قصة أبي العاص إقراراً لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، واستمراراً عليه؟ أو تكون آية البقرة مما فرق بينهما؛ كما قال عثمان رضي الله عنه للرجل الذي أتاه وقد أسلمت زوجته، فجاء يريد الإسلام ومراجعة زوجته بعد أن انتهت عدتها، فقال: (فرقت بينكما آية البقرة) أو: (فرقت بينكما سورة البقرة) أو: (فرقت بينكما البقرة) أي: سورة البقرة.
وكذلك يشترط للزوج الكفاءة، أي: أن يكون كفئاً، وهذه الكفاءة محل خلاف فجمهور أهل العلم يشترطونها لكنهم يختلفون في تحديدها ما هي؟ فجمهورهم يرى أن من الكفاءة الدين، فمن كان فاسقاً غير عفيف فليس كفئاً قطعاً للمسلمة المحصنة العفيفة؛ لقول الله تعالى: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى المُؤْمِنِينَ [النور:3]، وقد اختلف في هذه الآية هل هي من قبيل القدر أو من قبيل التشريع؟ فكلام الله ينقسم إلى قسمين: كلمات تشريعية وكلمات كونية قدرية، فقالت طائفة من أهل العلم: هذه الآية من القدر لا من الشرع؛ فمعناها: أن الله تعالى جعل الأجناس متجانسة فيما بينها؛ كما صرح به في قوله: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ [النور:26]، فيكون هذا حكماً قدرياً فمن قدر الله أن المرأة إذا كانت زانية لا يقيض الله لها من الأزواج إلا زوجاً زانياً أيضاً، أي: يصح منه ذلك، وهكذا الرجل أيضاً، وهذا الترابط ورد فيه عدد من الأحاديث التي تدل عليه؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: ( عفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم، وبروا آباءكم تبركم أبناءكم )، فإذا كان الإنسان براً بوالديه فلا بد أن يبره أبناؤه، وإذا كان هو عفيفاً عن نساء الناس فلا بد أن يعف نساؤه، وهذا الحديث يدل في المقابل على العكس، وهو أنه إذا كان عاقاً بوالديه فلا بد أن يعقه أبناؤه، وإذا كان أيضاً غير عفيف عن نساء الناس فلا بد أن يكون نساؤه غير عفيفات أيضاً، وهذا التلازم أيضاً مجرب وهو غريب؛ فقد رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً قد التوت يده اليمنى فلا يستطيع أن يمسك بها شيئاً، فسأله فقال: ما الذي لوى يمينك؟ فقال: دعوة أبي، فقال: ماذا قال؟ فأنشده قوله:
وربيته حتى إذا ما تركته أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه
وبالمحض حتى آض نهداً عنطنطاً إذا قام ساوى غارب الفحل غاربه
فأخرجني منها لقىً ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه
فتأثر عمر لذلك وسأله: هل كان أبوك عاقاً بأبيه؟ فقال: نعم، فذكر له أيضاً أبياتاً لأبيه في عقوقه به فإذا العقوق متسلسل في ذلك البيت -نسأل الله السلامة والعافية- وكان هذا من فراسة أمير المؤمنين رضي الله عنه؛ فعندما رأى هذا الحال عرف أن وراءه دعوة، ثم لما علم العقوق من هذا الولد عرف أن ذلك إنما هو جزاء على عقوق سبقه، فعرف هذا التسلسل.
ويذكر أيضاً عن بعض السلف أنه خرج في سفر فنظر نظرة إلى امرأة لا تحل له فتاب وأناب فلما رجع إلى أهله سألها عن ذلك اليوم بتاريخه ووقته: هل نظر إليها رجل؟ فقالت: سبحان الله! كيف تعرف هذا؟ فقالت: نعم، خرجت في حاجة فرأيت رجلاً ينظر إلي فرجعت إلى بيتي، فإذا هو في نفس الوقت الذي نظر هو فيه إلى تلك المرأة، فهذا من أمر الله سبحانه وتعالى وقدره الذي يقع.
وقالت طائفة أخرى: بل الآية من باب التشريع؛ فمعنى ذلك: أن من سبق منه الزنا أو من يمكن منه ليس كفئاً لمن هو من أهل العفاف والصيانة، وقد صرح الله تعالى بالحكم في قوله: وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى المُؤْمِنِينَ [النور:3]، والذين يرون القول الأول يرون أن قوله: وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى المُؤْمِنِينَ [النور:3]، أي: حرم الزنا والشرك على المؤمنين؛ لأنه مذكور بالإطلاق في قوله: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى المُؤْمِنِينَ [النور:3]، فاسم الإشارة هنا إما أن يكون راجعاً إلى النكاح وإما أن يكون راجعاً إلى الزنا والشرك، وكل ذلك محتمل؛ فاسم الإشارة الذي هو للمفرد كثيراً ما يطلق في القرآن بالدلالة على أكثر من واحد؛ كقول الله تعالى: لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [البقرة:68]، أي: بين ذينك الوصفين السابقين، ومثل قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67]، أي: بين ذينك الحالين السابقين، فاسم الإشارة للمفرد يطلق في القرآن كثيراً ويقصد به اسم المفرد.
كذلك فإن من كان عاصياً بغير الزنا كالفاسق الذي هو مشهور بالكذب أو بالخيانة أو بالغش أو بأكل الربا ليس كفئاً أيضاً لمن هي صالحة، فالمرأة الصالحة أمانة عند وليها فلا يحل له أن يزوجها إلا من صالح، ومحل ذلك إذا كان يخشى على دينها، فإن كانت قوية تستطيع الصمود والدفاع عن دينها أو كانت أصلاً تستطيع هداية زوجها فلا حرج في مثل هذا، وإن كانت ضعيفة تضعف أمامه فهذا تفريط في دينها؛ لأن المرأة قد جعلت وصاية الزوج عليها فيمكن أن يؤثر في دينها وينقص منه؛ فلهذا لا بد أن يراعى التجانس في الدين؛ فهو من الكفاءة.
ثم اختلف أيضاً هل من الكفاءة التجانس في الحال، وذلك يشمل المال والحرية ونحو ذلك؛ فبعض أهل العلم رأى اعتبار هذا التكافؤ حتى أوصلوه إلى النسب واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال على المنبر: ( إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابن أبي طالب ابنتهم، ألا إني لا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن )، وبين أن فاطمة بضعة منه، يريبه ما يريبها، وأنه ما كان لرجل أن يجمع بين ابنة نبي الله وابنة عدو الله، ولكن الاستدلال بهذا الحديث على النسب استدلال غريب؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يطعن في نسب ابنة أبي جهل ، بل أقر أنها من ذرية هشام بن المغيرة ، وهذا النسب شريف في قريش وهو يجتمع مع نسب النبي صلى الله عليه وسلم بالخؤولة وبالأصل، فهذه المرأة أبوها أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة ، وهناك تلتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم في النسب، وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم أبوه عبد الله بن عبد المطلب وأم عبد الله هذا هي فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة ، فأخواله بني مخزوم أيضاً، فإذاً ليس هذا طعناً في النسب وإنما هو بيان لواقعة عين خصوصية، وهي تفضيل فاطمة على سائر النساء؛ فلا يمكن أن يلحق بها من سواها منهن، ولا أن يقاس عليها؛ فقد شرفها الله تشريفاً عظيماً، وبين النبي صلى الله عليه وسلم منزلتها وشرفها ويكفيها أنها بضعة من النبي صلى الله عليه وسلم، أي: جزء منه صلى الله عليه وسلم، فليس من سواها من النساء في منزلتها ولا يمكن أن يلحق بها في الحكم؛ فقد ميز الله أمهات المؤمنين عن سائر النساء في الأحكام فأباح لسائر النساء من المحارم اثنا عشر نوعاً كما في آية النور، وأباح لأمهات المؤمنين سبعة أنواع فقط كما في آية الأحزاب فالاثنا عشر في آية النور هي قوله: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ [النور:31]، أما السبعة ففي آية سورة الأحزاب في قوله تعالى: لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ [الأحزاب:55].
فخصهن الله تعالى بهذا الحكم عن سائر النساء وقال: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ [الأحزاب:32]، ونساء النبي يشمل هذا الاسم بناته كذلك؛ فنساء الرجل يشمل هذا اللفظ أمهاته وبناته وزوجاته وأخواته؛ فكلهن من نسائه، يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ [الأحزاب:32]، و فاطمة رضي الله عنها لها خصوصيتها فهي أفضل النساء على الإطلاق -على الراجح- وقالت طائفة: بل مريم بنت عمران أفضل منها، وقالت طائفة أخرى بالخلاف بينها وبين عائشة ، وقد قال السيوطي رحمه الله في الكوكب الساطع:
وأفضل النساء بالتحقيق فاطمة مع ابنة الصديق
وفيهما ثالثها الوقف..
أي: فيهما خلاف بين أهل العلم على ثلاثة أقوال:
القول الأول: بفضل فاطمة ، والثاني: بفضل عائشة ، والثالث: الوقف بينهما.
وفيهما ثالثها الوقف وفي عائشة مع بنته الخلف يفي
والمرتضى تقدم الزهراء بل وعلى مريم الغراء
فاطمة رضي الله عنها المرتضى تقدمها حتى على مريم بنت عمران في الفضل، مع أن مريم بنت عمران ذكرت في القرآن ثلاثين مرة ولم تذكر أنثى في القرآن باسمها الصرح إلا مريم بنت عمران ، وقد ذكرت ثلاثين مرة، حتى حواء لم تذكر باسمها في القرآن، ولم يذكر من أسماء النساء في القرآن باللفظ الصريح إلا مريم ، فأمها نسبت فقط: امْرَأَةُ عِمْرَانَ [آل عمران:35]، وهكذا.
إذاً فالكفاءة النسبية هي محل خلاف، والحرية كفاءتها معتبرة؛ ( لأن النبي صلى الله عليه وسلم خير بريرة عند عتقها، وكانت تحت عبد لبني مطيع اسمه مغيث ، فاختارت الفراق فكان مغيث يبكي ويتشفع فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم يشفع، فقالت: أتأمرني أم تشفع لدي؟ فقال: بل إنما أنا شافع، فقالت: لا أريده، فقال لـعائشة : ألا تعجبين من حب مغيث بريرة وكره بريرة مغيثاً ؟ ).
وإذا كان الرجل مولىً، أي: سبق عليه الرق ثم عتق فهو كفء لكل حرة، وكذلك عند المالكية فإن الرقيق أيضاً كفء للحرة إلا إذا كانت ابنة مالكه؛ لأنه يمكن أن يؤول إليها ملك شيء منه وحينئذ ينفسخ النكاح؛ لأن الملك والنكاح لا يجتمعان، وهذا الذي أشار إليه خليل رحمه الله بقوله: (وللعبد تزوج ابنة سيده بثقل) (بثقل) أي: بكراهة.
(والمولى وغير الشريف والأقل جاهاً كفء).
وهذا هو مذهب المالكية، وأما الحنابلة والشافعية فيرون التفريق ويرون أن القرشية ليست بالكفاءة لغير قريش إلا القبائل التي عدها النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش في عدم الاسترقاق في الأسر في الحرب، وهذه القبائل هي عشر من قبائل العرب نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن استرقاق أسيرها، ولقريش أحكام مختصة منها ما قاله بعد قتله للنضر بن الحارث بن كلدة و عقبة بن أبي معيط ؛ قال: ( لا يقتل بعد اليوم قرشي صبراً ).
وأما ما يتعلق بالغنى المادي فإذا كانت المرأة غنية فهي كفء للفقير على الراجح، وقالت طائفة من أهل العلم: بل لا تكون كفئاً له إلا إذا كان مكتسباً، أي: قادراً على الاكتساب، فالمكتسب غني غنى تقديرياً، فغناه غنىً بالقوة لا بالفعل، لكن الراجح كما ذكرنا أنه لا اعتبار للمال فيما يتعلق بالكفاءة.
أما الزوجة فيشترط لها الدين، أي: الإسلام، أو أن تكون من أهل الكتاب، ويشترط فيها الإحصان، أي: أن تكون عفيفة، فغير العفيفة لا يحل نكاحها سواءً كانت مسلمة أو يهودية أو نصرانية؛ لأن الإنسان لا يأمن حينئذ على أن يخالط أولاده من ليس منهم، فكل من لا تؤمن على نفسها لا يحل نكاحها، فلا بد أن تكون مسلمة ملتزمة بدينها، أو نصرانية أو يهودية ملتزمة كذلك بمقتضى دينها الذي يمنعها من الوقوع في الزنا، وهذا الذي سبق بيانه أن أهل الكتاب اليوم لا يوجد فيهم العفائف، فإذا عرف الإنسان ذلك فعليه أن يتريث قبل الإقدام على عقد النكاح على نصرانية أو يهودية، فلم يعد فيهن اليوم المحصنات العفائف.
والولي يشترط فيه الرشد، ولا يشترط فيه الذكورة ولا الحرية، وقالت طائفة من أهل العلم باشتراط الإسلام فيه، وقالت طائفة أخرى بعدم اشتراطه، وعموماً ولي المسلمة لا بد أن يكون مسلماً، أما ولي اليهودية أو النصرانية فيمكن أن يكون غير مسلم أي أن يكون من أهل ملتها، وقد ذكر أن خويلد بن أسد بن عبد العزى هو الذي زوج خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الاستدلال بذلك استدلال بما هو سابق على كثير من أحكام النكاح؛ فحينئذ لم يشرع كثير من أحكام النكاح بعد، وقد شرع بعده الكثير من الأحكام التي تغير مثل هذا الحال لو قدر ثبوته وحصوله، وإن لم يكن للمرأة ولي من أهلها، فلم يكن لها أب ولا وصي ولا ولد ولا أخ ولا عم ولا جد ونحو ذلك من الأولياء، كأن كانت يتيمة شريفة، أو يرغب فيها لجمالها أو لحسبها؛ فلا بد أن يكون زواجها بيد من يتولى أمر المسلمين العام كالقاضي الذي يرعى الحقوق العامة؛ لحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل.. فنكاحها باطل.. فنكاحها باطل، فإن اختلفوا فالسلطان ولي من لا ولي له ).
وأما الدنية وهي التي لا يرغب فيها لمال ولا لجمال ولا لحسب فهذه يتولى نكاحها أي مسلم، فأي مسلم يمكن أن يكون ولياً لها بحق أخوة الإسلام، وذلك في حق من أسلمت من أهل الكتاب، فمثلاً إذا كانت نصرانية فأسلمت وليس لها ولي من أقاربها من المسلمين؛ فأي مسلم يمكن أن يتولى عقد نكاحها فيزوجها، إلا إذا كانت ممن يرغب لما ذكر فحينئذ ينبغي أن يرجع في تزويجها إلى سلطة للمسلمين تقديرية، سواءً كانت مركزاً إسلامياً في البلد الذي هي فيه كإمام المسجد، أو كانت في ديار الإسلام فيرجع في زواجها إلى القاضي الذي هو مسئول شرعاً عن الغيب واليتامى ونحو ذلك.
وقد اشترط النبي صلى الله عليه وسلم في الولي الرشد في قوله: ( وولي مرشد )، في حديث أبي موسى الأشعري : ( لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل )، فاشترط أن يكون الولي مرشداً، أي: صاحب رشد ومعرفة، فإذا كان الولي سفيهاً فلا يمكن أن يتولى عقد النكاح، وكانت عائشة رضي الله عنها تقوم على زواج اليتيمات اللواتي ترعاهن فتعين الزوج والمهر وتقول: (اعقدوا فإن النساء لا يعقدن) فتوكل على إجراء العقد لكنها هي تتولى الأمر كله، فتعين المهر والزوج وتقول: (اعقدوا فإن النساء لا يعقدن).
وأما الصداق فإن الأصل فيه أن يكون مالاً؛ لقول الله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ [النساء:24]، فهنا اشترط المالية فيه، وكذلك فإنه قال: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً [النساء:24]، وقال في نكاح الإماء: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالمَعْرُوفِ [النساء:25]، وقال: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4]، والنحلة هي ما لا يراد له مقابل أو ما لا يؤخذ مقابله شيء، وقال الشافعية -وهو رواية أيضاً للحنابلة- بعدم اشتراط المالية في النكاح واستدلوا بحديث: ( التمس ولو خاتماً من حديد )، للذي سبق فقالوا: خاتم الحديث غير متمول، وهو أقل شيء، والآخرون يرون أن المالية شرط وأن أقل ذلك ثلاثة دراهم كما سبق، ويرون أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولو خاتماً من حديد )، إنما هو من باب المبالغة، أي: التمس لعلك تحرز شيئاً أياً كان، وأيضاً فإن كون الخاتم من حديد لا يتعين فيه كونه كاملاً من حديد بل قد يكون فصه من فضة أو ذهب، وتكون دائرته من حديد، وحينئذ قد يصل إلى ربع دينار، وهذا المطلوب شرعاً.
فإذاً هذه هي الأركان. وأما الشاهدان فعند المالكية هما خارجان عن أصل الماهية فليسا بركنين، وعند جمهور أهل العلم أن الشاهدين لا بد منهما في النكاح لحديث أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل )، وقد اشترط الله تعالى شهادتهما في أقل من هذا فقال في الطلاق: وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ [الطلاق:2]، فإذا كانت فرقة النكاح يحتاج فيها إلى شاهدين فأصله من باب أولى، ومع ذلك فإن المالكية يوجبون الشهود، ويرون أن العقد إذا حصل بدون شهادة لا يحل الدخول قبل الإشهاد، وإن حصل فسخ، فإذا اطلع على العقد بدون شهود فإنه يفسخ قبل الدخول.
وعموماً فالشاهدان اللذان لا بد من حضورهما للنكاح ينبغي أن يكونا رجلين؛ فهذا العقد يترتب عليه حقوق مالية وحقوق نسبية؛ فالحقوق المالية تثبت بشاهد وامرأتين مثلاً، بل تثبت عند الجمهور بشاهد ويمين خلافاً للحنفية، والحقوق النسبية لا تثبت بذلك؛ لأن النسب أدق وأهم من المال فلذلك لا يثبت إلا بشهادة عدلين، وهما نصاب الشهادة الأسمى في مثل هذا النوع، ولا يزيد نصاب الشهادة على ذلك إلا في حق الزنا -أعاذني الله وإياكم- فنصابه أربعة شهود؛ كما صرح الله بذلك في سورة النور.
وقد ذهب الحنفية إلى عدم ركنية الولي فرأوا أن المرأة يمكن أن تتزوج بلا ولي إذا وجدت من يقوم بأمرها من المسلمين فيعقد عقد النكاح، فتذهب إلى القاضي مع الزوج الذي ترغب في الزواج منه فيزوجهما القاضي أو الإمام أو جماعة من المسلمين، ولا يشترط عندهم الولي، واستدلوا بقول الله تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالمَعْرُوفِ [البقرة:232]، فقد نسب الله ذلك إلى النساء أنفسهن، ورأوا أن الأحاديث التي فيها ذكر الولي معللة عندهم كحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا نكاح إلا بولي )، فهذا الحديث روي من طريق مطرف بن عبد الله بن الشخير و أبي عوانة و شعبة بن الحجاج عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه بعض هؤلاء أيضاً عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، و أبو بردة تابعي غير صحابي، فرأوا أن الإرسال علة فيه، ولكن الراجح أن الإرسال غير علة فيه؛ لأن أثبت الناس في أبي إسحاق السبيعي حفيده إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي ، و إسرائيل هو أثبت الناس في جده، وقد رواه عنه موصولاً ولم يقع عليه الاختلاف فيه، والذين وقع عليهم الاختلاف فيه اعتضد الوصل من روايتهم برواية الذين لم يقع عليهم اختلاف أصلاً في وصله، وأيضاً فيشهد له حديث عائشة السابق: ( أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل )، وقد عللوا أيضاً حديث عائشة بأنه من رواية جريج عن سيف بن عمر وقد روي عن الزهري أنه سأل ابن جريج فقال: حدثني سيف بن عمر عنك بهذا الحديث، فلم يعرف الحديث وأثنى على سيف بن عمر ، فلم يتذكر الحديث لكنه أثنى على الراوي عنه وهو سيف بن عمر ، وقد عللوا ذلك ورأوا أنه يقتضي عدم اتصال الحديث، لكن الراجح اتصاله وقد وجد له متابع؛ فقد توبع فيه سيف بن عمر وبهذا زالت العلة، وعلى هذا فلا بد من الولي وأي نكاح حصل بغير ولي فهو باطل كما صرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة السابق.
وحكمة الولي أن النساء كثيراً ما يملن إلى العواطف، والأولياء يرشدون النساء ويقومون بينهن، فإذا حضر ولي المرأة فسيشترط لها مصالحها وسيرعاها، ولن يختار لها إلا من كان كفئاً أميناً، وسينظر إلى عواقب الأمور وما تؤول إليه، بخلاف ما إذا كانت هي التي تتصرف لنفسها؛ فكثيراً ما تحول العاطفة بينها وبين اختيار العواقب والنظر إلى المصالح، بل ربما مالت إلى إنسان لمجرد عرض دنيوي فيقع الانفصال سريعاً فتندم، فإذا كان الولي مرشداً فسيختار لها من سيكون صاحب استمرار وبقاء، ومن تكون قوامته أولى وأسمى، وهذه الأمور لا تعرف إلا بعد تجاوزها، فهي من الأمور التي لا تعرف إلا بعد ذهابها؛ فلذلك يحتاج إلى الولي كثيراً في مثل هذا النوع، وليس انتقاصاً لحقوق المرأة ولا لمكانتها، بل هو تأييد لها ومساعدة لها على القيام بحقوقها.
ثم إنه في هذا العقد يشرع النظر إلى المخطوبة.. إلى وجهها وكفيها، أو إلى مشيها وقامتها؛ فكل ذلك من الأمور الجائزة وهي التي تؤدي إلى الاستدامة بالنكاح، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ففي حديث جابر : ( أنه خطب امرأة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: اذهب فانظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئاً )، قال: فكنت أتخفى لها بجذوع النخل حتى رأيتها. وكذلك فإن المعرفة المطلوبة تحصل بهذا القدر؛ فكثير من الناس يظن أن النكاح لا ينبغي أن يتم إلا بعد كثير من المعرفة والاختلاط والمخالطة التي هي مدعاة للفتنة وكثيراً ما تؤدي إلى الخلوة، وكثيراً ما تؤدي أيضاً إلى ميل عاطفي غير مطلوب شرعاً في مثل هذا النوع، فلذلك يكفي مجرد النظر إلى الوجه والكفين أو إلى القامة والمشي؛ فهذا كاف في حصول الائتدام الذي صرح به النبي صلى الله عليه وسلم.
كذلك فإنه من سنن هذا العقد أن يكون الخاطب يقدم نفسه في خطبة من الكلام، والخطبة هي الكلام المقفى المؤدي للغرض ولو كان ذلك قليلاً، فيعرض نفسه ويبين حاله بصدق، ويطلب مراده كذلك، وأفضل ذلك ما كان أقل: ( خير الكلام ما قل ودل )؛ ولهذا فإن بلالاً رضي الله عنه خرج بأخيه إلى أسرة من الأنصار فقال: (أنا بلال ، وهذا أخي، كنا عبدين فأعتقنا الله، وكنا كافرين فهدانا الله، وكنا فقيرين فأغنانا الله، فإن أنكحتمونا فلكم الأجر، وإن رددتمونا فلكم العذر) فقالا: والله لا نردكما، فزوجاهما، فكانت هذه الخطبة بليغة مؤدية للغرض، وهي سنة في طلب النكاح. ويسن أيضاً جوابها وهذا الجواب يسن أن يكون بالمعروف، فإن رضي فليكن رضاه بمعروف، وإن لم يرض فليكن ذلك باعتذار مقبول أيضاً وبقول معروف، فسوء الرد لا يؤدي إلا إلى البغضة فلذلك يندب حسن الرد في الكلام، وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في حال الاعتذار بإلانة القول فقال: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهمْ قَوْلًا مَيْسُورًا [الإسراء:28]، فالقول الميسور مطلوب وقد أمر الله تعالى بقول الخير مطلقاً فقال: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء:53]، وقال: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، فإذا أراد الإنسان الرد فينبغي أن يكون بمعروف وباعتذار، وأن يكون أيضاً بدعاء وكلام طيب.
كذلك من المندوبات في هذا العقد أن يشهده أهل الصلاح والخير رجاء دعائهم وشهادتهم، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً بأن يعقد في المساجد؛ فقد أخرج أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اعقدوه في المساجد وأعلنوه في المشاهد ). وكذلك يندب أن يكون هذا العقد في دبر صلاة من الصلوات أياً كانت، تيمناً بذلك الوقت الذي تشهده الملائكة، وفي حديث عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها في شوال ودخل بها في شوال بعد ثلاث سنين )، أي أنه تزوجها وهي صغيرة في شوال وبعد ثلاث سنين وبعد الهجرة دخل بها في شوال أيضاً، وليس ذلك مطلوباً في كل حال؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج كل نسائه في شوال، بل قد سبق أنه تزوج ميمونة رضي الله عنها -وهي آخر امرأة تزوج بها- في ذي القعدة، في عمرته.
كذلك إعلان النكاح، وذلك بإشاعته بين الناس؛ لأن إخفاءه مقتض لحصول الضرر، فإخفاءه مدعاة للاتهام، وإذا ترتب عليه أولاد مدعاة أيضاً لجهالة نسبهم أو الطعن فيه، ومدعاة لإضاعة الحقوق فكل إنسان بالإمكان أن يموت في أي وقت؛ فلذلك لا يقبل الإسرار بالنكاح، بل لا بد من الجهر به، وقد اتفق أهل العلم تقريباً على تحريم نكاح السر، لكنه مختلف ما هو؟ فجمهورهم يفسرونه بأنه هو الذي لم يشهد عليه عدلان، هذا نكاح السر، وقالت طائفة منهم: بل هو الذي أوصي الشاهدان بكتمانه أو الكتمان المطلق، فكتمانه عن أسرة أو عن شخص أو عن أهل بلد لا يكون به نكاح سر قطعاً، لكن كتمانه المطلق بأن يكون مكتوماً مطلقاً فهذا الذي قالت طائفة من أهل العلم باعتباره نكاح سر وهو مذهب المالكية، والشافعية يرون أن كل عقد حضره عدلان فهو غير نكاح سر، وأن السر هو ما لم يشهد عليه عندهم.
وإعلانه يشمل تشهيره بالدف، وقد أذن في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ففي حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه: ( أنه هو وخمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شهدوا نكاحاً يضرب فيه بالدف، فسئلوا عن ذلك فأخبروا أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهم فيه )، وهذا الترخيص الهدف منه الإعلان والإشاعة؛ فالمقصود بالدف هنا سماع الصوت من بعيد، ولا يقصد به الطرب لذاته، فالدف صوته مرتفع، فارتفاعه يقتضي إشاعة الخبر، ولا يقصد به الطرب؛ ولذلك نهى عن المعازف التي هي أكمل بالطرب وأضعف صوتاً من الدف؛ فالمعازف منهي عنها والدف مأمور به في النكاح؛ لأن الدف يشيع الخبر؛ فصوته مرتفع وهو أيضاً غير مدعاة بذاته للطرب بخلاف المعازف، ومثل ذلك شهود المشاهد، أي: أن يكون في المكان العام الذي يجتمع فيه الناس؛ فهذا مطلوب، وذلك في حال العقد، أما إشاعة الدخول والوليمة فهذا غير مطلوب شرعاً، فالإشاعة إنما تكون عند العقد، فالعقد هو الذي يطلب إعلانه وإشاعته أما الدخول فلا يطلب فيه ذلك، ولذلك فدخول النبي صلى الله عليه وسلم بـعائشة إنما شهده نساء من الأنصار أهدينها إليه، والوليمة إنما تكون بعد الدخول، وهي مندوبة على قدر وسع الإنسان وحاله ( وقد أولم النبي صلى الله عليه وسلم على صفية بنت حيي رضي الله عنها بسويق وتمر )، فلم يكن عندهم اللحم إذ ذاك، وقال لـعبد الرحمن بن عوف : ( أولم ولو بشاة )، فذلك على قدر وسع الإنسان وحاله؛ فيندب له أن يولم، والوليمة: طعام يتصدق به فيكون عاماً للناس، ومن دعي إليه وجبت عليه الإجابة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من دعي فليجب فإن كان مفطراً فليأكل، وإن كان صائماً فليصل )، (إن كان صائماً فليصل) أي: فليدع لهم، وحينئذ يعتذر، لكن لا بد من الإجابة، فمن دعي فليجب، وذلك من حقوق المسلم على أخيه؛ فعليه أن يشهد مسرته وأن يشاركه في سروره، فإن كان صائماً دعا له، وإن كان مفطراً أكل معه جبراً لخاطره وتوسعة عليه.
فلا بد من التسلسل في هذه الأحكام والحكم المتعلقة بالنكاح، ولا يمكن أن نأتي بها في مثل هذا الوقت الضيق فنقتصر على هذا الحد منها.
السؤال: هذا سؤال عن نازلة صورتها امرأة زفها أبوها إلى زوجها ببقرة فولدت تلك البقرة عند الزوجة عدة بقرات، علماً بأن الزوج كان يقوم بمصالح البقرات من سقي ورعي في الفترات التي تعلف فيها الماشية، وكان ينتفع بغلتها فهل تجب عليها فريضة الحج أو لا تجب، أم أن للزوج نصيباً في تلك البقرات؟
الجواب: إن الزوج ليس له نصيب من تلك البقرات إلا إذا كان أشهد قبل الإنفاق على رجوعه عليها بما ينفق على بقراتها، فإن كان ينفق عليها مروءة فلا يملك بذلك شيئاً؛ فالبقرات ملك لها هي، وإن كانت تملك ثمن تكاليف الحج فإن ذلك يلزم عليها الحج وإن وجدت فرصة مأمونة فاستطاعت أن تبيعها بالمقدار الذي يكفيها فإن الله تعالى اشترط للحج الاستطاعة بقوله: وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، واشترط ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وبين الاستطاعة وهي الزاد والراحلة والسبيل السابلة، الزاد والراحلة هي ما يكفي الإنسان ذهاباً وعودة، والسبيل السابلة هي الأمن على النفس والمال في الطريق.
السؤال: ما حكم رجل وجد أهله في خصام شديد فغضب هو لذلك وقال لهما: أنتما علي حرام، فهل له من كفارة أم يعتبر ذلك تحريماً؟
الجواب: لفظ التحريم مختلف فيه على ستة أقوال، وهذا الخلاف من أيام الصحابة رضوان الله عليهم:
القول الأول: أنه إيقاع للثلاث دفعة واحدة، وهذا القول المشهور لدى المتأخرين، وهو الذي يقول فيه العلامة محمد بابا رحمه الله:
فخذ أيها المفتي لشخص بعرفه فبالعرف ألفاظ الطلاق ترام
وخليت قد كانت ثلاثاً وقد غدت لواحدة لا خلف ثم يرام
ولفظ حرام صار في العرف بتة وذكر أقاويل الحرام حرام
وهذا القول يترجح بقصد الإنسان؛ لأن الإنسان من المعلوم أنه إذا كان يعرف مدلولات الألفاظ وقال: أنتن حرام، أو أنتما حرام ويؤكد بذلك إيقاع الثلاث فقد أوقع الثلاث.
القول الثاني: أن ذلك التحريم يعتبر طلقة واحدة بائنة لا يحل له الرجوع بعدها إلا بعقد جديد.
والقول الثالث: أن ذلك طلقة واحدة رجعية يجوز له الارتجاع بعدها بدور عقد.
والقول الرابع: أن ذلك ظهار يوجب عليه كفارة الظهار.
والقول الخامس: أن ذلك كذب لا يلزم به شيء.
والقول السادس: أن ذلك يمين يلزم بها كفارة يمين بالله.
هذه ستة أقوال في المسألة، والقول الذي يفتى به هو القول الأول، وبالأخص إذا عرف في العرف العام أن الناس يعرفون معنى ما يقولون، وأن الزوج إذا قال لزوجته: أنت علي حرام فيعرف أن الحرام معناه المفارقة والطلاق، وأنه لا يريد الرجوع بعدها.
السؤال: ما حكم امرأة تزوجت رجلاً كانت تحسبه صالحاً فوجدت أنه لا يؤدي الفراض ولا يغتسل من الجنابة، وعندما تسأله: لماذا لا تغتسل من الجنابة؟ يجيبها: بأنه لا يلزم الغسل إلا يوم الجمعة فما الحكم في ذلك؟
الجواب: أن عليها أن تنصح هذا الرجل وأن تعلمه ما جهل من الأحكام فهذا جهل عظيم بأحكام الشرع؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا صلاة لأحدكم إذا أحدث ما لم يتوضأ )، والله تعالى يقول في محكم التنزيل: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6]، ولذلك عليها أن تعلمه وأن تنصحه، فإن استجاب لذلك فبها ونعمت، وإن لم يستجب فلا بد أن تستعين بطرف آخر ينصحه ويعلمه أحكامه، لكن لا تأثير لذلك بالزواج منه.
السؤال: نعوذ بالله! امرأة حبلى من الزنا، أعوذ بالله! كيف تتزوج وهي حبلى من الزنا؟
الجواب: لا يحل لها النكاح حتى تضع حملها، وإذا وضعته فحينئذ يجوز لها الزواج، ولكن الرجل الذي زنى بها من قبل فيه خلاف هل يحل له أن يتزوج بها بعد أم لا؟ إذا حصلت توبتها وعلم أنها لا يمكن أن تعود للزنا، وتاب هو أيضاً فمحل خلاف، فقد ورد عن ابن أم أيمن رضي الله عنه: ( أنه كان زنى بامرأة في الجاهلية فلما كان يوم الفتح استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج بها فلم يأذن له بذلك ... فلم يأذن له )، وقالت طائفة أخرى: المقصود بذلك من لم تحصل توبتها، ولم يعلم أنها ما يمكن لها الزنا في المستقبل، إلا إذا كانت يمكن لها الزنا فيعلم أنها لو راودها رجل آخر لقبلت مثلما قبلت بالأول، فهذه ما دامت كذلك لا يحل النكاح منها.
السؤال: إذا كان في الزفاف مزامير واختلاط هل يبطل النكاح؟
الجواب: لا، النكاح صحيح لكن تلك المحرمات حرام وهي غير مرتبطة بذات النكاح فلا تؤثر فيه، لكن أصحابها يأثمون، ولن يكون نكاحاً مباركاً ما دام بني على معصية الله.
السؤال: ما الفرق بين أم الولد والأمة؟
الجواب: إن الأمة المقصود بها المملوكة التي تشمل من يحل للإنسان وطؤها ومن لا يحل له ذلك، وأم الولد هي الأمة التي قد أنجبت من سيدها ولداً استهل صارخاً ولو مات حينئذ، فكل امرأة أنجبت من سيدها ولداً وإذا استهل صارخاً ومات فهي أم ولد تعتق بمجرد موته، وله منهاج حياة ... لا يجوز له بيعها، وهي التي تسمى أم الولد وحكمها حكم الحرة في ستر الأس والأطراف وفي أحكام الصلاة.
السؤال: هل أم الولد ترث من زوجها؟
الجواب: لا، أم الولد لا ترث من سيدها.
السؤال: ما حكم الذين يفتخرون بالزنا -نسأل الله السلامة والعافية- ويعتبرونه بطولة ويقولون: إنه معصية بسيطة هينة.
الجواب: إن الزنا من أكبر الكبائر وأغلظها، وقد رتب الله عليه الحد، وهو في حق المحصن الرجم حتى يموت، وفي حق البكر تغريب سنة وجلد مائة سوط، وقد جعله الله تعالى من أكبر الكبائر وتوعد أصحابه بالنار -نسأل الله السلامة والعافية- فقد قال تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:68-70]، وعلى هذا فالتهاون فيه يعد تهاوناً بكبيرة من أكبر الكبائر، وهي من الموبقات العظيمة، ودعوى أن ذلك من ... إنكار كبير للشرع والتفاخر به جريمة كبيرة وهي أكبر من سابقتها، نسأل الله السلامة والعافية! ...
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر