إسلام ويب

فقه الأسرة [5]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد شرع الله النكاح ورغب فيه، ولكن في المقابل شرع ما يفرق هذا النكاح وذلك من حكمته سبحانه وتعالى، وفرق النكاح متعددة فمنها ما يكون من الزوج كالطلاق، ومنها ما يكون من الزوجة كالخلع، ومنها ما يكون من القاضي، وليعلم أن أمر الطلاق كبير وعظيم وهو أبغض الحلال إلى الله.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فالموضوع هو ما يتعلق بفرق النكاح, والفرق جمع (فرقة) وهي ما يقع به التفريق بين الزوجين، وما يقع به التفريق بين الزوجين ثلاثة أقسام:

    القسم الأول: ما كان ناشئاً عن تصرف الزوج، وهذا يشمل الطلاق، وما يتعلق به.

    القسم الثاني: ما كان ناشئاً عن تصرف الزوجة، وهذا يشمل الأخذ بالخيار والخلع، والأخذ بالشرط أيضاً عند القائلين به.

    القسم الثالث: ما كان ناشئاً عن تصرف القاضي، أي: بتفريق القاضي بين الزوجين.

    أما القسم الأول، وهو ما يتعلق بتصرف الزوج؛ فإن الله سبحانه وتعالى جعل الطلاق بيد الزوج، وقد صرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( إنما الطلاق في يد من يرفع الساق )، وذلك أن الطلاق يهدم هذا البيت الذي سبق ما ورد من النصوص الشرعية في الحفاظ عليه والحفاظ على بنائه، وجعل هذا العقد ميثاقاً غليظاً، وقد سبق الإكثار من النصوص في هذا الباب واعتناء الشريعة الإسلامية به؛ ولذلك لا يمكن أن يوضع مصير هذا البيت وهذه الأسرة بيد من يتأثر بالعواطف، وبيد من لا يقدر الأمور ولا يتعقل في عواقبها ونتائجها ونهاياتها؛ لأجل كل ذلك لم يجعل الله الطلاق بيد النساء وإنما جعله بيد الأزواج.

    وحدد له كثيراً من الحدود والضوابط فلم يبحه إلا في الأوقات التي تستدعي استمرار النكاح، فقد حرم الشارع الطلاق في وقت الحيض والنفاس؛ لأنه وقت لا يرغب فيه الزوج في معاشرة أهله، وهي محرمة عليه في ذلك الوقت، وحرمه كذلك في الطهر الذي مسها فيه؛ لأنه في ذلك الطهر قد قضى أربه، فإذاً: لا بد أن يكون الطلاق واحدة في طهر لم يمس فيه فهذا هو الطلاق السني، وما سواه معصية لله سبحانه وتعالى وهو الطلاق البدعي.

    فالأوقات التي فيها استدعاء للتقزز أو الملل لم يبح الشارع الطلاق فيها، كالطهر الذي مس فيه، وكالحيض والنفاس، وإنما أباحه في حالين كلاهما يدعو الإنسان إلى الاستمرار:

    الحال الأول: ما إذا كانت حاملاً فيجوز له أن يطلقها، وهذا الحال فيه ما يدعو إلى عدم الفراق؛ لأن الإنسان مجبول على الرحمة والرفق وبالأخص فيما يتعلق بأولاده؛ فلذلك الحمل وقتاً مباحاً للفرقة؛ لأنها لا تقع إلا عندما تشتد دواعيها فيه، وكذلك الطهر الذي لم يمسها فيه فهو أيضاً داع إلى عدم الفرقة فلذلك أحل له الفراق فيه عندما تشتد دواعيه.

    صيغ الطلاق

    الطلاق كغيره يحتاج إلى صيغة، وصيغته تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

    إلى صرائح وكنايات وألفاظ تصرف إليه بالنيات.

    فالقسم الأول: صريح الطلاق، وهو أن يقول لها: طلقتك أو فارقتك، أو نحو ذلك مما يدل على فصال العصمة.

    القسم الثاني: كنايات الطلاق كما إذا قال لها: الحقي بأهلك، أو قال لها: اعتدي أو نحو ذلك.

    والقسم الثالث: ما ينصرف إلى الطلاق بالنية، إذا نوى به الطلاق حصل، وهذا توسع فيه بعض الفقهاء فرأوا أنه إذا نواه بأي لفظ حصل الطلاق، وهذا مذهب المالكية فقد نصوا على أنه إذا نوى الطلاق بأن تسقيه الماء حصل الطلاق، ولو نواه بما لا يدل؛ كلغة لا يعرفها أو ككلام ليس مستعمل في أية لغة، كما إذا حاكى صوت نهيق الحمار أو غير ذلك من الأصوات ونوى به الطلاق فقد اختلف هل يلزم به أم لا؟ لأن النية وحدها لا يلزم بها الطلاق، فلا بد أن يدل شيء على التصرف لأن الطلاق إيقاع، والإيقاع لا بد أن يظهر على بوقه فيما يدل عليه، ومجرد النية لا يحصل بها الطلاق، وهذا قطعاً للوساوس والظنون التي تصير لدى الإنسان؛ فكثير من الناس موسوس فإذا فكر في الأمر ظن أنه قد أوقعه فلم يعتبر الشارع من ذلك إلا ما صرح به وأعلنه.

    وقد ندب الشارع إلى الإشهاد على الطلاق فقال الله تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ [الطلاق:2].

    وصريح الطلاق ينصرف في الأصل إلى العدد المحدد فيه كما إذا قال في تصريحه: طلقتك واحدة مثلاً أو اثنتين أو ثلاثاً فإنه ينصرف إلى العدد الذي حدده، وقالت طائفة من أهل العلم: بل ينصرف إلى الواحدة إذا كان دفعة وبلفظ واحد، أما إذا كان في مجالس فبالإجماع أنه يقع، إلا إذا كان بصيغة تدل على التنكير، كما إذا طلقها في مجلس، ثم أخبر أنه طلقها في مجلس آخر فهذا يحمل على الخبر والتأكيد لا على التأسيس والإنشاء.

    حكم الطلاق

    يكره للإنسان أن يطلق على غير أساس؛ فالإنسان لا يطلق لمجرد انتهاء أربه وانتهاء غرضه فهذا من المكروهات؛ لأنه يدل على أنه لم يتزوج أصلاً ابتغاء النيات السابقة، فلا يطلق الإنسان إلا على أساساً معقولاً، وسبباً موضوعياً للطلاق، كما إذا حصل نقص في الدين أو في الخلق، أو حصل إيذاء لا يستطيع تحمله والاستمرار عليه، أو أيقن أن البيت لا يمكن أن يستمر بناءه؛ فهذا الذي يبيح الطلاق؛ ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في سنن أبي داود وغيره أنه قال: ( أبغض الحلال إلى الله الطلاق )، وحمل أهل العلم ذلك على ما ليس له سبب؛ لأن ما كان ذا سبباً من الطلاق فإن الله شرعه وجعله حلاً للمشكلات فهو غير بغيض إليه حين أذن فيه، وما لم يكن له سبب فهو وإن كان من حيز المباح لأنه من تصرفات الإنسان، والإنسان لا يكره على شئونه الخاصة ووجدانياته، لكن مع ذلك هو أبغض الحلال إلى الله عز وجل.

    وصيغة (أفعل) هنا وهي: (أبغض) بما أنها أضيفت إلى الحلال لا تدل على التحريم، فصيغة (أفعل) تدل على التكثير والزيادة؛ لأنها صيغة مبالغة وتفضيل، لكن يتصل ذلك بما أضيفت إليه وبما يأتي بعد (من) فإذا قيل: فلان أعدل الناس، فالمقصود بذلك بحسب الإمكان، بحسب ما يطلع عليه، وإذا قيل: أطول الناس فبحسب ما يطلع عليه أيضاً أو بحسب الإمكان، وإذا قيل: أبغض كل مبغوض فيدل هذا على تحريمه؛ لأنه داخل في المبغوض وهو منه وهو أشده بغضاً، لكن إذا أضيف ذلك إلى الحلال فقيل: أبغض الحلال؛ دل هذا على أنه لا يقصد به التحريم، ولكنه أدنى الحلال إلى الحرام فهو أقربه إليه؛ ولذلك حمله بعض العلم على الكراهة. وعموماً ذكر عدد من أهل العلم أن الطلاق بغير سبب شبهة، والشبهات نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمىً، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ).

    وقد اختلف العلماء في معنى (الشبهات) على ستة أقوال:

    القول الأول: أن الشبهة هي: ما التبس فيه الحلال بالحرام، أي: ما اختلط فيه الحلال بالحرام كالمال الذي بعض أصله حلال وبعض أصله حرام فهذا شبهة.

    القول الثاني: أن الشبهة هي: ما تعارضت فيه الأدلة، أي: ما جاء من الأدلة في الشرع ما يبيحه وجاء من الأدلة في الشرع ما يحرمه، فيكون محل تردد عند تعارض الأدلة.

    القول الثالث: أن الشبهة هي: ما اختلف فيه أهل العلم، أي: ما اختلف أهل العلم في حكمه، فكل مسألة خلاف بين الإباحة والتحريم هي محل شبهة يأخذ فيها الإنسان بالاحتياط، والاحتياط هو الأخذ بالأشد، أي: بأشد ما قيل.

    القول الرابع: أن الشبهة هي: المكروهات؛ لأنها بين الحلال والحرام، فلا هي حلال مطلقاً، ولا هي حرام كذلك يعاقب فاعله، بل هي منهي عنها نهياً غير جازم.

    القول الخامس: أن الشبهة هي: ما لم يرد فيه نص، أي: ما سكت عنه، وهذا القول ضعيف عند كثير من أهل العلم؛ لأن ما سكت عنه ورد فيه حديث أنه مما أذن فيه، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( وما سكت عنه فهو مما عفا عنه )، لكن هذا الحديث في إسناده ضعف، وعليه فلا يكون فاصلاً في محل الخلاف، ولو صح هذا الحديث لفصل في محل الخلاف، لكنه لم يصح، ومع ذلك فلهذا الحديث شاهد آخر، لكن الشاهد إنما يشهد لإثبات السكوت لله تعالى ولا يثبت أنه من العفو، و ذلك الشاهد هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان؛ فلا تبحثوا عنها )، فهذا الشاهد صحيح لكنه يثبت صفة السكوت لله تعالى، ويدل على أن من الأحكام ما هو مسكوت عنه، لكنه لا يقتضي أن ما سكت عنه دائماً من المباح.

    القول السادس: أن الشبهة هي: ما جهل الإنسان حكمه؛ فكل أمر لم يعلم الإنسان حكمه بعد وتردد في نفسه فهو شبهة بالنسبة إليه، ومحل هذا إن كان الإنسان من أهل العلم وطلبه، فإن كان جاهلاً به لم يكن لجهله وتردده أي تأثير؛ ولذلك فإن رد النبي صلى الله عليه وسلم لسؤال وابصة بن معبد رضي الله عنه وغيره عندما سألوه عن البر والإثم؟ فأحال فيه إلى النفس، وهذه الإحالة إنما تختص بأهل الفقه والورع؛ فمن كان من أهل الفقه والورع، وهو الذي يكره أن يطلع الناس على تصرف منه غير مرضي، فهو الذي يستفتي قلبه، أما من كان من أهل الفسق ولم يكن من أهل العلم فكيف يستفتي قلبه؟! ولو استفتى قلبه لأحب له كل شيء! فلذلك المرجع في استفتاء القلب إلى من كان من أهل الورع ومن أهل العلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088559743

    عدد مرات الحفظ

    777331869