بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد الله رب العالمين, وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنة إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن من نعم الله سبحانه وتعالى على عباده ما يهبه لهم من الأولاد، وهي نعمة لا يستطيع الإنسان الحصول عليها إلا بقدر الله سبحانه وتعالى ومشيئة، ولذلك عد هذه الخصائص الإلوهية فقال: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49-50], وهذا التقسيم حاصر، فإن أقسام الناس في الذرية محصورة في هذه الأربعة يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا [الشورى:49], من وهب له الإناث ولم يوهب له الذكور هذا القسم الأول.
وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ [الشورى:49], من وهب له الذكور دون الإناث وهذا القسم الثاني.
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا [الشورى:50], من وهب له الثنتان معاً وهذا القسم الثالث.
وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا [الشورى:50], وهذا القسم الرابع.
فالتقسيم إذاً حاصر لا يكون من الخلائق إلا من هو من أحد هذه الأصناف الأربعة.
وهنا بين الله تعالى أن ذلك لا يكون إلا بقدره، وما يوهب من الذرية إنما هو هبة من الله سبحانه وتعالى، لا يمكن أن يطلب بالأسباب, فطلب الذرية ما هو إلا بمثابة استزراع الزرع، فالإنسان يحرث الأرض ويجعل فيها الحب، ولكنه لا يدري ما يخرج منها، إلا ما أراد الله إخراجه, ولذلك قال الله تعالى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد:8-9], وقد قال الزمخشري رحمه الله:
إنما الأرحام أرضون لنا محترزات فعلينا الزرع فيها وعلى الله النبات
فالله سبحانه وتعالى هو المنبت، ولذلك قال في سورة الواقعة: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة:63-64], فلا يمكن أن ينبت شيء منه إلا بقدر الله سبحانه وتعالى وتدبيره.
لكن هذه النعمة تترتب عليها مسئولية عظيمة جسيمة، وهي مسئولية الرعاية والعناية، فالإنسان يخلق من ضعف ثم يصل إلى القوة، ثم يرجع أدراجه إلى الضعف والشيبة، ويخرج من بطن أمه جاهلاً لا يعلم شيئا، ولكنه مؤهل للعلم، فله ثلاثة أنواع من أنواع الإدراك تابعة لأصل خلقته.
فالإنسان خلق من ثلاثة عناصر وهي: العقل الذي شرف به على الحيوان, والروح التي هي نفخة غيبية من أمر الله, والبدن الذي هو من تراب.
وكل واحد من هذه العناصر الثلاثة له إدراك يدرك به, فالروح إدراكها إنما يقع بالوجدان والإحساس فيحس الإنسان باللذة والألم، وما يعتريه من الرضا والغضب وغير ذلك، وهي أمور لا تدرك بالحواس فليس للبدن بها صلة، ولا تدرك أيضاً بمقتضيات العقول وترتيب الأدلة، فلا هي مما يدرك بذلك ولا يستطيع أحد أن يقنع أحداً أنه راضٍ أو أنه غضبان أو أنه سعيد أو أنه متألم، فهذه الأمور وجدانية يجدها الإنسان في خاصة نفسه.
وما يظهر عليها من الشوائب التي تدل عليها في بدن الإنسان هي عوارض تتفاوت بين الناس، فقد يجد الإنسان سبباً عظيماً للألم فلا يتألم، وقد يجد سبب عظيماً للذة فلا يلتذ, وقد يجد سبباً عظيماً للرضا فلا يرضى, وقد يجد سبباً عظيماً للغضب فلا يغضب، فكل ذلك يرجع إلى الأمر النفسي.
ثم بعد هذا إدراك العقل، وهو بترتيب الأدلة وتركيب الجزئيات على الكليات، ويستطيع الإنسان توصيله إلى غيره، فمدركات العقول متعدية، كل أمر اقتنعت به في عقلك تستطيع أن تقنع به الغير، بخلاف الأمر الذي اقتنعت به في روحك وميزانك فلا تستطيع أن تقنع به الغير.
ومن هنا فإن ما يراه الإنسان في المنام هي من مدركات الأرواح، وليست من مدركات الأبدان ولا من مدركات العقول، فلا يستطيع الإنسان أن يقنع بها الغير, فما تراه في المنام لا تستطيع أن تريه شخصاً آخر، ولا أن تسمعه إياه، فهو من مدركات الأرواح ولا يتعدى العقول ولا إلى الأبدان.
وأما مدركات الأبدان فهي ما يدرك بالحواس الخمس، عن طريق السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس، فلها إدراكها, ولذلك امتن الله تعالى بها فقال: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ [النحل:78], فهذه جامعة لما ذكر، فالسمع والأبصار هما أكبر الحواس فائدة وأكثرها توصيلاً للعلم فيما يتعلق بالبدن، والأفئدة تشمل إدراك الأرواح وإدراك العقول، فهي شاملة للجانبين السابقين, لكن لا بد في نشأة الإنسان وبداية ضعفه من أن يخضع لرعاية وعناية هي التي تسمى بالتربية.
وهذه التربية مسئولية عظيمة جسيمة، يحتاج فيها الإنسان إلى إدراك عظم تحملها، وأن يقوم بها على وجهها الصحيح, ولذلك لم يكل الله سبحانه وتعالى إلى الإنسان في خاصة نفسه، بل عهد به إلى والديه وكلفهما بتربيته والعناية به، ثم بعد ذلك عهد بمتابعة التربية إلى المجتمع, فالتربية عملية معقدة تمر ثلاثة أطوار:
الطور الأول: يكون فيه الإنسان غير مشارك في تربية نفسه لا تخطيطاً ولا تنفيذاً, فلا هو يخطط لنفسه ولا هو ينفذ ما خطط له, وهذا الطور لا يمكن أن يوكل فيه الإنسان إلا إلى أقرب إنسان إليه وذلك والداه اللذان أنجباه، فعهد الله به إلى والديه في هذا الطور؛ لأنه هو غير مشارك في العملية لا تنفيذاً ولا تخطيطاً.
الطور الثاني: الإنسان فيه مشارك في التنفيذ، وغير مشارك في التخطيط، كالطالب في المدرسة، فالبرامج معدة مسبقاً سلفاً، وهو مشارك في التنفيذ؛ لأنه محور العملية التعليمية, فهذه يقوم به المجتمع بمؤسساته.
الطور الثالث: ما يكون الإنسان فيه مشاركاً في الأمرين معاً، في التخطيط والتنفيذ، وذلك بما يدركه من التجارب ويختزنه في ذاكرة دماغه من القضايا التي يأخذ به التجارب المستقبلية.
فالقسم الأول هو أخطر هذه الأقسام، ولا يمكن أن يعهد به إلى بعيد؛ لأن البعيد غير مؤتمن في كثير من الأحوال وبعده سبب للحسد والبغضاء، وسبب كذلك لعدم الرحمة، فاحتيج إلى أن يكون المشرف على هذا الوقت في حال الاستضعاف والمذلة من هو أبلغ رحمة, ولذلك لم توكل هذه التربية إلى الآباء فقط، وإن كانت لديهم الشفقة ولديهم العقول ومهاراتهم أقوى وأكبر، ولكن الرحمة ناقصة لديهم، فالرحمة لدى الأمهات أبلغ، فلذلك كان الحق مشتركاً بين الأبوين ما داما زوجين، فإذا افترقا كانت الأم أولى بالحضانة, فإذا تزوجت بغير أبيه سقط حظها بالحضانة، فتنتقل الحضانة إلى أمها إن كانت متصفة بالشروط الشرعية، فإن هي فقدت تلك الشروط انتقلت الحضانة إلى الخالة أيضاً إذا اتصفت الشروط الشرعية؛ لأن الخالة بمثابة الأم، فإن هي فقدت أو اتصفت بمانع أو بطل فيها شرط من الشروط رجعت الحضانة إلى الوالد، ثم إلى بناته وهن أخوات الصغير، وهكذا على ترتيب أولياء الإنسان في الحضانة.
وهذه الحضانة هي جزء فقط من العملية التربوية وليست كلها, فلذلك يحتاج الإنسان إلى العناية بها ومعرفة جزئياتها, فأول ذلك: ما يحصل للإنسان عند مولده، فالإنسان ما دام جنيناً في بطن أمه لم يدخل بعد هذه الحياة فحياته تابعة لحياة أمه، تنفسه مما تدخله هي من الأكسجين، وتغذيته مما تتغذى به، والحبل السري الذي يخرج من سرته يدخل إليه ما يحتاج إليه من الطعام والأكسجين، وينقل عنه أيضاً فضلاته وما زاد من التعفنات التي يخرجها في دمه، فكل ذلك يذهب على الإنسان عن طريق هذا الحبل، فالحبل فيه سالب وموجب، فالسالب هو الذي يذهب بفضلات الإنسان، والموجب هو الذي يدخل إليه ما يحتاج إليه، مثل السلك الكهربائي الذي فيه القسمان معاً.
فلذلك يحتاج فقط في هذه المرحلة إلى عناية بأمه، فالحامل لا بد من العناية بها ومراعاة ظروفها؛ لأنها لا تعيش حياة عادية، فكل شيء من حياتها هي مشاركة فيه حتى الهواء الذي تتنفس به في رئتها هي مشروكة فيه, ودمها الذي يجري في عروقها هي مشروكة فيه, وغذاؤها الذي تتغذى به هي مشروكة فيه، فلذلك تحتاج إلى رحمة وعناية خاصة.
ولهذا اعتنى الشارع بالحوامل، وبين ما لهن من الحقوق حتى لو كانت مطلقةً مبتوتة، فلا بد من رعايتها، ونفقتها وسكناها والقيام بمصالحها، وهذه الرعاية منها رعاية نفسية، فإن الأم إذا توترت في فترة الحمل أثر ذلك على الجنين فيخرج شديد الانفعال شديد الغضب والاكتئاب.
وإذا كانت في فترة الحمل تشكو أمراضاً وآلاماً فإن ذلك يعود على بدن الجنين بالضعف، والشارع راعى هذه الأمور حتى في اختيار الأم من قبل هذا، وقد جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (أغربوا لا تضووا)، ومعنى ذلك: أنه ينصح الرجال بعدم تزوج القرائب الشديدة القرابة لما في ذلك من إضعاف الأولاد، وعندما رأى بعض أولاد المهاجرين قد ضعفوا أمرهم أن يتزوجوا من الأعراب، فتزوجوا من الأعراب فكان أولاد الأعرابيات ذوي قوة, وقديماً قال الشاعر الجاهلي:
فتىً لم تلده بنت عم قريبة فيضوى وقد يضوى وليد القرائبِ
وهذا ثابت علمياً بالتجارب اليوم، فإن الإنسان في أصله مكون من نوعين من أنواع الأنسجة في دمه:
النسيج الأول: قد يكون فيه نقص وهو النسيج الراجع إلى الذكور.
النسيج الثاني: هو راجع للأنوثة، فقد يكون فيه نقص في أحدهما، ولكن ذلك النقص لا تظهره الخلقة إلا إذا ازدادت نسبته, فالنقص مثلاً إذا كان نقص واحد بالمائة أو ثلث واحد بالمائة أو ربع واحد بالمائة سيكون تأثيره معدوماً إذا لم يزدد, فإذا ازداد ذلك النقص بأن كان الزوجان من أسرة واحدة، وحصل النقص فيهما معاً فستكون النسبة مضاعفة إذا كان النقص في والده بنسبة خمسة على واحد في المائة مثلاً، والنقص في أمه بنسبة خمسة على واحد في المائة، سوف يكون النقص فيهما بنسبة واحد في المائة فتزداد النسبة.
فلذلك يحتاج إلى مثل هذا النوع ومراعاته، وقد يكون النقص في جهة الذكور فقط، فتكون الأسرة التي هي منحدرة من أصل واحدٍ نقصها في أولادها الذكور، وقد يكون في الإناث فقط، وقد يكون فيهما معاً, ثم إن الحوامل أيضاً يعتريهن من الأمور الأخرى ما لا بد من مراعاته، فإن الله سبحانه وتعالى في أصل خلقة المرأة زادها في خلقتها سعةً في الحوض؛ لتتحمل الجنين على اتساع الرحم له، فالرحم في الأصل منكمش صغير، ولكنه يتسع مع طول الوقت, ولذلك له عنقان في الخاصرتين، وكل واحد من العنقين ينتج في كل شهر بويضة، فينتج هذا بويضة في الشهر، وفي الشهر الذي يليه ينتج الآخر, فإذا نزلت فهي قابلة للتلقيح، فإذا لقحت حصل الحول بإذن الله, وإذا لم تلقح كانت حيضاً، فهذا الذي يحصل منه تحصل منه الحيضة في الدورة.
ثم إن أحواض النساء قد تتسع لجنين على قدر قامتها هي مثلاً! إذا كان الزوجان قامتهما متقاربة، فالعادة أن أولادهما يكونان على ذلك المقاس تقريباً، فيكون حوض المرأة متسعاً لجنين دائماً، فكمل مدة الحمل تسعة أشهر، وإذا زادت أسبوعاً أو نقصت أسبوعاً لا حرج، فالحوض متسع له, لكن إذا تباينت قامة الزوجين، فكانت المرأة طويلة مثلاً أو الرجل طويلاً وحصل التبيان بينهما في القامة فهذا يؤدي إلى اختلاف الحال، فسيكون الجنين مثلاً أكبر من الحوض، وحينئذٍ يحتاج إلى العملية القيصرية أو إلى الميلاد قبل أجله بالوسائل الأخرى، وهكذا فيحتاج إلى مراعاة هذا النوع كذلك.
ثم إن نفقة المرأة في أمد الحمل مؤثرة كذلك على الجنين؛ لأنه يتغذى بها، فيحتاج إلى أن تكون من حلال؛ لأن اللحم إذا نبت من حرام فالنار أولى به كما في الحديث: ( كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به ), فلذلك لا بد من مراعاة الحلال حتى في مرحلة الحمل، أن تكون تغذية الجنين من حلال، وهو جنين في بطن أمه, وكذلك العناية بالأخلاق في هذه المرحلة، فالإنسان دائماً يتأثر بأخلاق من يخاله ومن يجالسه.
ومن هنا شرعت أحكام الطريق التي هي في حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إياكم والجلوس في الطرقات، قالوا: يا رسول الله! ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها, فقال: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه, قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ), فالطرق التي يمر بها الإنسان يتأثر بها؛ لأنه إذا سمع كلاماً فسيسهل عليه النطق به، وإذا كان ذلك الكلام غير مناسب فهذا خلق قد صار إليه بالعدوى وانتقل إليه, ولذلك فكثير من الذنوب ليست مقتصرة على صاحبها الذي فعلها؛ لأنه يصدرها للناس عندما يفعلها عياناً بياناً أمام الناس، فكأنه يدعوهم إليها ويصدرها إليهم, والذنوب غير المعهودة التي لا يراها الناس كثيراً يقشعرون منها إذا رأوها, والذنوب المعهودة الدارسة في الطرق إذا رآها الإنسان لا يقشعر منها عادة ولا ينكرها, ولذلك يقول العرب: كثرة المساس تمت الإحساس.
ولهذا لا تسمعون الآن من ينكر الغيبة ولا الكذب، لكن إذا سرقت مائة أوقيه على تفاهتها من أحد الناس فسيقوم الناس على السارق جميعاً ويضربونه من اليمين إلى الشمال, لكن إذا نطق بالكفر أو أكل الميتة أو كذب فإنه لا أحد يضربه ولا يتهمه ولا يعيبه.
والسبب أن هذا الذنب ليس أكبر من الآخر، فالكفر بالله أكبر الذنوب، لكن هذا الذنب أصبح معهود لدى الناس، هل سمعتم الآن من ينكر على أحد مرابٍ مثلاً! فيجلده بين الناس ويعيبه أو يضربه على رباه؟ لكنكم تشاهدون من سرق والناس يضربونه ويعيبونه.
وأكل الربا أعظم من السرقة، وكلاهما من الكبائر المحرمة، لكن هذه الذنوب المدعومة هي مثل المواد المدعومة في الاقتصاد التي تدفع الدولة جزء من سعرها وتكلفتها، فتكون أرخص من غيرها، كذلك بعض الذنوب تكون مدعومة لدى المجتمع أو حتى لدى الدول والأنظمة، فتدعمها فيسهلها ذلك على الناس وتكون في متناول أيديهم، فيكثر الوقوع فيها، نسأل الله السلامة والعافية.
ومن هنا كان لا بد من رعاية الحامل لعدم تأثر جنينها بما تشاهده وما تسمعه من شؤم الذنوب في فترة الحمل، ومع ذلك فلا بد من خروجها، فالجنين يحتاج إلى نصيب من أشعة الشمس في بطن أمه، وهو من تمام نفقته، فإذا جلست أمه في البيت طيلة أمد الحمل فسيخرج ضعيف العظام معرضاً للكساح، ولغيره من الأمراض, لكن إذا نالته أشعة الشمس وهو في بطن أمه، فذلك مما يقوي عظامه وهو من نفقته وحقوقه.
لكن لا بد أن يكون خروجها للشمس ومشيها بمنأىً عن الذنوب ومشاهدة المناكر، لما في ذلك من الضرر المعنوي أيضا.
ثم بعد هذا إذا ولد فلا بد من العناية بالتوليد، وهو وظيفة من الوظائف الإسلامية، عدها ابن خلدون من وظائف الدولة الإسلامية، وعد أصبح التوليد من العلوم التي تستحق الدراسة، ومن المؤسف أن هذه العملية يقوم بها في زماننا في كثير من الأحيان الرجال، فالمتخصصون في الأمراض النسائية وفيما يتعلق بالتوليد أغلبهم من الرجال, وهذا ضرر وخطر، فيحتاج إلى إيجاد بدائل من النساء، يتعلمن ما يحتاج إليه في هذا الجانب، وهو فرض كفاية، ويجب على النساء أن يكون منهن من تتولى هذا الفرض، فتتهيأ لدراسته لتسد خلة هذه الأمة في هذا الجانب.
وكشف الأطباء الذكور على النساء محل ضرورة فلا يتعدى فيها محلها، ولا ضرورة للخلوة، فلا يحل خلوة الحامل أو المرأة مطلقاً للطبيب، بل لا بد أن يكون معها زوجها أو من يرعاها, ولا تحل خلوة الطبيب بها وحدهما.
وكذلك الكشف أيضاً يقتصر فيه على محل الضرورة فلا تتجاوز، فإذا استغنى عن بثها بالأجهزة لم يحل له مس شيء من بدنها، وإذا اضطر إلى المس أو الجس بحائل كأن يفعل يده في الكيس البلاستيكي، وجب عليه ذلك ولم يحل له بدون الحائل، فهذه الأمور كلها محل ضرورة، والضرورة لا تتعدى محلها، فلا يتجاوز بها الإنسان محلها.
ثم بعد هذا ما تتناوله من الأدوية لا بد أن يراعى فيه ما يتعلق بجنينها، فـأنتم تعلمون أن الأدوية يكتب عليها المنع -في كثير من الأحيان- من تناول الحوامل لها؛ لأن كثيراً من الأدوية لم تجرب على جميع الشرائح، وإن جربت فليس شيء منها مضمون النتائج، أي دواء من الأدوية المشتهرة في العالم لا تتجاوز نسبة نجاحه 75%, وكذلك في أصل تكوينه؛ إذ كل دواء مؤلف من عدد من العناصر، ففيه المادة الفعالة التي هي العلاج، ويضاف إليها عدد كبير من المواد، منها مواد حافظة، وهذه في العادة مضرة، ومواد للتلوين، ومواد للطعوم، ومواد للإساغة داخل المصنع؛ لأن المصنع الذي ينفذ الدواء للتعليم يحتاج المسحوق ليسير فيه في دورته إلى كثير من السخونة والليونة، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بإضافة مواد مسيغة للدواء، فتكون نسبة المادة الفعالة في كل دواء لا تتجاوز 25%، والبقية كلها مواد إضافية، وهذه المواد الإضافية فيها خطورة، ولذلك إذا استطاعت الحامل أن تستغني عن استعمال الدواء مطلقاً فهذا أولى.
واستعمالها للمواد غير المركبة كالأدوية الناشئة على الأعشاب والأغذية المباشرة فذلك أولى، وبالأخص في زماننا هذا الذي كثر فيه مرض الحوامل بارتفاع السكر وارتفاع الضغط، وزيادة نسبة الكلسترول في الدم، فهذه الأمور لا بد من مراعاتها باجتناب الإكثار من الأملاح، والأملاح توجد في كثير من المواد التي نستعملها، فمادة الصوديوم في الماء إذا ارتفعت فإنها تكفي لاستعمال الإنسان من الأملاح، وهكذا المواد السكرية فهي موجودة في النشويات التي نستعملها كالأرز والذرة والقمح وغير ذلك، كلها فيها نسبة كبيرة من السكريات.
وكذلك الكلسترول فإنه يوجد في اللحوم البهائم وبالأخص بهيمة الأنعام، فهو في الطيور أقل، وهو في الإبل أيضاً أقل منه في البقر والغنم، فلحوم الإبل بهذا الاعتبار أحسن للحوامل، وأليق من لحوم الغنم ومن لحوم البقر، وأولى منها اللحوم البيضاء كالأسماك ولحوم الدجاج طبعاً غير المستورد من بلاد الكفر, فهذا من العناية التي لا بد منها.
عند المولد لا بد أيضاً أن يكون الجنين أول ما ينفتق عليه سمعه ذكر الله تعالى، فيؤذن في إحدى أذنيه ويقام في الأخرى، والمقصود بذلك الذكر فقط، ولا يقصد به إتمام الأذان والإقامة، فالأذان بعض ألفاظه ليست ذكراً مخصوصاً، كحي على الصلاة حي على الفلاح فهي دعاء إلى الذكر وليست ذكراً بذاتها, وكذلك الإقامة فيها (قد قامت الصلاة) وهذا في غير وقته، وليس هو ذكراً بذاته، فلهذا المقصود أن يكبر مرتين أو أربعاً، ثم يؤتى بالشهادتين بالتكرير في أذنه اليمنى، ثم يكبر مرتين ويؤتى بالشهادتين مرة واحدة في أذنه اليسر، حتى ينفتق سمعه على ذكر الله، فهذا مما يقتضي رسوخ هذا الذكر في قلبه, وتأثره به وتتميماً لفطرته، فالله سبحانه وتعالى فطر الناس جميعاً على توحيده, وفطرهم على العبودية له.
وهذه الفطرة بقي منها مع الإنسان ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أنه دائماً خاضع، فلو ولد إنسان في جزيرة من جزائر البحر ولم يرَ أي أحد من الناس، فلن يدعي الربوبية لنفسه، بل سيبحث عن شيء يعبده, فإن هدي لعبادة الله عبده وإلا سيعبد حجراً أو شجراً أو غير ذلك فهذا من الفطرة.
والأمر الثاني: التعارف بين الأرواح كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف ).
والأمر الثالث: ما يتعلق بسلامة الإنسان في الأصل من الأمراض القلبية، فهو في الأصل قد فطر على السلامة إلا ما يعرض منها ويأتيه من الخارج، وهذا من بقايا العمر الأول الذي هو عمر الإنسان في عالم الذر، عندما مسح الله ظهر آدم فأخرج منه ذريته، فأخذ عليهم العهد بعبادته، فقال: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس:60-61], فإن الله تعالى في ذلك الوقت أخرجكم جميعاً من ظهر آدم فكلمكم جميعاً، فقد برزتم للوجود في ذلك العالم الأول, وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن الله تعالى مسح ظهر آدم بيمينه فأخرج منه ذرية فقال آدم: أي رب من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون, ثم يمسح ظهره أخرى فأخرج منه ذرية فقال آدم: أي رب من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للنار وبعمل أهل النار يعملون, ثم خلطهم حتى ما يتميزون فناداهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، وجعل في وجوههم نوراً على قدر ما في قلوبهم من الإيمان، فرأى آدم فيهم رجلاً في وجهه نور عظيم، فقال: أي رب من هذا؟ قال: رجل من ذريتك اسمه داود فقال: أي رب كم عمره؟ قال: ستون, فقال: أي رب زده من عمري أربعين, فلما لم يبقَ من عمر آدم إلا تلك الأربعون أتاه ملك الموت، فقال: أي رب! ألم تخبرني أن عمري كذا وكذا؟ فقال: نسيت يـا آدم ألم تعط ولدك داود أربعين من عمرك؟! فنسي آدم فنسيت ذريته ).
وعندما أسري بـالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج به ليلة المعراج ( أتى آدم في السماء الدنيا، فرأى أسودة عن يمينه وأسودة عن شماله، فقال لجبريل: ما هذه الأسودة؟ قال: نسم بنيه، فالذين عن يمينه أهل السعادة إذا نظر إليهم ضحك، والذين عن شماله أهل الشقاوة إذا نظر إليهم بكى ).
فالناس جميعاً إذاً قد كانوا في العالم الأول وكلمهم الله وبرزوا للوجود، وأحرزوا هذه الفطرة من ذلك الوقت: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الروم:30].
ومن هنا فلا بد أيضاً من العناية بتغذية المولود في بداية نشأته وأولى ما يغذى به ما يخرج من ثدي أمه، فهو خير غذاء؛ لأنه هو الذي خلقه الله له وجمع له فيه كل الخصائص التي يحتاج إليها في تغذيته، ففيه ما يحتاج إليه من الحديد، وما يحتاج إليه من الأملاح، وما يحتاج إليه من المواد الصلبة كالكلس وغيره، وما يحتاج إليه كذلك من المواد السائلة التي يحتاج إليها في تنقية دمه وتصفيته، كل ذلك موجود في اللبن الذي جعله الله في ثدي الأم.
وقد جعل الله تعالى هذا اللبن تغذية للولد لحولين كاملين، كما قال الله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233], وهذا الفعل المضارع الذي هو في الأصل بمعنى الخبر يقصد به الأمر، ومعنى الكلام: ليرضع الوالدات أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، أي: هذه المدة أكمل رضاعة وأتمها، فما بعد الحولين إذا أرضع فيه الولد كان نقصاً في عقله وتراجعاً في شخصيته وتربيته, ولهذا قال تعالى: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14]، فينفصل عن ثدي أمه إلى أكمل عامين: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15], ثلاثون شهراً عامان منها للفصال، وستة أشهر للحمل، وهي أقل أمد الحمل.
ثم بعد هذا إذا غذي بما فيه بركة دل الدليل عليها فذلك أكمل وأولى، والأمور التي فيها البركة إما فوق الأرض مثلاً منها: ماء زمزم الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنها طعام طعم وشفاء سقم ), وقال: ( ما على وجه الأرض ماء أفضل من ماء زمزم ), فهذا الماء ماء مبارك، فلذلك تغذية الولد به مما يعين على رسوخ الإيمان فيه, والمنافقون لا يستطيعون التضلع منه، لا يستطيع التضلع من زمزم إلا من كان من أهل الإيمان، فأهل النفاق لا يتحملون ذلك.
وكذلك ماء المطر فإن الله تعالى يقول: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا [ق:9] , فهو مبارك بنص كتاب الله، فهذه البركة تلتمس فيه, و( كان النبي صلى الله عليه وسلم يكشف له عن كتفيه، فيرفع رداءه عن رأسه وكتفيه لاستقبال المطر ويقول: إنه قريب عهد بربه ).
وكذلك ما تلي فيه القرآن، فما تلي عليه القرآن كله نافع.
وكذلك العسل, فتغذية الأولاد الصغار به يعطيهم مناعة عظيمة ضد كثير من الأمور, فالعسل فيه المضاد الحيوي الكفيل بمضادة كل الفيروسات والجراثيم والشفاء للجروح، وفيه كذلك تقوية للذاكرة، فمن أراد الضبط, وأراد علاج النسيان فعليه بالعسل؛ لما فيه من الفوائد في ذلك، وقد أخبر الله في كتابه أنه شفاء، لكن هذا الشفاء متنوع بأنواع الناس, فإن الله جعل العسل أنواعاً متنوعة، وجعل الناس أنواع متنوعة، فكل نوع من الناس يصلح له نوع من العسل، ولذلك قال: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ [النحل:69], (مختلف ألوانه)، أتي بها هنا للتنبيه على أن الإنسان قد لا ينفعه نوع منه فينفعه نوع آخر.
وكذلك فالعسل من المواد الحافظة، فهو يحفظ للصغير ما يحتاج إليه من الحمض في معدته، فالعسل إذا وضع على اللحم لن يتعفن؛ لأنه حافظ, وإذا وضع على الجرح لم يتعفن, فهو مادة حافظة فيحتاج إليه الطفل الصغير في تغذيته.
وهكذا بقية الأغذية النافعة التي تدرس في الطب النبوي، وبالإمكان أن يرجع إليها في كتاب ابن القيم : الطب النبوي, أو في كتاب الذهبي : الطب النبوي, فالرجوع إلى هذه الأغذية مهم جداً، فهي مما كان الأنبياء يتناولونه وكان رسولنا صلى الله عليه وسلم يصفه للمرضى, فالعلاج بها مهم جداً والتغذية بها للأولاد الصغار نافعة.
ثم بعد هذا لابد كذلك من حفظه من التغذية المضرة, والتغذية المضرة أعظمها ضرراً ما كان حراماً, فما كان من حرام فإن تأثيره بالغ على الإنسان في نقص إيمانه، وفي نقص خلقه، وفي نقص نشاطه للعمل الصالح، وفي نقص ذاكرته وعلمه، فكل ذلك يتأثر بتغذيته.
ولذلك فإن الإمام محمد الجويني وهو المكنى أبا محمد الجويني وهو من أئمة الشافعية، أراد أن يربي ولداً يكون حافظاً للعلوم وجامعاً لأنواع الرواية والدراية في المنقولات والمعقولات، فعمل بيده حتى أحرز مالاً من حلال، فتزوج به زوجة ليس عليها سوابق، ورباها في بيته وحجبها عن الناس جميعاً، وعلمها قيام الليل، وصيام النهار، ورباها تربية صحيحة، وقام عليها قياماً حسناً في مدة حملها حتى ولدت ابنه أبا المعالي الجويني إمام الحرمين, فلما ولد أراد منعها أيضاً من الاختلاط بالناس فبينما هو يصلي في وقت الضحى إذ دخلت عليها امرأة فخفف صلاته، وجاء يجري فإن المرأة قد أرضعت ولده، فحمل ولده برجليه وصوب رأسه وما زال يعصر بطنه حتى قاء ما مصه من ثدي تلك المرأة.
قال أبو المعالي : فكانت تأخذني كبوة عند المناظرة ما أراها إلا من تلك المصة.
كذلك بعد هذا لابد أيضاً من العناية بأطوار الأطفال، وبالأخص أنهم في هذه الأطوار الناشئة عرضة لكثير من الأمراض التي لا تظهر أعراضها في بداية أمرها، فالنقص في السمع والنقص في البصر وغير ذلك من الأمراض التي يمكن علاجها في بدايتها إذا لم تراقب في وقت الصغر كانت شاقة العلاج في الكبر، فيحتاج إلى مراقبتها في الصغر، وتختلف البلدان باختلاف انتشار أمراض الأطفال، وفي بلدنا هذا ينتشر الكثير منها كأمراض الأذنين، وكاللوزتين في الحلق، واللوزتان التهابها يترتب عليه كثير من الأمراض المتعلقة بالكلى والمتعلقة بالمثانة، والمتعلقة بالحلق، ففيهما ضرر كبير، وكثير من قصور القلب سببه التهاب اللوزتين، فالصديد الذي ينشئ التهاب اللوزتين -سبحان الله- مؤثر في عضلة القلب في ضعفها وقصورها، فلذلك يحتاج إلى مراقبة الأطفال في هذا الباب.
ومن هنا لا بد من منعهم من المثلجات, فما ترونه الآن من انتشار تناول الأطفال للمثلجات وهي عادة لديهم قد استشرت وانتشرت، يشترون دائماً المثلجات بالبلاستيك وغيره، فهذا به ضرر, وكذلك نفخ الهوائيات هو أيضاً مضر؛ لأنه يؤدي إلى التهاب اللوزتين، فلا بد من منعهم لهذا.
ثم بعد ذلك شغلهم أيضاً بالألعاب التافهة مضر بهم، فالألعاب التي ليس لها معنىً ولا تأثير في عقلية الإنسان وتفكيره مضرة بالأطفال، لكن في مقابلها لا بد أن يجعل لهم من الألعاب ما له معنىً مفيد، فالألعاب التي تدل على الرجولة، وتهيئهم للتعاون مع غيرهم أو للتعامل مع أمور الحياة، فيعرفون بها مخالطة الناس، أو يعرفون بها مخالطة البهائم التي يحتاجون إلى مخالطتها، أو يتعودون بها على تحمل مسئوليتها، هذا النوع من الألعاب هو الجيد بالنسبة الأطفال.
وكان في الصدر الأول يشترى للأولاد والبنات الألعاب، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم بشراء الألعاب للأطفال؛ ليشغلوهم عن الأكل والشرب في يوم عاشوراء، فكانوا يصومون أولادهم الصغار فيه، فيشغلونهم عن الرضاعة وعن التغذية بالألعاب التي يشترونها لهم، وقد نص الحافظ ابن حجر : أن هذا الحديث دليل على جواز شراء الألعاب، وأن فيها نفعاً شرعياً؛ لأنها لو لم يكن فيها نفع شرعي لما أذن النبي صلى الله عليه وسلم في شرائها, فألعاب الأطفال إذاً فيها نفع شرعي.
وهنا لا بد كذلك من تجنب الصور المجسمة الكاملة التي لها ظل، فإن الملائكة لا تدخل بيتاً هي فيه، فإذا أراد الإنسان أن يشتري لأطفاله لعباً فليحذر من الصورة الكاملة, إذا أراد شراء بنات لبناته، فليأخذ ما كان مطموس الوجه كالبنات اللواتي كن في العهد الأول، فكانت الوجوه عبارة عن قطعة من قماش، ليس فيها عين ولا فم ولا أنف, فهذا النوع مما يحل استعماله، وقد كان البنات يلعبن به أيام الصحابة رضوان الله عليهم.
وكذلك لا بد من التعويد على النظافة والستر من بداية الصغر، فالصبي الصغير إذا تعود على عدم العناية به فيما يتعلق بنظافته، فكان يخالط الأوساخ والأقذار ولا يرده أحد عن ذلك، فتتسخ أظافره فيلعقها بفمه فيدخل الوسخ إلى جوفه، فهذا مضر به ضرراً بالغاً، وهو السبب لكثير من الأمراض، لكن إذا كانت العناية به تقتضي ألا تتسخ أظافره ولا أطرافه، وألا يصبر على مخالطة النجس والأقذار، فإنه بهذا سيعيش كريم النفس لا يقبل المهانة والمذلة، فكل مخالطة القذر والوسخ تنقص من نفسية الإنسان وشخصيته وتجعله قابلاً للمذلة والهوان.
وكذلك ما يتعلق باللباس، فتعويد الأطفال على الستر من بداية صغرهم معود لهم على المروءة وتمام العناية بأنفسهم في الكبر, فالولد الذي يعوّد على أنه لا بد أن يكون دائماً ساتراً لعورته لا تبدوا للناس بوجه من الوجوه لا بد أن يكون في شبابه صاحب كرامة وصاحب مروءة، ويعتني بسمعته، وعرضه.
وهكذا ما يتعلق بالخلطة، فلا بد أن يعود على الخلطة، وأن ينشأ عليها، فالولد الذي يعيش منعزلاً لا يخالط الأطفال ولا يخالط الناس بوجه من الوجوه سيكون معقداً انزوائياً في كبره، فيحتاج إذاً إلى حصص من المخالطة تكون مضبوطة بالضوابط الشرعية، ويكون الإنسان حاضراً فيها, فالمخالطة المفتوحة كالحال الحاصل عندنا هنا فإنها مضرة بالأولاد، وتقتضي انتشار العدوى في الأخلاق والقيم، فلا بد أن تكون المخالطة مضبوطة.
كذلك لا بد أيضاً عندما يتعذب الأولاد من مراعاة نفسيتهم، فالولد الأول دائماً ينشأ محبباً إلى أبويه، فينشأ بذلك متعوداً على أنه كلما طلب شيئاً أحضر له، فإذا جاء الولد الثاني نشأ في نفسه الحسد له، فيحتاج إلى مراعاة نفسيتهم ومراعاة تنبيههم على الفوارق والتميز، فتنبيههم على الفوارق وأن من كان أصغر يحتاج إلى الرحمة يحدث في نفسيتهم أيضاً تكبراً عن الرذائل، وطمعاً فيما هو أكبر من هذا.
وكذلك الفروق بينهم كالفرق بين الذكر والأنثى منهم، وذلك بتعويد الذكر على أن للأنثى أموراً تختص بها، وللذكر أمور يختص به، تعويد الجنسين على هذا في الصغر ألا يلبس أحد منهما لباس الآخر، وألا يلعب أحد منهما بلعب الآخر، وتعويدهما على هذا يقتضي عدم الاختلاط في الكبر، ويقتضي التميز والعناية بأمور الإنسان عند كبره، وحتى في المضاجع فلا بد من التمييز بينهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع ), فالتفريق بين ذكورهم وإناثهم في المضاجع، أو حتى بينهم جميعاً مهم؛ لئلا يتعودوا على المخالطة السيئة التي لا تؤمن أن يكون فيها اتباع للشهوة، فيكون ذلك ممنوعاً؛ لأن تعويدهم عليها معود لهم على عدم الورع بالمستقبل، فيحتاج إلى التفريق بينهم في المضاجع.
كذلك مما يتعلق بتعليمهم فعندما يبدأ الولد في النطق لا بد أن يعود بالكلام الطيب، كذكر الله تعالى, فإذا غضب لا بد أن يعود على أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, كلما بكى أو غضب لا بد أن يعود على أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فهذه الكلمة لها خصائص عجيبة لإطفاء الغضب, ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أما إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ما به، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, فقيل للرجل: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقال: أبي جنون؟ ), فتعويد الولد عندما يبكي أو يغضب أو يظلم على أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لها تأثير على ذهاب الغضب وعدم الانفعال الشديد.
وكذلك تعويده على البسملة قبل الأكل والشرب والنوم، وتعويده على الحمد بعد الغذاء، وتعويده على أذكار الصباح والمساء والنوم والاستيقاظ ودخول الخلاء وغير ذلك، يجعله غير متكلف لذلك في المستقبل؛ لأنه جرى على لسانه ذكر الله فتعود عليه، فيكثر عليه ذكر الله في كل أحيانه.
وكذلك تعويده أيضاً على الكلام الطيب وتأديبه بترك الكلام القبيح، فهذا أمر لا بد منه, فلا بد أن يعود الأطفال الصغار على اجتناب كل قبيح من الكلام، وأن يعود في المقابل على أن تختار له الكلمات الحسنة، ومن هنا فإن الكلام أمامه لا بد أن يكون متزناً، فالإنسان إذا تكلم بغير حضرة الأطفال بكلام نابٍ كان ذلك جريمة، لكن في حق نفسه فقط, أما إذا تكلم بكلام نابٍ في حضرة الأطفال فهذه جريمة في حق نفسه، وجريمة في حق الطفل الذي سيتعود عليه.
ومثل ذلك التصرفات، وأعظمها مثلاً في هذا العصر: الكذب، فإذا كان الوالد يكذب أمام أولاده، أو كانت الأم تكذب أمامهم، فهذا سيعودهم على أن الكذب غير ممنوع وأنه أمر سهل، فيسهل عليهم الكذب ويجري على ألسنتهم, ومن هنا لا بد أن يعودوا على اجتناب الكذب المطلقة، فلا يكذب والد على ولده؛ لما في ذلك من تعويده على الكذب في المستقبل.
فإذا سألك ولدك: إلى أين تتجه؟ فلا تكذب عليه إذا أردت إجابته الصحيحة فأجبه أنا متجه إلى مكان العمل أو إلى المسجد أو إلى كذا, وإذا كنت تكتم وما تتجه إليه فقل له: هذا أمر لا يعنيك وأنا متجه لشأني، لكن لا تكذب عليه أبداً؛ لأن ذلك سيعوده على الكذب.
كذلك ما يتعلق بالخصام والنزاع بين الزوجين وبين الجيران كل ذلك مضر بالأطفال الصغار، فإذا حصل خلاف بين الزوجين فليكتماه على أولادهما؛ لما في ذلك من المضرة عليهما، وليكن الخلاف إذا اضطر إليه في وقت نوم الأطفال، أو في وقت خروجهم من المدرسة، أو ليكن في غرفة خاصة لا يطلع الأولاد على أمرها، وهذا يدخل فيه أيضاً ما يتعلق بالعشرة والفراش، فينبغي أن يخرج الأولاد من المكان الذي فيه الزوجان في ذلك الوقت, وكان ابن عمر إذا دخل على أهله يخرج الرضع عن الحجرة التي هو فيها, فالرضيع الصغير يخرجه عن الحجرة وهذا الفعل حياء من ابن عمر أو تعويداً للطفل أيضاً على الحياء.
ومن هنا فإذا تعود الأولاد على الإخراج عن الحجر الخاصة، فستكون حرماً لديهم لا يدخلونها إلا باستئذان واستئناس وطرق، ولا يدخلونها في كل الأوقات، وتعويدهم على ذلك في وقت الإدراك مهم جداً، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النور:58], فلذلك لا بد من تعويدهم على هذا وتربيتهم به.
ثم بعد هذا أيضاً: لابد من تعليمهم في حال الصغر ما يتعلق بشخصياتهم وتراثهم وعقائدهم، فهذه الأمور إنما تبدأ بصغر الإنسان, فالإنسان يتلقف فيما يتعلق بالعقائد والأخلاق ما يراه ويسمعه منتشراً بين الناس، إذا رأى الناس يعظمون أي عظيم فسيحل تعظيمه في قلبه ويجري على لسانه، وإذا رآهم يعتقدون أن أمراً ما مضر بهم فسيقشعر منه هو ويراه أنه خطر عليه، ولو لم يكن فيه خطر.
تعرفون أن بعض المناطق عندنا هنا يتعود الناس على ألا يتجهوا في حال البول إلى الشمال، يظنون أن جهة الشمال فيها الجن أو شيئاً من هذا القبيل, وإذا تعود الأطفال على مثل هذا النوع من العقائد الباطلة فإنهم سيعتقدون أن هذا خطأ وفيه ضرر عظيم ويجتنبونه.
وفي المقابل لو عودوا على الاعتقاد الصحيح، ونسبة الأمور كلها إلى الله سبحانه وتعالى والإيمان بقدره النافذ، وبأنه قد رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن، وأن الإنسان لا يصيبه إلا ما قدر له، وعودوه على أن الأمة جميعاً لو اجتمعت على أن تنفع الإنسان بشيء لم تنفعه إلا بشيء قد كتبه الله له, وإن اجتمعت جميعاً على أن تضره بشيء لن تضره إلا بشيء قد كتبه الله عليه, فهذا يعينهم على تجاوز هذه العراقيل والعقبات، ولذلك علم النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس ذلك في صغره فقال: ( يا غلام إني أعلمك كلمات )، فعلمه هذه الكلمات التي قال فيها: ( إذا سألت فسأل الله, وإذا استعنت فاستعن بالله, واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك, وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ).
وكذلك تزهيدهم في أمور الدنيا وتعويدهم على أن ما يكبر في نفوسهم من شأنها إنما هو تافه رذيل، فتعويدهم على ذلك يقتضي منهم القناعة، وألا يرغبون فيما ليس لدى الوالدين، كثير من الأولاد يرغب فيما ليس لدى الوالدين، فيرغب في المكان الذي فيه التلفزيون والذي فيه الفرش الراقية، والذي فيه المباني الشاهقة، وغير ذلك من أمور الدنيا، فإذا عود الأولاد تفاهة هذه الأمور ولم يسمعوا المبالغة فيها لدى الوالدين، فهذا يقتضي منه القناعة ورضاً بما لديهم, وحينئذٍ لن يحرصوا على ما ليس بإمكانهم أن ينالوه، والله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:131-132].
وتعويدهم على النظر إلى من دونهم أيضاً يقتضي حصول الرحمة لديهم، فإذا تعود الأطفال صغاراً على تحمل المسئولية، كل يوم تدفع إلى كل واحد منهم صدقة، يقال له: تصدق بهذا عن نفسك، تعود على ذلك في كبره وتعود على رحمة الناس, إذا ذهب إلى المدرسة كان يحمل صدقته معه ويعود على أن أول فقير يراه يدفع إليه هذه الصدقة، ( كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس )، فهذا مما يعينهم على تحمل المسئوليات، وعلى القناعة ونفع الآخرين، فيتعودون على أن ينفعوا وألا يضروا.
كذلك لا بد أيضاً من تعويدهم في صباهم على التعرف إلى هويتهم وتاريخ أمتهم، فكثير من الشباب الآن ينشئون غافلين عن تاريخ هذه الأمة، لا يعرفون من أية أمة هم، فيتعلقون مثلاً بالتاريخ الأمريكي أو الغربي أو الحضارات الأخرى، وينسون أنهم من أمة عريقة لها أمجاد كبيرة جداً، وهي خير أمة أخرجت للناس، وقد شرفها الله على سائر الأمم، وينسون إذا فخرت الأمم الأخرى بما أنجزته من أمور الدنيا أن يتذكروا ما أنجزته هذه الأمة من المنجزات العظيمة، وما قدمته من التضحيات الجسيمة, فلذلك لا بد من تربيتهم على ذكر أسلافهم وأجدادهم السابقين الذين قدموا الإسلام وبذلوا في سبيل الله، وربطهم بذلك يقتضي علو هممهم من الصبا، والله سبحانه وتعالى ذكر ذلك في خطابه للأمة فقال: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج:78], فربطنا نحن بتراث لنا عظيم، هو أننا من ذرية إبراهيم عليه السلام، وهذا النسب كان منه ذرية إسماعيل من العرب فهو نسب ديني وطيني، ومن لم يكن منا من تلك السلالة فهو نسب ديني فقط, لكنه نسب موجود، فالمسلمون جميعاً أبوهم إبراهيم عليه السلام، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم أولى بهم من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم، فكذلك أبوهم جميعاً إبراهيم عليه السلام.
ولذلك فإن يوسف عليه السلام قال: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي [يوسف:38], فلماذا يقول: (اتبعت ملة آبائي) ولم يقل: اتبعت الملة الحقة، أو الملة التي جاءت من عند الله؟ إنما قال ذلك لما في التعلق بآباء الإنسان وأجداده من الرفع لهمته ومعنوياته, فهذا يقتضي رفع الهمم والمعنويات إذا تعلق الإنسان بأسلافه الذين سبقوا، فتعلق الشباب الآن مثلاً بما كان عليه مصعب بن عمير و شماس بن عثمان و عمير بن الحمام وأولئك السابقون الأولون، وحتى الذين دونهم من الذين جاءوا بعد الصحابة كـمحمد بن القاسم الثقفي :
قاد الجيوش لبضع عشرة حجة يا قرب ذلك سؤدداً من مولد
ومن كان على شاكلة أولئك كـمحمد الفاتح وغيره, فدراسة حياة أولئك الرجال وتعويد الصغار عليها مما يرفع هممهم ومعنوياتهم, وعلو الهمة هو أصل نجاح الصغار مطلقاً، ولذلك قال علال بن عبد الله البازي رحمه الله:
أبعد بلوغي خمس عشرة ألعب وألهو بلذات الحياة وأطرب
ولي نظر عال ونفس أبية مقاماً على هام المجرة تطلب
وعندي آمال أريد بلوغها تضيع إذا لاعبت دهري وتذهب
ولي أمة منكودة الحظ لم تجد سبيلاً إلى العيش الذي تتطلب
على أمرها أنفقت دهري تحسراً فما طاب لي طعم ولا لذ مشرب
ولا راق لي نوم وإن نمت ساعة فإني على جمر الغضا أتقلب
فارتفاع همة الإنسان في صغره هو الذي يقتضي منه تجاوز العراقيل والعقبات، ويقتضي منه تعلق النفس بما عند الله تعالى، لا يرضى إلا بالفردوس الأعلى من الجنة، ولا يرضى إلا بالرقم القياسي في كل شيء:
إن كان في الألف منا واحد فادعوا من فارس خالهم إياه يعنون
ولا تراهم وإن جلت مصيبتهم مع البكاة على من مات يبكون
فعلوّ الهمة لدى الصغار مقتضٍ منهم بأن تكون حياتهم حياة غير عادية, ولذلك لا بد أن يعود الأطفال على أن الإنسان الذي ولد ميلاداً عادياً، وعاش حياة عادية سيموت موتاً عادياً, فينساه التاريخ ويخرج منه كما دخله، لكن الإنسان الذي عاش عيشاً غير عادي، وعمل أعمالاً غير عادية فهو الذي يبقى في التاريخ، ويبقى له دوي أمد الدنيا:
وإنما المرء حديث بعده فكن حديثاً حسناً لمن وعى
ولذلك قالت الخنساء رضي الله عنها في مرثيتها لأخيها صخر بن عمرو بن الشريد السلمي :
أعيني جودا ولا تجمدا ألا تبكيان لـصخر الندا
ألا تبكيان الحميد النبيل ألا تبكيان الفتى السيدا
رفيع العماد طويل النجاد ساد عشيرته أمردا
إذا القوم مدوا بأيديهم إلى المجد مد إليه اليدا
فنال الذي فوق أيديهم من المجد ثم غدا مصعدا
يكلفه القوم ما عالهم وإن كان أصغرهم مولدا
وإن ذكر المجد ألفيته تأزر بالمجد ثم ارتدى
وكذلك مساءلتهم عن مستقبلهم وماذا سيكونون عليه؟ فهذا من المهمات جداً، وأنتم تعرفون ما بين الله لنا في مسائلة يعقوب لأولاده عند موته: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [البقرة:133], راجع عقائدهم عند الموت، آخر عهده بهم مراجعتهم للعقيدة، ما تعبدون من بعدي؟ فلذلك لا بد أن يعود الأطفال على هذا، وقد كان بعض الحكماء يمتحنهم في هذا امتحاناً عجيباً، فمن العقلاء -في هذه البلاد- الحكماء المشاهير محمود بن عبد الله بن بارك الله فيه بن أحمد بن زيد ، وهو من مشاهير العقلاء في هذه البلاد، وقد دعا أولاده فسألهم قائلاً: أرأيتم لو أن قوماً لديهم جمل كبير يحملون عليه خيمتهم، ولديهم أبعرة صغيرة فمات الجمل، ماذا يعملون؟ فقال أحدهم: يصغرون الخيمة حتى يحملها بعيراً صغير، فقال: لا، ليس هذا حلاً، فقال الآخر: يقسمونها كلما أرادوا الانتقال، فيحمل هذا البعير جزء منها وهذا جزء منها، فإذا نزلوها أعادوها، فقال: لا، ليس هذا حلاً, فقال الآخر: يحملونها على بعير من الأبعرة حتى يتعود عليها، يقوم بها ويسقط حتى يتعود عليها، فعرف أنه سيدهم في المستقبل.
وهذا ضرب مثال لنفسه هو، فهو يتحمل هذه المسئولية الجسيمة فإذا مات وأولاده بعده، ماذا سيتحملون من المسئوليات؟ وماذا سيقومون به؟ فلو أنهم نظروا إلى حجمهم هم، وضعف إمكانيتهم ووسائلهم لأجابوا بأجوبة الأولين، لكن إذا نظروا إلى التحمل والعناية بالنفس وعلو الهمة لأجابوا بجواب الأخير.
وكذلك من عقلاء هذه البلاد في ذلك العصر بابا أحمد يقبل الله الذوباني ، وكان من العقلاء المشاهير، وقد امتحن أولاده كذلك بنوع آخر من أنواع الامتحانات، فطبيعة بني ذوبان تختلف عن طبيعة من سواهم فليس فيها كلام، وإنما فيها أفعال فقط، ارتاد مكاناً فنزل فيه في وقت الظلماء، وجعل بين بيته وبين مراح إبله جذعاً صغيراً مختفياً في الأرض، إذا مر به الإنسان وضربه سيسقط، فأرسل أولاده إلى المراح فأما أحدهم فرأى الجذع من بعيد، فعرف المكان فصار بعد ذلك بالليل إذا ما تردد إلى المراح يسلك طريقاً فيه اعوجاج عن ذلك المكان يجتنبه بالكلية، فعرف أن هذا هو أعقلهم, وآخر أصابته تلك النكبة مرة واحدة، فصار يجتنب ذلك المكان بعد، والآخر أصابته فقطع رحلته ورجع إلى البيت جاء بقدوم فانتزع هذا العود، وهذا طبعاً لم يسلك المنهج المعروف، فعموماً هذا النوع من الامتحان للأولاد مهم جداً في تكوينهم وتربيتهم، ويحتاج إليه الإنسان لمتابعة سلوكهم، والعناية بأحوالهم في المستقبل.
ومن هنا فسؤالهم وهم صغار ماذا ستعملون؟ وفي أي تخصص ستكونون؟ وأية وظيفة ستشغلون؟ هذا النوع من الامتحانات يرفع همم الأطفال، ويعودهم على التنافس الايجابي, وكذلك دراستهم لسير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وللسلف الصالح، وتعويدهم على ذلك معين لهم أيضاً على الارتباط بتاريخ هذه الأمة وتراثها، وعلى حفظ العلم في الصغر، وأعرف طفلاً صغيراً عود على تراجم بعض الصحابة، فكان يظن أنه لقيهم، ويوقن ذلك ولا يقبل النقاش فيه، إذا سئل عن ابن عمر فيقول: أتانا في الوقت الفلاني وصفته كذا وكذا، وأبوه عمر بن الخطاب بن عمر بن نفيل بن رياح بن عبد لله بن قرطب بن رزاح بن عدي بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن نضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضغة بن النزار بن عبد بن عدنان بن ود بن أدد بن إليسع بن قيدار بن نبت بن حمل بن إسماعيل بن إبراهيم بن آزر بن ناحور بن عابر بن فهر بن يفخشر بن المتوشلخ بن سام بن نوح بن لامك بن مثلائيل بن يعرب بن أكروخ بن أنوش بن قيلان بن شيث بن آدم ، وأمه زينب بنت مظعون ، ويعد النسب أيضاً بكامله, فيتعود على هذه الأمور ويظن أنه يعرفه شكلاً، فما ذلك إلا لكثرة ترديده عليه، فعندما رددت عليه الأسماء والصفات عرفهم معرفة كاملة، كما قال الإمام أحمد البدوي المجلسي رحمه الله:
وإن عرفت النسب الخطير وسيرة تكن بهم خبيرا
حتى كأنهم بعين النقس في الصك قد لاحوا لعين الحس
(كأنهم بعين النقس): المداد، (في الصك) أي: الكتاب، (قد لاحوا لعين الحس)، كأنك رئيسهم بعين الحس.
كذلك ربطهم بقضايا الأمة، كقضية فلسطين وهي القضية المركزية للأمة الإسلامية اليوم، ربطهم بها وعنايتهم بها, وبقضايا الأمة الأخرى كالشعوب المستوعبة المظلومة في مشارق الأرض ومغاربها، فارتباط الأطفال بذلك وتعويدهم على العناية بهذه الشعوب والسؤال عن حالها، وسماعهم لما لدى آبائهم وأمهاتهم من الانشغال بهذه القضية والتحدث عنها، كل ذلك يرفع هممهم، ويبعد عنهم القومية الضيقة والوطنية الضيقة، ويجعلهم يفكرون في آمال الأمة وآلامها، وتتسع آفاقهم اتساعاً كبيراً يقتضي منهم علواً مهمة، وشرفاً كذلك في المستقبل.
وكذلك ما يتعلق بأنسابهم، ومعرفة أقاربهم، فذلك معين على صلات الأرحام، وتعويدهم على معرفته بالصغر يثبته في صدورهم, فالتعلم في الصغر كالنقش في الحجر, ومن هنا إذا عرفوا أقاربهم وأرحامهم وأنسابهم، وعرفوا كل من يمت لهم بصلة من الناحية النسبية في الصبا، فذلك معين لهم في المستقبل على صلة الرحم والاتصال الكامل بأقاربهم, وقد رتب الشارع حقوقاً عظيمة على ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله تعالى لما فرغ من خلق الخلق قامت الرحم فتعلقت في ساق العرش، فقالت: يا رب! هذا مقام العائذ بك من القطيعة, فقال: أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ ), والله تعالى جعل قطيعة الرحم من عمل الكفار، فقال: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23], ولا يمكن أن يصل الإنسان رحمه ما لم يتعلم هذه الرحم ويعرفها.
كذلك ما يتعلق بربطهم باللغة العربية التي هي لغة القرآن، ولغة العلم كله، ولغة هذه الأمة التي ينتمون إليها، فمحبتهم لها في صباهم وتعويدهم على تعلم علومها ومتابعة دقائقها وحفظ شواهدها، كل ذلك مما يزيدهم في المستقبل ثقافة، ويهيئهم لتحمل العلم والمسئولية؛ ولهذا فإن عمر رضي الله عنه لما مر بصبيان صغار يلعبون وهم يخطئون في الرمي، شق عليهم ذلك فقالوا: يا أمير المؤمنين! نحن متعلمين، فقال: لخطؤكم في ألسنتكم، أشق علي من خطئكم في أيديكم, فهم أخطئوا بألسنتهم حين قالوا: نحن متعلمين، فنصبوا الخبر، فكان ذلك أشق عليه من خطئهم في أيديهم, ومن هنا لا بد من تعويد الأطفال على العناية باللغة العربية، وحفظ مفرداتها وشواهدها وأشعار العرب التي هي ديوان العرب، وهي التي يفهم بها الكتاب والسنة، وهذه علوم لا يمكن تعلمها إلا لمن أحبها، ولا يحبها الإنسان إلا في فترة من العمر هي فترة نعومة الأظافر؛ لأن الكبار الآن لا يحسن بهم أن يحفظوا أشعار الجاهلية التي ليس فيها فائدة، لا يحسن بكبير السن الآن أن يردد على الملأ وهو يقرأ:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
أو أن يردد:
يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأبد
أو نحو ذلك، فهذا إنما يحسنه الصغار، فإذا تعود الصغار على حفظ هذه الأشعار وفهموا المفردات التي فيها، فإن ذلك يعينهم على فهم كتاب الله وتدبره في المستقبل، وعلى حفظ اللغة، والطريقة التي أنتجها الشيخ محمد المامي رحمة الله عليه من تعليم الصغار مهمة جداً، ولا بد من إحيائها في هذا العصر، طريقة الشيخ محمد المامي كانت تسمى تمييز المامي ، وهي التي كان الأمهات والجدات فيمن أدركنا يعودون الأطفال الصغار عليها، هذه الطريقة تنشد الأم بيتاً من الشعر مثلاً على أولادها، فيميزون ألفاظه ويعربونها بتمييز خاص، مثلاً إذا أنشدت:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم
تقول: قد ما تمييزها؟ فيقولون: حرف، فتقول الأم: ما عملها؟ فيقولون: لا عمل لها، فتقول: ما معناها؟ فيقولون: معناها التحقيق والتقريب والتقليل، فتقول: أي معانيها يقصد هنا؟ فيقولون: التحقيق مثلاً، فقد ترد لهذه المعاني الثلاثة، التحقيق: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ [النور:64]، قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1], وللتقريب: قد قامت الصلاة، معناه: إن قيامها قريب, وللتقليل: قد يصدق الكذاب، وقد يجود البخيل، هذا للتقليل, فيخبرونها بأن معناها هنا تحقيق، فتقول: كم فيها من سؤال؟ وأنتم تعرفون أن الكلمات ثلاث: الاسم، والفعل، والحرف, فالحرف إذا بني على السكون ليس فيه سؤال؛ لأن كل حرف في الأصل مبني، والمبني كله الأصل فيه البناء على السكون، فيقولون: ليس فيها سؤال، بينما لو كانت حرفاً محركاً، لكان فيها سؤالان: لم حركت؟ ولم كانت حركتها كذا؟ لكن ليس فيها سؤال لم بنيت؟ ولو كانت اسماً مبيناً على السكون لكان بها سؤال واحد لم بنيت؟ ولو كانت اسماً مبنياً على الحركة لكان فيها ثلاثة أسئلة: لم بنيت؟ ولم حركت؟ ولم كانت حركتها كذا؟ وتعويد الصغار على هذه النكات في اللغة العربية مهم لهم جداً.
ثم بعد هذا: (تنكر) هذا فعل، أي أنواع الفعل ماض أو مضارع أو أمر؟ فيقولون: مضارع, فتقول: معرب أو مبني؟ فيقولون: معرب, فتقول: أي أنواع الإعراب؟ فيقولون: الرفع, فتقول: ما علامته؟ فيقولون: الضمة الظاهرة على الآخر، فتقول: وما عامله؟ فيقولون: تجرد من العوامل اللفظية, فتقول: وأين حرف المضارعة فيه؟ فيقولون: التاء في أوله وهي لتأنيث الفاعل (تنكر العين), فتسأل الأم مثلاً في هذا الفعل عن اشتقاقه؟ وكم يستعمل منه من الأفعال؟ وكم يستعمل منه من الأسماء؟ فكل ثلاثة أحرف من اللغة العربية في الاشتقاق يستعمل منها ستة مواد مثلاً! (نكر) النون والكاف والراء تستعمل بهذا الترتيب، وبتقديم الكاف صار مثلاً! (كنر) وهذا مهمل غير مستعمل، كلاهما غير مستعمل، (ركن) مستعملة، (رنك) غير مستعملة، فإذاً الكلمة ست: نكر ونرك غير مستعملة، وركن، ورنك، وكنر، وكرنا فهذه ستة أفعال في الأصل تتصور، والمستعمل منها اثنان فقط وأربع مهملة, وكل فعل منها أيضاً كم يستعمل منه الأفعال؟ وكم استعملوا منه من الأسماء؟ فكل مادة في الأصل يستعمل لها ستة أفعال: هي الفعل الماضي، والفعل المضارع، وفعل الأمر، وفعل التكسير، وهو الأولى في التكسير وهي جامدة غير مشتقة، وكذلك ما أفعل، وأفعل به في التعجب فتلك ستة أفعال.
ثم الأسماء هي أحد عشر اسماً، من كل مادة في الأصل هي المصدر، واسم المصدر غير الميمي، واسم المصدر الميمي، واسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة، وأفعال التفضيل، ووزن المبالغة، واسم الآلة التي يعمل بها الفعل، واسم الزمان، واسم المكان، فهذه هي الأسماء في الأصل هي أسس الاشتقاق في كل كلمة عربية، وهكذا حتى يتعود الصغار على أصول العربية ويفهموا عللها ونكتها، وإذا تعودوا على ذلك سهل عليهم في المستقبل طلب العلم، وأحبوا هذه اللغة وأحبوا القراءة بها.
وقد أخبرني الشيخ أبو الحسن علي الندوي الهندي رحمه الله أن قريبة له كانت تعوده على القراءة في الصغر، فكانت تقيم لهم المسابقة وهم صغار، أيهم أسرع قراءة، فالذي يقرأ صفحة خلال ثانيتين مثلاً بسرعة، ولا يلحن فيها تعطيه جائزة وهكذا، فتعودوا على محبة القراءة.
فيقول: قرأنا حتى كتباً لا فائدة فيها، كتاب ألف ليلة وليلة، يقول: قراناه اثنتي عشرة مرة, ويقول: إنه حفظ مقامات الحريري بكاملها وهو في الحادية عشرة من عمره، طبعاً قد حفظ القرآن، وحفظ كثيراً من السنة في ذلك الوقت.
فالتعويد على الحفظ أيضاً معين جداً للولد على الإقبال على العلم في المستقبل؛ لأن ذاكرة الإنسان منطوية وهي قابلة للتمدد، فإذا عود على الإكثار من المحفوظات في الصغر فسيكون من الحفاظ في كبره, وإذا عود على أن الحفظ أمر مستحيل، وكان بينه وبينه جبل، فلن يكون من حفظة كتاب الله، ولا من حفظة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولن يتعود على الحفظ بوجه من الوجوه ولن يحبه.
ومن هنا لا بد أن يتعود الأمهات على تعليم الصغار الحفظ في الصبا، وأن يمرن الآباء والأمهات ذاكرة الطفل على الإكثار من حفظ المعلومات في الصغر, فالصغر الحفظ فيه أهم من الفهم, والكبر الفهم فيه أهم من الحفظ, وهذه الموازنة لا بد منها؛ لأن الإنسان إذا بلغ عشرين سنة فسيتراجع حفظه، وما كان يحفظه من مرة واحدة لن يحفظه إلا بخمسين مرة, فلذلك لا بد من انتهاز هذه الفرصة، وهي الفرصة العمرية التي يتعود فيها الإنسان على الحفظ ومدتها خمسة عشر سنة فقط؛ لأن بداية الحفظ من الخامسة، ونهاية قوته واستعداد الإنسان له عند العشرين، فإذا كان الإنسان في هذه الفترة قد استغل المهلة، فحفظ كثيراً من المتون فسيكون من الحفاظ الكبار, و عائشة رضي الله عنها قد حفظت لـلبيد وحده اثني عشر ألف بيت.
وكان ابن عباس رضي الله عنهما يحفظ الشعر بمرة واحدة، وقد كان في الحرم المكي فأتاه نافع بن الأزرق قائد الخوارج، فسأله أسئلة في تفسير كتاب الله، وكان كلما سأله عن معنى كلمة وأجابه سأله هل تعرف العرب ذلك في أشعارها، فيجيبه بشاهد من شواهد اللغة, فمثلاً: سأله عن قول الله تعالى: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108]، قال: غير مقطوع، قال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، أما سمعت قول الحارث بن حلزة اليشكري :
فترى خلفها من الرجع والوقع منيناً كأنه أهباء
حتى جاء عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي وهو شاب صغير من شعراء قريش، فسأله ابن عباس عن آخر ما قال من الشعر، فأنشده هذه القصيدة:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر غداة غد أم رائح فمهجر
لحاجة نفس لم تقل في جوابها فتبلغ عذراً والمقالة تعذر
تهيم إلى نعم فلا الشمل جامع ولا الحبل موصول ولا القلب مقصر
وأخرى أتت من دون نعم ومثلها نهى ذا النهى لو ترعوي أو تفكر
إذا زرت نعماً لم يزل ذا قرابة لها كلما لاقيته يتنمر
عزيز عليه أن أمر ببابها مسر لي الشحناء والبغض مظهر
ألكني إليها بالسلام فإنه يشهر إلمامي بها وينكر
بآية ما قالت غداة لقيتها بمدفع ركبان أهذا المشهر
قفي فانظري يا أسم هل تعرفينه أهذا المغيري الذي كان يذكر
أهذا الذي أطريت نعتاً فلم أكن وعيشك أنساه إلى يوم أقبر
فقالت نعم لا شك غير لونه سرى الليل يحيي نصه والتهجر
لئن كان إياه لقد حال بعدنا عن العهد والإنسان قد يتغير
رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخصر
أخا سفر جواب أرض تقاذفت به فلوات فهو أشعث أغبر
قليل على ظهر المطية ظله سوى ما نفى عنه الرداء المحبر
وأعجبها من عيشها ظل غرفة وريان ملتف الحدائق أنضر
ووال كفاها كل شيء يهمها فليست لشيء آخر الليل تسهر
وليلة ذي دوران جشمني السرى وقد يجشم الهول المحب المغرر
فبت رقيباً للرفاق على شفاً أحاذر منهم من يطوف وأنظر
إليهم متى يستمكن النوم منهم ولي مجلس لولا اللبانة أوعر
وباتت قلوصي بالعراء ورحلها لطارق ليل أو لمن جاء معور
وبت أناجي النفس أين خباؤها وكيف لما تأتي من الأمر مصدر
فلما فقدت الصوت منهم وأطفئت مصابيح شبت بالعشاء وأنور
وغاب قمير كنت أرجو غيوبه وروح رعيان ونوم سمر
ونفضت عني العين أقبلت مشية الـ حباب وركني خشية القوم أزور
فحييت إذ فاجأتها فتولهت وكادت بمذكور التحية تجهر
فقالت وعضت بالبنان فضحتني وأنت امرؤ ميسور أمرك أعسر
أريتك إذ هنا عليك ألم تخف رقيباً وحولي من عدوك حضر
فوالله ما أدري أتعجيل حاجة سرت بك أم قد نام من كنت تحذر
فقلت لها بل قادني الحب والهوى إليك وما عين من الناس تنظر
فقالت وقد لانت وأفرخ روعها كلاك بحفظ ربك المتكبر
فأنت أبا الخطاب غير منازع علي أمين ما أقمت مؤمر
فيالك من ليل تقاصر طوله وما كان ليلي قبل ذلك يقصر
ويالك من ملهى هناك ومجلس لنا لم يكدره علينا مكدر
يمج ذكي المسك منها مفلج نقي الثنايا ذو غروب مؤشر
وترنو بعينيها إلي كما رنا إلى ظبية وسط الخميلة جؤذر
فلما تقضى الليل إلا أقله وكادت هوالي نجمه تتغور
أشارت بأن الحي قد حان منهم هبوب ولكن موعد منك عزور
فما راعني إلا مناد ترحلوا وقد لاح مفترق من الصبح أشقر
فلما رأت من قد تنور منهم وأيقاظهم قالت أشر كيف تأمر
فقلت أباديهم فإما أفوتهم وإما ينال السيف ثأرا فيثأر
فقالت أتحقيقاً لما قال كاشح علينا وتصديقاً لما كان يؤثر
فإن كان ما لا بد منه فغيره من الأمر أدنى للخفاء وأستر
أقص على أختي بدء حديثنا وما بي من أن تعلما متأخر
لعلهما أن تطلبا لك مخرجاً وأن ترحبا صدراً بما كنت أحصر
فقامت كئيباً ليس في وجهها دم من الحزن تذري عبرة تتحدر
فقالت لأختيها أعينا على فتى أتى زائراً والأمر للأمر يقدر
فأقبلتا فارتاعتا ثم قالتا أقلي عليك اللوم فالخطب أيسر
فقالت لها الصغرى سأعطيه مطرفي ودرعي وهذا البرد إن كان يحذر
يقوم فيمشي بيننا متنكراً فلا سرنا يفشو ولا هو يظهر
فلما أجزنا ساحة الحي قلن لي أما تتقي الأعداء والليل مقمر
وقلن أهذا دأبك الدهر سادراً أما تستحي أو ترعوي أو تفكر
إذا جئت فامنح طرف عينك غيرنا لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظر
فكان مجني من كنت أتقي ثلاث شخوص كاعبات ومعصر
وآخر عهد لي بها أن تولهت ولا حلها خد النقي ومحزر
فالقصيدة بكاملها ثمانون بيتاً وقد حفظها ابن عباس بمرة واحدة، أيكم يعيدها الآن وقد سمعتموها؟
فقال نافع بن الأزرق لـابن عباس : لله أنت يا ابن عباس نضرب إليك آباط الإبل في طلب العلم، فتعرض عنا، ويأتيك شاب حدث من قريش ينشدك سفهاً فتسمعه؟ فقال ابن عباس : ما سمعت سفهاً، فقال: بلى أما سمعت قوله:
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت فيخزى وأما بالعشي فيخصر
فقال: ما هكذا قال إنما قال:
رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيضحى أما بالعشي فيخصر
فلما كان من الغد سأله عن قول الله تعالى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى [طه:118-119], فقال: تبرز للشمس، فقال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها قال: أما سمعت قول المخزومي بالأمس:
رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخصر
فهذه شواهد اللغة ومن لم يحفظها ولم يعتنِ بها في صغره لا يمكن أن يحفظها في كبره، إلا النوادر فقد حفظ ابن مالك ثمانية شواهد من الشواهد العربية يوم موته حفظها من ابنه بدر الدين .
والعناية بها هي من الشأن الأول ومن هدي السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة السابقين المهديين، فلذلك لا بد من تعويد الصغار عليها.
وكذلك تعويدهم على محبة العلم والمطالعة، فالصغار إذا لم يتعودوا على محبة العلم والمطالعة ومحبة الكتب لا يمكن أن يكونوا من أهلها، فسيعيش الإنسان في بيت فيه مكتبة وافرة جمة وهو لا يتعود فتح الكتاب منها، ومن المؤسف أن كثيراً من الموظفين اليوم في مكاتبهم مصاحف، لكنهم لا يتعودون على فتحها.
وأنا أعرف الشيخ محمد عالي رحمة الله عليه، كان يقول: إن كتاباً لم يختم ليس محرماً للكتب، فلا يوضع في المكتبة أبداً.
وكان يقول: إنه لم يملك كتاب قط إلا ختمه، وما ختم كتاباً قط فالتبس عليه ما فيه مع ما ليس فيه, فلذلك يعتبر تعويد الصبيان على المطالعة والقراءة من المهمات العظيمة، وبالأخص تعويدهم على احترام الكتب، فأنتم تعرفون أن المدارس اليوم تعود الأطفال على عدم احترام الكتب، فهم يمزقونها، ويلعبون بها، ويجلسون عليها في كثير من الأحيان نراهم يفعلون ذلك، مع أن الأولى أن يعود الأطفال على احترام الكتب وتعظيمها، وقديماً قال الحكيم :
لنا جلساء ما يمل حديثهم ألباء مأمونون غيباً ومشهدا
يفيدوننا من علمهم علم من مضى وعقلاً وتأديباً ورأياً مسددا
فلا فتنة تخشى ولا سوء عشرة ولا نتقي منهم لساناً ولا يدا
فإن قلت أحياء فلست بكاذب وإن قلت أموات فلست مفندا
والأولاد إذا رأوا عناية الآباء والأمهات بالكتب واحترامهم لها وكثرة مطالعتهم لها فإنهم سينشئون على ذلك, وقد قال غيلان :
ألفى أباه بذاك الكتب يكتتب
فما ألف الولد أباه سيتعود عليه, ولذلك فإن كثيراً من الأئمة كانوا يعودون الصغار على المطالعة ودخول المكتبات حتى في صباهم، وكانوا يحضرونهم مجالس العلم، والإمام محمد بن عثمان بن قايماز الذهبي ذكر أن أباه كان يحمله على عنقه وهو في الرابعة من عمره فيحضره مجالس التحديث حتى أحرز الأسانيد العالية في صغره؛ لأن المشايخ الذين كانوا يحدثون قد ماتوا وهو صغير، لكن حضر مجالسهم فسمع تحديثهم فأصبح معدوداً في طلابهم، وكتب في أسماء المجازين بأسانيد المشايخ فأصبح إسناده عالياً على أهل زمانه، وهذا ما يرغب فيه الناس، ولذلك فإن الحافظ ابن عساكر رحمه الله كان يقول: لقول الشيخ أنبأنا فلان وكان من الأئمة عن فلان أحظ ما تسمع أذني، فتعويد الصغار على هذا مما يجعلهم من المعتنين بالعلم ودراسته.
كذلك تعويدهم أيضاً على احترام كل كبير في السن وخدمته، فهذا من خصائص هذه الأمة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لن تزال أمتي بخير ما زال صغيرها يوقر كبيرها، وكبيرها يرحم صغيرها ), فتعويد الصغار على هذا من الأدب.
وهنا فيما يتعلق بالأدب لابد من قواعد مهمة:
منها: أن الضرب الشديد للأطفال في التأديب مزعج لهم، وسبب لتراجعهم وانغلاق نفسيتهم، فما ضرب عليه الولد في العادة من المحفوظات لا يبقى معه كثيراً، فيحتاج إلى التوسط في هذا الباب، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري في شرح حديث بدء الوحي، عندما غط جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل العلم أخذوا من ذلك: أن الصبي لا يضرب على القرآن ولا على العلم أكثر من ثلاث ضربات؛ لأن جبريل غط النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً, ولذلك يقول الشيخ محمد عال رحمه الله:
يؤخذ من تثليث غط أحمدا عند نزول وحيه بادي بدا
ألا يزاد الضرب للصبيان على ثلاثة..
فلذلك لا ينبغي أن يتشدد معهم في الضرب والإهانة، ففي ذلك كسر لخواطرهم وتكريههم في المسائل العلمية.
ومن هنا فمبدأ التشجيع والتأديب مبدءان مهمان للصغار، فتشجيعهم إذا أحسنوا بالجوائز والتكريم والتشريف من المهمات, وكذلك تأديبهم أيضاً تأديباً غير فاحش إذا أساءوا من المهمات، وليكن الإنسان معتدلاً في هذا.
ولا يحل الدعاء عليهم، فدعاء الوالد على ولده مستجاب، ولذلك ينبغي للأمهات أن يتعودن على عدم الدعاء على الأولاد، فهو مستجاب وهن لا يرضين باستجابته.
وكذلك تعويدهم في وقت الدراسة على الجد والتشمير والمنافسة من المهمات، كأن يعودوا على أن وقت اللعب محصور، وأن وقت الدراسة محصور لا بد من إكماله، وإذا انتهى وقت الدراسة فلا بد أن يعطوا إجازة وراحة، تجم بها نفوسهم وقد قال الحكيم :
أفد طبعك المكدود بالجد راحة يجم وعلله بشيء من المزحِ
ولكن إذ أوليته المدح فليكن بمقدار ما يولى الطعام من الملح
وكذلك لا بد أيضاً من تعويدهم على تسميع ما حفظوا، فإذا كان الإنسان يحفظ بسهولة وسرعة فإنه سينسى أيضاً بسهولة وسرعة, لكن إذا كان يراجع ذلك فهذا الذي يثبته في ذهنه.
وكذلك التنويع في المعلومات، أن يكون مثلاً ما يدرس في الليل غير ما يدرس في النهار، وأن يكون ما يحفظ في أيام الأسبوع متبايناً، فهذا مما يعين نفسياتهم على التحمل, ولهذا فإن تقسيم الأوقات على المواد من مهمات التربية.
وكذلك ألا تثقل أذهانهم أيضاً، فإذا أرت أن يحفظ الولد شيئاً من القرآن فلا تجبره على حفظ صفحة كاملة دفعة واحدة، بل اختر له أسطر قليلة يحفظها بسرعة، فشجعه على حفظها، ثم أعطه جرعة أخرى وهكذا، فما كان يشق عليه جرعة واحدة إذا قسمته لن يشق عليه فاقسمه.
كذلك فيما يتعلق بتأديبهم على الأخلاق، فلا بد أيضاً أن يربط لهم ذلك بالمروءة والنخوة، وأن يعودوا فيه على الاحترام، فالولد لا ينبغي أن ينادى باسم غير شريف، وما تعود عليه في زماننا هنا من تضمير أسماء الأطفال وخطابهم بالألقاب السيئة فهذا يكسر نفوسهم ويعودهم على عدم المسئولية, لكن إذا كانوا يكنون: قم يا أبا العباس، قم يا أبا حمزة، ويكنون بالكنى الشريفة، وينادونا بأسمائهم التي يحبونها، فهذا مما يزيد شخصياتهم ويزيد عنايتهم بأنفسهم, ومن هنا يقول الحكيم :
أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوأة اللقبا
كذاك أدبت حتى صار من خلقي أني رأيت ملاك الشيمة الأدبا
كمخاطبة الإنسان بالاسم الشريف تحميل له المسئولية وزيادة لشخصيته, وهذا يشمل حتى الكفار، فـالنبي صلى الله عليه وسلم كان يخاطب الوليد بن المغيرة فيناديه بكنيته، وكان يخاطب عتبة بن ربيعة فيناديه بكنيته, وهذا من قول الحسن للناس، وقد قال الله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83].
إذاً: هذه بعض القواعد وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد الله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر