الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى أرسل الرسل بمنهج الحق؛ لإقامته للناس وإقامة الحجة عليهم، وقفى على آثارهم بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فجاء بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً؛ فلم يبق خير إلا دل عليه، ولم يبق شر إلا حذر منه، وجاء بالدين الذي جعله الله تعالى مسيطراً على الأديان كلها وناسخاً لما سبق، ولا يرتضي الله تعالى من أحد سواه؛ فجميع الأديان الأخرى نسخت بهذا الدين الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يقبل الله من أحد بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلا أن يتبعه؛ ولذلك فإن الله تعالى قال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[النساء:65]، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( فوالذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، لا يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي إلا دخل النار )، وصح عنه صلى الله عليه وسلم: ( أنه رأى ورقة من التوراة بيد عمر بن الخطاب فقال: أفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟ فلو أن موسى بن عمران حي ما وسعه إلا اتباعي )؛ ولذلك فإن نبي الله عيسى بن مريم عليه السلام ( سينزل في آخر الزمان حكماً عدلاً، ينزل وقت صلاة الفجر عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، يمينه على ملك وشماله على ملك، كأنما خرج من ديماس )، أي: كأنما خرج من حمام، ( إذا رفع رأسه تحدر منه مثل الجمان وإذا طأطأه تقاطر، لا يشك فيه من رآه أنه المسيح بن مريم عليه السلام )، فيأتي حاكماً بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يغير شيئاً مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يطبقه على وفق ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم عليه المؤمنين.
وقد بنى الله سبحانه وتعالى هذا الدين بناء محكماً، فجعل بعضه يصدق بعضاً ويفسره؛ فلا يمكن أن يقتطع منه جانب دون الجوانب الأخرى، ولا يستقيم على التجزئة؛ ولذلك قال الله تعالى: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَهمْ يَرْجِعُونَ * وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ[آل عمران:72-73]، ونعى الله ذلك عليهم وأنكره، ورد عليهم في سورة البقرة فقال: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ[البقرة:85]؛ فلهذا كان لزاماً على الإنسان أن يستسلم لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وأن يأخذ به كافة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ حين أرسله في الدعوة إلى الله تعالى إلى اليمن: ( ادعهم إلى كبير الإسلام وصغيره )، وعندما فتح الله العراق على المسلمين ولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه سلمان الفارسي على مدائن كسرى، ( فجاءه حبر من اليهود فقال: يا سلمان ! لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة! فقال سلمان : أجل، علمنا ألا نستقبل القبلة ببول ولا غائط، وأن نستجمر ثلاثاً )، فليس شيء من تصرفات المكلف؛ إلا وقد جاء فيه خطاب من عند الله سبحانه وتعالى، وبين النبي صلى الله عليه وسلم ما يصلح عليه أمر الناس فيه.
ولذلك فلا بد من مدارسة هذه الشريعة وألا يقدم الإنسان على شيء حتى يعلم حكم الله فيه، فقد قال الله تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا[الإسراء:36]، وقد أجمعت الأمة على أنه لا يحل لامرئ أن يفعل فعلاً حتى يعلم حكم الله فيه، وأن من لم يكن عالماً بذلك فيجب عليه أن يسأل أهل العلم؛ لقول الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[النحل:43]؛ ولقوله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء:83]؛ فلهذا يحتاج الإنسان إلى مدارسة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في كل الأمور، وهذا أول مراحل التصديق؛ لأن التصديق هو اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، واتباعه لا بد أن يبدأ أولاً بتعلم ما جاء به، فمن كان معرضاً عما جاء به ولا يتعلمه ولا يلقي له بالاً لا شك أنه معرض عنه، وسيبعث أعمى يوم القيامة؛ كما قال الله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ[طه:124-127].
فيحتاج الإنسان أولاً إلى أن ينفق جزءاً من وقته في تعلم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يعلم أن تعلم ذلك أفضل من العمل به؛ لأنه سابق عليه؛ ولهذا قال البخاري رحمه الله في الصحيح: باب: العلم قبل القول والعمل؛ لقول الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ[محمد:19]، فيحتاج الإنسان إلى أن يتعلم الأحكام قبل الإقدام عليها؛ ولذلك أخرج البخاري في الصحيح تعليقاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (تعلموا قبل أن تسودوا). واختلف أهل العلم في معنى قوله: (قبل أن تسودوا) فقالت طائفة: قبل أن يلجأ إليكم الناس، فإن الإنسان إذا تقدم به العمر وصل إلى مقام السيادة، وهو أن يلجأ إليه الناس في أمورهم، وقيل: معنى ذلك: قبل أن تتزوجوا؛ لأن الإنسان إذا أصبح رب بيت كان سيداً في بيته، وقالت طائفة أخرى: بل المعنى: قبل أن تسود لحاكم، أي: قبل أن تنبت وجوهكم الشعر؛ فكل ذلك مما فسر به قول أمير المؤمنين رضي الله عنه.
وهذا يقتضي من الإنسان الحرص على أن يتعلم أولاً قبل أن يعمل.
ثم بعد هذا لا بد أن يكون ذلك العلم الذي يتعلمه مؤصلاً، أي: أن يجد الإنسان ثبتاً من الله تعالى فيما يأخذ به؛ لأن الإنسان إذا كان مقلداً يسمع قال فلان وقال فلان من الناس لم يتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولم تكن له بينة بينه وبين الله فيما يعمل به، أما إذا كان يبحث عن الدليل في كل ما يأخذ به من الأقوال والأفعال، وكانت أموره معتمدة مستندة على الوحي؛ فإنه حينئذ صاحب سلاح قوي، وهو متمسك بثبت من الله تعالى؛ فلا يخشى عليه أن يقول عند سؤال الملكين: هاه.. هاه! كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته؛ لأنه إنما يأخذ بالوحي.
ولذلك يحتاج الإنسان إلى أن يكون مأخذه ومرجعه هو هذا الوحي الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى؛ فلا معدل عنه، ولا يمكن أن يخالفه أحد، ولا يمكن أن يرغب الإنسان عنه إلا إذا كان سفيهاً، فيحتاج الإنسان إذاً إلى الرجوع إليه في كل الأمور، وأن يعلم أن كل حكم أو أمر لم يكن معتمداً على الوحي ولم تقم عليه بينة من الله تعالى فهو رد على صاحبه؛ ولهذا قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ[الأعراف:33]، فالقول على الله بغير علم هو من أكبر الكبائر التي عدها الله في هذه الآية، وهذا يقتضي أيضاً حرص الإنسان على الاستدلال على كل ما يسمعه؛ فإن الإنسان إذا تبين الدليل وعرفه التزم ما أمر الله به في قوله: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[البقرة:111]، وكان على ثبت، وقد أخرج أبو داود في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أفتي على غير ثبت فإثمه على مفتيه )، فيحتاج إذاً إلى أن يتصل بالله سبحانه وتعالى عن طريق الوحي الذي جاء من عنده، فإذا عمل عملاً كانت البينة والثبت بين يديه، وهو حجة بينه وبين الله، وإذا لم يفعل وكان يتبع أقوال الناس فأقوال الناس متعارضة متباينة، فيها كثير من الخلل والخلاف؛ ولهذا قال الله تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا[النساء:82]؛ فيحتاج الإنسان إذاً إلى الرجوع إلى الوحي الذي هو من عند الله لعصمته، ولأنه الذي يرضي الله وقد أرسل به نبيه صلى الله عليه وسلم.
وإذا عرف الإنسان الأحكام بأدلتها جاء إلى المرحلة الثالثة، وهي أن يعمل بما تعلمه وعرف دليله؛ لأن العلم إنما هو سلاح ذو حدين، تقوم به الحجة على من علمه إذا لم يعمل به؛ ولهذا قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (إن أخوف ما أخافه ألا تبقى آية آمرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء ! قد أتيتك آمرة فلم تأتمر بي، ولا آية زاجرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء ! قد أتيتك زاجرة فلم تنزجر بي). وأخرج عنه أبو عمر بن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله أيضاً أنه قال رضي الله عنه: (إن أخوف ما أخافه أن يقال لي يوم القيامة: أعلمت أم جهلت؟ فأقول: بل علمت، فيقال: ففيم عملت فيما علمت؟)؛ ولذلك فهذا القرآن حجة ناطقة على الناس، كل من بلغه وسمعه فقد قامت عليه الحجة به.
ولا بد أن يعلم الإنسان أن ما شرعه الله من الأحكام قد رتب الله بعضه على بعض، وساقه في سياق لا يقبل التجزئة والتفريق، فالقيم الأخلاقية هي منبنية على الاعتقاد، فالاعتقاد هو أصل الأمر للإسلام، فهذا الإسلام الذي آمنت به وصدقت ينبني عليه القيم الخلقية؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً )، فالقيم الخلقية تنبني عليها القيم الاقتصادية والاجتماعية، ثم بعد ذلك تأتي القيم السياسية، وهي منبنية على القيم الاقتصادية والاجتماعية.
وهذا الترتيب إذا فصله الإنسان وجزأه لا يمكن أن يستقيم له أمر من أمور دينه ولا من أمور دنياه، فإذا أراد الإنسان أن يأخذ من الإسلام فقط جانب العقيدة والعبادة ويهمل الجوانب الأخرى؛ فيأكل الربا ويوكله ويتعامل مع الناس بالأخلاق التي يشرعها لنفسه فيتبع بذلك خطوات الشيطان، ويكون في المجال الاجتماعي والسياسي والاقتصادي مفصولاً عن هذا الدين بالكلية ولا يمكن أن يصلح له شيء، ولا يقبل الله صلاته ولا طهارته ولا صيامه، بل لا يمكن أن تستقيم عقيدته أصلاً على ذلك؛ فلا بد من الرجوع المطلق لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ[النساء:65].
ثم بعد هذا أضرب مثالاً لارتباط القيم الاقتصادية بالقيم الخلقية، لو أن ملكاً من الملوك رتب عقوبة عظيمة على الربا؛ فقال: من أكل الربا فسأقتله، فهل سينزجر الناس عن الربا بمجرد هذه العقوبة، مع أنهم يفشو فيهم الكذب ونقص الأمانة والإخلاف والحرص على الدنيا، والحرص على عاجل أمرها والغش والغبن وغير ذلك؟ إذا ترك هذه القيم الفاسدة في أخلاق الناس، ولكنه أراد أن يفرض عليهم العمل على مقتضى قانونه بالعقوبات، فهل سيطيعه الناس ويمتثلون لقانونه؟
لن يطيعوه، بل سيحتالوا بالوصول إلى أهدافهم بلي عنق ذلك القانون، أو الاحتيال عليه بالوساطة أو الرشوة أو غير ذلك.
ولهذا فإن القيم الشرعية ربطت بالخلق؛ فرتب الشارع هذه القيم أمراً ونهياً على الأخلاق؛ فجعل التزام الإنسان راجعاً إلى مروءته وشرفه، وجعل إقراره مأخذاً له؛ فهو مرجعه ومخاطب به، وجعل عقود الناس متعلقة بعقائدهم: وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا[البقرة:177]، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ[النحل:91]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ[المائدة:1]، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ[النحل:91-92]؛ فلذلك ربط الشارع هذه القيم بالقيم الخلقية؛ ليقتضي ذلك حرص الإنسان على الوفاء بالتزاماته؛ لأنها من شرفه ومن مروءته ومن خلقه، وما لم يكن الإنسان كذلك فلا يمكن أن يوثق بعمله، ولا يمكن أن يوثق بقيامه بالتزاماته، ولا بوفائه بديونه وأموره التي يغيب عليها.
فلذلك يحتاج الإنسان قبل التعامل أن يحرص على تحقيق الأمانة؛ فهي شرط لكل الأمور، وهي أخت الدين؛ ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا إيمان لمن لا أمانة له )، وصح عنه أنه قال: ( إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال؛ فتعلموا من القرآن وتعلموا من السنة، وإنه سيسرى عليها فتنزع من القلوب، فيبقى أثرها كالوكت، كجمر دحرجته على رجلك فنفط وانتفخ، فتراه منتبراً وليس فيه شيء ).
وهذه الأمانة هي من الشرف والخلق، فإذا كان الإنسان صاحب أمانة فسيوثق به بين الناس، وسيدل ذلك على حسن خلقه وعلى صحة التزاماته ووفائه، وإذا كان صاحب إخلاف ولم تكن له أمانة فلا يمكن أن يثق أحد بتعامله، ولا يمكن أن يودع ولا أن يتعامل معه بالديون، ويحوج إلى الزيادة في السعر عن طريق الدين وهو الربا، فحاجة الناس إلى ربا النساء سببها عدم حصول الثقة، لكن إذا كانت الثقة حاصلة وكان المعلوم من الإنسان أنه سيقضي الدين في أجله المسمى والمحدد، ولا يمكن أن يتأخر عنه يوماً ولا ليلة، والثقة حاصلة به، فلا حاجة لزيادة السعر عليه؛ لأنك قد ربحت بتقديرك عندما بعته بأكثر من الثمن الذي اشتريت به، وحرصت على الوفاء في الوقت المحدد الذي تحتاج فيه إلى ثمن مبيعاتك، وكذلك الحال بالنسبة لكل الديون؛ فالسلم والقرض وبيوع الآجال كلها إذا حصلت الأمانة والثقة لن يحتاج فيها إلى الربا بوجه من الوجوه؛ لأن الربا إنما يقصد به الناس الاحتياط لأموالهم عند انعدام الثقة، وإذا حصلت الثقة زال ذلك؛ فلذلك يحتاج المعامل إلى تحقيق الأمانة قبل إقدامه على العمل.
وهذه الأمانة تشمل الأمانة في كل الأمور؛ فأمانات الله لديك منها جوارحك؛ فلا بد من حفظها، ومنها كذلك ما ائتمنك عليه من أمور دينه؛ فأمور الدين التي ائتمنك الله عليها تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: تكاليف خاصة لكل إنسان فيها مسئوليته المباشرة، مثل: طهارة الإنسان، وصلاته، ونفقة أهله، والقوامة على عياله؛ فهذه أمور على كل فرد من الأفراد مسئوليتها المباشرة.
والقسم الثاني: هو الخطاب العام المشترك وهو فروض الكفايات؛ كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الدين وتبليغه إلى الناس، والجهاد في سبيل الله ونحو ذلك؛ فهذه فرائض مشتركة على كل إنسان منها حظ، وكل إنسان يجب عليه أن يشارك في القيام بها ما تيسر له ذلك وما استطاع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها؛ فيحتاج الإنسان إلى معرفة أنها أمانة لديه وأنه مسئول عنها بين يدي الله تعالى، إذا تذكر الإنسان أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بأمانة عظيمة يحملها من عند الله فأداها إلينا فحملناها في أعناقنا، وما منا أحد إلا وقع على الاستلام؛ فكل إنسان منا بمجرد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قد وقع الوثيقة على الاستلام ورفعت إلى الله، فكانت بيعة بيننا وبين الله، أكدها الله في التوراة والإنجيل والقرآن؛ فقال تعالى: إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[التوبة:111]؛ فهذه أمانة عظيمة، وقد عرضت من قبل تنبيهاً لعظمها على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها؛ كما قال الله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا[الأحزاب:72].
ثم كذلك أمانات الناس لديك، وهي تشمل أسرارهم وعيوبهم التي تطلع عليها، وما تطلع عليه من أحوالهم التي لا يريدون إظهارها فهي أمانة لديك؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن تتبع عورة مسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه )، فلذلك تحتاج إلى حفظ أمانات الناس وأسرارهم، ولو لم يصرح لك بالأمانة فيها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من حدثك والتفت فقد ائتمنك )، فمجرد الالتفات مؤذن بأنه يأتمنك على سره، وكذلك منها ديونهم وبياعاتهم وأمورهم؛ فهي أمانة لا بد من الوفاء بها وأدائها على الوجه الصحيح، وقد حدث النبي صلى الله عليه وسلم برفع الأمانة، وذكر أن الأمانة إذا رفعت فهي علامة من أشراط الساعة، وبين أنها سترفع حتى يقال: ( في بني فلان رجل أمين )، أي: في القبيلة كلها رجل واحد أمين، وبين كذلك أن من رفعها أن يوسد الأمر إلى غير أهله، وأن يوثق بمن لا يستحق الثقة؛ فهذا من رفع الأمانة حيث قال: ( إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قلت: فما ضياعها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ).
فلذلك نحتاج إلى مراجعة هذه الأمانة قبل العقود كلها، وأن يمتحن الإنسان نفسه في الأمانة؛ فهي من تقواه؛ فإذا كان الإنسان يعلم أنه غير أمين، فعليه أن يعالج هذا المرض الذي فيه كما لو علم أنه مصاب بداء عضال، أليس سينفق أمواله من أجل شفاء ذلك المرض وعلاجه؟ فكذلك إذا أحس بنقص في الأمانة سواءً تعلق بجوارحه، أو بطاعاته وعباداته، أو تعلق بمعاملاته مع الناس، فلا بد أن يبادر لعلاج هذا المرض قبل استفحاله، وكذلك الحال في حق أقاربه فمن له قريب يعلم أن لديه نقصاً في الأمانة لا بد أن يبادر لعلاجه من هذا المرض قبل أن يستشري فيه.
ومن هنا فإن الحق العام في ذلك ينبغي أن ترعاه الدولة؛ فمن عرف بنقص الأمانة لا بد أن تقوم الدولة برعاية تصرفاته حتى لا يغر الناس، وحتى لا يعاملهم معاملات يضيع فيها أملاكهم وأموالهم؛ ولذلك فإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقف على المنبر في خطبة له فقال: (ألا إن الأسيفع -أسيفع جهينة- قد رضي من دينه وأمانته بأن يقال: سابق الحاج، فادّان معرضاً، فأصبح قد رين به، فمن كان له عليه دين فليعد بالغداة، فلنقسم ماله بينهم بالحصص). فهذا رجل من جهينة كان يأخذ الديون فيشتري أسبق الرواحل؛ ليسبق الحجاج في الرجوع إلى المدينة ليقال: سابق الحاج، فكثرت ديونه ففلسه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهذا التفليس قد لا يضره في دينه وخلقه؛ لأن الإنسان قد يقع في مثل هذا النوع من غير قصد منه، كما حصل لـمعاذ بن جبل رضي الله عنه، وأنتم تعلمون مكانته في الإسلام ومنزلته فيه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه أعلم أصحابه بالحلال والحرام؛ فقال: ( أقرؤكم أبي ، وأقضاكم علي ، وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل )، وذكر أنه يبعث يوم القيامة أمام العلماء برتوة، أي: بمجرى فرس، يسبق العلماء به يوم القيامة، ومع هذا فقد فلسه النبي صلى الله عليه وسلم عندما تراكمت عليه الديون، وأنتم تعلمون قطعاً أنها ليست في مخيلة ولا سرف، ( دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أحضر لي ما تملكه، فجاء بحلس وقتب وقدح )، ثلاثة أمور هي ملكه، ما عدا سيفه الذي يجاهد به في سبيل الله، فعرضها النبي صلى الله عليه وسلم للناس للبيع، وأراد بذلك أن يتسابق أغنياء المسلمين لقضاء دين معاذ ، فكانت أول مزايدة في الإسلام، وأول بيع يبيعه المسلمون مزايدة هو تفليس معاذ بن جبل ، قال: ( من يشتري هذا القدح؟ من يشتري هذا القتب؟ من يشتري هذا الحلس؟ )، فبادر الناس كل يدفع فوق ما يدفع صاحبه، حتى حصل من ذلك ما قضى دين معاذ ، وهذا من سياسة النبي صلى الله عليه وسلم وتدبيره.
ومن هنا فإنه صلى الله عليه وسلم أيضاً في نصيحته لـفاطمة بنت قيس ، لما أمرها ألا تسبق بنفسها إذا انتهت عدتها، فلما انتهت عدتها جاءت فقال: ( من تعرض لك من الخطاب؟ فقالت: معاوية و أبو الجهم ، فقال: أما معاوية فرجل صعلوك )، أي: فقير، ليس له مال، ( وأما أبو الجهم فلا يرفع عصاه عن عاتقه، ولكن انكحي أسامة بن زيد )، فاختار لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد ، الحب بن الحب، وهذا النوع لا يقتضي نقصاً في الخلق ولا في الدين كما رأيتم، ولكنه حفاظ على الأمانة العامة بين الناس؛ فكل من عرف أنه صاحب ديون أو أن ذات يده عجزت عن سداد ديونه، فلا بد من ضرب قيد عليه؛ لئلا يغتر به الناس فيعاملوه فتذهب أموالهم، فأموال المسلمين معصومة كعصمة دمائهم؛ كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أي يوم هذا؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس يوم النحر؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فأي شهر هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظنوا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس ذا الحجة؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فأي بلد هذا؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظنوا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس البلدة؟ )، أي: البلدة الحرام، ( قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ).
فلذلك لا بد من الحفاظ على أموال المسلمين وعدم تضييعها وتعريضها للضياع، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من أخذ مال مسلم يريد الوفاء به أعانه الله عليه، ومن أخذه يريد إتلافه أتلفه الله )، فمن أخذ مال امرئ مسلم ديناً وهو يريد الوفاء به أعانه الله على الوفاء به ومن أخذه وهو يريد إتلافه أتلفه الله.
ولذلك كان لزاماً على كل إنسان أن يعرض نفسه على هذه القيمة من قيم الإسلام وهي قيمة الأمانة، وأن ينظر هل هو أمين في تعامله مع الناس؟ وهل هو وفي بالتزاماته؟ وهل هو محل للثقة؟ فإن كثيراً من الناس لا يقوم نفسه من هذا الجانب، وإنما يقوم الأطراف الأخرى التي تتعامل معه؛ فيقول: استدنت من فلان ومن فلان فلم يدينوني، وقد قال الشاعر:
أخذت بعين المال حتى نهكته وبالدين حتى ما أكاد أدان
وحتى طلبت القرض عند ذوي الغنى ورد فلان حاجتي وفلان
فمثل هذا النوع ينبغي للإنسان ألا يقوم فيه الآخرين، بل يقوم فيه نفسه أولاً؛ فإن كان صاحب صدق ووفاء وأمانة، وكان يسعى لقضاء ديون الناس، فسيثقون به ويدينونه، وإن كان ليس كذلك فالعلة ليست من الناس بل هي منه؛ ولذلك عليه أن يعالج هذا المرض قبل أن يتفاقم فيه.
إن خلق الأمانة خلق عظيم، لا بد من تحصيله قبل الإقدام على أي عقد، سواء كان ذلك العقد ناضاً أو كان ديناً، فهي تشمل العقود كلها، فالعقد الناض الذي لا دين فيه يمكن أن يخفي فيه الإنسان بعض ما يكره، فيكون ذلك غشاً وخداعاً، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه مر بالسوق فرأى صبرة من طعام )، أي: طعاماً قد صب بعضه فوق بعض، ( فأدخل يده في تلك الصبرة فأخرج منها )، أي: ما مسه البلل، ( فقال: يا صاحب الطعام ما هذا؟ فقال: أصابه المطر، فقال: هلا أخرجته؛ فمن غشنا فليس منا )، فلذلك يمكن أن يقع الغش ونقص الأمانة، حتى في العقود التي ليس فيها دين.
والديون كلها عرضة كذلك لعدم السداد وعدم الوفاء، فيحتاج الإنسان أولاً إلى أن يعرض على نفسه لماذا يستدين؟ فإن كان ذلك في خيلاء، ويريد فقط زيادة الرفاه أكثر من حاجته فهذا الدين حرام، ولا يحل له اقتراضه، وكذلك إذا كان في مخيلة، أي: في خيلاء وكبر فهذا الدين لا يحل له اقتراضه، إنما يحل له اقتراضه في غير سرف ولا مخيلة ولا كبر، فما يضطر إليه الإنسان من ضرورياته، أو ما يحتاج إليه من حاجياته وتكميلياته إذا كانت في غير سرف ولا مخيلة جاز له اقتراض الدين فيها؛ بشرط أن يكون عازماً على الوفاء، وأن يحرص على أن يفي في الوقت المحدد ليوفي الله عنه ذلك.
أما هذه العقود المالية فهي من أحكام الشرع التي رأيتم ارتباطها بالأخلاق والقيم، وهي من أهم الكسب وأنفعه؛ فقد أخرج الحاكم في المستدرك و البزار في مسنده: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الكسب أطيب؟ فقال: عمل الإنسان بيده وكل بيع مبرور )، فعمل الإنسان بيده هو أطيب كسبه؛ لأن الله أعطاه طاقة وأعانه على استغلالها، فإذا أنتج شيئاً ولو كان حطباً يأتي به فيبيعه كان أطهر له؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب إلى الجبل فيحتطب فيبيع حطبه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه )، فعمل الإنسان من كسب يده هو أحل وأطيب كسبه؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما أكل امرؤ من كسب أطيب من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده )، ونبي الله داود نبي ملك، ملكه الله تعالى أنواع الأملاك، ومع ذلك كان لا يأكل إلا من عمل يده، وهذا مما يقتضي أن عمل الإنسان هو صدقة على جسمه واستغلال لطاقته.
ثم بعد ذلك قال: ( وكل بيع مبرور )، فالتعميم هنا في قوله: (كل بيع) يقتضي شمول ذلك، وهو مخرج للربا؛ لأنه ضد البيع؛ فقد قال الله تعالى: وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا[البقرة:275]، والبيع المبرور أي: الذي يصدق فيه صاحبه ويوفي؛ فهو من البر، والبر: الصدق، فالبيع الذي فيه صدق ووفاء يصف فيه الإنسان مبيعه على وجهه، ويحدد فيه الثمن ويأخذه دون غش ولا خداع، فهذا بيع مبرور، وهو من الكسب الطيب الحلال؛ ولذلك أحله الله تعالى على وجه العموم فقال: وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ[البقرة:275]، وقد قال ابن العربي رحمه الله: (دخل في عموم البيع في هذه الآية ثمانية وخمسون بيعاً، وخرج منه ثمانية وخمسون بيعاً). الثمانية والخمسون التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم بتفصيلاتها هي: كل ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من البيوع، ورأى أن نظيرها أيضاً هو ما أحل من أنواع البيوع، ومقصوده بذلك العقود المسماة، وهي في عدنا اليوم تجاوزت هذا العد؛ فهي اليوم أكثر من ذلك بكثير؛ لأنها غير محصورة في عدد معين، والمرجع فيها إلى أصل الإباحة؛ فالعقود كلها مبناها على الإباحة في الأصل إلا ما جاء النهي عنه، والنظر فيها هو إلى أركانها وشروطها، فما تحققت فيه الأركان الشرعية وشروطها كان عقداً صحيحاً، وما خالف ذلك كان عقداً باطلاً؛ ولهذا فإن العقود لا تحصر في هذا العدد، بل تتجاوزه، وهي اليوم تصل بحسب العقود المعروفة إلى ثلاثة وسبعين عقداً، ومن أهمها وأعظمها فائدة اقتصادية واجتماعية عقد البيع.
وهذا اللفظ وهو (باع) يطلق في مقابل الشراء؛ فيقال: باع فلان كذا، فاشتراه منه فلان بكذا، ويطلق كل واحد منهما على الآخر؛ فكل واحد منهما يسمى بيعاً ويسمى شراءً؛ وذلك لأن المدار على الرغبة، والرغبة قلبية، وهي تتفاوت في الأشياء؛ فكل من البائع والمشتري راغب فيما يحرزه من الآخر، وإنما يختلف الحال باختلاف الثمن والقيمة؛ فالثمن تابع للرغبات، والقيمة تابعة للرقبات، والثمن تابع لرغبة المشتري؛ فيمكن أن يشتري هذا الجهاز بأضعاف سعره؛ لأنه محتاج إليه ولم يجده إلا بذلك؛ فهذا ثمن لا قيمة، أما قيمة الجهاز فهي ما يباع به نظيره في السوق؛ فهذا الفرق بين الثمن والقيمة: أن الثمن راجع إلى رغبة المشتري، والقيمة راجعة إلى رقبة الشيء، أي: إلى حقيقة الشيء وسعره؛ فلذلك يعدل إلى القيمة عند إتلاف المقومات؛ فالمرجع فيها إلى القيمة لا إلى الثمن، فإذا أتلف الإنسان سيارة لإنسان مثلاً فلا يرجع إلى الثمن الذي اشتراها به فيقال: قد اشتراها فلان بكذا وكذا، أضعاف قيمتها؛ فلا عبرة بذلك فالعبرة بما تساويه في السوق؛ فهذا هو قيمتها ولا عبرة بشرائها؛ لأن ذلك راجع إلى الرغبة، والإتلاف لا يقوم باعتبار الرغبة، وإنما يقوم باعتبار الرقبة، أي: رقبة المتلف.
وهذا البيع أحله الله سبحانه وتعالى، وحكمة مشروعيته العدل ونفي الظلم؛ لأن كل إنسان أعطاه الله تعالى ما لا يحتاج إليه ويحتاج إليه غيره، وهو بحاجة إلى التبادل مع ذلك الغير، وهذا التبادل لا يمكن أن يكون مقايضة دائماً؛ لأنني أنا مثلاً أملك سيارة وأنت تملك قلماً، وأنا محتاج إلى القلم وأنت محتاج إلى السيارة؛ فهل يمكن أن تستبدل القلم بالسيارة؟ ثمنهما متباعد جداً؛ ففي ذلك غبن واضح، فيحتاج إذاً إلى وسيط في التبادل، وهذا الوسيط هو الثمن الذي لا يحقق مصلحة بذاته، فلا يؤكل ولا يشرب ولا يلبس ولا يسكن فيه ولا يركب، لا يحقق أية مصلحة بذاته ولكن الله جعل عليه قبولاً؛ ليكون وسيطاً في التبادل بين الناس.
وأصل الأثمان الذهب والفضة، وقد جعل الله عليهما هذا القبول؛ ففي كل زمان ومكان يصلحان للتبادل في الأشياء بالإضافة إلى ما يتفق الناس عليه من العملات أياً كان نوعها، سواءً كانت فلوساً من نحاس أو كانت سككاً من ورق أو من جلود، أو كانت قطعاً من المعادن كالنيكل وغيره؛ ولهذا قال مالك رحمه الله: (لو اتخذ الناس سكة من جلود لكرهت أن يتعاملوا بها نسيئة).
فإذا حصلت تلك الثقة فهي المعتبرة في ذلك الوسيط، ومن هنا فالنقود ليست قيمتها بقيمة الورق؛ فالأوراق قيمتها تافهة ضعيفة، وكذلك القطع المعدنية لا تساوي شيئاً لو لم تكن مسكوكة بهذه السكة، وإنما قيمتها راجعة إلى مصداقية الدولة التي ضربتها وأخرجتها، أو إلى رقم السحب الذي تصدره هيئات النقد الدولية؛ فمثلاً مؤسسة النقد الدولية تصدر أرقام سحب لكل عملة معترف بها، وأرقام السحب هذه هي قيمة العملات.
والعملات بهذا تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: عملات صعبة، وهي التي تتجاوز مصداقية الدولة التي تصدرها حدودها؛ فالدولة التي تصدرها لديها أمور مرغوب فيها خارج حدودها، إما أن تكون سلعاً تصدرها، وإما أن تكون خدمات تصدرها، كخدمات الفنادق والسياحة والعلاج والتعليم وغير ذلك من الخدمات التي تقدمها الدول؛ فهذا النوع يسمى العملات الصعبة التي تعمل خارج حدود الدولة المصدرة لها.
القسم الثاني: هو العملات السهلة، وهي عملات للتبادل في داخل بلد واحد، لا يستطيع تصدير سلع ولا خدمات يحتاج إليها خارج حدوده؛ فالبلد الذي لا يصدر إلى الأسواق خدمات أو سلعاً عملته إذا صدرت ستكون محصورة على حدوده، لكنها ذات قيمة موازية لتلك العملات الصعبة وبها يقع التبادل بينها.
والقسم الثالث من أنواع العملات: هو الذي يسمى بالعملات المائعة، وهي التي ليس لها قيمة دولية وإنما تعتبر بضاعة في داخل الدولة التي هي فيها، يتلاعب فيها أهل الأسواق بحسب ما شاءوا، فإذا كانت العملات لا يحدد لها البنك المركزي في الدول التي لها بنوك مركزية سعراً، أو مؤسسة النقد في الدول التي لها مؤسسات نقد لا تحدد لها سعراً في البنوك الوسيطة أو في الأسواق فهذه العملة تسمى مائعة؛ لأنها يتحكم في سعرها السوق، فميزان العرض والطلب للبضائع الخارجية هو المؤثر في سعر العملة، كالحال عندنا هنا؛ فمثلاً: السلع لا تستورد بعملتنا المحلية؛ فلذلك سعر العملة المحلية تابع للسلع؛ ومن هنا فالغلاء الذي تسمعونه يحصل في بعض المواد ليس غلاءً في الواقع في تلك المادة؛ فالمادة في الواقع لم يرتفع سعرها ولهذا سعرها العالمي هو هو، لكن الواقع هو انخفاض فقط في سعر الوسيط الذي هو عملة الشراء المحلية؛ وبهذا يعلم أن الوسيط في التعامل قد ضيق الشارع في طلب الربح فيه؛ لأنه لا يحقق مصلحة من المصالح الكبرى التي تعهد الله بها لـآدم في الجنة حين قال: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى* وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى[طه:118-119]، أربعة مصالح هي أصول المصالح والمنافع: المآكل والمشارب والملابس والمساكن، وما سواها مكمل لها؛ فهذه المنافع ما يحقق واحدة منها هو الذي يحتاج إليه البشر ويمكن الاستثمار فيه والإنتاج، ومن أنتج فيه شيئاً نافعاً لا بد من تشجيعه، وتشجيعه هو التوسعة عليه في الربح فيه، بخلاف صاحب العملة الذي يملك النقود فقط، يملك الكثير من النقود، ما فائدة ما يملكه على المجتمع؟ وما مرجع ذلك في معاش الناس؟ ليس ذلك قيمة مباشرة وإنما هو مجرد وسيط في التبادل؛ فلهذا ضيق الشارع الربح فيما يتعلق بتبادل العملات وبيعها، والصرف أضيق أنواع العقود، وسنخصص له من هذه السلسلة إن شاء الله حلقة متخصصة فيما يتعلق بالصرف وعمل الصرافات والبنوك ونحو ذلك.
أما ما سوى ذلك من البيوع فإن السلع التي تحقق مصالح للناس وضع الشارع لها شروطاً، إذا تحققت في سلعة جاز بيعها وشراؤها وتداولها، وإذا اختل منها واحد حرم بيعها وشراؤها وتداولها. وقد جعل الشارع للبيع ككل حقيقة شرعية أركاناً، وهذه الأركان هي على سبيل البسط ستة، وعلى سبيل الاختصار ثلاثة، فالركن الأول: الإيجاب والقبول؛ فالإيجاب هو: ما يصدر من البائع، والقبول هو: ما يصدر من المشتري، هذا عند جمهور أهل العلم، وعند الحنفية الإيجاب هو: ما صدر أولاً، والقبول هو: ما صدر ثانياً؛ فالحنفية إنما ينظرون إلى ترتيب العقد، فإذا قلت: اشتر مني هذا الجهاز بمائة فقال: فعلت، فأنت الموجب عند الحنفية وهو القابل، وإذا قال لك: بعني هذا الجهاز بمائة فقلت: قبلت؛ فهو الموجب وأنت القابل عند الحنفية، أما الجمهور فعندهم الذي خرجت من يده السلعة هو الموجب، والذي خرج من يده الثمن هو القابل، ومحل هذا عندما يكون البيع بين نقد وعرض، أي: سلعة، أما إذا كان البيع طرفاه سلعتين مثلاً فحينئذ كل واحد منهما موجب وقابل، وكل واحد منهما يسمى بائعاً ومشترياً، وشيئاهما أيضاً يسمى كل واحد منهما ثمناً ومثمناً.
وهذان الركنان - وهما: الإيجاب والقبول - في سبيل الاختصار يجمعان في واحد وهو الصيغة، أي: صيغة العقد، وهي في الواقع ما يدل على رضا الطرفين بالعقد؛ لأن الله تعالى يقول: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ[النساء:29]، فشرط الرضا في العقد، وقد صح في صحيح ابن حبان وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما البيع عن تراض )، وهذا يقتضي أن التراضي شرط للبيع لا يمكن أن يتم إلا به، والرضا أمر قلبي خفي، ولا بد أن يدل عليه شيء ظاهر؛ لأن الأمور الخفية لا يمكن اطلاع الناس عليها؛ ولذلك لا يتعلق بها التشريع، فالذي يدل على الرضا هو الصيغة، وهذه الصيغة لم يعينها الشارع في كلام معين، إلا أنه في الأنكحة خصص ألفاظاً تدل على عقد النكاح بالخصوص، بخلاف البيع؛ فالنكاح ليس مثل غيره من العقود، له قداسة؛ لأنه مرتبط بالعبادة؛ ولذلك سماه الله: مِيثَاقًا غَلِيظًا[النساء:21]؛ فلذلك يحتاج فيه إلى ألفاظ مخصوصة وهي لفظ: (أنكحت)، أو لفظ: (زوجت)، وهل كل لفظ يقتضي التأبيد إذا ارتبط بالصداق يكون كذلك أم لا؟ محل خلاف بين أهل العلم، لكن هذين اللفظين محل إجماع، وهما (أنكحت) و(زوجت) لورود النصوص بهما، فالنكاح إذاً يحتاج فيه إلى لفظ (أنكحت) أو (زوجت) وأما غيره من العقود فالأصل فيها عدم الحاجة إلى لفظ محدود، بل كلما يدل على الرضا فهو كاف في ذلك، وعند الشافعية لا بد من اللفظ في كل عقد من العقود كالنكاح، فالبيع عندهم لا يمكن أن يتم بمجرد التعاطي، بل لا بد أن يكون بصيغة تدل عليه، والجمهور لا يشترطون الصيغة إلا ما يدل على الرضا، سواءً كان ذلك بمعاطاة فقط، أو مع غيرها، وهذا أصبح سائراً اليوم في العالم؛ فاليوم يقع التبايع مع الماكنات في المطارات وفي الأسواق وفي كل مكان بهذه الطريقة، حيث تدخل قطعة العملة في المكان وتضغط على نوع المشروب الذي تريده فتخرج لك الماكنة ما طلبت؛ فهذا النوع أصبح تبايعاً بدون صيغة أصلاً، ويقع فيه الشافعية وغيرهم؛ وبهذا يعلم أن مذهب الجمهور أصبح راجحاً في تعامل الناس وواقعهم، فأصبحت العقود تجرى بمجرد التعاطي، ولو لم يصدر لفظ.
وصيغة العقد يشترط لها ثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن يقع الإيجاب والقبول على شيء واحد؛ فإذا قلت لك: بعتك هذا الماء بمائتي أوقية، فقلت أنت: قبلت هذا الجهاز بمائتي أوقية، فالعقد غير نافذ؛ لأنه لم يقع الإيجاب فيه والقبول على شيء واحد، فلا بد أن يقعا على شيء واحد.
الشرط الثاني: استمرارهما واتصالهما، أي: ألا يفصل بينهما بما يقتضي الإعراض، فإذا قلت لك: بعتك هذا الجهاز بألف، فمكثت أسبوعاً فأتيتني فقلت: قد قبلته؛ فالعقد غير صحيح ما لم أوجب أنا من جديد؛ لأن إعراضك أنت دل على عدم انعقاده؛ فلا بد من اتصال الإيجاب بالقبول.
الشرط الثالث من هذه الشروط: أن يبقى أولهما صدوراً متصفاً بالأهلية إلى صدور آخرهما، ومعناه: أن يبقى الموجب متصفاً بأهلية البيع حتى يقبل القابل؛ فإذا قال لك البائع: بعتك هذا الجهاز بألف ومات قبل أن تقول: قبلت، فالعقد غير صحيح؛ لأنه لم ينعقد بعد، وإذا قال لك: بعتك هذا الجهاز بألف فأغمي عليه أو حجر عليه، بأن صدر عليه حكم ونطقت المحكمة بالحكم في ذلك الوقت بالحجر عليه أو نحو ذلك فالعقد غير صحيح، ومثل ذلك عزله عن البيع، إذا كان وكيلاً في البيع فقال: بعتك هذا الجهاز بألف وقبل قبولك أنت عزله موكله، فقد زالت الأهلية هنا فلا ينعقد البيع بذلك.
ومن هنا فهذه الشروط الثلاثة لا بد من تحققها في صيغة البيع، وهي وقوع الإيجاب والقبول على محل واحد، واتصالهما بحيث لا يخيل ذلك الانفصال إعراضاً عن البيع، وصدور آخرهما في حال اتصاف الموجب أو ما صدر أولاً بأهلية البيع إلى كمال العقد.
والركن الثاني من هذه الأركان هو أيضاً على سبيل البسط ركنان وعلى سبيل الاختصار ركن واحد، وهو العاقد، فعاقد هذا العقد وهو مجريه قسمان: بائع ومشتر، فعلى سبيل البسط يقال: ركنان: بائع ومشتر، وعلى سبيل الاختصار ركن واحد، وهو: العاقد، وهذا العاقد يشترط له ستة شروط:
الشرط الأول: العقل؛ فإن كان فاقد العقل كالمجنون والمعتوه والمبرسم في حال عدم إفاقته فإنه لا ينفذ عقده؛ لأنه قد رفع عنه القلم في ذلك الوقت والعقد تصرف، واختلف في السكران، إذا كان الإنسان سكراناً في حال إجراء العقد فأجرى عقداً من العقود فقالت طائفة من أهل العلم: قد أدخل السكر على نفسه فهو الذي تسبب في زوال عقله؛ فلذلك ينفذ عليه كل تصرفاته، سواءً كانت إتلافاً أو طلاقاً أو عتقاً أو بيعاً أو شراءً، وهذا القول يعتبر المعدوم شرعاً كالمعدوم حساً؛ لأن السكر معدوم شرعاً؛ لأنه يحرم عليه؛ فهو كالمعدوم حساً؛ ولذلك فهذه قاعدة عامة وهي: هل المعدوم شرعاً كالمعدوم حساً؟ والراجح في المذهب المالكي وغيره أن المعدوم شرعاً كالمعدوم حساً.
وقالت طائفة أخرى: بل لا يلزمه شيء من ذلك؛ لأن عقله غائب؛ فقد رفع عنه القلم بذلك؛ فإثمه في سكره لا في تصرفه بعد السكر، وعلى هذا لا يلزمه شيء من تصرفاته حتى يفيق.
وقالت طائفة ثالثة بالتفصيل، وهذا المشهور عند المالكية، وهو أن الأمور التي لا نكرة فيها، أي: التي لا تقع فيها المناكرة فلا تلزمه، والأمور التي فيها نكرة تلزمه، وهذا ما نظمه القواعدي بقوله:
لا يلزم السكران إقرار عقود بل ما جنى عتق طلاق وحدود
فقوله: (لا يلزم السكران إقرار) فإذا أقر لآخر بدين مثلاً فلا يلزمه شيء بذلك الإقرار؛ لأن عقله غائب، ومن شرط الإقرار حصول العقل الذي هو مناط التكليف.
وقوله: (عقود) كذلك إذا باع أو اشترى فإن مرجع البيع والشراء كما ذكرنا من قبل إلى الرضا؛ لقول الله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ[النساء:29]؛ ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما البيع عن تراض )، والسكران ليس له رضاً؛ لأنه غائب العقل، والرضا محله العقل؛ فعلى هذا لا تلزمه العقود.
وقوله: (بل ما جنى) معناه: بل يلزمه ما جنى، فإذا أتلف شيئاً لزم في ماله؛ لأن العمد والخطأ في أموال الناس سواء، وهو بمثابة المخطئ في تصرفه.
وقوله: (عتق طلاق) للنكرة فيهما؛ لأنه إذا أعتق فأنكر أن يكون أعتق بعد إفاقته من سكره أو طلق فأنكر فبالإمكان أن يناكره الطرف الآخر، وبالإمكان أن يزعم كل مطلق أو كل معتق أنه كان سكران في وقت تصرفه، يريد بذلك رد تصرفه؛ فلهذا يلزمه هذا التصرف، فما فيه نكرة من التصرفات يلزم بها وما لا نكرة فيه لا يلزم بها. وهذا القول أعدل وأصوب؛ لأنه مراع لمصالح الطائفتين، مراع لمصالح المحجور عليه ولمصالح المعامل الذي يتعامل معه.
وعموماً: فإن العقل هو الذي يعلم به الرضا؛ فهو مشروط به.
ثم بعد هذا الشرط الثاني من هذه الشروط: البلوغ؛ فالصبي غير البالغ إذا كان عاقلاً فعقده صحيح غير لازم؛ فهو موقوف على رضا وليه؛ لأن الشارع حجر عليه، فجعل تصرفه تابعاً لرضا وليه، فما أنفذه منه الولي لزمه وما رده فهو مردود؛ ولذلك فالصبي غير المميز خارج بالشرط الأول لأنه غير عاقل، والصبي العاقل خارج بالشرط الثاني الذي هو البلوغ، والفرق بينهما: أن ما خرج بالشرط الأول فالعقد فيه باطل، وما خرج بغيره من الشروط فالعقد فيه في أصله صحيح ولكنه غير لازم، إنما يلزم بالإمضاء؛ ولذلك فعقود غير المميز لو أمضاها الولي لم تلزم حتى يعقد عقداً جديداً، وعقود المميز لو أمضاها الولي صحت ولا تحتاج إلى إيجاب جديد.
وهذا البلوغ إنما يحصل تحققه بما لا نكرة فيه؛ لأن الشك فيه، والشك في البلوغ هو شك في مانع، والشك في المانع لا أثر له على الراجح؛ فالشك في أقسام الخطاب الوضعي يتجه إلى ثلاثة منها: إلى شك في سبب كالشك في دخول الوقت، وهذا مؤثر إجماعاً، ولو شك في دخول الوقت لم تجز ولو وقعت فيه، فإذا شك الإنسان هل دخل وقت الصلاة أم لا؟ لا يحل له أن يصلي حتى يجزم بأن الوقت دخل؛ لأن الوقت هو سبب وجوب الصلاة، والصلاة قبله باطلة قطعاً؛ إذاً: الشك في السبب مؤثر إجماعاً، والشك في الشرط محل خلاف؛ كالشك في الطهارة إذا توضأ الإنسان وشك هل انتقض وضوءه أم لا؟ فمذهب الجمهور أنه على يقينه السابق وأن اليقين لا يزول بالشك، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة والحنفية والظاهرية.
ومذهب المالكية أن هذا الشك معتبر؛ لأنه شك في شرط والذمة لا تبرأ إلا بمحقق، فيقابلون المحقق بمحقق فيقولون: قد تحقق أنه يجب عليه الوضوء، ولم يتحقق: هل هو الآن متصف به أم لا؟ فالمالكية وحدهم يرون أن الشك في الحدث ينقض الوضوء، وقد قال العلامة محمد شغا ديواني رحمة الله عليه:
الشك في الأحداث لا ينقض عكس الذي أشياخنا قد رضوا
ومنهم من قال ما قلته من عدم النقض فلا تومضوا
إلا لما فيه الدليل الذي منهاجه للمهتدي أبيض
أحمد والنعمان والشافعي والليث والأوزاعي لا ينقض
وضوءنا بالشك إسحاق لا ينقض والثوري هذا الوضو
ناشدتكم يا إخوتي روا لما قيدته المواق لا تعرضوا
وهو يقصد بذلك أن هذا الخلاف مذهب الجمهور فيه أن الشك في الحدث لا ينقضه.
وأما الثالث وهو الشك في المانع فلا أثر له عند الجميع، فالشك في وجود الحيض مع تحقق الطهر كمن نامت وهي طاهر، فاستيقظت وهي حائض وقد فات جزء من الوقت؛ فإن الاستصحاب هنا يقتضي أنها حاضت في أول نومها، وهذا يقتضي أن الوقت دخل وهي حائض فتسقط عنها الصلاة، لكنها شكت في هذا المانع: هل هو حاصل عند دخول الوقت، أو لم يكن حاصلاً فيه، فيلزمها قضاء تلك الصلاة؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، وقد كانت طاهراً قبل نومها، ومحل هذا إن دخل بعض الوقت، أما إذا انتبهت في أول الوقت فنظرت فوجدت نفسها حائضاً، فلا يلزمها قطعاً أداء تلك الصلاة؛ لأن ذلك هو وقت الوجوب، وهذا محل خلاف يتعلق بوقت وجوب الصلاة، والخلاف فيه طويل إلى أقوال كثيرة، وقد نظمها السيوطي رحمه الله في الكوكب الساطع حيث قال:
جميع وقت الظهر قال الأكثر وقت أداء وعليه الأظهر
لا يجب العزم على المؤخر وقد عزي وجوبه للأكثر
وقيل الآخر وقيل الأول ففيه سواه قاض أو معجل
ومن يؤخر مع ظن موته يعص فإن أداه قبل فوته
فهو أداً والقاضيان بالقضاء أومع ظن أن يعيش فقضى
فالحق لا عصيان ما لم يكن كالحج فليسند لآخر السن
ولذلك فإن الشك في المانع لا أثر له؛ فإذا شك في عدم البلوغ فهذا شك في مانع؛ فهو لا يؤثر فيبقى العقد صحيحاً مع الشك في مانعه، لكن يحتاج دائماً إلى التثبت في المسألة، وبالأخص ما يتعلق بانتفاء المانع وحصول الشرط؛ فإن التمييز بينهما شاق لدى الأصوليين؛ فكثيراً ما يكون الأمر في الواقع انتفاء مانع، ويعده بعض الفقهاء شرطاً، فيكون من باب الشروط فيكون الشك فيه من محل الخلاف، ولو اعتبر انتفاء مانع لكان من الشك في المانع الذي لا أثر له.
ثم بعد هذا الشرط الثالث من هذه الشروط: الرشد، وهو إحسان الإنسان للتصرف؛ فإذا كان الإنسان لا يحسن التصرف في ماله فإنه لا ينعقد بيعه؛ وذلك بسبب نقص في العقل أو عدم إدراك للواقع، فيقتضي سفهاً؛ فالإنسان الذي تقوى عاطفته على عقله، فإذا أحب شيئاً بذل فيه أكثر من قيمته، وإذا كره شيئاً أراد التخلص منه ولو بلا شيء، فهذا هو السفيه، الذي عاطفته أقوى من عقله.
والسفه سبب لرد التصرف، والشارع الحكيم رتب الأولياء للسفهاء حفاظاً على أموال الناس؛ فكل سفيه له ولي يرعى مصالحه، إما أن يكون قريباً له أو أن يكون السلطان الذي يرعى مصالح الناس عموماً، فالسفيه الذي ليس له ولي من آل بيته وليه السلطان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإن اختلفوا فالسلطان ولي من لا ولي له )، والسلطان المقصود به هنا: القاضي ومن يتولى أمر العامة.
والسفيه عقده أيضاً موقوف على رضا وليه، فإذا أقره صح العقد، وإذا رده بطل، فالعقد في الأصل صحيح ولكنه غير لازم؛ كما سبق.
والشرط الرابع من هذه الشروط: الحرية؛ فالمملوك في ماله حق لمالكه؛ لأنه يستطيع اعتصاره منه، وإن كان هو يملك فهو إنسان تام التصرف، وإنما حصل لديه نقص سببه الكفر، وذلك النقص الذي سببه الكفر جبره الشارع بأن رتب عليه حقاً للغير، وهذا الحق ليس كما يفهمه الناس مذلة وهواناً وخنوعاً، ليس الحال كذلك، بل المملوك له حقوق مثل التي عليه تماماً، وحقه الأخروي أكبر من حقه الدنيوي؛ فأجره مضاعف في كل ما يعمله كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم: ( ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي، والعبد إذا أدى حق الله وحق مواليه )، فهذا يؤتى أجره مرتين؛ فلذلك ليس الرق مهانة ولا أذىً، ولا نقصاً في الحقوق المدنية للإنسان، وإنما هو مجرد نقص في الأصل سببه الكفر واستمر بعد ذلك، ويقتضي الحفاظ على بعض الحقوق وترجيحها وبمجرد الموت ينقطع هذا الحق، فالميت في جنازته سواء كان في الأصل حراً أو لم يكن فلا اعتبار في ذلك شرعاً، ولا فرق بينهما، وكذلك القبور لا فرق في قبورهم بين من كان منهم متصفاً بهذا الوصف ومن لم يكن متصفاً به، وكذلك في البعث بعد الموت لا يبعث أحد عليه رق، الناس جميعاً حينئذ: إما أشقياء وإما سعداء؛ فمن كان سعيداً فهو من أهل الجنة ولا ينظر إلى حاله في الدنيا، ومن كان شقياً فهو من أهل النار ولا ينظر إلى حاله في الدنيا.
ولذلك فتفاوت الناس في مثل هذا النوع من الأوصاف هو كتفاوتهم في المركب، إذا كان بعض الناس يركب في مقدم السيارة وبعضهم يركب فيها من الخلف، أليسوا سيصلون جميعاً في وقت واحد؟! فإذا نزلوا من السيارة هل يقول أحدهم: أنا الذي كنت في المقدم وأنتم كنتم في المؤخر؟! ولهذا يعلم أن أحوال أهل الدنيا متقاربة وأن ما بينهم من الفروق في الغنى والفقر والجمال والقبح والرق والحرية وغير ذلك كلها فروق ضعيفة جداً قليلة، ووقتها قليل لا يساوي شيئاً من أعمال بني آدم ؛ فهي بمثابة الحجر.
ولذلك فعقد المملوك موقوف على رضا وليه إلا إذا أذن له، فإذا كان مأذوناً له في البيع والشراء، سواءً كان ذلك الإذن عرفياً أو كان قولياً، إذا أذن له بالتصرف قولاً أو رآه يتصرف فسكت، فهذا مؤذون له وتصرفه نافذ مطلقاً، ولا يحتاج فيه إلى الرجوع إلى وليه بحال من الأحوال. أما إذا كان غير مؤذون له في التصرف، وكان يرد عقده؛ فهذا الذي يحتاج إلى إمضائه، فإذا أمضاه صح العقد وإذا لم يمضه لم يصح.
والشرط الخامس من هذه الشروط: أن يكون مالكاً لما يتصرف فيه، والمقصود بالملك: أن يكون صاحب تصرف مقبول شرعاً؛ كالذي يملك الشيء المبيع بذاته، أو هو ولي لمالكه، أو هو وكيل عن مالكه، أو هو والٍ عام؛ فيتصرف فيه، فمثل هذا النوع هو الملك، ومن تصرف بغير ملك فهو الفضولي، وهو منسوب إلى الفضول، والفضول هو: ما لا يليق من الأقوال والأفعال، فكل ما لا يليق من الأقوال والأفعال يسمى فضولاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، فتصرف الإنسان في ما لا يعنيه هو فضولي فيه.
وتصرف الفضولي محل خلاف بين أهل العلم: فعند المالكية أنه صحيح غير نافذ، إلا إذا علم به صاحبه فسكت فإنه ينفذ؛ ولذلك فإن العلامة محمد ولد محمد سالم رحمة الله عليهما كان في مسجده، وهم يصلون صلاة العصر، فجاء مجنون فوقف في طرف المسجد فقال: يا أهل المسجد زوجاتكم جميعاً طوالق! فقطع محمد صلاته وقال لهم: تكلموا، يقصد بذلك الإفتاء على مقتضى المذهب المالكي، فيجب عليهم أن ينكروا هذا؛ لأنهم إذا سكتوا وأقروه حتى انتهت الصلاة، فقد رضوا بالطلاق، فهذا النوع هو تصرف الفضولي، وهو موقوف على رضا صاحب الحق، فإذا رضي به لزم، وإذا لم يرض به لم يلزم عند المالكية وعند الحنفية أيضاً.
وعند الشافعية والحنابلة تصرفه غير نافذ أصلاً، لا يحتاج إلى الإمضاء ولا إلى الرد؛ فهو غير نافذ، فتصرفه باطل مطلقاً؛ لأن الله لم يجعل له ولاية على ما يتصرف فيه، والتصرف راجع إلى أصل الولاية؛ فما لم يأذن فيه الشارع فهو باطل على أصل الأمر.
وهذا الذي قاله الشافعية والحنابلة أقرب لروح الشريعة وأدلتها العامة؛ لأن المعزول في الأصل بنظر الشارع لا يمكن أن يقع منه تصحيح العقد؛ فهو أجنبي عنه، لا يملكه وليس له به علاقة، إلا إذا كانت العلاقة قائمة كمن كان من أهل السوق محل ثقة لدى الجميع، وكان يتدخل لهم في بياعاتهم وأشريتهم، فأصبح بمثابة الوالد لديهم؛ فهذا النوع في الأسواق يرجع إليه، فهو بمثابة السمسار في البيع والشراء، فإذا باع مال بعضهم وهو يعلم أنه عرضه للبيع، وأنه يريد فيه ربحاً، وقد عرف الثمن الذي اشتراه به، وأنه رابح بذلك الذي يبيعه عليه به؛ فهذا النوع يكون خارجاً عن تصرف الفضولي؛ لأنه اعتمد على ولاية عرفية؛ فقد أصبح معروفاً لدى أهل السوق بمثل هذا النوع من التصرفات.
ولذلك نشهد ذلك اليوم في تصرفاتنا، وبالأخص في بورصات بيع السيارات، فكل بورصة فيها إنسان يرجع إليه في السعي بين الناس، فإذا قال: قد بعتها عليك فهذا البيع إذا سكت عنه صاحب السيارة لزم ونفذ بذلك مثلاً: بعتها أنا عليك بكذا واستلم النقود من المشتري، وسكت صاحب السيارة فهذا يلزم به البيع.
الشرط السادس من هذه الشروط هو: عدم الإكراه، أي: أن يكون طائعاً في تصرفه، والإكراه شرعاً ينقسم إلى قسمين: إلى إكراه ملجئ وإكراه غير ملجئ، فالإكراه الملجئ محل خلاف بين أهل العلم ما هو؟ فقالت طائفة من أهل العلم - وهم الجمهور - : الإكراه الملجئ هو الذي لا مناص للإنسان منه؛ كالذي يحمل ويرمى به على إنسان؛ فهو لا تصرف له في نفسه، رمي به، فهذا النوع هو تعريف الإكراه الملجئ عند الجمهور، وعند الحنفية هذا النوع من الإكراه داخل في الملجئ، لكن الملجئ أعم منه؛ فكل ما يخاف به الإنسان هلاكاً أو شديد أذىً فهو الإكراه الملجئ عندهم، والإكراه غير الملجئ هو خوف المؤلم سواءً كان ذلك في النفس أو في المال أو في الولد؛ كمن توعده إنسان بفعل يقدر عليه ويستطيعه فهذا مكره، إذا قال له: افعل كذا، مثلاً: بع هذه السيارة وإلا فسأضربك وهو قادر على ضربه فهذا إكراه، لكن إذا قال ذلك له ضعيف لا يستطيع ضربه أو صبي صغير؛ فهذا ليس عذراً شرعاً، ولا يعتبر إكراهاً؛ لأنه غير قادر على ما توعد به.
والإكراه كذلك ينقسم من وجه آخر إلى قسمين: إلى إكراه بحق وإكراه بغير حق؛ فالإكراه بالحق هو البيع على الإنسان في أمر لا بد منه، كمن تجب عليه الزكاة وليس في ماله ما تدفع به زكاته، فيأخذ الساعي بعض ماله ويبيعه ليؤدي منه زكاة ماله بالغصب وهو كاره؛ فهذا الإكراه بحق، وكذلك من عليه دين وليس في ماله ما يسدد به ذلك الدين، فباع عليه القاضي بعض ماله لسداد دينه؛ فهذا حق واجب، والإكراه هنا بحق.
والإكراه بغير حق كالغصب؛ كما إذا اغتصب بعض مال إنسان فبيع غصباً منه، كالذي يؤخذ من غير رضاه فيقوم عليه، سواءً كان ذلك لشركة عامة أو لملك فردي، فهذا النوع إكراه بغير حق ولا يلزم به العقد؛ فالإكراه بغير حق لا يلزم به العقد، وهذا الإكراه بغير حق هو من أخذ مال الناس بالباطل، وهو حرام.
ثم إن الإكراه أيضاً ينقسم من وجه آخر تقسيماً آخر: وهو أنه إما أن يكون إكراهاً على البيع أو إكراهاً على سبب البيع؛ فالإكراه على البيع كمن أكره على بيع داره لسداد دينه أو أداء الزكاة، والإكراه على السبب كمن أكره على غرامة مالية، ولا يستطيع تسديدها إلا إذا باع داره؛ فهو لم يكره على بيع هذه الدار بخصوصها، ولكنه أكره على السبب، والإكراه على السبب محل خلاف: هل يمضي حتى لو كان في غير حق شرعي؛ فالغرامات إذا كانت من غير حق شرعي كالضرائب ونحوها، فأكره الإنسان على السبب فقيل: يمضي العقد؛ لأنه هو سيساوم ويطلب الربح، ولا يمكن أن يغبن؛ لأنه لم يوجب عليه بيع هذا الشيء بذاته؛ فعليه يمضي تصرفه.
وقالت طائفة أخرى: بل الإكراه على السبب كالإكراه على البيع، فإن كان بغير حق لم يلزم، وإن كان بحق شرعي لزم، وقد أكره النبي صلى الله عليه وسلم بني قينقاع على بيع أملاكهم، وهو إكراه على السبب حين أراد إخراجهم من المدينة وقد أذن الله له في ذلك؛ فقال تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ[الحشر:2]، فأولئك اليهود عليهم لعائن الله: غدروا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وغدروا بامرأة مسلمة جاءت إلى سوق الذهب فيهم، وكانت سوق بني قينقاع من أشهر أسواق المدينة، فجاءت امرأة مسلمة إلى سوق الذهب فجلست لدى صائغ يعمل لها ذهباً، فجاء شببة من اليهود فخاطوا ثيابها فلما قامت انكشفت، فاعتبر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك نقضاً للعهد، وأنزل الله فيهم القرآن، فأخرجهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة.
ولما أخرجهم من المدينة أجلهم ثلاثاً، ولهم ديون على الناس فقال: ( ضعوا وتعجلوا )، أي: ضعوا بعض ديونكم وتعجلوا بعضها، وكذلك أمرهم ببيع تجاراتهم في هذا الوقت؛ لأنهم لا بد أن يذهبوا فما تركوه من أموالهم سيكون للدولة الإسلامية، وما صحبوه معهم فهو لهم، فكان هذا إكراهاً على السبب؛ فدل هذا على أن الإكراه على السبب إذا كان السبب شرعياً فهو نافذ والبيع فيه صحيح، وإذا كان الإكراه على السبب ممنوعاً شرعاً فالعقد فيه باطل. إذاً: هذه شروط العاقد.
أما الركن الأخير، وهو الثالث على سبيل الاختصار، أو الخامس والسادس على سبيل البسط؛ فهو المعقود عليه، والمعقود عليه يشترط له أيضاً ستة أمور:
الشرط الأول: أن يكون طاهراً؛ فالأعيان التي هي نجس ليست محلاً للبيع، فلا يمكن أكلها ولا شربها قطعاً، حتى الدواء بها ما كان نجساً لا يتداوى به، في داخل البدن، وهذا في الأصل محل إجماع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها )، وذلك عندما استأذنه رجل في بيع الخمر، وذكر أنه للدواء. والأنجاس حرمها الله سبحانه وتعالى، فليس فيها نفع ولا شفاء، ولا يستثنى من ذلك إلا ما حصل في زماننا هذا من الدم وزراعة الأعضاء؛ فإن كثيراً من الأمراض التي تتفشى يقع بسببها فقر الدم، وفقر الدم هو زيادة كرياته البيضاء على الحمراء، وبذلك ينقص نفعه في الإنسان فيكون ناقص القيمة والأداء في تغذية الجسد، وهذا الجسد كله تغذيته الدم؛ فكل شعرة يصل إليها نصيبها من التغذية، وإذا فقدت نصيبها من التغذية أدى ذلك إلى فوتها، وكذلك كل خلية من خلايا الجسم وكل عضلة من عضلاته ولون البشرة وغير ذلك كله تغذيته بالدم، فإذا فقد خصائصه أو نقصت خصائصه أدى ذلك إلى الخطر بفقر الدم.
وفقر الدم مرض شائع اليوم، وسببه أنواع من الأغذية، كالألبان ونحوها من أنواع التغذية التي فيها نقص للحديد أو نحوه، تؤدي التغذية الدائمة بها إلى فقر الدم، وإذا حصل ذلك فإن الإنسان عرضة للهلاك، وخوفه الهلاك على نفسه يحل له ارتكاب المحرمات، وقد قال الله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ[الأنعام:119]، فجعل الضرورة بعد الأحكام، ومن هنا فلا يقال: يجوز للإنسان شراء الدم إذا كان مصاباً بفقر الدم، بل يقال: يضطر الإنسان لشراء الدم إذا كان مصاباً بفقر الدم؛ لأن الضرورة لا تدخل في أقسام التكليف الخمسة، بل هي وراءها؛ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ[الأنعام:119].
وكذلك زراعة الأعضاء؛ فهذه الزراعة ما كان منها يحتاج إليه في الصحة كالقلب والكلى والكبد ونحو ذلك من الأعضاء هي قطعاً محل ضرورة، وقد جربت فنفعت، أما ما كان منها يحتاج إليه أيضاً في الإدراك كزراعة القرنية للعين فهذا أيضاً نظير ذلك ومثله قناة الأذن؛ فزراعتها أيضاً محل ضرورة، وطبلة الأذن أيضاً زراعتها محل ضرورة.
أما ما كان منها بين بين، ليس محل ضرورة ولا هو تحسين كزراعة يد من قطعت يده في حادث مثلاً؛ فإن كانت يده قطعت في حد من حدود الله كحد السرقة فلا يحل زراعتها؛ لأن هذا نكال من الله سبحانه وتعالى وينبغي أن يكون؛ فالله هو أرحم الراحمين، وقد اختار لعبده هذه العقوبة لزجره ولتكفير ذنبه؛ فلذلك لا تزرع له يده مرة أخرى ولا يد إنسان آخر، أما زراعة اليد فيمن حصل عليه حادث سير ففقد فيه يده فهذا محل بحث؛ لأن اليد في الغالب ليست محل ضرورة، وبالأخص بعض الأصابع مثلاً، فليس هذا محل ضرورة فهل يمكن إرجاعها وهي جيفة قد تنجست بانفصالها؛ لأن ( ما انفصل عن الحي فهو ميتة ) كما في الحديث، هذا محل بحث.
أما ما كان لمجرد التجميل كزراعة قشرة الرأس التي ينبت فيها الشعر للأصلع فهذا النوع مما لا يجوز قطعاً؛ لأنه ليس مضطراً إليه ولا محتاجاً إليه وهو مجرد تجميل في غير محل الحاجة؛ فالصلع ليس عيباً ولا عاراً، فالخلفاء الراشدون ثلاثة منهم صلع، كان أبو بكر أصلع وكذلك عمر و علي ، فالصلع ليس عيباً وإنما يحصل من كثرة التفكير وإعمال العقل، فليس إذاً عيباً ولا عاراً؛ فلذلك لا يحتاج إلى زراعته، ولذلك فـمحمد مولود رحمه الله يقول:
وامنع دواء باطن الأجساد بنجس واختلفوا في البادي
فقوله: (وامنع دواء باطن الأجساد بنجس)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها )، (واختلفوا في البادي) أي: ظاهر البدن، إذا كان في الإنسان جرح مثلاً: هل يمكن أن يعالج بالبول؟ فالبول من أشفية الجروح؛ لأن فيه مادة اليوريا تعالج القروح والجروح؛ فلذلك يمكن أن يعالج بها الحرق، فهل يجوز العلاج بها أم لا؟ محل خلاف بين أهل العلم.
ونظير ذلك: إحراق الحصير الذي قد تكون جلوده في الأصل من جلود الميتة، فإحراقه لعلاج الجرح برماده هو أيضاً محل خلاف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما جرح يوم أحد أحرقت فاطمة رضي الله عنها حصيراً، فأخذت رماده فجعلته على الدم فرقأ، فهذا النوع من العلاج في الظاهر إذا كان بما فيه جلد ميتة أو نحو ذلك هو محل خلاف، ومحل ذلك الخلاف في غير الضرورة، أما الضرورات فقد ذكرنا أنها خارجة عن التكليف. إذاً: هذا الشرط الأول في المعقود عليه أن يكون طاهراً. ويخرج بذلك الأنجاس كلها؛ فلا يستثنى منها إلا السرجين، والسرجين أي: السماد الذي يجعل على الزرع فيحتاج إليه في إصلاحه؛ فهذا الزرع إذا وضع عليه السماد النجس فنبت منه فالزرع طاهر، وقد صح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه كان يجعل النجس على زرعه، فقيل له في ذلك فقال: (المكتل منه باثنين). أي: أنه يقتضي زيادة ونماءً، وهذا هو السماد غير المعالج كيميائياً، أما إذا عولج بالكيمياء فانقلبت حقيقته وأصبح مادة أخرى فهذا محل بحث آخر، وهو بحث الانقلاب، إذا حصل الانقلاب في العين: هل تبقى على حكمها الأصلي، أو تعود إلى حكم جديد؟ وهذا قاعدة فقهية معروفة، وهي تأثير الانقلاب، وقد نظمها الزقاق في المنهج في قواعد المذهب المالكي فقال:
وهل يؤثر انقلاب كعرق ولبن بول وتفصيل أحق
وهذه القاعدة فروعها كثيرة منها ألبان الجلالات ولحومها، فالحيوانات التي تأكل الأنجاس: هل يحل شرب لبنها وأكل لحمها؟ محل خلاف، فإذا كان الانقلاب مؤثراً فألبانها طاهرة ولحومها طاهرة بذكاتها، وإذا كان الانقلاب لا يؤثر؛ فإن اللحوم والألبان قطعاً ناشئة عن التغذية؛ فلذلك تكون تبعاً لها، ومثل هذا الخمر إذا تخللت أو خللت أو تحجرت أو حجرت محل خلاف بين أهل العلم، ومن ذلك ما يطبخ منها؛ فالخمور في العالم الغربي اليوم وبالأخص في الوجبات السريعة، توضع فيها الخمر كالهمبرجر أو غير ذلك من الأخباز، والوجبات الخفيفة السريعة يضعون فيها الخمور في تحضيرها، ولكن يزول الإسكار بالطبخ، ومحل الحرمة الإسكار؛ لأنه علة التحريم، فإذا زال الإسكار لم تبق علة التحريم.
ومن هنا فالمطبوخات التي فيها في أصل صناعتها الخمور الراجح فيها الجواز؛ لأن الطهارة حصلت بمجرد زوال الإسكار، لكن لا يحل للمسلم الإقدام على ذلك، فلا يحل للمسلم أن يخلل الخمر أو أن يجمدها حتى تطهر؛ لأنه أمر بإراقتها، ولو كان يجوز ذلك لما أراقها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حرمت، فأراقوها فامتلأت بها الشوارع في المدينة إذ ذاك. إذاً: هذا الشرط هو الشرط الأول من شروط المعقود عليه، وهو الطهارة.
أما الشرط الثاني من شروط المعقود عليه: فهو الانتفاع، أي: أن يكون منتفعاً به شرعاً؛ فما لا نفع فيه؛ فإنه لا يجوز بيعه ولا شراؤه، والمقصود بالنفع هنا: ما كان نفعاً شرعياً معتبراً؛ فكثير من الناس يظن أن التدخين فيه نفع وهو أنه يجلب له الزبائن، يظن هذا نفعاً شرعياً، وهذا النوع ليس نفعاً شرعياً، فالمعتبر النفع الشرعي المتعلق بالمادة ذاتها، ودليل هذا ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في شحوم الميتة؛ فإنه نهى عنها فقالوا: ( يا رسول الله! إنها تطلى بها السفن، فسألوه الترخيص فيها فقال: لا، هو حرام، ثم قال: لعن الله اليهود، لما حرم الله عليهم الميتة أخذوا شحومها فجملوه فباعوه فأكلوا ثمنه )، و (جملوه) معناه: أذابوه، والمقصود به الشحم، فأعاد الضمير إليه مذكراً باعتبار الجنس.
وهذا يدل على أن الاحتيال لا يبيح ما احتيل لإباحته؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنهم احتالوا على الشحوم، لما حرمت عليهم أكلوا ثمنها، وثمنها ليس هي؛ فهذه حيلة للانتفاع بها عندما حرمت عليهم؛ فدل هذا على إبطال الحيل في الأصل، وبالأخص ما لا نفع في ذاته، حتى لو كان النفع فيه لوجه آخر كطلاء السفن ودهن الأواني والأسلحة بالشحوم؛ فإنه لا يبيحها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا، هو حرام )، وصرح بذلك، ثم ذكر السبب فقال: ( لعن الله اليهود؛ حين حرم الله عليهم الميتة أخذوا شحومها )، أو: ( حين حرم الله عليهم الشحوم جملوه فباعوه فأكلوا ثمنه )، فبين أنهم لعنوا بسبب هذا التصرف.
فإذاً: لا بد أن يكون المعقود عليه منتفعاً به نفعاً شرعياً في المآكل أو المشارب أو الملابس أو المساكن، ومثل المساكن المراكب فهي من جنس المساكن.
الشرط الثالث من شروط المعقود عليه: أن يكون غير منهي عن بيعه، فإن كان منهياً عن بيعه شرعاً فلا يحل بيعه؛ فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الكلاب؛ فـ ( نهى عن ثمن الكلب وحلوان الكاهن ومهر البغي )، وجاء في سنن أبي داود وغيره ( أنه نهى عن بيع الكلب فقال: فإن جاء يطلب ثمنه فاملئوا له كفه تراباً )، واختلف أهل العلم هل هذا شامل لجميع الكلاب أو يخصص فيخرج منه كلب الصيد؛ لأنه يحل اقتناؤه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في اقتناء كلب الصيد، والله تعالى أذن في اقتنائه في قوله: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ[المائدة:4]، فهذا دليل على جواز الاقتناء، لكن هل يدل على جواز البيع؟ محل خلاف بين أهل العلم، فذهب سحنون من المالكية إلى جواز بيع كلب الصيد، وقال: (أبيعه وأحج بثمنه).
وقوله: (وأحج بثمنه) يقصد: المبالغة في جواز ذلك؛ لأنه إذا جاز اقتناؤه والانتفاع به جاز بيعه، ومذهب جمهور أهل العلم عدم الارتباط بين حل الانتفاع وحل البيع؛ لأن جلود الميتات يرخص فيها شرعاً بالدبغ، ومع ذلك عند المالكية لا يحل بيعها، و سحنون نفسه يوافق على ذلك؛ فـسحنون يرى أن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ، ولكنه يرخص فيه في اليابس والماء، (ورخص فيه مطلقاً إلا من خنزير بعد دبغه في يابس وماء، وفيها كراهة العاج والتوقف في الكيمخت)، فإذا كان الجلد يرخص فيه في الماء واليابس، ولا يجوز بيعه يدل هذا على أن الانتفاع والبيع غير مرتبطين؛ فيجوز أن يكون الشيء مقتنىً، منتفعاً به لكن لا يحل بيعه مع ذلك.
ونظير هذا المصاحف؛ فعند الحنابلة لا يجوز بيع المصحف مطلقاً؛ لأن الله تعالى نعى على أهل الكتاب بيع آيات الله بثمن قليل؛ فدل هذا على منع بيع المصحف مطلقاً، ومع ذلك فيجوز اقتناؤه والانتفاع به، بل مما رغب فيه الشارع أن يورث الإنسان مصحفاً.
ومن المنهي شرعاً عن بيعه في مثل هذا النوع آلات اللهو؛ فإنها يحرم الانتفاع بها، حتى إذا كانت تكسر فينتفع بها بعد كسرها في أشياء أخرى، فإن جمهور أهل العلم على تحريم تملكها مطلقاً واقتنائها وبيعها وشرائها، وعلى أن متلفها لا يلزمه شيء شرعاً، خلافاً للحنفية وحدهم؛ فعند الحنفية أنها يمكن الانتفاع بنقضها، أي: ما كسر منها، وعليه فمن أتلفها تلزمه قيمتها.
الشرط الرابع من شروط المعقود عليه: أن يكون غير مجهول، أي: أن يكون معلوماً علماً ينفي الجهالة والغرر، فالمجهول الذي لا يمكن أن يعرف لا يحل بيعه ولا شراؤه ولا العقد عليه؛ لحصول الغرر، والغرر حرام في العقود، وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم بيع الغرر، وجاء في ذلك عدد من الأحاديث الصريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن بيع الغرر، وذلك أن البيع في الأصل إنما شرع لإزالة الشحناء والبغضاء بين الناس، والغرر سبب للشحناء والبغضاء؛ فهو ضد الحكمة التي من أجلها شرع البيع؛ ولذلك فبيع الحمام في البرج وبيع الضالة والشارد ونحوه مما هو غير مقدور عليه داخل في الغرر، ومثل ذلك المجهول: كبيع الحصاة والمنابذة والملامسة؛ فكل ذلك من المجهولات التي لا يحل فيها البيع.
والشرط الخامس من هذه الشروط: القدرة عليه، أي: إمكان تسليمه وتسلمه؛ فهذا شرط للمعقود عليه أيضاً، فهو مخرج للمغصوب؛ فلا يحل بيعه ولا شراؤه إلا من غاصبه على القول بأن الغصب يزيل الملك، وهذا محل خلاف بين أهل العلم؛ فعند الحنفية: أن الغصب يزيل الملك وأن الحرام لا يتعدى ذمتين، ومذهب جمهور أهل العلم: أن الحرام يتعدى ذمتين وأن الغصب لا يزيل الملك؛ ولذلك فإن المغصوب هو ملك لمالكه الأول، والغصب لا يغير ذلك الملك عند جمهور أهل العلم؛ فعليه لا يجوز شراؤه من مالكه؛ لأنه غير قادر عليه إذ لو كان قادراً على تسليمه لأمكن استرجاعه، لكن يحل له فقط بيعه لمن غصبه منه، أي: يحل بيع المغصوب لغاصبه؛ لأنه في يده فيمكن أن يتسلمه، والغرر في ذلك يسير؛ لأن يده يد تعد وهي يد ضمان؛ وبذلك فإن المعدوم شرعاً كالمعدوم حساً؛ فوضع يده عليه في وقت البيع باطل؛ فلذلك يمكن أن يباع منه؛ لأنه قادر على استلامه.
والشرط السادس من هذه الشروط: عدم حرمة العين؛ فإن كان المبيع حرام العين لا يحل أكله ولا شربه ولا الانتفاع به، كالميتة والخنزير والخمر، فلا يحل العقد عليه مطلقاً، ويدخل في ذلك ما كان طاهراً من الأعيان؛ فالخنزير ما دام حياً لا يحل بيعه ولا شراؤه، وعند المالكية أنه طاهر في حياته؛ لأنهم يرون أن الحياة علتها الطهارة؛ فالشاة في حياتها طاهرة، وإذا ماتت جيفة فإنها تنجس، فيرون أن الارتباط بين الطهارة والموت دليل على أن الحياة سبب للطهارة؛ ولذلك يقولون: (الحي طاهر ولو إبليس عليه لعنة الله). وقد سئل العلامة محمد ولد محمد سالم رحمة الله عليهما عن فائدة هذا الحكم، ما فائدة طهارة إبليس؟ فقال: من تحكك عليه في الصلاة لم تبطل صلاته، فإبليس يمكن أن يخالط إنساناً في الصلاة، فإذا كان نجساً يبطل صلاة الناس.
وعند الشافعية والحنابلة: أن الخنزير نجس كالكلب، فيرون أن الكلب نجس في حياته وبعد موته مطلقاً، بخلاف المالكية فإنهم يرون أن الكلب طاهر، وتظهر ثمرة الخلاف في الكلب إذا صب عليه الماء فإنه يتنفض، فإذا تطاير شيء من بلله على إنسان تنجس عند الحنابلة والشافعية ولم يتنجس عند المالكية، وعلى مذهب الشافعية والحنابلة قول الشاعر في وصف أحد الولاة، يقول فيه:
ته كل تيهك بالولاية والعمل
ما ازددت حين وليت إلا خسة كالكلب أنجس ما يكون إذا اغتسل
والمالكية يرون طهارته، وأنه طاهر العين؛ ولذلك فإن إراقة الماء الذي ولغ فيه وغسل الإناء سبعاً تعبد عند المالكية، وتطهير تعللي عند غيرهم، فالمالكية يرون أن الطهارة لو كانت تعللية لكفت فيها الغسلة الواحدة المنقية، أو ثلاث غسلات منقية عند الشافعية والحنابلة، فالمالكية تطهر عندهم الغسلة الواحدة المنقية، والشافعية والحنابلة يطهر عندهم ثلاث غسلات منقيات؛ إلا من نجاسة الكلب والخنزير؛ فعند الشافعية والحنابلة أنها لا بد فيها من سبع غسلات، إحداهن بالتراب، وعلى هذا فالخنزير عند الشافعية والحنابلة مثل الكلب تماماً، وهنا يدخل في حياة الناس اليوم أن كثيراً من النعال ومن الأحزمة هي من جلود الخنازير، ولكنها دبغت، فهل يحل بيعها وشراؤها؟ وهل تجوز الصلاة بها؟ وهل يجوز المسح عليها إن كانت خفافاً، وهي منتشرة في الأسواق، وكثير مما يباع في الأسواق وبالأخص مما أتى من مدينة ميلانو من إيطاليا من الجلود؛ فكثير منه يدبغ من جلود الخنازير، فهذا محل بحث.
وقد ذكر ابن الأمير الصنعاني أن في المسألة أحد عشر مذهباً، في جلد الخنزير وحد؛ ولذلك فإن الذين يرون طهارة الجلد بالدباغ مطلقاً منهم من يعمم فيقول: يشمل ذلك جلد الخنزير وغيره، ومنهم من يقصره على غير الخنزير كالمالكية؛ ولذلك قال خليل رحمه الله: (ورخص فيه مطلقاً إلا من خنزير بعد دبغه في يابس وماء). وعند الحنفية أن الخنزير لا جلد له أصلاً، فجلده من لحمه وهو رجس، وعليه فجلده يأكله النصارى كما يأكلون لحمه فهو مثل لحمه، وعليه فهو مما لا يطهر بالدباغ، لا لأن الجلد لا يطهر بالدباغ ولكن لأنه هو غير جلد، بل هو لحم، وهذا تعليل الحنفية.
وعلى هذا فإن ما كان منهياً عنه لذاته فلا يحل بيعه ولا شراؤه، ومثله المحرم المشرف على الموت كالحمار الأهلي إذا أشرف على الموت فليس فيه انتفاع؛ لأنه لا ينتفع منه بالذكاة، فلا يطهر جلده ولا عظامه ولا ينتفع بشيء منه، فلا يحل بيعه ولا شراؤه.
واختلف فيما فيه نفع لبعض الناس دون بعض؛ كالحيات والعقارب؛ فإن فيها نفع لأهل المعامل والمصانع؛ لأن السم الذي فيها نافع في العقاقير والأدوية، وهذا الخلاف نظيره الخلاف في الخمر أيضاً: هل هي نجس بذاتها أو لا؟ فمذهب جمهور أهل العلم أنها نجس، وذهب آخرون إلى أنها محرمة غير نجس، واتفق على أن الحشيش طاهر حرام.
وبهذا نكون قد أتينا على خمسة عشر شرطاً هي شروط البيع، وأتينا على الأركان والشروط.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله تعالى أن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، وأن يلهمنا رشدنا.، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر