إسلام ويب

فقه المعاملات [1]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد شرع الله منهجاً واضحاً لتعاملات الناس فيما بينهم، حيث أن كل واحد منهم محتاج للآخر ومكمل له، فشرع الله أحكام المعاملات لضبط هذه التبادلات والتي تحتاج إلى تعلمها وتأصيلها وتطبيقها وربطها بالأخلاق والمروءة، ومن ذلك عقود البيع وأحكامه من صيغة وعاقدين ومعقود عليه، ولكل منها شروط لا تصح إلا بها، والإخلال فيها إخلال بعقد البيع بين الطرفين.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى أرسل الرسل بمنهج الحق؛ لإقامته للناس وإقامة الحجة عليهم، وقفى على آثارهم بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فجاء بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً؛ فلم يبق خير إلا دل عليه، ولم يبق شر إلا حذر منه، وجاء بالدين الذي جعله الله تعالى مسيطراً على الأديان كلها وناسخاً لما سبق، ولا يرتضي الله تعالى من أحد سواه؛ فجميع الأديان الأخرى نسخت بهذا الدين الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يقبل الله من أحد بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلا أن يتبعه؛ ولذلك فإن الله تعالى قال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[النساء:65]، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( فوالذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، لا يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي إلا دخل النار )، وصح عنه صلى الله عليه وسلم: ( أنه رأى ورقة من التوراة بيد عمر بن الخطاب فقال: أفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟ فلو أن موسى بن عمران حي ما وسعه إلا اتباعي )؛ ولذلك فإن نبي الله عيسى بن مريم عليه السلام ( سينزل في آخر الزمان حكماً عدلاً، ينزل وقت صلاة الفجر عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، يمينه على ملك وشماله على ملك، كأنما خرج من ديماس )، أي: كأنما خرج من حمام، ( إذا رفع رأسه تحدر منه مثل الجمان وإذا طأطأه تقاطر، لا يشك فيه من رآه أنه المسيح بن مريم عليه السلام )، فيأتي حاكماً بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يغير شيئاً مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يطبقه على وفق ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم عليه المؤمنين.

    وقد بنى الله سبحانه وتعالى هذا الدين بناء محكماً، فجعل بعضه يصدق بعضاً ويفسره؛ فلا يمكن أن يقتطع منه جانب دون الجوانب الأخرى، ولا يستقيم على التجزئة؛ ولذلك قال الله تعالى: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَهمْ يَرْجِعُونَ * وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ[آل عمران:72-73]، ونعى الله ذلك عليهم وأنكره، ورد عليهم في سورة البقرة فقال: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ[البقرة:85]؛ فلهذا كان لزاماً على الإنسان أن يستسلم لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وأن يأخذ به كافة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ حين أرسله في الدعوة إلى الله تعالى إلى اليمن: ( ادعهم إلى كبير الإسلام وصغيره )، وعندما فتح الله العراق على المسلمين ولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه سلمان الفارسي على مدائن كسرى، ( فجاءه حبر من اليهود فقال: يا سلمان ! لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة! فقال سلمان : أجل، علمنا ألا نستقبل القبلة ببول ولا غائط، وأن نستجمر ثلاثاً )، فليس شيء من تصرفات المكلف؛ إلا وقد جاء فيه خطاب من عند الله سبحانه وتعالى، وبين النبي صلى الله عليه وسلم ما يصلح عليه أمر الناس فيه.

    مدارسة الشريعة وتعلم أحكامها

    ولذلك فلا بد من مدارسة هذه الشريعة وألا يقدم الإنسان على شيء حتى يعلم حكم الله فيه، فقد قال الله تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا[الإسراء:36]، وقد أجمعت الأمة على أنه لا يحل لامرئ أن يفعل فعلاً حتى يعلم حكم الله فيه، وأن من لم يكن عالماً بذلك فيجب عليه أن يسأل أهل العلم؛ لقول الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[النحل:43]؛ ولقوله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء:83]؛ فلهذا يحتاج الإنسان إلى مدارسة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في كل الأمور، وهذا أول مراحل التصديق؛ لأن التصديق هو اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، واتباعه لا بد أن يبدأ أولاً بتعلم ما جاء به، فمن كان معرضاً عما جاء به ولا يتعلمه ولا يلقي له بالاً لا شك أنه معرض عنه، وسيبعث أعمى يوم القيامة؛ كما قال الله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ[طه:124-127].

    فيحتاج الإنسان أولاً إلى أن ينفق جزءاً من وقته في تعلم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يعلم أن تعلم ذلك أفضل من العمل به؛ لأنه سابق عليه؛ ولهذا قال البخاري رحمه الله في الصحيح: باب: العلم قبل القول والعمل؛ لقول الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ[محمد:19]، فيحتاج الإنسان إلى أن يتعلم الأحكام قبل الإقدام عليها؛ ولذلك أخرج البخاري في الصحيح تعليقاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (تعلموا قبل أن تسودوا). واختلف أهل العلم في معنى قوله: (قبل أن تسودوا) فقالت طائفة: قبل أن يلجأ إليكم الناس، فإن الإنسان إذا تقدم به العمر وصل إلى مقام السيادة، وهو أن يلجأ إليه الناس في أمورهم، وقيل: معنى ذلك: قبل أن تتزوجوا؛ لأن الإنسان إذا أصبح رب بيت كان سيداً في بيته، وقالت طائفة أخرى: بل المعنى: قبل أن تسود لحاكم، أي: قبل أن تنبت وجوهكم الشعر؛ فكل ذلك مما فسر به قول أمير المؤمنين رضي الله عنه.

    وهذا يقتضي من الإنسان الحرص على أن يتعلم أولاً قبل أن يعمل.

    التأصيل العلمي وربطه بالدليل

    ثم بعد هذا لا بد أن يكون ذلك العلم الذي يتعلمه مؤصلاً، أي: أن يجد الإنسان ثبتاً من الله تعالى فيما يأخذ به؛ لأن الإنسان إذا كان مقلداً يسمع قال فلان وقال فلان من الناس لم يتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولم تكن له بينة بينه وبين الله فيما يعمل به، أما إذا كان يبحث عن الدليل في كل ما يأخذ به من الأقوال والأفعال، وكانت أموره معتمدة مستندة على الوحي؛ فإنه حينئذ صاحب سلاح قوي، وهو متمسك بثبت من الله تعالى؛ فلا يخشى عليه أن يقول عند سؤال الملكين: هاه.. هاه! كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته؛ لأنه إنما يأخذ بالوحي.

    ولذلك يحتاج الإنسان إلى أن يكون مأخذه ومرجعه هو هذا الوحي الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى؛ فلا معدل عنه، ولا يمكن أن يخالفه أحد، ولا يمكن أن يرغب الإنسان عنه إلا إذا كان سفيهاً، فيحتاج الإنسان إذاً إلى الرجوع إليه في كل الأمور، وأن يعلم أن كل حكم أو أمر لم يكن معتمداً على الوحي ولم تقم عليه بينة من الله تعالى فهو رد على صاحبه؛ ولهذا قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ[الأعراف:33]، فالقول على الله بغير علم هو من أكبر الكبائر التي عدها الله في هذه الآية، وهذا يقتضي أيضاً حرص الإنسان على الاستدلال على كل ما يسمعه؛ فإن الإنسان إذا تبين الدليل وعرفه التزم ما أمر الله به في قوله: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[البقرة:111]، وكان على ثبت، وقد أخرج أبو داود في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أفتي على غير ثبت فإثمه على مفتيه )، فيحتاج إذاً إلى أن يتصل بالله سبحانه وتعالى عن طريق الوحي الذي جاء من عنده، فإذا عمل عملاً كانت البينة والثبت بين يديه، وهو حجة بينه وبين الله، وإذا لم يفعل وكان يتبع أقوال الناس فأقوال الناس متعارضة متباينة، فيها كثير من الخلل والخلاف؛ ولهذا قال الله تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا[النساء:82]؛ فيحتاج الإنسان إذاً إلى الرجوع إلى الوحي الذي هو من عند الله لعصمته، ولأنه الذي يرضي الله وقد أرسل به نبيه صلى الله عليه وسلم.

    العمل بالعلم وتطبيقه

    وإذا عرف الإنسان الأحكام بأدلتها جاء إلى المرحلة الثالثة، وهي أن يعمل بما تعلمه وعرف دليله؛ لأن العلم إنما هو سلاح ذو حدين، تقوم به الحجة على من علمه إذا لم يعمل به؛ ولهذا قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (إن أخوف ما أخافه ألا تبقى آية آمرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء ! قد أتيتك آمرة فلم تأتمر بي، ولا آية زاجرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء ! قد أتيتك زاجرة فلم تنزجر بي). وأخرج عنه أبو عمر بن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله أيضاً أنه قال رضي الله عنه: (إن أخوف ما أخافه أن يقال لي يوم القيامة: أعلمت أم جهلت؟ فأقول: بل علمت، فيقال: ففيم عملت فيما علمت؟)؛ ولذلك فهذا القرآن حجة ناطقة على الناس، كل من بلغه وسمعه فقد قامت عليه الحجة به.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088545689

    عدد مرات الحفظ

    777240968