بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد سبق في الدرس الماضي بيان تعريف العقود، وذكر أركانها وشروطها، وما ينبني على الإخلال بركن أو شرط من تلك الأركان والشروط، وسيكون الحديث موصولاً الليلة بذلك في تقسيم العقود، وذلك أن حكمة مشروعية العقود منها ما يرجع إلى تكوين شخصية المسلم، فإن الله سبحانه وتعالى جعل الإنسان خليفةً في الأرض، وشرع له هذه الأحكام ليمارس صلاحياته في الأرض، وهذه الصلاحيات بين الشارع احترامها، فكل إنسان له نطاقه الذي يتحرك فيه وهو محترم له محفوظ له شرعاً؛ ولذلك كان لزاماً على الإنسان أن تتكون شخصيته بالإذن له في التصرف فيما يمتحن به من مال الله تعالى، وقد شرع الله ذلك في معاملة الأيتام، فقال تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، وقد نص أهل العلم على أن المقصود بابتلائهم إعطاؤهم اليسير من المال ليتصرفوا فيه حتى يعلم رشدهم من سفههم؛ ولذلك فإن التصرف في حد ذاته تكوين لشخصية المسلم، وقد نص أهل العلم على أن الوالد من حقوق ولده عليه أن يدع له مجالاً في التصرف؛ لئلا يعيش وقد توليت عنه الأمور، وتحملت عنه المسئوليات، فيعيش لا له ولا عليه كما قال جرير بن عطية في بني تيم اللات:
وإن التيم قد خبثوا وقلوا فلا طابوا ولا كثر العديد
ثلاث عجائز لهم وكلب وأشياخ على ثلل قعود
وإنك إن لقيت عبيد تيم وتيماً قلت أيهم العبيد
لئام العالمين كرام تيم وسيدهم وإن زعموا مسود
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود
فيحتاج في تربية الأولاد إلى أن يتحملوا المسئوليات، وأن يتاح لهم المجال في التصرف، فلو تربى الولد بين أبويه يتوليان عنه كل المسئوليات، ويشتريان له كل لوازمه، دون أن يكون له أية مشاركة في الأمور؛ لم يكن ليستطيع تحمل الأعباء، ولا تولي المسئوليات فيما بعد؛ فلذلك كان من حكمة العقود تقوية شخصية المسلم حين يتولى البيع والشراء بنفسه، ويقدم على المخاطرة والمغامرة؛ ولذلك فإن الغبن وإن كان محظوراً شرعاً في العقود إلا أن أهل العلم نصوا على أنه ما من بيع إلا وفيه جانب من الغبن لأحد الطرفين؛ لأن منه ما هو قدري وهو خارج عن إرادة المكلفين، فإذا باع الإنسان حيواناً بحيوان ففي قدر الله تعيين أعمارهما، فيمكن أن يكون أحد الحيوانين لم يبق من عمره إلا اليسير، أو تكون ذريته أكثر وغلته أقوى، وهذا من قدر الله، فيكون الغبن على صاحب الحيوان الآخر، وكذلك في كل المبيعات، فبعض السيارات مثلاً في علم الله تعالى تعمر وتكون حوادثها يسيرةً قليلة، وتكون طاقتها مستمرة، وفي علم الله تعالى أن سيارات أخرى لا تعيش ولا تقوى وتكثر حوادثها، وكل ذلك من قدر الله وأمره، ومن هنا فالبيع والشراء كلاهما فيه مغامرة ومخاطرة، وتقوية للإنسان حتى يتولى هذه المغامرة والمخاطرة بنفسه؛ لما في ذلك من تقوية شخصيته، فإن الجبان لا يتحمل القرار، لا يستطيع أن يتحمل القرار، ولا أن يتخذه في أي أمر، والشجاع هو الذي يتحمل اتخاذ القرار في وقته، ويكون قراره مناسباً لحاله.
كذلك من حكمة مشروعية هذه العقود: أنها -كما ذكرنا سابقاً- طريق مأمون لتبادل الأملاك؛ ليصل كل إنسان إلى حاجته دون عناء، فهذا الطريق مانع من الاحتيال على حاجات الضعفاء بالسرقة، ومانع من الوصول إلى حاجات الأقوياء بالغصب والاعتداء.
وكذلك من حكمة مشروعية العقود أيضاً: أنها مدعاة للتكافل الاجتماعي والتعاون، فإذا أحس التاجر أنه سيشترى منه بضائعه التي يوردها فإنه سيأتي بأكثر مما يحتاج هو إليه ومحيطه الخاص، ومن هنا كانت دراسة الأسواق مهمةً في إجراء العقود، فإذا أدرك الإنسان أن السوق عرضاً وطلباً مؤثر في السعر، ومؤثر كذلك في نوعية الحاجة؛ فسيسعى لسد حاجة الناس، ولتوفير ما هم راغبون فيه؛ ولذلك فميزان العرض والطلب هو من أهم المؤثرات في السعر، فإذا كانت المادة تكثر الرغبة فيها، ويكثر الطلب عليها، ويقل عرضها فسيرتفع ثمنها؛ لأن القيمة -كما سبق- تابعة للرقبات، والثمن تابع للرغبات؛ فلذلك إذا كثرت رغبة الناس في الشيء فسيكثر بذل الثمن فيه، ومن هنا يقع التعاون على توفير حاجيات الناس.
فالناس في باب العقود على ثلاثة أقسام: منتج، ومستهلك، ووسيط، فالمنتج هو: الذي ينتج المادة أو يأتي بها ليوصلها إلى أيدي المستهلكين، والمستهلك هو: الذي يشتريها ليقضي بها حوائجه، والوسيط هو: الذي يكون وسيطاً في توزيعها، فعادةً المنتج هو الذي ينتج الكمية، والوسيط هو الذي يوزعها بما كان أقل من ذلك وبما دونه؛ ولهذا يعد البائع بالجملة من جملة المنتجين، والبائع بالتقسيط من الوسيطين الذين هم وسطاء بين المستهلكين والمنتجين.
وهذه العقود لا بد من تقسيمها وذلك لحكمتين:
الحكمة الأولى: أن التقسيم هو من جنس التعريف؛ ولذلك فإنك إذا قلت: وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [النحل:5]، يمكن أن يسألك إنسان: ما هي الأنعام؟ فإذا قلت: هي الإبل والبقر والغنم فهم معنى الأنعام، فهذا يدل على أن التقسيم نوع من أنواع التعريف تفهم به الحقائق والماهيات؛ فكذلك العقود ما دامت في إجمالها -وهي ما له طرفان إيجاب وقبول- يشق تصورها وفهمها ولكن إذا قسمت إلى أقسام سهل فهمها بعد ذلك.
وكذلك من حكمة معرفة هذا التقسيم: أن الشارع الحكيم رتب على بعض العقود من الأحكام ما لم يرتبه على بعض، ونحن مطالبون شرعاً بالتدبر والتفهم لمعرفة الحكم التي من أجلها أباح الشارع ما أباح، وحظر ما حظر، ورخص فيما رخص فيه، كل ذلك لحكمة بالغة. ومن هنا فإن أهل الأصول قسموا متعلق الخطاب الوضعي الذي هو علامة على إباحة الشارع للأمر، أو على حظره له أو على طلبه له إلى قسمين:
القسم الأول: يسمى السبب.
والقسم الثاني: يسمى العلة.
فالسبب: هو ما نصبه الشارع علامةً للحكم ولم تظهر لنا علاقته به، فالشارع نصب زوال الشمس سبباً لصلاة أربع ركعات وهي صلاة الظهر، ونصب دلوك الشمس سبباً لوجوب أربع ركعات وهي صلاة العصر، ونصب غروب الشمس سبباً لوجوب صلاة المغرب ثلاث ركعات، ونصب غروب الشفق سبباً لأربع ركعات صلاة العشاء، ونصب طلوع الفجر سبباً لركعتين، والعقل لا يمكن أن يتصور لماذا كان زوال الشمس سبباً لأربع ركعات، ودلوكها سبباً لأربع، وغروبها سبباً لثلاث، وغروب شفقها سبباً لأربع، وطلوع ضوئها -وهو الفجر- سبباً لركعتين، فهذا لا يدركه العقل، وهو الذي يسمى بالأسباب.
والقسم الثاني: هو الذي يدرك العقل وجه ارتباطه بالحكم وهو الذي يسمى بالعلل، فالخمر حرمها الله تعالى، وعلة تحريمها هي الإسكار أي: تغطية العقل، وهذه العلة واضحة منضبطة، وكل إنسان إذا عرف ضرر الخمر على العقول وتغطيتها لها سهل عليه أن يفهم لماذا حرمها الشارع؟ ولهذا يقول الحكيم:
لا تضع من عظيم قدر ولو كنت مشاراً إليك بالتعظيم
فالكبير العظيم يصغر قدراً بالتجري على الكبير العظيم
ولع الخمر بالعقول رمى الخمر بتنجيسها وبالتحريم
فإذا فهمنا هذه العلل ازدادت عقولنا، وتلقينا عن الله تعالى، وقد قال الله تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، ومن هنا كان لزاماً على كل إنسان أن يتعلم أحكام العقود، حتى إن الحطاب رحمه الله ذكر في حاشيته على مختصر خليل وهي مواهب الجليل في مقدمة البيوع، قال: أما قولهم: يكفي من الفقه ربع العبادات فلا شيء؛ لأن الإنسان لا يخلو عادةً من الحاجة إلى البيع والشراء، ولا يحل له أن يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه؛ لقول الله تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36]، فكانت دراسة العقود من هذا القبيل من باب الجهاد في سبيل الله؛ لأنها تعلم علم، وقد سبق أن تعلم العلم من الجهاد، وأن مالكاً أخرج في الموطأ عن أبي بكر بن عبد الرحمن : (من خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانماً).
وتقسيم العقود إذا عرفنا حكمة البحث فيه فلن نتعب أنفسنا بكثير من التقسيمات التي يذكرها الفقهاء والأصوليون، وإنما نقتصر على ما يؤدي إلى هاتين الحكمتين اللتين هما: معرفة الفرق بينها في الأحكام، وتصورها وفهمها، فنقسم العقود أربع تقسيمات:
أما التقسيم الأول: فهو تقسيمها باعتبار إضافتها إلى الزمن، والعقود باعتبار الزمن تنقسم إلى أربعة أقسام: إلى عقد ناجز، وعقد مؤجل، وعقد مضاف، وعقد مستمر، ويمكن أن يضاف إليها العقد المعلق فتكون خمسة أقسام.
فالقسم الأول: هو العقد الناجز، وهو الذي يتبادل فيه الطرفان: البائع والمشتري -وهما الموجب والقابل- ما تحت أيديهما في نفس الوقت فلا يحتاج إلى ربط بزمن مستقبل، فإنك إذا بعت شيئاً لشخص بنقود فاستلمت أنت النقود واستلم هو ذلك الشيء فقد تم هذا العقد، وكان عقداً ناجزاً لا يتوقف على إمضاء أحد، ولا يتوقف على زمان مستقبل، فهذا النوع من العقود هو الأصل فيها كلها؛ لأن الشارع اعتبر الزمن وأقسم به في كتابه فقال تعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1-2]، وذكر أهميته للإنسان فقال: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:61-62]، فيحتاج الإنسان إذاً إلى تبين قيمة الزمن، وكل ارتباط لا يفي به وقت انعقاده فإنما فيه نقص للزمن وانتقاص للعمر من ذلك الوجه.
والقسم الثاني: هو العقد المؤجل، وهذا التأجيل له ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن يؤجل الطرفان معاً، وهذه هي الكالئ بالكالئ والأصل فيها المنع، وهي تشمل ثلاثة أمور: تشمل بيع الدين بالدين، وابتداء الدين بالدين، وفسخ الدين بالدين.
أما ابتداء الدين بالدين فقد أباح منه المالكية صورةً واحدة وهي: تأخر رأس مال السلم ثلاثة أيام أو نحوها، أي: تأخر قبضه عن وقت العقد ثلاثة أيام فقط أو نحوها، فهذا جائز عند المالكية في المشهور من المذهب، وهو ممنوع في المذاهب الأخرى كلها، فقد اتفقت المذاهب الأخرى على منع الكالئ بالكالئ، وعلى أن ابتداء الدين بالدين ممنوع، والمالكية إنما استثنوا ثلاثة أيام إرفاقاً؛ لأن أصل السلم إنما أبيح لحاجة الناس، فالمزارع ينتج في وقت معين وهو وقت الحصاد، وقبل ذلك هو محتاج إلى ما ينفقه على نفسه وعلى مشروعه؛ لأنه يحتاج إلى تمويل زراعته، فيحتاج إلى أخذ الدين، فأباح الشارع السلم من هذا القبيل، وكذلك البحار إذا توقف الصيد البحري في وقت من الأوقات فإنه في هذه الحالة ليس له دخل معين، ولكن دخله سيبتدئ من بداية موسم الصيد، ويحتاج إلى تحضير آلات، وإلى شراء أجهزة؛ فلذلك أباح الشارع له السلم، فهذه هي حكمة مشروعية السلم في الأصل؛ فلذلك قال المالكية: ما قارب الشيء له حكمه، فيستثنى من ابتداء الدين بالدين تأخير رأس مال السلم ثلاثة أيام، وسيأتينا -إن شاء الله- في شروط السلم أن الجميع يتفقون على أن من شروطه: قبض رأس مال السلم عاجلاً، وأن تأخيره عن ثلاث ممنوع، إلا عند ابن عبد الحكم وحده من المالكية، وهو من أصحاب مالك ، فقد رأى أنه يمكن تأخيره أكثر من ذلك من غير شرط، أي: إذا لم يشترط الإنسان التأخير فتأخر لعذر فذلك جائز عند ابن عبد الحكم ، وعند غيره لا يجوز وينفسخ عقد السلم بالتأخير أكثر من ثلاث.
إذاً: هذا النوع وهو: ما تأخر فيه البدلان فصورته واحدة وهي: تأخير رأس مال السلم ثلاثاً عند المالكية، ويمكن أن يضاف إليها أيضاً المقاصة وهي: بيع الدين بالدين إذا كان الدينان قد حلا وكانا مملوكين لصاحبيهما أي: للمتعاقدين، ونمثل لها بالآتي: إذا كان شخص يطالبني بدين، وأنا أطالبه بدين، وكلاهما قد حل، وهما من جنس واحد، أو من جنسين ليس بينهما رباً، فيمكن بيع بعضهما ببعض، فهو يطالبني بسيارة، وأنا أطالبه بماكنة غسيل مثلاً، فتجوز هنا المقاصة بيننا، أي: أن أسقط الدين الذي لي عليه، ويسقط هو الدين الذي علي له في مقابل ذلك. وهذه المقاصة لها مائة وثمان صور لدى الفقهاء، ويطول تتبعها، وسيأتي التعريج على بعض جوانبها -إن شاء الله تعالى- في مسلسل هذه الدروس.
ومن ذلك أيضاً الحوالة، وهي: بيع الدين بالدين، ولا يشترط فيه الحلول لكن بشرط أن يكون أحدهما على غير المتعاقدين، وصورته: كأن أطالب أنا مثلاً عبد العزيز بدين، فأحيل هذا الدين الذي لي على عبد العزيز للحسن الذين يطالبني بدين آخر، فهذا الدين الذي على عبد العزيز خارج عن الصفقة؛ لأن الصفة هي بيني وبين الحسن ، وشرط الحوالة إنما هو رضا المحيل والمحال فقط، وليس رضا المحال عليه شرطاً للحوالة، وليس حلول الدين الذي على عبد العزيز أيضاً شرطاً؛ لأن هذا الدين إنما هو على طرف ثالث خارج عن أصل الصفقة.
الصورة الثانية: وهي تأجيل رأس المال أن يكون النقد مؤجلاً والعرض معجلاً، كمثل من باع سيارةً بنقود إلى أجل، فباع هذه السيارة بمليون إلى ستة أشهر مثلاً أو إلى أربعة أشهر أو إلى ثلاثة أشهر فهذا يسمى بيع الأجل، وهو الذي عجلت فيه السلعة وأخر فيه الثمن، وهو جائز وله حصة من الثمن؛ لأنه من المعلوم أن الفرق بين الناجز والمتأخر معتبر شرعاً؛ لأن الإنسان فائدة سيولته إنما هي تحريكها؛ لأنه يريد الربح والربح مرتبط بالزمن، فإذا تأخر استلام النقد فلن يربح منه في تلك المدة، فيجوز له شرعاً أن يضيف ربحاً إلى تلك المدة التي يتأخر فيها استلامه لنقده.
الصورة الثالثة: هي السلم، وهو تأخير السلعة وتعجيل رأس المال، يعني: أن يكون رأس المال مدفوعاً معجلاً، وصورته: كأن أسلم إلى عمرو ألف دولار على أن يأتيني بسيارة صفتها كذا وكذا فهذا هو الذي يسمى بالسلم، ومثله الاستصناع بنوعيه، وهو أن تكون المواد من المالك أو من المستصنع، فإذا كانت المواد من المستصنع فهذا الذي يسمى في عرفنا اليوم بعقد المقاولة، وإذا كانت المواد من المالك فهذا عقد الاستصناع المعروف في الفقه، وحقيقته أن أدفع مالاً إلى إنسان لينفذ لي مشروعاً محدداً وهو أن يبني لي بيتاً صفاته كذا وكذا في رقعة الأرض المعينة، وهذا البيت ينتهي في مدة كذا وكذا، ومعلوم ما فيه من الحديد، وما فيه من الإسمنت، وما فيه من الأصباغ، وما يحتاج إليه فيه من الأبواب والنوافذ، وما يحتاج إليه من التسليك الكهربائي ومن تمديد المياه.. وغير ذلك، فكل هذه الأمور معلومة، فإن هذا النوع سيعجل فيه الثمن ويؤجل فيه المثمن، وإذا عجل أحدهما بأن ابتدأ المقاول عمله من وقت العقد وتأخر سداد الثمن، فكانت تدفع له أقساط، في كل مرحلة تنتهي يدفع له قسط من الثمن، فمثلاً: التأسيس مرحلة وإذا انتهت دفع الثمن، ثم الجدر مرحلة وإذا انتهت دفع جزء من الثمن، ثم السقف مرحلة وإذا انتهت دفع جزء من الثمن، ثم بعد ذلك التشطيب بما فيه من الأصباغ، وإدخال الماء والكهرباء، وغير ذلك مرحلة لاحقة، ولها أيضاً مقابلها من الثمن يأخذه عند نهايتها، فهذا أيضاً من هذه العقود الناجزة، وبعض الفقهاء يسمي هذا النوع من العقود بالعقود المستمرة، وسنذكر ذلك إن شاء الله في ذكر العقود المستمرة.
إذاً: هذا هو القسم الثاني من العقود، وهو: العقد المؤجل.
القسم الثالث: هو العقد المضاف، والعقد المضاف هو: العقد الذي لم ينعقد حالاً، وإنما أضيف انعقاده إلى وقت لاحق، وهذا يقع في الأثمان وفي المثمونات، ففي المثمونات تقول: استأجرت هذه الدار من فلان، وبداية إيجارها من الشهر السابع من هذا العام مثلاً، فقد حدد الوقت الذي أضيف إليه العقد، وهذا الوقت لم يأت بعد، فهذا النوع جائز في بعض العقود دون بعض، فالعقود في قبولها للإضافة تنقسم إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: عقود لا تقبل الإضافة أصلاً كالنكاح والبيع، فلا يحل أن يقول: نكحت هذه المرأة على أن يكون النكاح ساري المفعول ابتداءً من شهر رمضان أو من شهر شوال مثلاً فهذا لا يجوز؛ لأن النكاح لا بد أن يكون ناجزاً يترتب عليه أثره، ولا يحل فيه التأجيل ولا الإضافة، وكذلك البيع فإنه لا يكون مضافاً؛ لأن إضافته تقتضي عدم ترتب أثره عليه، وهو من العقود التي يترتب عليها أثرها، فلا يجوز إضافته إلى وقت محدد، فلا يجوز أن يقال: بعتك هذه الدار على أن يكون ابتداء ملكك لها في الشهر السابع مثلاً، فهذا النوع لا يجوز؛ لأنه إضافة عقد من العقود التي الأصل فيها أن تكون ناجزة.
النوع الثاني: العقود التي تضاف دائماً ولا تتصور إلا مضافةً فهذا منه التدبير، وهو العتق عن دبر من الإنسان، ومنه الوصية والإيصاء، فالوصية أن يوصي الإنسان بثلث ماله بعد موته لفلان أو لجهة معينة من جهات البر للفقراء، أو للمساكين، أو للمسجد، أو للمجاهدين، أو لطلبة العلم، فهذا النوع لا يتصور إلا مضافاً أصلاً؛ ولذلك يحل للإنسان تغييره والرجوع عنه مدة حياته، فإذا أوصى وصيةً فله الحق في تعديلها والرجوع عنها مدة حياته، حتى لو كان في آخر رمق وكان قد أصيب بمرض مخوف يحجر على صاحبه فيجوز له تغيير وصيته والرجوع عنها.
وكذلك من الإيصاء: وهو أن يوصي فلاناً من الناس في أولاده بتزويج بناته، والحجر على الصغار من أولاده فهذا الإيصاء دائماً مضاف؛ لأنه لا يقع إلا بعد موته، فهو ليس مثل الوكالة كالوكالة في التصرف في حياته، بل هو عقد يتعلق بموته، فابتداء أثره إنما يكون من موت الموصي، فإذا مات استمر العقد وكان الموصى إليه ولياً لأولئك اليتامى، أما في حياة أبيهم فليس له ولاية عليهم شرعاً.
وكذلك من العقود التي هي ملازمة للإضافة عقد الكتابة، وهو: شراء الرقيق لنفسه من سيده على أقساط يدفعها وهي نجوم الكتابة، فقد أمر الله به في كتابه فقال: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور:33]، وهذا العقد لا يتصور كذلك إلا متأخراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( المكاتب عبد ما بقي عليه درهم )، فإنما تتم حريته عند تمام دفعه للأقساط والنجوم المترتبة عليه.
القسم الرابع: وهو العقد المستمر، وهو الذي لا يمكن إنجازه ولا استلام كل واحد من الطرفين لمقابله منه إلا في مدد متطاولة من الزمن، وذلك كعقد التوريد، وعقد الاستصناع، فإذا اشتريت سفينةً مثلاً أو طائرة من شركة تصنيع فمن المعلوم أن مدة إنجاز هذا العقد تأخذ وقتاً من الزمن؛ فلذلك يبتدئ العمل من ابتداء التوقيع على العقد، ويستمر لمدة طويلة من الزمن، وهذه المدة هي التي يستمر فيها العقد، فنهايته إنما هي باستلامك أنت للمستصنَع، واستلام المصنِّع للمبلغ المالي المترتب عليك أنت وفي ذمتك.
ومثل هذا النوع أيضاً من العقود المستمرة -كما ذكرنا- عقد المقاولة، وهو على نوعين:
النوع الأول: تكون المواد فيه من المالك، فأنت مثلاً تريد بناء دار لكنك تريد أن تكون المواد جميعاً التي تستغل في بنائها تابعةً لك من شرائك أنت فتأتي بها، فالبلاط تريد أن تأتي به لأن لك نظراً فيه، والخراسانات تريد أن تأتي أنت بحديدها؛ لأنك لا تريد استعمال الحديد الموجود في السوق، وكذلك الإسمنت ترغب في نوع منه معين فتأتي به، وكذلك الأبواب والنوافذ سواءً كانت من الخشب أو من الألمنيوم أو من الحديد تريد أن تأتي أنت بها؛ لأنك ترغب في نوع منها، فهذا النوع إنما على صاحبه مجرد العمل، فأنت تشتري المواد كلها وهو يصنعها حتى تكون على الوجه المطلوب، وهذا العقد هو عقد مستمر؛ لأنك تدفع إليه المواد التي اشتريتها وهو يصنعها، فيستمر ذلك ويأخذ وقتاً من الزمن.
والنوع الثاني من أنواع عقود المقاولة هو ما ذكرناه سابقاً: وهو أن تكون المواد من الصانع وهو المقاول، فأنت تريد أن تبنى لك دار بهذه المواصفات في هذا المكان، لكنك لن تبذل شيئاً غير النقود، لا تشتري الأبواب، ولا النوافذ، ولا الحديد، ولا الإسمنت، ولا البلاط، فلن تشتري شيئاً، إنما تدفع الثمن للمقاول وهو يشتري تلك المواد ويبنيها على الوجه المنصوص بينكما، وهذا النوع لا يخلو من غرر وبالأخص ما كان منه في أساس البناء، وما كان فيه من تفاوت الرغبات في بعض الأمور، ولكن ذلك الغرر اليسير مغتفر في العقود المستمرة، وهذه العقود المستمرة يدخل فيها أيضاً استئجار البيوت والأسواق للمدد الطويلة، كمن استأجر بيتاً أو فندقاً لتسييره لمدة عدد من السنوات.. لعشرين سنةً أو لعشر سنوات فهذا العقد عقد مستمر؛ لأنه إيجار لا يستطيع واحد منهما التخلص منه، فهو قد استأجره لهذه المدة فاستحق غلته، واستحق الآخر الثمن؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الخراج بالضمان )، ولذلك فإن خليلاً رحمه الله قال: (ولزم الكراء بالتمكن)، وهذه قاعدة من القواعد الفقهية أن الكراء يلزم بالتمكن، فإذا استأجرت هذا البيت تريده للسكن وأنت تنوي الإقامة في هذه المدينة من أجل علاج أو من أجل دراسة، ثم بدا لك ألا تجلس فيها فجلست في هذا البيت مدةً يسيرةً، ثم أردت الخروج من هذه المدينة والسفر؛ فإن الغلة ملك لك، والأجرة هي ملك رب البيت، ولا يحل لك أن تنتقصه شيئاً من الأجرة؛ لأنك أنت ملكت الغلة وهو ملك الأجرة، إلا إذا أقالك في بقيتها، فإذا أقالك في بقيتها يمكن أن يرد إليك بقية الأجرة، فيأخذ مقابل الأيام التي مكثتها في بيته، ويرد عليك مقابلها، وهذا من التكرم وهو من الأمور الجائزة؛ لأنه تنازل عن حق، والتنازل عن الحق يجوز بمقابل وبلا مقابل؛ ولذلك فإن الإقالة مطلقاً يجوز أخذ الأجرة عليها فتكون بيعاً، والإقالة كما قال أهل العلم: تنقسم إلى قسمين: إلى بيع وفسخ، فما كان منها بسبب عيب أو خيار نقيصة أو نحوه فهو فسخ، وما كان منها بسبب نقص الرغبة أو نحو ذلك أو كان بزيادة في الثمن أو نقص فيه فهو بيع ليس فسخاً.
القسم الخامس: وهو العقد المعلق، والمقصود به العقد الذي شرط فيه شرط، والفرق بينه وبين المضاف: أن العقد المضاف لم ينعقد بعد، وإنما أضيف عقده إلى وقت محدد، وقد مثلنا له في السلع ومثلها الكمبيالات، فالكمبيالات لا تستحق إلا في وقت محدد، والكمبيالات هي: الشيكات المتأخرة التي لا يمكن أن تسحب إلا بعد مضي سنوات أو أشهر محددة، فأنت تشتري -مثلاً- أسهماً في شركة بكمبيالة توقعها، وهذه الكمبيالة غير قابلة للتسييل، أي: لا يمكن أن تسحب نقوداً إلا بعد سنة أو بعد سنتين، ويحدد ذلك بموافقة المؤسسات المصرفية التي تعتبر الكمبيالات وتحدد أسعار الأسهم، وهذه المؤسسات المصرفية -مثلاً- يمثلها في بلادنا وما يشبهها من البلدان البنك المركزي، فهو الذي يمكن أن يحدد أمد دفع الكمبيالات ووقت استحقاقها. فلذلك الفرق بين العقد المعلق والعقد المضاف: أن العقد المضاف لم ينعقد بعد، وإذا مات الإنسان قبل الوصول إلى ذلك التاريخ فإنه لا يرث المعقود عليه، بل ينفسخ العقد بمجرد موته قبل حلول الأجل، فمثلاً إذا قلت: استأجرت منك هذه الدار على أن تكون بداية الإجارة من الشهر السابع فإذا مات أحد الطرفين قبل الشهر السابع فلا عقد بينهما؛ لأن العقد لم ينجز بعد.
وقد ذكرنا من قبل في شروط العقد: بقاء اتصاف كل واحد منهما بالأهلية إلى تمام العقد، فإذا اختلت أهلية أحدهما قبل تمام العقد فإن العقد مفسوخ بذلك.
ثم بعد هذا العقد المعلق هو عقد ناجز في الأصل، لكنه شرط فيه شرط اقتضى عدم إنجازه، فمثلاً إذا قلت: بعتك هذه الدار على أن لي الخيار لمدة شهر، أو لي الخيار لمدة خمسة عشر يوماً، أو على أن يوافق فلان على ذلك.. على رضا فلان من الناس، فهذا النوع هو شرط في العقد، والعقد في الأصل ناجز، ولولا هذا الشرط لاستحق كل واحد منكما منابه، لكنت أنت تستحق الدار وهو يستحق الثمن، لكن ذلك الشرط علق عليه هذا العقد فلا يتم العقد إلا بحصول ذلك الشرط. وهذه الشروط التي تعلق عليها العقود أيضاً من العقود ما يكون قابلاً للتعليق، ومنها ما لا يكون قابلاً للتعليق، فمن العقود التي لا تقبل التعليق مطلقاً النكاح والبيع فإنهما لا يقبلان التعليق لذاتهما، فلا يمكن أن يقول العاقد: أنكحت فلاناً فلانة بشرط رضا فلان مثلاً، فهذا النوع لا يمكن أن يتم؛ لأنه عقد معلق لا يدرى هل هو حاصل أو لا؟ وكذلك لا يجوز أن تقول: بعتك هذه الدار بمليون على شرط -مثلاً- مجيء فلان أو على حصول كذا؛ لأن هذا المليون الآن المدفوع تردد بين السلفية والثمنية، والتردد بين السلفية والثمنية أمٌ من أمهات الربا، فإذا تردد الثمن المدفوع بين أن يكون ثمناً وبين أن يكون قرضاً يستعاد كما هو فهذا محظور شرعي، والتذبذب لا يقبله البيع، فلذلك قال علي الأجهوري رحمه الله:
لا يقبل التعليق بيع والنكاح كبعت ذا أنكحتها إن جا رباح
فهذا النوع هو من التعليق الذي لا يجوز في هذين العقدين في البيع والنكاح، ولكنه يجوز في الإجارة، فالإجارة يجوز فيها التعليق، يجوز أن تستأجر سيارةً من وكالة أو من مؤسسة على شرط رضا فلان من الناس، أو على شرط المشورة أو نحو ذلك، فيكون العقد معلقاً على حصول ذلك الشرط المشروط، فهذا النوع من الأمور الجائزة في الإجارة بكل أنواعها.
إذاً: هذه هي أقسام العقود باعتبار إضافتها إلى الزمن.
ونصل إلى التقسيم الثاني وهو تقسيم العقود باعتبار العاقدين، فالعاقدان لهما أربع صور:
الصورة الأولى: أن يكون الإنسان مالكاً للعين مالكاً للتصرف فيها، فمثلاً: هذه الدار أملكها وأنت تملك الثمن، وأنا غير محجور علي وأنت غير محجور عليك، فإذا تبايعنا فهذا العقد هو عقد ممن يملك العين ويملك التصرف فهو ناجز، ولا يرد إلا لعارض خارجي، فمن قبل المتعاقدين ليس هناك سبب للرد؛ لأن كل واحد منهما مالك، وكل واحد منهما رشيد ليس عليه حجر، فهذا العقد ناجز في أصله لا يرد إلا إذا كان ذلك لأمر خارجي كما إذا كان العقد في وقت نداء الجمعة الثاني مثلاً، أو نحو ذلك من الأمور العارضة التي تؤثر على العقد.
الصورة الثانية: هي أن يكون كل واحد منهما مالكاً للتصرف غير مالك للعين، كالوكيل على البيع والوكيل على الشراء، فهذا الوكيل غير مالك للعين التي يبيعها، ولكنه مالك للتصرف فيها، وهذا التصرف الذي ملكه بالوكالة يقتضي جواز ومضاء تصرفه إذا كان موافقاً للنظر، فالوكيل إنما يعزل عن غير النظر فقط، فهذا العقد مثل سابقه نافذ، ولا يرد إلا لعارض خارجي، وهذا العارض كما إذا كان العقد في وقت أذان الجمعة الثاني مثلاً أو نحو ذلك.
ومثله بيع الولي لما لمحجوره، فالولي إذا كان أباً أو وصياً فتصرفه يحمل على السداد مطلقاً، بخلاف مقدم القاضي، فإذا مات الإنسان مثلاً وترك أولاداً ولم يوص فالذي يقدمه القاضي عليهم من أقاربهم تصرفه غير محمول على السداد؛ فلذلك الأصل فيه أن يكون قابلاً للرد؛ لأنه إنما أقيم مقام ميت معدوم فهو يتصرف بالنيابة عن ذلك الميت، والميت لم ينبه منابه وإنما أقامه القاضي مقامه؛ ولذلك فإن يد الوالد ويد الوصي هي يد أمين لا يضمنان إلا مع التفريط، بخلاف مقدم القاضي فيده في الأصل ليست من أيدي الأمناء؛ ولذلك فهو محمول على التفريط ما لم يثبت عدم تفريطه؛ لأنه مدع دائماً بخلاف الأب والوصي فهو مدعىً عليه؛ ولذلك فتصرف الوالد نيابةً عن ولده في بيع ماله إذا كان الولد محجوراً عليه لصغر أو سفه، وكذلك بيع الوصي أو تصرفه في مال من تولى التصرف في ماله، فهذان كلاهما من ملك التصرف فينجز البيع ولا يرد إلا لعارض خارجي.
الصورة الثالثة: وهي أن يكون العاقد مالكاً للمحل غير مالك للتصرف، كالسفيه الذي يملك سيارةً ولكنه محجور عليه، فبيعه لسيارته هو بيع لما يملكه ولكنه لا يملك التصرف فيه، ومثل ذلك الصبي الصغير غير البالغ إذا كان مميزاً فبيعه لما يملكه هو تصرف في محل يملكه، ولكنه لا يملك التصرف فيه، فهذا هو النوع الثالث وسيأتي حكمه؛ لأننا نجمله مع النوع الرابع لاستوائهما في الحكم في الخلاف.
الصورة الرابعة: وهي أن يكون العاقد لا يملك المحل ولا يملك التصرف، وهو الفضولي، وهو إنسان لا يملك العين ولا يملك التصرف فيها، فلو كان مثلاً غير مالك لدار معينة، ولم يكن وصياً أو وكيلاً وإنما هو أجنبي، فجاء فقال: أبيعك دار فلان بكذا، فهذا الشخص لا يملك التصرف ولا يملك محل العقد، أي: المعقود عليه.
وهذان العقدان -وهما عقد من يملك المحل ولا يملك التصرف، وعقد من لا يملك المحل ولا يملك التصرف- اختلف فيهما على قولين: فذهب المالكية والحنفية وكذلك الشافعي في مذهبه القديم، والحنابلة في رواية عن أحمد إلى أنهما عقدان صحيحان موقوفان على رضا من له التصرف، فيكون العقد صحيحاً في أصله ولكنه غير لازم، وبين الصحة واللزوم فرق مهم يجدر الانتباه إليه، فالصحة أن يكون الأمر موافقاً لمقتضى الشرع، واللزوم أن يترتب عليه أثره شرعاً، فهذا العقد قد يكون صحيحاً بمنظور الشرع ولكنه غير لازم؛ لأن الولي يمكن أن يرده؛ فلذلك اعتبر المالكية والحنفية والشافعي في القديم والحنابلة في رواية عقد مالك المحل الذي لا يملك التصرف، وعقد من لا يملك المحل ولا التصرف؛ عقداً موقوفاً على رضا الولي، فإذا أقره نفذ وإذا رده بطل، كما قال ابن عاصم رحمه الله:
أبطل صنيع العبد والسفيه برد مولاه ومن يليه
فإذا تصرف تصرفاً فهو موقوف على رضا صاحبه؛ ولذلك قال خليل رحمه الله: وملك غيره على رضاه.
أي: ووقف ملك غيره على رضاه، فإذا باع ملك غيره فهو موقوف على رضاه إذا رضي به نفذ، وإذا لم يرض به رد.
أما الشافعية في المذهب الجديد والحنابلة في الرواية الراجحة التي هي مشهور مذهبهم: فإنهم يرون أن هذا العقد باطل مطلقاً لا يصح، فإذا باع الصبي الصغير ماله الذي يملكه، وجاء وليه وقال: أقر هذا البيع ولا أرده، أو تزوج دون إذ وليه فجاء وليه فقال: أقبل هذا العقد ولا أرده؛ فهذا العقد باطل عند الحنابلة في المذهب المشهور عندهم، وعند الشافعية في المذهب الجديد، وهو صحيح عند المالكية وعند الحنفية وعند الشافعي في القول القديم، وعند الحنابلة في رواية لهم.
وعلى هذا فلا بد من تحرير محل النزاع، فكل مسألة خلاف ينبغي أن يحرر فيها محل النزاع، فأقول: إن مالك المحل الذي لا يملك التصرف، أو الذي لا يملك المحل ولا التصرف معاً إذا كان غير مميز فعقده باطل عند الجميع؛ لأن التمييز شرط لأصل الانعقاد؛ ولذلك قال خليل رحمه الله: (وشرط عاقده تمييز) وهذا شرط عند الجميع، وهو محل إجماع بين أهل العلم، فعقد المجنون غير نافذ مطلقاً، وعقد المبرسم في وقت زوال عقله غير نافذ مطلقاً؛ فلذلك يرد العقد من غير المميز.
وقد استثنى بعض أهل العلم من ذلك الشيء اليسير الخفيف جداً، فالصبي الذي لا يميز إذا دفع خمس أواق مثلاً لصاحب المحل وأخذ منه حلوى، فهذا الشيء التافه لا يرد فيه العقد بل ينفذ، ومثل ذلك كل التوافه التي لا اعتبار لها، وقد سبق أن المعقود عليه يشترط فيه أن يكون منتفعاً به، وقد ذكرت أن المنتفع به معناه المتمول، وأن الأشياء منها ما لا ينتفع به لا لذاته بل لقلته كحبة واحدة من الأرز ما قيمتها؟ هي غير منتفع بها لا لأن نوعها لا ينفع؛ ولكن لأنها هي قليلة يسيرة، بخلاف ما لا نفع فيه أصلاً كمحرم مثل حمار أهلي أشرف على الموت ما فائدته؟! ليس فيه نفع، لا يقبل الذكاة، ولا ينتفع بجلده، ولا بلحمه، ولا بعظامه، فلذلك قال بعض أهل العلم من غير المذاهب الأربعة: عقد غير المميز يمضي في الشيء اليسير، وهذا القول أخذ به عثمان البتي وهو من فقهاء أهل الحديث، واستدل بأثر مروي عن أبي الدرداء رضي الله عنه: (أنه مر بصبي غير مميز يلعب بطير فاشتراه منه بدرهم وأطلقه)، وهذه الواقعة وإن كانت صحيحة السند عن أبي الدرداء رضي الله عنه لكن لها محامل أخرى، فيمكن أن يحمل هذا على أنه فداء، فـأبو الدرداء تصدق على الصبي بالدرهم أسكته به لئلا يبكي، وانتزع منه الطير لأنه كان يهينه ويعذبه وهذا ممنوع شرعاً، فليس هذا من البيع بمعناه الحقيقي، وإنما هو فداء وإرضاء.
وكذلك من محل النزاع إذا كان مالك المحل مأذوناً له في التصرف كالصبي المميز إذا أرسله أبوه للشراء، فاشترى من المحل التجاري مثلاً فهذا العقد ماض؛ لأن الإذن سبق البيع، فالإذن حق للولي وقد سبق العقد؛ فلذلك وافق العقد محله فنجز، فهذا النوع خارج عن محل النزاع. يبقى محل النزاع في تصرفه فيما لم يؤذن له فيه إذا كان هو مميزاً فهذا هو محل النزاع، وهذا النزاع لعل الراجح فيه هو مذهب المالكية والحنفية والشافعية في القديم، والحنابلة في الرواية المصححة وهو أن العقد صحيح وأنه موقوف على رضا الولي؛ لأن المقصد هنا هو عدم ضياع حقوق الناس، والعقود جميعاً علة تحريمها إما الغرر، وإما الضرر، وإما الربا، وإما أكل مال الناس بالباطل، وإما التردد بين السلفية والثمنية، وإما حصول الغبن الفاحش، فهذه الأسباب الستة التي من أجلها حرم الشارع العقود المحرمة لا يتحقق واحد منها في مثل هذا العقد، فلذلك الراجح أن هذا العقد موقوف على رضا الولي فإذا أذن فيه مضى، ويستثنى أمر واحد من هذه المسألة وهو النكاح، فإن الولي ركن فيه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا نكاح إلا بولي )، وقد روى هذا الحديث عنه عشرون من أصحابه.
وكذلك ففي حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن اختلفوا فالسلطان ولي من لا ولي له )، وهذا الحديث يقتضي بطلان هذا العقد ورده، فإذا لم يأذن الولي فيه فهو باطل قطعاً، وإذا أذن فيه فقد قال بعض أهل العلم: إذا كان ذلك بالقرب فإنه يمضي، وقد راعى المالكية هذا الخلاف؛ لأن من قواعد مالك رحمه الله مراعاة الخلاف؛ فلذلك إذا حصل الدخول فأجاز الولي العقد ورضي به بعد الدخول فإن العقد يمضي؛ لأن الشارع يتشوف للحقوق الأنساب، ولتصحيح عقود المسلمين فيما بينهم، ودليل ذلك ما ثبت عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أنها زوجت إحدى بنات أخيها عبد الرحمن لـمصعب بن الزبير ، فجاء عبد الرحمن فقال: أمثلي يفتات عليه؟ فقالت عائشة : أترغب عن ابن الحواري ؟ فأقر عبد الرحمن العقد، ومضى هذا العقد بإجماع الصحابة فلم ينكر ذلك أحد منهم؛ فلذلك استدل القائلون: بأن الولي إذا قبل العقد بعد انعقاده بدونه فإنه يمضي بدليل هذه القصة، والحنفية أصلاً لا يشترطون الولي للنكاح، ويرون أنه ليس من أركانه، ويرون أن الإقدام على العقد بدون ولي حرام، ولكنه نافذ ماض، ويستدلون بأن الله تعالى يقول: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:232]، فأضاف العقد هنا إلى النساء، فدل ذلك على أن إذن الولي ليس ركناً فيه بل هو مكمل له، وأجابوا عن الأحاديث السابقة وهي ( لا نكاح إلا بولي ) وما في معنى هذا الحديث من أنه زيادة على النص، والزيادة على النص عند الحنفية نسخ، والمتواتر لا ينسخ بالآحاد فقالوا: كل هذه الأحاديث آحاد، والقرآن متواتر، والمتواتر لا ينسخ بالآحاد، ومذهب جمهور الأصوليين ما عدا الحنفية: أن الزيادة على النص لا تعتبر نسخاً؛ فلذلك هي زيادة ويبقى النص على ما كان عليه، وبهذا فقط سأل بعض الإخوة عن الفرق بين مذهب الشافعي القديم ومذهبه الجديد، فـالشافعي رحمه الله من أهل العلم الذين عدموا التعصب، وأوتوا الذكاء، وقد تقلب في الأرض فسافر أسفاراً كثيرةً فولد في غزة في فلسطين، ثم ذهبت به أمه صغيراً إلى اليمن، ثم جاء إلى مكة فبلغ بها، ثم ذهب إلى المدينة فدرس على مالك ، ثم تحول إلى العراق فأقام فيه برهةً، وأنشأ مذهبه القديم بالعراق، ثم استقر بمصر في آخر عمره، وفي مصر أنشأ مذهبه الجديد، وذلك عندما عايش المزارعين، وانتقل من حياة أهل العراق إلى حياة أهل مصر، وكل هذا كان في أربع وخمسين سنة، فقد ولد الشافعي رحمه الله سنة مائة وخمسين وتوفي سنة مائتين وأربع من الهجرة، وكل هذه التقلبات وهذا العلم الكثير كان في أربع وخمسين سنة.
فبهذا إذاً: نكون قد أنهينا هذا التقسيم، وهو تقسيم العقود باعتبار العاقدين، ونصل الآن إلى تقسيمها باعتبار المعقود عليهما.
فباعتبار المعقود عليهما تنقسم العقود إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: عقود تبرعات.
والقسم الثاني: عقود معاوضات.
والقسم الثالث: عقود توثقات.
فالقسم الأول: وهو عقود التبرعات، هي العقود التي لا يقصد بها عوض دنيوي محدد، والقيود في هذا معتبرة، فقولنا: (لا يقصد به عوض دنيوي) مخرج للعوض الأخروي، فعقود التبرعات منها ما يقصد به العوض الأخروي كالصدقات مثلاً، وكذلك قولنا: (محدد) مخرج لهبة الثواب فهي عقد تضرع وإن كانت يقصد بها عوض دنيوي لكنه غير محدد؛ فلذلك القيود معتبرة في التعريف.
وهذه العقود تنقسم إلى أقسام: فإن كان العقد فيها على عين فإما أن يكون ذلك على وجه الإطلاق في جميع الأمور، وإما أن يكون على وجه التقييد، فإن كان عقد التبرع على عين، فإما أن يكون ذلك لوجه الله عز وجل، فهذا يسمى بالصدقة، ويدخل فيها ثلاثة أنواع أخر وهي العطية، وهي: ما يعطيه الوالد لأولاده، والهبة وهي: ما يعطيه الإنسان لغيره من الناس على وجه المكارمة، والصلة وهي: ما يعطيه الإنسان لأقاربه، فهذه ثلاثة أقسام داخلة في مسمى الصدقة.
كذلك إن كان العقد على عين قصد به التقرب إلى المعطى فهذا الذي يسمى بالهدية في الأصل، وهو الإهداء إلى الآخرين بقصد التقرب إليهم، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإهداء وذكر حكمته، فقال: ( تهادوا تحابوا وتذهب الشحناء ). وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يقول الله تعالى يوم القيامة: أين المتحابون في جلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي، وجبت محبتي للمتحابين في، والمتزاورين في، والمتجالسين في، والمتبادلين في )، فالمتبادلون في الله سبحانه وتعالى من جزائهم محبة الله، وإظلاله لهم يوم لا ظل إلا ظله، وهذا العقد وإن كان المقصد به في الأصل وجه المعطى إلا أنه لا ينافي ذلك أن يراد به وجه الله سبحانه وتعالى، ثم التقرب إلى المعطى بعد ذلك، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـسعد بن أبي وقاص : ( إنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في فيِّ امرأتك )، ففي الغالب نفقة الرجل على أهله لا يقصد بها وجه الله وحده وإنما يقصد بها وجه الله ثم يقصد بها إرضاء أهله أيضاً والتحبب إليهم، وهذا النوع ليس من الرياء ولا من التسميع؛ لأنه يقصد به في النية التشريك بين أمرين كلاهما مطلوب شرعاً، فليس واحد منهما منهياً عنه في الشرع، فكلاهما مطلوب شرعاً؛ فلذلك لا يعد هذا من الرياء ولا من التسميع.
ثم إن كان عقد التبرع على منفعة فإما أن يكون على الإطلاق، وإما أن يكون على التقييد، فإن كان على مطلق المنافع فإما أن يكون على وجه التأبيد فهذا هو الحبس المعقق، ويسمى وقفاً وحبساً، وهو التبرع بمنفعة العين على وجه يشمل جميع منافعها، فهذا النوع يسمى وقفاً ويسمى حبساً.
وإما أن يكون ذلك مرتبطاً بحياة أحدهما على وجه التعيين فهذا يسمى بالعمرى، أو على وجه البدلية فأي واحد منهما مات أولاً فهذا الذي يسمى بالرقبى، فإذاً: هذه ثلاثة أنواع في عقد التبرع على منفعة على وجه الإطلاق وتلخيصها بالآتي:
إما أن يكون مستمراً فهو الوقف، أو أن يكون مربوطاً بعمر أحدهما على وجه التعيين فهو العمرى، أو أن يكون مربوطاً بعمر أحدهما على وجه الإبهام وهو أولهما موتاً فهذا الذي يسمى بالرقبى.
ثم بعد هذا إن كان العقد على منفعة وكان ذلك مقيداً بنوع من أنواع المنافع فهذا النوع تختلف تسمية العقد فيه باختلاف نوع المنفعة، فإن كانت المنفعة غلت خادم سمي العقد إخداماً، وإن كانت لبن حلوب سميت منحة ومنيحةً، وإن كانت ثمرة نخلة أو نحوها سميت (عريةً) بالقصر وجمعها: عرايا، فالعرايا: جمع (عرية) بالقصر، وإن كانت منفعة ثوب أو بيت أو نحو ذلك أو آلة أو سيارة سميت (عاريةً) بالمد، وجمعها: عواري.
فتلك سرابيل ابن داود بيننا عواري والأيام غير قصار
إنما أنفسنا عارية والعواري قصارى أن ترد
فالعواري: جمع عارية، والعارية منسوبة إلى العار؛ لأن إمساكها وعدم إعطائها مع عدم الضرورة إليها عار؛ ولأن طلبها من غير حاجة عار، وقيل: هي مشتقة من الاعتوار وهو التبادل؛ لأن الذي يعير متاعه لغيره كأنما يتبادل مع الآخرين في متاعه، مثل أن تكون هذه السيارة تارةً عند فلان، وتارةً تكون عند فلان؛ فهذا هو الاعتوار ومن أجله سميت العارية: عاريةً، وإن كانت ظهر ركوب سمي ذلك: إفقاراً، وهو مشتق من فقرات الظهر، وإن كان ذلك بطريق أو مسقىً أو جدار لإسناد بناء عليه أو لظله سمي ذلك: إرفاقاً، وهو مشتق من الرفق؛ لأنه رفق بالجار. فإذاً: هذه هي عقود تبرعات على المنافع المقيدة وهي غير مطلقة.
القسم الثاني: وهو عقود المعاوضات، وأولها عقد النكاح: وهو عقد معاوضة على مجرد متعة اللذة بآدمية غير موجب قيمتها وإنما يلزم به الصداق، والمالكية يزيدون قيداً؛ ولذلك قال ابن عرفة في تعريف النكاح: هو عقد معاوضة على بضع لآدمية غير موجب قيمتها، وغير عالم عاقدها حرمتها إن حرمها الكتاب على الإجماع، أو القياس على الآخر، ومعنى قوله: (على الآخر) أي: على القول المقابل للمشهور، وهذا القيد هو فيما يتعلق بالتحريم يقصدون به إخراج التي هي محرمة على وجه التأبيد، فالمحرمة على وجه التأبيد هي المحرم، ويزيد المالكية على محرم المنكوحة في العدة، فهي محرمة على وجه التأبيد عند المالكية، وعند جمهور أهل العلم: لا تحرم على وجه التأبيد، والمحارم هن اللواتي حرمن على وجه التأبيد، وقد عد الله في كتابه خمسة عشر نوعاً من ذلك، فقال: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً * حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:22-24]، ومعنى المحصنات: المتزوجات، فكل متزوجة هي مشغولة لا يصح العقد عليها ولا نكاحها إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي، فإذا كانت المشركة متزوجةً فسبيت في الغزو فإن السبي يهدم النكاح السابق، وبذلك قال: إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24] أي: بالسبي بعد النكاح. فهذا النوع هو أول عقود المعاوضات وهو النكاح.
ثم بعد هذا إن كان العقد عيناً بعين على وجه الإنجاز أي: ليس أحدهما مؤجلاً، سواءً كان ذلك بنقد أو بسلعة من الطرفين، أو كان نقداً من أحدهما وسلعةً من الآخر فهذا يسمى البيع بالمعنى الأعم، وهو الذي عرفه ابن عرفة في قوله: هو عقد معاوضة على غير منافع ولا متعة اللذة بالآدمية ذو مكايسة أحد طرفيه غير نقد، وإضافة الجملة الأخيرة وهي (أحد طرفيه غير نقد) مخرج للصرف، وكذلك (ولا مؤجل) مخرجة للسلم وبيع الأجل، وإذا حذفت هاتان الجملتان فقيل: عقد معاوضة على غير منافع ولا متعة اللذة بآدمية ذو مكايسة فقط شمل هذا جميع أنواع البيوع، فهذا البيع بالمعنى الأعم، فإذا قيل: (أحد طرفيه غير نقد) خرج بذلك الصرف، فالصرف طرفاه كلاهما نقداً، وهذا معنى الصرف وهذا هو المعنى الأعم للصرف، فالصرف والبيع كلاهما لدى الفقهاء له إطلاقان، فالبيع بمعنىً أعم: هو كل عقد معاوضة تقصد فيه المكايسة أي: المماكسة، كل واحد من الطرفين يريد أن يكون رابحاً بمقتضى ما يقتضيه عقله، فهذا هو الذي يسمى بيعاً بالمعنى الأعم، والبيع بالمعنى الأخص هو الذي يكون أحد طرفيه غير نقد، كسيارة مثلاً أو جهاز أو آلة أو بضائع، والطرف الآخر نقد، ويكون حالاً غير مؤجل فهذا هو البيع بالمعنى الأخص، والصرف كذلك له إطلاقان: الصرف بالمعنى الأعم: وهو كل بيع طرفاه من النقد، فبيع نقد بنقد مطلقاً يسمى صرفاً، والإطلاق الآخر هو الصرف بالمعنى الأخص: وهو بيع نقد بنقد من غير جنسه، فإذا كان النقدان من جنس واحد سمي ذلك مراطلةً إن كان في الموزونات، وهي ما ليس مسكوكاً من النقود أي: يكون تبراً، وتبر الذهب إذا بيع وزن منه بوزن -كأن يكون كيلو مثلاً من عيار أربعة وعشرين، والآخر كيلو من عيار واحد وعشرين أو من عيار ثمانية عشر- فيجوز بيع أحدهما بالآخر إذا كان ذلك حالاً، ووزنهما متساوٍ، فهذا النوع يسمى مراطلةً وهي بيع غير المسكوك بغير المسكوك أيضاً، أما إذا كانا مسكوكين فهذا الذي يسمى بالمبادلة: وهو أن تبيع دنانير بدنانير أو دراهم بدراهم من جنس واحد، فهذا النوع إذا كان يداً بيد فهو جائز، ولكنه لا يسمى صرفاً بالمعنى الأخص بل يسمى مبادلة. والصرف إذاً بالمعنى الأخص هو: بيع نقد بنقد من غير جنسه، ولا بد أن يكون حالاً، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله في درس مستقل به، فبيع الدولار بالأوقية أو بيع الدولار مثلاً بالين الياباني هذا صرف؛ لأنهما وإن كانا نقدين إلا أنهما من غير الجنس؛ ولذلك يجوز فيهما التفاضل ولا تجوز فيهما النسيئة، فالتفاضل إنما يحصل عند اختلاف الجنس لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت في صحيح مسلم والموطأ: ( فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد )، وإن كان أحدهما ديناً فإن كان النقد معجلاً فهذا الذي يسمى بالسلم، وإن كان النقد مؤجلاً فهذا الذي يسمى ببيع الأجل، وإن كان عقد المعاوضة على منافع من أحد الطرفين فهذا الذي يسمى بالإجارة، فالإجارة هي العقد على المنفعة وهذا بالمعنى الأعم.
والمالكية يفصلون فيها فيرون أن الإجارة في أصلها تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يكون العقد على منافع يستحق كل جزء من الثمن في مقابل جزء من المنفعة، فهذا الذي يسمى بالإجارة، أما إذا كانت المنافع لا يستحق مقابلها إلا عند تمامها فهذا الذي يسمى بالجعالة، ومذهب جمهور أهل العلم صحة الجعالة، والحنفية لا يرون صحتها؛ لأنهم يرون أن الجعل عقد غرر فهو حرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر؛ ولذلك فعقد التنقيب عن المعادن أو عن النفط أو عن المياه، وعقد طلب الضالة ونحوه، وعقد الرقية -وهي أخذ الأجرة على الرقية مثلاً- هي عقود جعالة، وهي صحيحة عند المالكية والشافعية والحنابلة، وهي باطلة عند الحنفية؛ لأنها عقود غرر؛ ولذلك فالفرق بين الإجارة والجعالة أن الإجارة يستحق صاحبها من الثمن مقابل ما قدم، والجعالة لا يستحق شيئاً إلا إذا أتى به على وجهه، فمثلاً: عقد التنقيب عن النفط إذا كانت الشركة عاقدت الدولة مثلاً على التنقيب عن النفط لمدة محددة في منطقة محددة على مبلغ محدد من المال تتقاضاه إذا اكتشفت كميةً معتبرةً من النفط في هذا المكان، وبحثت هذه الشركة وأنفقت أموالاً طائلةً في التنقيب فلم تجد شيئاً لا تستحق أية أجرة، وإذا لم تبذل أي جهد ووجدت النفط المنقب عنه بأيسر الأسباب فإنها تستحق الأجرة كاملة، فهذا النوع هو عقد جعالة، ومثله طلب الضالة إذا فقد إنسان شيئاً فضاع منه، فالتمس وجوده وقال: من أتاني بهذا المفقود فله كذا وكذا، أو من أتاني بسيارتي التي فقدت عند باب المسجد فله كذا وكذا، فإذا خرج إنسان فوجدها وأتى بها ولم يتكلف أي عناء فإنه يستحق تلك الأجرة بالغةً ما بلغت، وإذا خرج وطلبها في أنحاء العالم وتكلف عليها، وأعلن عنها الإعلانات في القنوات الفضائية ولم يجدها لا يستحق شيئاً؛ لأن الجعالة لا يحصل الإنسان منها على فائدة إلا بالعمل كاملاً؛ ولذلك فمن عقودنا اليوم ما يكون متردداً بين الجعالة والإجارة؛ ولذلك لا يصنفه الفقهاء كعقد الهدم، فالفقهاء يعرفون عقد البناء ولا يعرفون عقد الهدم، ونحن اليوم نحتاج إلى عقود الهدم، فهذه المباني التي نبنيها لها أعمار محددة، هذا الإسمنت يقوى على احتضان الحديد الذي بداخله لمدة محددة، ولا يتجاوزها، وهنا المهندسون أدرى بذلك، فمدة ذلك محصورة لا يمكن أن يتعداها البناء قائماً؛ فلذلك إذا تغير الحال فاستغلال الأرض مهم جداً، فهذه الأرض قيمتها باقية بغض النظر عن البناء الذي عليها، فإذا استأجرت شركةً لهدم هذا البناء الذي على هذه الأرض، فجاءت الشركة فهدمت جانباً من البناء وتركته كما هو، وتركت بقيته؛ هل تستحق أجرةً في مقابل ما هدمت؟ والجواب على ذلك: أنه إذا كان العقد عقد جعالة فأنت لم تستفد شيئاً لأن الأركان قد وضعت، والمكان كان بالإمكان استغلاله على الأقل، ولو كان غير جاهز للاستغلال كاملاً، أما بعد هدم جانب منه فلم يعد ممكناً استغلاله، فما حصل هو ضرر وليس بنفع، هدم البعض ضرر وليس نفعاً، فلذلك لا تستحق الشركة أجرة على الهدم.
ونظير هذا الإجارة على البلاغ، والإجارة المضمونة، فمثلاً إذا استأجر زيد صاحب سيارة أجرة على أن يوصله إلى مكان معين، فذهب به حتى وصل إلى مكان في خلاء من الأرض مثلاً بين أشجار كثيرة ثم تعطلت سيارته أو قال: أنا أريد أن تعطيني المبلغ المستحق عن بقية المسافة وأنا سأرجع من هنا، فهل زيد هذا استفاد شيئاً من هذه الرحلة؟
الجواب: لا؛ لأنه لو بقي في المكان الأول لكان بالإمكان أن يجد مقعداً يسافر فيه، وهو في المكان الثاني لم يعد يجده؛ لأن السيارات قد لا تخرج أصلاً حتى تمتلئ كراسيها من المدن؛ فلذلك هذا النوع ينبغي أن يكون على البلاغ، فإذا بلغه استحق الأجرة، وإذا لم يبلغه لم يستحق شيئاً، بخلاف ما كان داخل المدن إذا ركب الإنسان مثلاً في الباص، أو في القطار من مكان في داخل المدينة فوصل إلى محطة من المحطات، وفي أثناء الطريق تعطلت الحافلة أو تعطل القطار، فإن الإنسان بذلك قد انتفع؛ لأن بقية الأجرة -تكت بقية الخط- ستكون أقل قطعاً من التكت الكاملة، فهو قد استفاد فيستحق عليه مقابل ما استفاده، فإذاً: هذا النوع معتبر شرعاً.
إذاً: هذه هي الإجارة، وهذه الإجارة إما أن تكون على منفعة كما ذكرنا من طرف واحد، فهي الإجارة والجعالة، أو تكون على منفعة من الطرفين فذلك بأن يعمل الإنسان مع آخر عملاً مشتركاً، وهذا الذي يسمى بشركة العمل، ويسمى أيضاً شركة الوجوه، وهو في العمل الذي لا يمكن أن تقوم حقيقته دون اشتراك، أو في العمل المتجانس، هذا الرجل يحفر الآبار، وهذا يرفع عنه النبيثة والتراب، فعملهما متلازم، فيجوز أن يأخذا عقداً واحداً مشتركاً لكل واحد منهما منابه منه، أو هذا يذيب ذهب ويجعله خيوطاً وهذا يصوغه، فعملهما متلازم، فيجوز اشتراكهما في العمل.
وكذلك إذا اتحد الجنس فقد صح أن سعد بن أبي وقاص و طلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما اشتركا في غزوة من الغزوات فيما يغنمانه في نصيبيهما من الغنيمة، فهذا عمل مشترك فكلاهما مجاهد في سبيل الله وسينال نصيبه من الغنيمة فيجمعان نصيبيهما معاً ويقسمانهما بالسوية، فهذا النوع جائز.
كذلك من هذه العقود على المنافع ما إذا كانت المنفعة غلةً أو ثمرةً، فالغلة كالقراض فإنه دفع مال لمن يتجر به على جزء من ربحه، وذلك بأن تدفع مالك لشخص على أن يتجر به، وعلى أن الربح إن حصل فهو بينكما، وهو لا يضمن رأس المال، ولا يضمن الربح؛ فهذا عقد جائز، وهو من العقود التي جرت في أيام الصحابة رضوان الله عليهم، فقد خرج غزو من المدينة إلى العراق وفيه عبد الله و عبيد الله ابنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو إذ ذاك أمير المؤمنين، فنزل هذا الغزو على أبي موسى الأشعري وهو والي عمر على الكوفة، فقال لـعبد الله و عبيد الله : عندي مال من بيت المال أريد أن توصلاه إلى أمير المؤمنين، فإن شئتما أقرضتكما هذا المال لتشتريا به بضائع العراق الرائجة فتبيعانها بالمدينة فتأخذا الربح وتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين، فقالا: لوددنا ذلك، فأعطاهما المال فاشتريا به بضائع العراق، فلما أتيا إلى المدينة باعا فأربحا، فلما سمع ذلك عمر وقد ردا إليه المال الذي أخذا من أبي موسى قال: أكل الجيش أسلف؟ قالا: لا، قال: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما، أديا المال وربحه، فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: يا أمير المؤمنين! أليس إذا هلك ضمناه؟ قال: أجل، قال: من عليه التوى فله النماء، لو تلف هذا المال لضمناه، ( والخراج بالضمان ) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فلما راجعهما في ذلك جمع عمر أهل الشورى من المهاجرين والأنصار فعرض عليهم هذه القضية، فقال عبد الرحمن بن عوف : اجعله قراضاً، فخذ نصف الربح واردد عليهما نصف الربح، فجعل عمر ذلك قراضاً، فأخذ عبد الله و عبيد الله نصف الربح، وأخذ عمر لبيت المال نصف الربح مع أصل المال، فكان هذا أول قراض عرف في الإسلام.
وكذلك إذا كانت الغلة ثمرةً كالنخل والعنب إعطاؤه لمن يخدمه ويستغله ويسقيه مقابل جزء من غلته هذا يسمى بالمساقاة، وهي عقد جائز، وقد عقد عليه النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود في خيبر بشرط أن يخرجهم متى شاء، فأعطاهم نصف الثمار، ونصف الثمار للمسلمين، فالأرض للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، والنخل الذي فيها للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، واليهود أجراء يعملون فيها بنصف الغلة، فهذا النوع هو المساقاة وهو من العقود الجائزة، ومثلها المزارعة، وهي أن تسلم أرضاً ليس فيها نخل ولا نبات لمن يزرع فيها على جزء من الغلة على أنه سيزرع فيها فيرد إليك جزءاً من غلتها، وهذه المسألة اختلف فيها، فقالت طائفة: هي المخابرة التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي إيجار الأرض ببعض ما تنتجه، وهذا الآن حاصل في كثير من أصحاب المزارع على ضفاف الأنهار، فإن كثيراً منهم لا يستطيعون استغلال أراضيهم بأنفسهم، فيؤجرونها لمن يزرعها على جزء من ريعها وغلتها، والأفضل والأحوط أن يؤجرونها بمبلغ من المال ولا يبالون بما يخرج من الأرض؛ لأن الأرض قد يخرج منها شيء وقد لا يخرج منها، فيؤجرونها بمبلغ من المال معين، ولا يبالون بعد ذلك بريعها وغلتها، فهذا الذي لا لبس فيه ولا إشكال.
فهذه إذاً هي عقود المعاوضات وليست محصورةً في هذه العقود، بل هي مفتوحة إلى الأبد، وكلما يتجدد منها إذا توافرت فيه الأركان والشروط التي سبقت في الدرس السابق فهو عقد صحيح معتبر شرعاً، ويترتب عليه أثره.
ثم بعد هذا القسم الثالث من أقسام العقود هو عقود التوثقات.
والتوثق المقصود به: حصول الثقة لمن له الدين فيمن عليه الدين، أو بعبارة أخرى: أن يثق من له الدين فيمن عليه الدين، فالديون في الأصل إنما يأخذها من يحتاج إليها، وإذا احتاج إليها وطلبها فلا بد لإعطائه الدين أن يكون محل ثقة لدى الدائن، وإذا لم يكن محل ثقة لديه لا يمكن أن يعطيه ماله، وقد سبق الكلام في الدين وبيان أحكامه وما يجوز منه وما لا يجوز، فلذلك يحتاج إلى التوثق فيه، ولهذا التوثق ثلاث صور شرعية:
الصورة الأولى: أن يكون في دفع مال يبقى تحت يد الدائن حتى يقضى دينه، وتكتب في وثائق، فيقال له: هذه وثائقها فخذ الوثائق، وضع يدك على هذه العقارات حتى أقضيك الدين فترد إلي عقاراتي وأملاكي، فهذا النوع هو الرهان المقبوضة، وقد ذكرها الله في كتابه في سورة البقرة فقال: وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، (مقبوضة) أي: يقبضها الدائن ثم يردها على صاحبها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يغلق الرهن )، أي: لا يستحق، ولا يؤخذ، بل يرد على صاحبه.
الصورة الثانية: عقد الضمان، وهذا الضمان المقصود به الحمالة، وهي تعزيز الذمة بذمة أخرى، أو هي: تعزيز ذمة من عليه الدين بذمة إنسان آخر.
فمثلاً: لو أن إنساناً جاءني ولا أعرفه أو لا أعرف وفاءه في الدين، فأريد أن أقضي حاجته، ولكني احتاج إلى التوثق لمالي فأطلب منه أن يأتي بشخص أثق به ليضمن عليه، فإذا لم يؤد هو الدين فإن الآخر سيؤديه، وهذا النوع هو الذي يسمى بالحمالة ويسمى بالضمان.
الصورة الثالثة: وهي ما تسمى بالكفالة، وتسمى ضمان الوجه، وهي أن يأتيني بضامن لا يضمن القضاء عنه يقول: أنا لن أقضي عنه شيئاً، لكن أتكفل لك أن آتيك به حياً أو ميتاً، عندما يحل الدين آتيك به حياً أو ميتاً، وإذا جاء به يحمله على نعشه وقد مات برئت ذمته؛ لأنه إنما تحمل بإحضاره وقد أحضره، فهذا النوع يسمى كفالةً، ويسمى ضمان الوجه.
وكذلك منه ضمان الطلب، وهو نوع آخر من أنواع الضمان، يقول: أنا لا أتعهد بقضاء الدين عنه ولا أتعهد بإحضاره، ولكني أتعهد بطلبه عندما يحل الأجل فسأتولى أنا طلبه وأبحث عنه، فهذا النوع مجرد طلب، ولا يتحمل إلا بمجرد الطلب. وفي عصرنا اليوم تطور الأمر فأنشئت مؤسسات خاصة لتقويم الذمم، ولم تصل بعد إلى عالمنا الإسلامي، ليست موجودةً في العالم العربي كله ولا في العالم الإسلامي، لكنها موجودة في أمريكا وفي أوروبا، وهذه المؤسسات أصل عقودها أن تكون هذه المؤسسة مستقلةً عن المؤسسات المالية والتجارية، فنشاطها مستقل تماماً، وهي بمثابة مكتب المحامي أو مكتب الموثق، وتتعاقد معها جهة التمويل، سواء كانت مؤسسةً ماليةً كالبنوك، أو كانت مؤسسةً تجارية، سواءً كانت صناعيةً تصنع السيارات والمعدات أو الطائرات والبواخر، أو كانت مؤسسةً تجاريةً مستوردة، فإذا أتاها أي طالب دين تحيله على هذه المؤسسة لتبحث كم تتحمل ذمته؟ وهذا البحث بسيط جداً، فهو باستمارة فيها عدد من الأسئلة: ما عمرك؟ كم سنك الآن؟ ونحن نعرف معدل العمر الموريتاني عادةً، فالرجال في موريتانيا متوسط أعمارهم ثمانية وخمسون سنة، والنساء متوسط أعمارهن في موريتانيا تسعة وخمسون سنة، هذه هي الدراسة المعروفة الآن لدى الديمغرافيين غالباً، فيقال: كم عمرك الآن؟ فيقول: عمري كذا بالتحديد والضبط، فيقال: هل لديك سوابق عدلية وخصومات في المحاكم؟ فيعرف هل لديه سوابق؟ لأن هذا يؤدي إلى الثأر، ويمكن أن يعتدي عليه إنسان بسبب تلك العداوة، ثم يسأل: ما هي أملاكك؟ وما راتبك؟ ومن أي جهة تتقاضاه؟ لتحصل الثقة به، ثم بعد ذلك يقال: كم عدد عيالك؟ وكم تنفق عليهم؟ ثم يقال: كم دينك؟ كم عليك من الديون الآن؟ ثم يقال: ما هي أمراضك والملفات الصحية المفتوحة لك؟ هل لديك مرض السكر؟ هل لديك مرض الضغط؟ هل لديك ضعف في أي نوع من أنواع المرض؟ لأن المرض مؤثر في إنتاجك وعملك، فيقومون شخصية الإنسان من كل جانب، ثم بعد هذا يكتبون تقريراً: فلان الفلاني المولود سنة كذا في مكان كذا تتحمل ذمته مليون دولار مثلاً أو مبلغ كذا وكذا بحسب ما يتحمله، وهذا العقد هو بمثابة عقد الفحص، وعقد الكشف عن الأمراض ونحو ذلك هو من العقود الجائزة، ويمكن الاعتماد عليه في عقود التوثقات. وبهذا نكون قد قسمنا العقود باعتبار زمنها إلى خمسة أقسام: إلى عقد ناجز، وعقد مؤجل، وعقد مضاف، وعقد معلق، وعقد مستمر.
وقسمناها باعتبار العاقدين إلى عقد صاحبه يملك المحل ويملك التصرف، وعقد صاحبه يملك التصرف ولا يملك المحل، وعقد صاحبه يملك المحل ولا يملك التصرف، وعقد صاحبه لا يملك التصرف ولا المحل.
وقسمناها باعتبار المعقود عليه إلى ثلاثة أقسام: إلى عقود تبرعات، وعقود معاوضات، وعقود توثقات، وبهذا نكون قد أتينا على المهم من تقسيمات العقود.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر