بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن طلب العلم من أعظم القربات التي يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى؛ فهو طريق إلى الجنة كما صح في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة )، وإن كثيراً من أوقاتنا تضيع ولا ندري في أي الكفتين تذهب، والوقت الذي يمضيه الإنسان في طلب علم أو التماسه هو وقت مبارك؛ لأنه يعلم أنه سائر إلى كفة حسناته قطعاً؛ خصوصاً إذا كان ذلك في مسجد من مساجد الله؛ فعمارتها بمجرد الجلوس فيها وانتظار الصلاة بعد الصلاة رباط في سبيل الله.
والرباط من أعظم الجهاد أجراً لما صح في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما من ميت إلا يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله؛ فإنه لا يختم على عمله ويأمن الفتان )؛ فالميت يختم على عمله لأن مدة التكليف هي هذا العمر اليسير الذي نحن فيه، ووقته ضيق جداً، وما لم يعمله الإنسان فيه لا يجده؛ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا[آل عمران:30]، والمرابط في سبيل الله لا يختم على عمله، فإذا جاء وقت كان يصلي فيه كتب من المصلين، وإذا جاء وقت كان يصوم فيه كتب من الصائمين، وإذا جاء وقت كان يتصدق فيه كتب من المتصدقين، (ويأمن الفتان) أي: يؤمنه الله تعالى من فتنة القبر أو من فتنة الموت فيأمن ذلك.
ولذلك فإن عمارة هذه المساجد والجلوس فيها وانتظار الصلاة بعد الصلاة، والتماس العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله، كل ذلك قربات تجتمع للإنسان، وعمارة المسجد إنما تتأتى بالنية التي تشمل عدة أمور:
النية الأولى: أن ينوي الإنسان أولاً أنه ضيف على الرحمن جل جلاله بجلوسه هنا، فأنتم تعرفون أن الكريم إذا زاره الضيوف لا شك أنهم يتعرضون للإكرام، والملك الديان سبحانه وتعالى هو أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، وهو يدعو لزيارة بيته فيكرم الزائرين، وأقل ما يرجونه من الإكرام مغفرة سيئاتهم؛ فإن الملائكة يحفونهم ويرتفعون إلى ربهم، وفي نهاية ما يقدمونه يقول: ( أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقول ملك: يا رب! فيهم عبدك فلان، ليس منهم إنما جاء لحاجته! فيقول: هم القوم -أو هم الرهط- لا يشقى بهم جليسهم ).
النية الثانية: حبس الإنسان جوارحه عن المعصية؛ فالإنسان ما دام في المسجد هنا لا يتعرض للمعاصي فهو مرابط؛ لأنه حبس جوارحه جميعاً عن المعاصي، لا تقع عينه على المعصية ولا يسمعها ولا يتحدث بها؛ فجوارحه هنا قد ملكها، وأنتم دائماً تسألون الله تعالى أن يملككم أنفسكم بخير؛ كما في الدعاء: اللهم ملكنا أنفسنا بخير، ولا تسلطها علينا بشر، والإنسان بجلوسه في المسجد قد ملك نفسه بخير؛ لأن جوارحه مشغولة بالطاعة.
النية الثالثة: هي التماس العلم، لما أخرج مالك في الموطأ عن أبي بكر بن عبد الرحمن : ( من خرج إلى المسجد، لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانماً ).
النية الرابعة: هي التعرف على الملائكة الذين يعرفون الناس ويكتبون أسماءهم على أبواب المساجد؛ الأول فالأول، وهو من التعرف على الله في الرخاء؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في نصيحته لـابن عباس ، وهي نصيحة للأمة كلها: ( تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة )، والملائكة يحصون الناس على أبواب المساجد الأول فالأول، ويصلون على ميامن الصفوف، وهم يدعون لأولئك الذين عرفوهم بالخير، وأنتم تعرفون أن دعاءهم مستجاب عند الله تعالى، ما منكم أحد الآن إلا وهو يرضى إذا دعا له أخوه المسلم بدعاء صالح؛ لأنه يعلم أنه مظنة الإجابة؛ فكيف بدعاء الملائكة! الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[غافر:7-9]؛ ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الملائكة لتصلي على أحدكم وهو في مصلاه الذي صلى فيه: اللهم اغفر له.. اللهم ارحمه، ما لم يحدث )، فالمكان الذي جلس فيه الإنسان يبقى بعد صلاته فيه لأنه يتعرض لدعاء الملائكة، حيث يقولون: اللهم اغفر له.. اللهم ارحمه، ونحن نسرف آناء الليل وأطراف النهار، ونحتاج إلى تكفير السيئات، ومن أعظم ما نرجوه لتكفيرها دعاء الملائكة لنا؛ فهو دعاء مستجاب لا يرد.
النية الخامسة من النيات التي ينويها الإنسان بمرابطته في المسجد أيضاً: تكثير سواد المسلمين؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أم عطية في الصحيحين: ( كان في صلاة العيد يأمر بإخراج العواتق والحيض وربات الخدور يشهدن الخير ويكثرن سواد المسلمين )؛ فتكثير سواد المسلمين مقصد شرعي، وهو زيادة في درجة النبي صلى الله عليه وسلم وتكثير لأتباعه، وهذا ما كان يحبه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، وأنتم تحبون إدخال السرور على النبي صلى الله عليه وسلم، ومما يدخل السرور عليه تكثير سواد المسلمين في المساجد؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من نبي بعثه الله قبلي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي؛ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة )، فهو يرجو كثرة الأتباع.
النية السادسة التي ينويها الإنسان في مرابطته في المسجد: هي التعرف على إخوانه المسلمين؛ فلهم حقوق عظيمة عليه، وهذه الحقوق أقلها هو مجرد مجالستهم ومجاورتهم؛ فالمجالسة في الله سبحانه وتعالى سبب لمحبته وظله يوم القيامة؛ كما أخرج مسلم في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: ( يقول الله تعالى يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي )، ويقول كما أخرج مسلم في الصحيح كذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يقول الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتزاورين في والمتباذلين في )؛ فأمر عظيم جداً أن يجالس الإنسان إخوانه المؤمنين، وهو علاج لنفسه أولاً؛ فالإنسان عرضة للكبر والعجب ولكثير من الطغيان؛ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى[العلق:6-7]، فإذا جلس بين إخوانه المؤمنين وعلم أنه منهم، وهو يرجو أن يبعث بين ظهرانيهم وأن يكون مع المؤمنين في المحيا وأن يكون معهم في الممات وأن يكون معهم في البعث، يجلس الغني بين الفقراء والكبير بين الصغار والقوي بين الضعفاء، وبهذا تتم الألفة وتزول الكلفة بين المسلمين، وهذا تحقيق للأخوة التي أمرنا الله بتحقيقها؛ ومن هنا فإن مخالطة الإنسان لإخوانه المؤمنين في المسجد انتصار على نفسه وتعويد لها على الصبر، وفيها من الأجر العظيم والخير الكثير ما لا يمكن أن يخطر على بال.
النية السابعة من النيات التي ينبغي أن تخطر على بال الإنسان في وقت مرابطته في المسجد: أنه الآن عرضة لاستجابة الدعاء؛ فهذا الحشد الكبير من المسلمين لا يمكن أن يرفعوا أيدي الضراعة إلى الله إلا استجاب لهم؛ لأنه لا بد أن يكون فيهم مجاب، يستجاب دعاؤه، فشهود الإنسان معهم تعرض لإجابة دعائه، وهو محتاج إلى ذلك لا شك؛ فما منا أحد يحب أن ترد حاجته لدى مسئول من المسئولين أو شخص من الأشخاص المعروفين في الحياة الدنيا؛ فكيف برد حاجته عند الملك الديان! نحن محتاجون إلى أن تقبل حوائجنا عند الله تعالى، ومن التعرض لذلك الاشتراك في مثل هذه الجموع العظيمة، التي فيها دعاء المذلة والضراعة إلى الله تعالى ورفع الأكف إليه، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، وهذا الحشد الكبير من المسلمين لا بد أن يكون فيهم مجابون؛ فيستجيب الله تعالى دعاءهم في البقية، ويهب المسيئين للمحسنين.
كذلك فإن اجتماعنا في المساجد لتعلم أمور ديننا هو مما تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المحجة البيضاء التي تركنا عليها صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان الناس يجتمعون عليه في المسجد يعلمهم مما علمه الله، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره: ( أنه تقدم إلى الصلاة وأقيمت الصلاة، فجاء أعرابي فوقف أمام الصف فقال: يا رسول الله! علمني مما علمك الله؛ فانفتل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده على منكبه وعلمه ساعة والناس ينتظرون في مصافهم، ثم عاد إلى مكانه فأحرم فصلى بالناس )؛ فلذلك نتذكر أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ومجالسه فيكون هذا اتصالاً روحياً بالنبي صلى الله عليه وسلم كأننا معه في مجلسه؛ ولذلك قال ابن الأعرابي رحمه الله: (من كان في بيته كتاب الترمذي فكأنما في بيته نبي يتكلم) أي: إن سماع كلام النبي صلى الله عليه وسلم والمجالس التي يذكر فيها وتكثر فيها الصلاة عليه هي مما ينور الله به البصائر والقلوب، ونحن محتاجون إلى تنوير بصائرنا للفهم عن الله تعالى والإقبال عليه؛ فإن هذه الدنيا دار غرور، والناس مشغولون فيها منغمسون في أمورها، والانعماس فيها يؤدي إلى قسوة القلب ويؤدي إلى إكثار الكلام في الهذر، وإكثار الكلام في الهذر إنما هو رسالة يوجهها الإنسان إلى ربه سبحانه وتعالى، رسالة يكتبها ويضعها في البريد الأمين، يسلمها إلى الملائكة الكرام الكاتبين ليؤدوها إلى الله سبحانه وتعالى، وفيها شغل للملائكة الكرام الكاتبين بما لا خير فيه؛ فأنتم تعرفون أن من تقدم الآن وشغل الناس عن الدرس فإنه صاحب جريمة عظيمة؛ فكيف بالذي يشغل الملائكة الكرام الكاتبين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون؟! كيف بمن يشغلهم بما لا خير فيه؟! فهذا كلنا محتاجون جداً إلى الساعات التي نمضيها ولم يكتب علينا الملائكة هذراً ولا لغواً، وجلوس الإنسان في استماعه إلى الدرس سيمسك فيه لسانه إلا من خير؛ وبذلك يكون قد أعان نفسه على إمساكها عن الهذر؛ فيتعود على الصمت إلا من ذكر، وتعرفون أن مالكاً أخرج في الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه بلغه: (أن عيسى بن مريم كان يقول: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلىً ومعافىً؛ فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية)؛ فلذلك علينا أن نشكر نعمة الله تعالى إذ أذن لنا بدخول بيته وإذ لم يشغلنا بالمعصية، فالذين شغلوا بالمعصية ما شغلوا بها إلا بعلم الله تعالى بذلك، فالله تعالى لا يعصى إلا بعلمه ولا يطاع إلا بإذنه؛ ومن هنا فإنه أذن لكم بالجلوس في بيته، وسماع كلامه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، والتماس بعض أحكام دينكم التي تتقربون إلى الله سبحانه وتعالى بتعلمها، ثم تتقربون إليه بالعمل بها بعد أن تعلمتموها، وهذه نعمة عظيمة تستحق الشكر؛ فعلينا أن نشكرها لله حين لم يجعلنا من المعرضين الكافرين، ولا من الفساق الفاجرين، ولا من أهل الغفلة المعرضين؛ بل جعلنا من الذين يجيبون نداء الله إذا سمعوا: حي على الصلاة.. حي على الفلاح، ويأتون مقبلين على الله سبحانه وتعالى، يلتمسون ما عنده ويرجون ثوابه ويخافون عقابه، نعمة عظيمة جداً خصنا الله بها فلا بد من ذكرها وشكرها لله تعالى.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وقد اختار الإخوة أن تكون الحلقة في هذه الليلة إجابة لبعض الأسئلة الماضية، وقد كنا نعتذر عنها لأن الوقت لم يكن يكفي لأجابتها، ولعلها إن شاء الله تعالى تكفي أو تسد بعض رغبات بعض الحاضرين؛ لأن السؤال الذي يوجهه الإنسان دائماً هو مشاركة في العلم، فمجرد كتابة الإنسان لسؤال هو مشاركة في العلم، سواءً أجيب أو لم يجب، وبذلك يكون فعلاً قد سلك طريقاً يلتمس فيه علماً.
السؤال: ما حكم الربح من بضاعة لم تدخل ذمة المستفيد، علماً بأن صاحبها الأول مرخص له بذلك؟
الجواب: البضاعة تنقسم قسمين: إلى طعام وغيره، والطعام هو الذي عرفه الفقهاء بأنه ما يؤكل شهوة وتفكهاً؛ كما قال محمد مولود رحمه الله:
وكلما تأكله تفكهاً وشهوة فهو طعام الفقها
أي: هو الطعام عند الفقهاء.
وما ليس طعاماً هو النوع الثاني من أنواع البضائع؛ فالبضائع التي هي من جنس الطعام لا يحل للإنسان أن يبيعها إذا اشتراها ما لم يحزها؛ لما صح عن النبي أنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه، وثبت في ذلك ثمانية أحاديث صحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، وفيها النهي عن بيعه حتى يجري فيه الصاعان، أي: صاع البائع وصاع المشتري، وكذلك حتى يحوزه التجار إلى رحالهم، وفي هذا حكمة شرعية عجيبة، وهي: أن الله تعالى لم يرد أن يكون المال دولة بين الأغنياء ويحرم منه الفقراء؛ فالفقراء لهم حظ فيه، فإذا كان الإنسان يشتري مثلاً مائة طن من السكر أو من الأرز ويبيعها وهي في مكانها في مخازنها، لا تخرج إلى الشارع ولا يراها الفقراء فإن المال سيكون دولة بين الأغنياء فقط، ممن لديه السيولة يشتريها ويبيعها، وهي في مخازن المستورد الذي أتى بها، لكن إذا أخرجت فإن صاحب العقار يستأجر من عنده العقار لتخزينها، وصاحب السيارة تستأجر من عنده للشحن، والعامل البسيط يستأجر أيضاً لحملها وإنزالها، وحتى رؤيتها في الشارع، رؤية المواد الغذائية في الشارع مما يؤدي إلى الاستقرار وطمأنينة الناس أن الأرزاق موجودة متوافرة، فهذه من حكم الشارع في هذا.
أما غير الطعام فهو محل خلاف بين أهل العلم: هل يلحق بالطعام أم لا؟ فمذهب أبي حنيفة رحمه الله أن كل شيء مثل الطعام، واستدل بما أخرجه البخاري في الصحيح أن ابن عباس رضي الله عنهما وهو راوي هذا الحديث قال: (ولا أرى كل شيء إلا مثل الطعام) وهذا قياس من ابن عباس وقد عمل به أبو حنيفة رحمه الله؛ لكن مذهب الجمهور اختصاص ذلك بالطعام، وذكروا أن الأحاديث التي جاء فيها النهي عن بيع الإنسان لما اشتراه ما لم يحزه بالإطلاق تحمل على التقييد، المطلق فيها يحمل على المقيد، وعلى هذا فالطعام وحده لا يحل الربح منه بالصورة المسئول عنها، لا يحل للإنسان أن يبيعه قبل أن يحوزه، والحيازة لا يكفي فيها ما يفعله بعض الناس من أن يضع عليه علامة أو أن يحدده في المخزن لدى المشترى منه، فهذا لا يكفي؛ بل لا بد أن ينقله من مكانه حتى يتكلف فيه تكلفة.
وأما غير الطعام كالإسمنت أو الحديد أو غير ذلك من المواد والبضائع فهذه إذا اشتراها الإنسان ووجد فيها ربحاً فوق ما اشتراها به وهي في مكانها يجوز له أن يبيعها في مكانها عند جمهور أهل العلم خلافاً للحنيفة وحدهم، وعلى هذا فينظر إلى المادة نفسها إذا كانت طعاماً لم يجز بيعها قبل قبضها واستلامها، وإذا كانت غير طعام جاز بيعها.
وهنا لا بد من التنبيه إلى أن القبض يختلف باختلاف المواد نفسها؛ فالمواد المجلوبة من الخارج إذا كانت في الشحن على ذمة المشتري - وهو المورد - فأنت اشتريت البضائع من إسبانيا مثلاً وشحنتها في الحاوية في البحر، فكانت في ضمانك أنت فيجوز لك بيعها حينئذٍ لأنك قد نقلتها وصارت في ذمتك، أما إذا كان البائع هو الذي يتولى ضمانها حتى تصل إلى الميناء المحلي فلا يجوز بيعها قبل قبضها من الميناء المحلي، وعادة أهل البلد هنا أن المواد تدخل في ضمان المشتري بمجرد استلامها في ميناء التوريد، أي: في الميناء الأول الذي تشحن منه، وكذلك الشحن في الطائرات ونحوه، ومثل هذا الشحن في السيارات كمن كان في الداخل مثلاً له محل تجاري في النعمة أو في كيفة، واشترى المواد من هنا وشحنها في السيارة وانطلقت إلى مكانه ولم تصل بعد فيجوز له بيع تلك البضائع؛ لأنها عنده وهي في ضمانه، وقد شحنها من مكانها ودخلت في ضمانه، أما إذا كان صاحب البضاعة هو الذي يحملها ويؤدها إليه فلا يحل له بيعها قبل أن تصل إليه وتدخل في ضمانه هو؛ فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن.
ولا عبرة بترخيص البائع في ذلك؛ لأنك أنت قد اشتريت منه ودخلت في ملكك أنت، وتورث عنك إذا مت، وهي في ضمانك.
السؤال: جماعة من ملاك سيارات النقل الكبيرة يتفقون مع خبير في تصليح السيارات، فيدفعون له مبلغاً شهرياً عن كل سيارة؛ فإذا لم تتعطل السيارة لا ينقصونه، وإذا تعطلت السيارة تعطلاً كبيراً وأمضى الخبير وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً في تصليحها لا يزيدونه على ذلك المبلغ، فما حكم هذا العقد؟
الجواب: هذا العقد هو الذي يسمى في عرف القانونيين اليوم بـ(عقد الصيانة) وعقود الصيانة منها ما يتعلق بالمباني ومنها ما يتعلق بالأجهزة والسيارات والطائرات والباخرات، ومنها ما يتعلق بالشوارع والطرق ونحوها، وقد اصطلح في عرف أهل اليوم على أن عقود الصيانة لا بد فيها من تحديد، أي: أن يحدد مدى ضمان الصائن، فمثلاً إذا كان عقد الصيانة على سيارة فتعطلت ماكنتها بالكلية، كأن تكون انكسرت، فحينئذٍ لا يدخل هذا في ضمان الصائن في العرف في عادة الناس، وكذلك إذا كان عقد الصيانة يتعلق بجهاز كمبيوتر فاحترق الرام مثلاً أو تعطل الهارد دسك بحيث لا يستطيع أن يعيده فهذا الجهاز لم يعد صالحاً للصيانة فلا يدخل هذا في ضمان الصائن، إنما يكون ذلك في القطع المعتادة التي يكثر تعطلها واستبدالها.
وهذا العقد فيه لا شك غرر واضح جداً، وهو أن المؤمن عليه قد يتعطل وقد لا يتعطل كما ذكر في السؤال عن السيارة؛ لكن هذا الغرر إن كان يسيراً بأن كثر التعطل في الأمر فيكون ذلك مغتفراً، ومن هنا: فعقود الصيانة التي تجرى اليوم منها ما هو مباح ومنها ما هو محرم؛ فالمباح منها ما إذا كان الإنسان له عقارات مثلاً، ويعلم أنه في كل فترة يحتاج إلى تجديد الأصباغ؛ لأن هذه الأصباغ لها مدة معينة في الرطوبة وتبادل الحرارة والبرد فلا بد أن تزول، ويحتاج المبنى إلى صيانة لإزالة الأصباغ الموجودة وإعادتها من جديد، وكذلك الأبواب والنوافذ، ومثل ذلك المكيفات الهوائية، ونحوها من الأمور التي يحتاج فيها إلى صيانة دورية.
والذي ينفق على الصيانة في مثل هذه الأمور معروف عادة ومدة بقائها معروفة في كثير من البلدان عرفوا أن صيانة المباني الكبيرة إنما هي في كل ستة أشهر مثلاً؛ فهذا النوع إذا كان معروفاً فهو من الأمور الجائزة والغرر الذي فيه مغتفر، كالغرر الذي هو في عقد البناء أصلاً؛ فعقد البناء أليس (البلوك) الذي يبنى به يتفاوت القدر الذي يوضع فيه من المحار والقدر الذي يوضع فيه من الأسمنت ولا يستطيع الإنسان ضبط ذلك؟ فلذلك يعفى عن هذا النوع من الغرر اليسير، ومثل ذلك تعطل السيارات.. فالسيارات إذا كانت لمصالح حكومية أو نحو ذلك، وكان تعطلها تابعاً لأعمالها فمن المعلوم أن هذه السيارة تؤدي الخدمة الفلانية وتقطع في كل شهر كذا وكذا من الأميال، ومن المعلوم أن هذه الأميال، وهذه الخدمة المعينة يحتاج فيها إلى صيانة محددة وهي تبديل الزيوت كلما قطعت ثلاثة آلاف كيلو متر أو أربعة آلاف كيلو متر، وهي محددة، ومن المعلوم متى تقطع هذا العدد من الأميال، فإذا قطعت هذا العدد من الأميال تبدل عنها الزيوت، وفي التبديل الثاني تبدل أيضاً المصافي الصغيرة، مصفاة الزيت ومصفاة البنزين؛ فإذا كانت مثلاً تعمل بالديزل لا بد من إبدال المصافي كلها في التبديل الثاني للزيوت، فهذا النوع من المعروف عرفاً ويجوز عقد الصيانة عليه.
أما ما يتعلق بإصلاح الماكنات وإصلاح السرعة أو نحو ذلك؛ فمثل هذا النوع لا يدخل في عقد الصيانة لأنه من الغرر؛ لأن السيارة قد تعمر ولا تحتاج إليه، وقد تحتاج إليه نظراً لمخالفة يقع فيها السائق؛ فلذلك لا بد من حد عقد الصيانة بحدود تمنع الغرر الفاحش، أما الغرر اليسير فمعفو عنه في مثل هذا النوع، وقد وضعت في عقد الصيانة عدة ضوابط يمكن الرجوع إليها، وهذه الضوابط منها:
أولاً: تجنب الغرر الفاحش، ومنها: الضبط الزماني، ومنها: الضبط المكاني، بتحديده، وهذه الضوابط لا بد من مراجعتها حتى يكون العقد منضبطاً، والناس اليوم يقدمون على عقود عجيبةً جداً فيها من الغرر الشيء الكثير جداً، فيكون عقد الصيانة إنما هو من أكل مال الناس بالباطل؛ فأنت تدفع مالاً على إصلاح سيارتك ولم تحتج إلى الإصلاح أصلاً؛ فهذا النوع من العقود التي فيها التعرض لمثل هذه الدرجة من الغرر حرام، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر، وأكل مال الناس بالباطل حرام؛ فلذلك لا بد أن يكون العقد مضبوطاً بضوابط واضحة تقلل نسبة الغرر فيه.
وهنا التنبيه إلى أمر وهو أن المصانع وأصحاب السيارات ومثل ذلك أيضاً المصالح الحكومية التي تصلح الطرق أو المباني تعرف في العادة ما يحتاج إليه للصيانة، والدليل على ذلك أنها تضع بنداً في الميزانية مخصوصاً بالصيانة، كل مصلحة حكومية أو كل شركة تعرف ما يحتاج إليه في الصيانة فتضع له بنداً مخصصاً من الميزانية بحسب توقع أهل الخبرة، نحن نعلم أنه قد لا يتقيد بالصرف في البنود، قد يؤخذ من بند لآخر، لكن من المعلوم أن التقدير في الأصل إنما كان على أساس الخبرة، وإذا كان على أساس خبرة اقتضى ذلك نفي الجهالة المحظورة شرعاً؛ لأن المحظور شرعاً هو الغرر الذي سببه الجهالة، فإذا كان هناك تقدير علمي مبناه على عادة وتجربة فهذا كاف في نفي الغرر وإباحة هذا العقد.
السؤال: هل يجوز (سلم) النقد المحلي بالدولار مثلاً أم لا؟
الجواب: لا يجوز ذلك؛ لأن النقود كلها كما سبق ليست من السلع، وإنما هي عين، أي: أثمان؛ ولذلك لا يحل سلم بعضها في بعض؛ بل لا يجوز صرفها إلا يداً بيد، وإنما يجوز فقط التبادل فيها عن طريق السفتجة أو عن طريق القرض، هذا التبادل بالنسيئة إنما يتم عن طريق السفتجة أو عن طريق القرض، فالسفتجة: عقد هو في الأصل من عقود الائتمان -أي: عقود الودائع- وليس من عقود الصرف، فأنت ستسافر لشراء البضاعة من هونغ كونغ أو من بانكوك، وليس لديك نقود هناك ولا تستطيع حملها معك، فتأتي التاجر الذي له نقود في حسابه في المحل الذي أنت مسافر إليه، فتدفع إليه نقودك المحلية وتقول: خذ عشرين مليون من الأوقية، وأريد أن تنقلها إلى بانكوك أو إلى هونغ كونغ، ويكتب لك إلى وكيله أو يعطيك شيكاً مصدقاً لسحبه بمقابل ذلك وهو لا يربح في الصرف وإنما يربح في عملية التحويل.
وهنا لا بد أن نميز بين الأمرين؛ فالخدمة التي يقدمها بنقل المال من هنا إلى بانكوك خدمة معقولة مقبولة شرعاً ويستحق في مقابلها أجرة؛ كما لو سلمت إليه صندوقاً وقلت: انقل لي هذا الصندوق إلى بانكوك، أليس يستحق عليه أجرة؟ فكذلك النقود إذا سلمتها إليه هنا ونقلها إليك هناك لا شك أنه سيبدلها ويحولها إلى النقد المحلي الذي يصرفه في الخارج إلى نقود تصرف في الخارج وتتفقان على تلك النقود، إذا كنت باليورو فاليورو وإذا كنت تريد الين الياباني فالياباني وإذا كنت تريد الجنيه الإسترليني ينقلها إلى باوندو، وإذا كنت تريد الدولار الأمريكي ينقلها إلى دولار، لكن المهم أنه لا يربح في قضية الصرف، إنما يربح في قضية النقل؛ فهو يأخذ مقابل النقل ولا يأخذ ربحاً مقابل الصرف؛ فهذا النوع يسمى عقد السفتجة، وهي كلمة في الأصل تركية، وقد عربت؛ فأصلها (سفتج) باللغة التركية، ولكنها عربت، نقلها الفقهاء إلى اللغة العربية، وقد أفتى بها عبد الله بن العباس رضي الله عنهما واتفق العلماء بعد ذلك عليها، والمالكية يشترطون فيها إن عم الخوف -أي: إن كان الإنسان يخاف على ماله- ومن المعلوم أن الخوف اليوم عم؛ فلا يستطيع الإنسان أن يحمل -وبالأخص إذا كان سيمر في ترانزيت بمطار أو مطارين- لا يمكن أن يحمل معه نقوداً كبيرة؛ فهذا من تعريض نفسه للخطر، وليس فقط من تعريض ماله للخطر، وبالأخص إذا كان يعلم أن ذلك ممنوع في قوانين كثير من البلدان، والطائرات تمنع نقل مثل هذه المواد فيها؛ لأنها يحتاج فيها إلى تأمين خاص، إذا كنت ستنقل مواد ثمينة كحلي أو ذهب أو نحو ذلك فلا بد فيه من تأمين خاص عن شركة التأمين، وبذلك لو نقلته تستكتمه وهو في الشنطة التي تحملها مثلاً؛ فهذا أيضاً يعرضك لمشكلة مع الناقل؛ لأنه ممنوع في عرف النقل أن يحمل مثل هذا النوع من المواد إلا بإعلان الناقل به ويكون مؤمناً عليه؛ فلذلك لا بد من عقد السفتجة في مثل هذا الحال.
والصورة الثانية المباحة هي القرض، وهي إذا كنت أنت تعمل في الخارج مثلاً وتنتج، ويحتاج أهلك إلى نفقة هنا في البلد فتسلم نقودك إلى التاجر في الخارج وقل له: حول لي هذه النقود إلى أهلي، بمعنى: أنك تقرضه هذه النقود وهو يعوضها لأهلك بالعملة المحلية، فهذا النوع ليس من عقد الصرف وإنما هو من عقد القرض؛ فإذا كان البادئ بالدفع صاحب العملة الصعبة فهذا من حسن الاقتضاء، وإذا كان البادئ بالدفع صاحب العملة السهلة فهذا من حسن القضاء، وكلاهما مطلوبان في القرض؛ فالقرض يطلب فيه حسن القضاء وحسن الاقتضاء؛ فحسن القضاء أن تدفع أحسن مما أخذت، وحسن الاقتضاء أن تتغاضى فتأخذ أدنى مما أخذت من ناحية القيمة والنوع، وقد صح في حديث أبي رافع رضي الله عنه في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بقضاء ثني كان أخذه قرضاً؛ فقال: لا أجد إلا رباعاً خياراً؛ فقال: اعطه فإن خيركم خيركم قضاءً )، فالنبي صلى الله عليه وسلم قضى ثنياً برباع، وهذا يدل على جواز مثل هذا النوع من المعاملات.
السؤال: هل يجوز شراء الدولار بالعملة المحلية مؤخراً؟
الجواب: لا يجوز ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد )؛ لكن ما الذي تريده أصلاً من هذا العقد؟ الذي تريده له بديل شرعي؛ فالبديل الشرعي لمثل هذا النوع أنك إذا كنت ترغب في الحصول على الدولار إما أن تكون راغباً فيه هنا وإما أن تكون راغباً فيه في الخارج، فإذا كنت ترغب فيه هنا فالبديل هو أن تودع نقودك عند صاحب الدولار الذي يملكه حتى إذا تم الثمن تبايعتما بعد حصول الثمن، وإذا كنت تريدها في الخارج فعن طريق السفتجة التي ذكرناها.
السؤال: ما هو تعريف ابن عرفة للنكاح؟
الجواب: ابن عرفة رحمه الله عرف النكاح بأنه: عقد معاوضة على متعة اللذة بآدمية غير موجب قيمتها وغير عالم عاقدها حرمتها إن حرمها الكتاب على المشهور أو الإجماع على الآخر.
السؤال: رجل له أخت زوجها فقير، هل يمكن أن يدفع إليهما الزكاة؟
الجواب: نعم، إذا كان هو لا يصون بذلك ماله؛ بل لا ينقص ذلك ما كان يقدمه لها هي من المواساة فيجوز له أن يدفع إليها الزكاة، لكن الزكاة ليست ملكاً للإنسان، لا بد أن نتذكر يا إخواني! أن الزكاة ملك لله تعالى قد استثناه مما أعطاك؛ فما أعطاك الله من المال استثنى منه هذا الجزء الذي هو الزكاة؛ فلم يجعل لك سلطة عليه وبالتالي لا يستطيع أن تصون بها عرْضاً ولا أن تصون بها عرَضاً ولا أن تخصص بها الأقارب؛ فكونهم أقارب لك لا يجعلهم ذلك أقرب حقاً في بيت المال؛ فهو ملك عام للمسلمين، لا يختص به أقاربك أنت منهم، ومن هنا فإن كثيراً من الناس يظن أن الزكاة ينبغي أن يخصص بها الأقارب أو أن يصان به العرض أو نحو ذلك؛ فلا تكون زكاة مؤدية للواجب الشرعي؛ بل الزكاة حظ استثناه الله تعالى من المال وجعله في مصارف محددة، لم يكلها إلى نبي مرسل ولا إلى ملك مقرب، وقسمها في كتابه فقال: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ[التوبة:60]، فهي فريضة من الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك فإن مؤديها طيبة بها نفسه يتعرض إلى رحمات الله كما قال الله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ[الأعراف:156]، ومانعها يتعرض إلى سخط الله وهو متوعد بالويل الشديد؛ كما قال الله تعالى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ[فصلت:6-7]؛ فلذلك لا بد أن يؤديها الإنسان طيبة بها نفسه، وألا يصون بها عرْضاً وعرَضاً، وألا يخصص بها أقاربه، ومع ذلك فإنها يجزئ دفعها إلى الأقارب إن كان الإنسان لا يخصصهم، مثلما إذا كان سيدفع إليهم صلة أو مواساة يدفعها خارج ما يعطيهم من الزكاة، يقول: هذا زكاة، وهذا حظكم من صلتي أنا أو مواساتي، ولا ينقص ما يدفع إليهم من المواساة في مقابل ما يعطيهم من الزكاة؛ لأن ما يعطيهم من الزكاة ليس عن طريقه هو.
السؤال: هذا يقول: من يعطي مبالغ من النقود لمن يتجر بها فيعطيك ربع الربح، هل هذا جائز أم لا؟
الجواب: إذا كان ذلك على وجه المضاربة والقراض بأن لم يكن فيه ضمان لا لرأس المال ولا للربح فهو عقد جائز؛ فالقراض هو أن تدفع مالاً لمن يتجر به على جزء من ربحه، تدفع نقوداً لإنسان فتقول: خذ هذا المليون اتجر به والربح بيننا، سواءً حددتما ذلك بالنصف أو بغيره، إذا قلت: خمسة وسبعين بالمائة من الربح لي أنا وخمسة وعشرين لك أنت فلا حرج، وإذا قلت: خمسين بالمائة من الربح لي أنا وخمسين بالمائة من الربح لك أنت فلا حرج، المهم ما حصل عليه الاتفاق والتراضي، فيعمل هو فإذا ربح فالحمد لله يأخذ نسبته من الربح ويسدد إليك رأس مالك وما زاد من الربح، وإذا خسر فانتقص رأس المال فليس عليه أي ضمان إلا إذا كان فرط فسعى في التلف، أما إذا لم يفرط فلا ضمان عليه، ويرد إليك ما بقي من رأس مالك، فأنت خسرت جزءاً من رأس مالك وهو خسر عمله فقد عمل ستة أشهر ولم ينل شيئاً، وأنت خسرت جزءاً من رأس مالك، والأمر كله بقدر الله وقضائه، وعلى الإنسان أن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، رفعت الأقلام وجفت الصحف؛ ولذلك فإن الإنسان قد يبذل جهداً جهيداً وعملاً شاقاً في الوصول إلى ربح فلا يناله، وقد لا يتكلف أية تكاليف فينال ربحاً لم يكن يتوقعه، كل ذلك بقسمة الله تعالى وتدبيره.
وكثير من الناس يظنون أنهم يجوز لهم أن يحتالوا على القراض؛ فيضمنون رأس المال أو يضمنون معه الربح فيدفعوا مالاً لإنسان ويقول: على أن تربحني في كل مليون مثلاً خمسة بالمائة أو عشرة بالمائة، وهذا النوع حرام إجماعاً؛ لأن الإنسان به ليس مضارباً ولا مقارضاً، إنما هو مقرض، أي: دفع قرضاً إلى الإنسان واستعاده بزيادة، فهو قرض بزيادة، والقرض بالزيادة رباً إجماعاً؛ فلذلك لا بد من الحذر من مثل هذا النوع من الصفقات التي يدفع فيها الإنسان مالاً لآخر ليعمل به على ضمان لرأس المال وضمان للربح أيضاً، فهذا حرام.
السؤال: العامل الذي يعمل في المنزل وراتبه على الشهر إذا خرج فهل له حق أم لا؟
الجواب: العامل إذا استأجره الإنسان مدة من الزمن محددة، سواءً حددت بالقول أو حددت بالعرف -ومن المعلوم أن عرف أهل بلادنا أن العامل يستأجر لمدة شهر- فإنه إذا بدأ العمل معك ولم يفسد فيه شيئاً، وكان عمله على الوصف المطلوب فقد استحق أجرته لذلك الشهر الكامل، وإذا توقف في الأثناء فتعطل هو بسبب مرض أو مرض بعض أهله أو حاجة له اقتضت منه الاستئذان فلا يستحق إلا أجرة ما عمل من ذلك الشهر، لكن إذا استغنيت أنت عن خدمته وانتقلت من هذا المكان ولم تعد تحتاج إلى خدمة العامل فلا بد أن تؤدي إليه أجرة شهر كامل؛ ولذلك قال خليل رحمه الله: (ولزم الكراء بالتمكن) فمن استأجر بيتاً من البيوت مثلاً، والبيوت من المعلوم أنها تستأجر لمدة شهر؛ فاستأجر شقة بمبلغ محدد خمسة وثلاثين ألف أوقية، ومكث فيها أسبوعاً فقط ثم بدا له أن ينتقل عن هذا المكان، فتجب الأجرة كاملة لربها، وللمستأجر أن يسكن فيها ما شاء من بقية الشهر؛ لأن المستأجر ملك هذه الشقة لمدة شهر وملك صاحب الشقة أجرتها؛ فلذلك لا بد من مراعاة هذه القاعدة وهي: لزم الكلاء بالتمكن. ومعناها: أن هذا العقد إذا تم فإن الأجرة تلزم بمجرد التمكن، ولو لم تأخذ جميع ما استأجرتها له.
وهنا التنبيه على أمر أيضاً يحتاج إليه، وهو أن المستأجر يجوز إيجاره فيما يسمى في القانون بـ(الإيجار من الباطن) والإيجار من الباطن الذي هو معروف لدى القانونيين؛ صورته هي: أنك إذا استأجرت منزلاً بثمن معين فيجوز أن تأجره على آخر، ولو كان بثمن أرفع من الثمن الذي استأجرته به، فهذا النوع هو الإيجار من الباطن جائز في الشريعة؛ لكن بشرط واحد وهو أن يكون المستأجر له وهو الثاني لا يصرفه إلا في مثل ما استأجرته أنت له؛ فإذا كنت استأجرت الشقة من أجل أن تسكنها فلا يجوز أن تؤجرها لمن يجعلها جراشاً للسيارات، ولا لمن يجعلها محلاً للطحن؛ لأن الإنسان لا يريد أن يؤجرها لذلك وهو مالكها؛ فلذلك يجوز أن تؤجرها لمن يستخدمها في نفس الغرض الذي استأجرتها أنت له، إذا كانت محلاً تجارياً لنوع من التجارة فلا بد أن تستأجرها لمن يستغلها في نفس النوع، ولا يجوز أن تستأجرها لأنواع المهن التي لا يرغب في الإيجار لها؛ كجراش السيارات وكغسل الملابس ونحو ذلك؛ فهذه لا يرغب الناس عادة في إيجار منازلهم لها لأنها تؤدي إلى اتساخها وتضررها.
السؤال: ما حكم من باع بضاعة لرجل ولم يستلم منه النقود ولما جاء بالمبلغ قال له: ليس عندي إلا نصف البضاعة بعد العلم بزيادة سعرها في السوق؟
الجواب: إذا كان باع إليه ما لا يملك رجاء أن يشتريه في السوق فهذا عقد فاسد أصلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا حكيم! لا تبع ما ليس عندك )، وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن، وعن بيعتين في بيعة، وعن بيع ما ليس عندك )؛ فلذلك لا يجوز للإنسان أن يبيع ما ليس عنده اتكالاً على أنه موجود في السوق إلا على وجه السلم، وقد ذكرنا السلم فيما مضى.
فإذا كانت البضاعة موجودة في مخزنه يملكها فباعها إليه فلم يسحبها المشتري؛ فلا يجوز لصاحبها أن يبيعها مرة أخرى، فهذا القدر الذي باعه لا بد من تركه لصاحبه حتى يأخذه، وإذا أخذها هو فباعها لغيره فجاء صاحبها فإنه يضمنها له ولو ازداد سعرها، أي ولو كان سعرها قد تضاعف فلا بد أن يشتريها له؛ لأن تلك البضاعة أصبحت ملكاً لذلك المشتري، وقد دخلت ضمانك أنت بيد تعد؛ فيدك التي أخذتها بها يد تعد وليست يد أمانة؛ فلذلك لزمك أن تشتريها له بالغة ما بلغت في الثمن.
وهنا لا بد من التنبيه على أمر وهو: أن من البضائع ما تروج ويكثر الإقبال عليها فيشتري الإنسان منها كمية كبيرة ولا يستطيع استلامها في وقت محدد كما إذا كانت منتجاً لمصنع معين، فيشتري منها كمية كبيرة ولا يستلمها إلا في أوقات متطاولة، وربما ازداد سعرها؛ فإذا كان قد اشتراها ودفع الثمن فلا يمكن أن يزيد عليه أهل المصنع أو المستورد ثمنها لأنه قد اشتراها بذلك الثمن؛ فلا يجوز أن يزاد عليه السعر بعد أن رسا البيع على سعر محدد.
وما يزعمه بعض الناس أن النقود تدفع لصاحب المصنع مثلاً على وجه الوديعة وتأخذ ما يقابلها من الإنتاج فهذا أيضاً حرام؛ لأنه داخل في القاعدة التي هي: التردد بين السلفية والثمنية؛ فهو من أمهات الربا..
فلا بد أن يكون العقد معروفاً أنه قد انعقد فيستحق المشتري البضاعة ويستحق البائع الثمن، وإذا كان العقد متردداً لا يعلم: هل هو منعقد أو لا؟ فهذا عقد باطل وهو من العقود الربوية؛ فلذلك لا بد من تحديد هذا الأمر والحذر فيه فإن كثيراً من أصحاب المصانع يزيدون السعر بعد أن تشترى منهم البضاعة التي هي ذات كمية كبيرة؛ فإذا غلا سعرها زادوا على المشتري الذي كان قد دفع لهم الثمن من فترة، ولا يجوز لهم ذلك؛ لأنهم قد باعوا إليه هذه البضاعة برضاهم ورسا السعر على سعر محدد فلا يجوز زيادة ذلك إلا برضاه هو وإقالته.
السؤال: ما حكم شراء العملات واحتكارها من أجل أن ترتفع قيمتها؟
الجواب: البضائع كلها الأصل أنه يجوز للإنسان أن يشتريها لطلب الربح فيها، وبالنسبة للأثمان إذا كان الإنسان يعلم أنها سترتفع قيمتها أو تنخفض قيمة مقابلها فيجوز له شراؤها ليبيعها بأرفع مما اشتراها به إن لم يكن في ذلك تضييقاً على الناس في السوق.
وما يسمى بالاحتكار إذا كان الإنسان مورداً -أي: هو الذي أتى بالبضاعة إلى السوق- فإنه يجوز له أن يحتكرها، وإذا كان مشترياً من داخل السوق فإن كانت طعاماً يحتاج الناس إليه فالراجح أنه لا يجوز احتكاره؛ لما في ذلك من ظلم على المستهلكين، وإن كانت غير طعام فإن جمهور أهل العلم يوسعون فيها ويرون إباحة احتكارها، وهذا الذي اختاره الحافظ ابن حجر رحمه الله وغيره، والشيخ محمد عالي رحمة الله عليه يقول:
بحبس ما اشتريته في البلد للربح الاحتكار في البيع احدد
وأنت منه مطلقاً في توسعة في سعة وامنعه في غير السعة
لا فرق في ذلك بين القوت وغيره من سائر الوقوت
وجالب وزارع من أرضه ورافع لقوته وعرضه
باعوا أو أمسكوا كما قد شاءوا وربنا يفعل ما يشاء
أما الذي احتيج إلى ذات يده باع بسعر وقته في بلده
وقل لمن أراد ترخيصاً بع كما يبيع الناس أو فارتفع
كما رواه مالك عن عمر بذاك قال بعض من تأخر
يمنع ترخيص القليل إن أضر بباعة الأسواق رفعاً للضرر
وصاحب البيان سام بالغلط من لام من سامح في البيع وحط
وقال بل مأجور أو مشكور وإنما يزجر من يجور
فلذلك إذا كان الإنسان منتجاً للبضاعة ولم تكن طعاماً ولم يكن الناس في حاجة إليها؛ فيجوز له أن يحتكرها حتى يبيعها بأغلى، مثل العقارات؛ فالإنسان يشتري الأرض رخيصة وهو لا يريد أن يبيعها الآن ولا يريد استغلالها؛ بل يريد بيعها إذا ارتفع ثمنها، وإنما يرتفع ثمن العقارات والأراضي إذا قربت إليها الخدمات، إذا سفلتت الشوارع ودخلت الكهرباء ودخلت المياه فإنه سيرتفع سعرها حينئذ؛ ومن هنا فهذا النوع من الاحتكار لا حرج فيه شرعاً، وهو من الأمور الجائزة.
السؤال: كيف تزكى الأراضي المعدة للبيع والنقود المحتكرة؟
الجواب: أن البضائع التي لا زكاة في عينها وإنما تزكى زكاة التجارة كالأراضي التي اشتريت من أجل التجارة، إذا كان الإنسان يحتكرها فإنه لا تجب عليه زكاتها حتى يبيعها فيزكي ثمنها لحول واحد ولو مكثت عنده عشرين سنة، لا تجب عليه الزكاة في عينها وإنما تجب الزكاة في ثمنها، وعندما يستلمه يجب عليه أن يخرج الزكاة منه بالغاً ما بلغ.
وأما ما تجب الزكاة في عينه كالنقود إذا اشتراها الإنسان وهو لا يريد استعمالها الآن وإنما يعلم أن سعرها سيرتفع فوضعها في خزنته وأراد بذلك انتظار غلائها فإنه إذا حال حولها وجب إخراج الزكاة منها؛ لأن الزكاة واجبة في عينها ليست مثل العقارات والأراضي والبضائع ونحو ذلك؛ فالنقود تجب الزكاة في عينها، وهي اثنان ونصف بالمائة منها.
السؤال: هل يصح أن يؤخذ من الحبس نفقات تكاليفه من رعيه وسقيه، خصوصاً إذا كان المحبس عليه فقيراً؟
الجواب: الوقف الذي هو الحبس الأصل أن تكون نفقاته من غلته إذا كان له غلة، وهذه الغلال يبدأ فيها بنفقة الوقف قبل حظ الموقوف عليهم؛ لأن هذا الذي يقتضي استمرار الوقف، واليوم من المعلوم أن وقف الحيوان أصبح مشكلة لأهل هذه البلاد؛ وذلك أن غلة الحيوان في أكثر المجتمعات لا يمكن أن تباع ولا أن ينتفع منها، فأنت لا يمكن أن تبيع لبن الحيوانات الموقوفة عليك؛ لتنفق على الحيوانات منها، وأيضاً حتى لو بيعت فإنها لا تكفي لنفقات الحيوان.
ومن هنا فالذي أراه والله تعالى أعلم أن على أصحاب الحيوانات الموقوفة أن يبيعوها وأن يجعلوا ثمنها في عقارات ثابتة، ويكون العقار وقفاً وريعه وغلته تصرف للموقوف عليهم، والسبب أن أهل العلم اختلفوا في وقف الحيوان أصلاً، ومثله المنقول كله، فذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن الوقف مختص بالعقار والأصول وما اتصل بها، وأنه لا يجوز وقف الحيوان ولا المنقول، وذهب جمهور أهل العلم إلى جواز وقف الحيوان، واستدل الجمهور بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: ( أما خالد فإنكم تظلمون خالداً ؛ فقد احتبس أسيافه وخيله في سبيل الله )؛ فـخالد بن الوليد رضي الله عنه لما خرج ساعي النبي صلى الله عليه وسلم يجمع الزكاة إلى أهل مكة رجع فقيل: لم يؤد العباس ولا خالد ولا ابن جميل ، ثلاثة من رجال قريش الأغنياء لم يؤدوا الزكاة إلى ساعي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أما العباس فهي علي ومثلها معها )، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اقترض منه الزكاة سنتين، وهذا هو الدليل على أن الزكاة يجوز تقديمها عند الحاجة، فقد اقترض النبي صلى الله عليه وسلم من العباس زكاة ماله سنتين، ( وأما خالد فإنه فإنكم تظلمون خالداً فقد احتبس أسيافه وخيله في سبيل الله )، أي: أن ما يملكه خالد إنما كان سلاحاً، وهو وقف وقفه خالد في سبيل الله؛ فليس ملكاً له وبالتالي لا تجب عليه زكاته، ( وأما ابن جميل فما ينقم ابن جميل إلا أن أغناه الله ورسوله من فضله )؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يلم إلا واحداً من الثلاثة وهو ابن جميل حين لم يؤد الزكاة، أما خالد فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه قد احتبس أسيافه أو أدراعه وخيله في سبيل الله، وهذا يدل على جواز وقف المنقول، والمنقول مثله الحيوان، فإذا كان الإنسان وقف الخيل في سبيل الله ووقف الدروع والسيوف فهذا دليل على جواز وقف الحيوان ووقف المنقول كله.
ولكن مع هذا فلا شك أن وقف العقار أسلم وأبعد من الريبة وأبقى للاستمرار؛ فالوقف المعقب يقصد به الاستمرار، هو موقوف على الأجيال اللاحقة، وإنما تنتفع به إذا كان عقاراً ثابتاً، فإذا اشترى الإنسان من ثمن الحيوان محلاً تجارياً يستأجر أو شقة تستأجر فإن ريعها سيبقى وستشترك فيه الأجيال اللاحقة ويكون ذلك أنفع لهم، أما الحيوان فإن نفعه وبالأخص في زماننا هذا محدود يسير، وإذا كان أهل البوادي يرغبون في الإبقاء على حيواناتهم أو يحتاجون إليها؛ وبالأخص في بعض فصول السنة فإذا كانت موقوفة عليهم فبالإمكان أن يشتروا من ريع الوقف إذا كان عقاراً حيوانات يملكونها لأنفسهم ويبيعونها متى شاءوا، والوقف لا يمكن فيه البيع، الوقف لا يمكن فيه ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عمر حين قال: ( يا رسول الله! إن سهمي الذي بخيبر هو خير مال تأثلته؛ فمرني أجعله حيث شئت، فقال: إن شئت حبست أصلها وسبلت ثمرتها، غير أنها لا تباع ولا توهب ولا تورث )، فجعلها عمر وقفاً في سبيل الله على أن يلي هو أمرها ما دام حياً، ثم تليها حفصة من بعده، ثم يليها صالح آل عمر من بعد، لا يتأثل منها مالاً، ويطعم منها كما يطعم الفقراء؛ فهذا وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وغلته تصرف على الفقراء واليتامى والمساكين، وثمرته تستغل وأصله باق خالد، فهذا هو أبقى للوقف وأنفع.
السؤال: هل ينقل الوقف الملك أم لا؟
الجواب: أهل العلم اختلفوا في الوقف هل ينقل الملك أم لا؟ وأقوال أهل العلم في هذا الباب ثلاثة:
القول الأول: مذهب أبي حنيفة ، وهو: أن الوقف ينقل الملك فيكون ملكاً لله تعالى، أي: يتحرر من ملك المخلوق؛ فيكون ملكاً لله، وعلى هذا لا تجب فيه الزكاة، ويكون وليه الأمير أو القاضي، ويقوم الناظر فيه بالتصرف على الوجه الصحيح، وهذا القول دليله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تباع ولا توهب ولا تورث )، والمال المملوك للمخلوق لا بد أن يكون صالحاً لأن يباع ويوهب ويورث.
القول الثاني: مذهب أحمد و الشافعي ، وهو: أن الوقف ينتقل ملكه إلى الموقوف عليه؛ فالموقوف عليهم يملكون الوقف، ويحجر عليهم فيه؛ فلا يجوز لهم بيعه ولا ميراثه وإنما ينتفعون به، وهذا المذهب يستدل أصحابه بأن تسبيل الحيوان -أي: تسييبه- بألا يكون له مالك محدد منهي عنه شرعاً، وقد قال الله تعالى: مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ[المائدة:103]، وكونه ملكاً لله تعالى يجعله من باب السائبة.
القول الثالث مذهب المالكية، وهو: أن الوقف لا ينتقل ملكه على الواقف أصلاً؛ لأنه لم يعطه إلا غلته وثمرته فبقي ملكه، بقيت عينه مملوكة للواقف، وهذا الخلاف يترتب عليه مسألتان:
المسألة الأولى: إذا كان الموقوف حيواناً أو مالاً تجب فيه الزكاة فعلى من تكون زكاته؟
فعند أبي حنيفة لا يزكى أصلاً؛ لأنه مال عام لله تعالى. وعند الشافعية والحنابلة تجب زكاته على الموقوف عليهم؛ فمن ملك منهم نصاباً أضافه إليه وجعله منه. وعند المالكية تجب زكاة الوقف على الواقف فيضاف إلى ماله ما دام حياً؛ فإن هو مات فقد اختلفوا؛ فقالت طائفة منهم: تخرج الزكاة من أعيانه، وهذا الذي أخذ به جمهور أهل المذهب.
وقالت طائفة أخرى: بل إذا مات فإن الزكاة تنتقل إلى الموقوف عليهم فهم يخرجونها كما شاءوا، إن شاءوا استبقوا الأصول وأخرجوا الزكاة من خارجها وإن شاءوا أخرجوها منها، وعند الشافعية والحنابلة الزكاة تجب على الموقوف عليهم كما بينا.
المسألة الثانية هي: إذا كان الموقوف رقيقة مثلاً فمن وليها؟ من الذي يزوجها؟
عند الحنفية يزوجها الوالي العام أو القاضي؛ لأنها ملك لله وليس لأحد عليها سلطان، وعند الشافعية والحنابلة إنما يزوجها الموقوف عليه لأنه وليها، وعند المالكية يزوجها أولياء الواقف، ولو بعد ذلك؛ فهذا الخلاف قائم، وبه يفهم أن المقصد الشرعي في الوقف هو الاستمرار؛ وعلى ذلك فإن الفتوى التي ذكرتها سابقاً وهي أنني أقترح على الذين يحوزون حيواناً موقوفاً أن يبيعوه وأن يشتروا به عقاراً أنها وجيهة لأنهم عرفوا الآن الخلاف بين المذاهب في المسألة وعرفوا أدلة الجميع؛ وبالتالي عرفوا أن الشارع يتشوف لاستمرار الوقف وبقائه، وإنما يتم ذلك في الأمور العقارية.
السؤال: ما الصحيح في الوضوء من أكل لحم الإبل؟
الجواب: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ( سئل عن الوضوء من لحوم الغنم، فقيل: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت، قال: فمن لحوم البقر؟ قال: إن شئت، قال: فمن لحوم الإبل؟ قال: نعم )، و (نعم) جواب للذي قبلها، سواءً كان نفياً أو إثباتاً، وهذا يقتضي الوضوء من لحم الإبل؛ ولهذا اختلف أهل العلم في ذلك؛ فذهب الحنابلة وهو قول للشافعية إلى أن لحم الجزور ناقض للوضوء؛ وعليه تجب الطهارة منه، فيجب الوضوء منه كما يجب من النوم وكل النواقض، وذهب المالكية والحنفية إلى أن أكل لحم الجزور لا ينقض الوضوء، وذكروا أن الوضوء هنا المقصود به: الوضوء اللغوي، وهو غسل الفم واليد؛ فرأوا أن ذلك سنة، وإذا كان المقصود بالوضوء هنا: الوضوء اللغوي فيقصد به: غسل اليد والفم، وهذا مطلوب من كل لحم وحتى من اللبن، كل ما له زهم فإنه يندب غسل اليد والفم منه إذا مس شيئاً من ذلك لئلا يبقى زهمه في الإنسان؛ فالشريعة متشوفة للنظافة والطهارة؛ ولهذا قال خليل رحمه الله: (وندب غسل فم من لحم ولبن وتجديد وضوء إن صلي به).
لكن الذي يبدو أن التأويل الذي اختاره الحنفية والمالكية في هذه المسألة ضعيف؛ لأن الحديث فيه (نعم)، وهذا يقتضي الوضوء، فهذا التأويل ضعيف؛ فماذا نستطيع نحن أن نفهم من الحديث؟ إذا رجعنا إليه رجوعاً أصولياً فإننا سنرجع إلى السؤال؛ لأن السؤال على نية التكرار في الجواب، والنبي صلى الله عليه وسلم قيل له: (أنتوضأ؟) وهذا فعل، والفعل من باب الإطلاق، أي: أن ذلك هو أمر، والأمر يطلق بثلاث إطلاقات:
يطلق بقيد شيء، وبقيد لا شيء، ولا بقيد شيء، ثلاثة إطلاقات للأمر، يطلق بقيد شيء معناه: بقيد الجزم، وهذا هو الواجب، ويطلق بقيد لا شيء معناه: بقيد عدم الجزم، وهذا هو المندوب، ويطلق لا بقيد شيء أي: أمراً مطلقاً، وهذا الذي يتكلم عنه الأصوليون؛ فالأصوليون يتكلمون يقولون: الأمر المطلق يقتضي التكرار، الأمر المطلق يقتضي الفورية، فالأمر المطلق هو الذي يتكلم عنه الأصوليون؛ وعلى هذا فيمكن أن نحمل نحن هذا الحديث على أن المقصود به الأمر المطلق، والأمر المطلق إنما يحمل في مثل هذا الموضع على السنية؛ وعليه فيسن لمن أكل من لحم الإبل وأراد الصلاة وهو على وضوئه الأول أن يتوضأ من جديد؛ امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم) فأقل ما يمكن أن يحمل عليه ذلك السنية.
وهذا له مرجح واضح، وهو أن الشك في المانع لا أثر له، وقد سبق بيان ذلك؛ فهذا الوضوء مشكوك فيه، والشك في الحدث لا ينقض كما سبق عند جمهور أهل العلم خلاف المالكية وحدهم، وقد سبق أن بينت لكم ذلك؛ فهذا الوضوء أيضاً مشكوك فيه فلذلك الاحتياط أن يتوضأ الإنسان، وبالأخص أن الأحاديث كثيرة في ترك الوضوء مما مست النار، فقد كان في صدر الإسلام الوضوء مما مسته النار، أي: من كل طبيخ أو مشوي، ثم بعد ذلك ترك النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء مما مست النار فـ( كان آخر الأمرين منه ترك الوضوء مما مست النار )، وقد ( جيء بكتف فأكل منه فتوضأ للصلاة ثم رجع بعد الصلاة فأكل بقيته؛ فصلى ولم يتوضأ )؛ ( فكان آخر الأمرين منه ترك الوضوء مما مست النار ).
وما مسته النار يشمل لحوم الإبل وغيرها، وهذا مما تعدد فيه النسخ، وهي أربع مسائل تعدد فيها النسخ في السنة، وقد نظمها الحافظ ابن حجر رحمه الله فقال:
النسخ ذو تكرر في أربع جاءت بها الكتب والأخبار
في قبلة ومتعة وحمر كذا الوضوء مما تمس النار
أربعة أمور تكرر فيها النسخ:
الأول: القبلة؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة يصلي إلى البيت الحرام، ثم لما هاجر إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً، ثم نسخ ذلك أيضاً بالإرجاع إلى الكعبة؛ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ[البقرة:144]، فكان النسخ في القبلة متكرراً.
الثاني: نكاح المتعة، وهو النكاح المحدد بأجل؛ أن ينكح الإنسان مدة أسبوع أو مدة شهر أو نحو ذلك؛ فقد جاء النهي عنه في البداية وألزم الناس بالنكاح الدائم، ثم رخص فيه في غزوة من الغزوات، ثم نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم نهياً باتاً؛ فكان آخر ذلك النهي البات عن نكاح المتعة.
الثالث: الحمر الأهلية؛ فقد جاء تحريمها في البداية ثم أذن فيها في غزوة من الغزوات ثم حرمت بعد ذلك تحريماً باتاً.
الرابع: الوضوء مما مست النار؛ فقد تكرر فيه النسخ أيضاً كما اختاره الحافظ ابن حجر هنا.
السؤال: ما حكم السؤال في المسجد؟ وهل يعطى السائل أم لا؟
الجواب: السؤال في المسجد لأمور الدنيا حرام؛ فمن يسأل في المساجد لأمور الدنيا كأن يريد شيئاً لنفسه أو لأقاربه أو لأمر دنيوي فهذا حرام؛ لأن المساجد لم تبن لأمر الدنيا؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا رأيتم الرجل يبيع أو يبتاع في المساجد فقولوا له: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم الرجل ينشد ضالته في المسجد فقولوا له: لا ردها الله عليك )؛ فالمساجد لم تبن لأمور الدنيا؛ ولذلك فإن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه نهى الناس عن الكلام في أمور الدنيا في المسجد، فلما أبطأوا عليه بنى البطيحاء حوله فقال: (من أراد أن يتكلم في أمور الدنيا فليذهب إلى البطيحاء) فكف الناس عن الكلام في المسجد؛ ولهذا فأمور الدنيا كلها لا بد أن تنزه عنها المساجد؛ فنحن هنا في المسجد معنا الملائكة الكرام، وهم يحفون بنا الآن، وحضورهم ينبغي أن نأخذ فيه بالعبادة التي ننافسهم بها، وأن نحترم شعور الملائكة على الأقل في أمور الدنيا؛ فهم ليسوا من أهلها؛ فلذلك كان لزاماً علينا أن نحترم شعور الملائكة فيما يتعلق بأمور الدنيا وأن نكف عنها.
فلذلك يحرم السؤال في المساجد لأمور الدنيا؛ وعليه فيحرم أيضاً الإعطاء؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان؛ لأن الإنسان إذا سأل في المسجد فأعطي فإن ذلك مما يشجعه على الاستمرار في المسألة، لكن إذا أراد الإنسان أن يعطيه فليأخذ بيده وليخرجه من المسجد وليعطه خارج المسجد؛ فهذا الذي ينبغي أن يفعله الإنسان، وقد أخرج أحمد في المسند أن عمر بن الخطاب رأى سائلاً في الحج يسأل فدعا يرفأ - وهو مولى عمر - فأمره أن يطعمه فأطعمه حتى شبع، ثم رآه عمر بعد ذلك يدور في الرحال يسأل، فدعاه فأخذ منه ما معه، انتزع منه الصدقة التي جمعها، فالحج هو مثل المسجد فيه مشاعر، والمشاعر هي وقف لله سبحانه وتعالى ولا ينبغي استغلالها هذا الاستغلال إلا بحق من هو مضطر، والرجل رآه عمر يسأل فعرف أنه محتاج فأرسل يرفأ حتى أشبعه، ثم لما رآه يسأل بعد ذلك انتزع منه ما أعطي؛ فلذلك لا ينبغي أن يعطى السائل في المسجد.
أما السؤال لأمور الدين؛ كمصلحة المسجد؛ كبنائه وإصلاحه ونحو ذلك، أو كطلب الجهاد في سبيل الله أو إيواء الفقراء؛ فهذا مما بنيت له المساجد، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله في المسجد؛ فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: ( أنه جاءه الدافة وهم الأعراب، وهم قوم مجتابو النمار )، أي: يلبسون النمار، قد خرجوا منها وتفلتت عنهم، و (النمار) ثياب قديمة، ( فوقف على المنبر فقال: تصدق امرؤ من درهمه، من ديناره، من صاع بره، من صاع تمره؛ فجاء الناس بصدقاتهم فسر لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمها على أولئك الفقراء )، وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بجمع صدقات الفطر في الليالي الثلاث الأخر من رمضان فيبسط لها البسط في مؤخرة المسجد ويكل بها من يرعاها، وكان يكل بها أبا هريرة رضي الله عنه فيحرسها، فإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح يوم العيد انصرف إليها وجلس فأمر بتقسيمها فتقسم؛ فإذا انتهى قسمها ذهب إلى المصلى فصلى صلاة العيد بعد اغتساله صلى الله عليه وسلم.
فلذلك جمع الصدقات من أجل إيواء اليتامى أو الجرحى أو من أجل الجهاد في سبيل الله أو نحو ذلك هذا مما بنيت له المساجد، وأنتم تعلمون أن هذا المسجد مؤسسة ضخمة من الناحية الشرعية، ليس مؤسسة للصلاة أو للدروس فقط، هذه المؤسسة هي منطلق الدين والدنيا؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم ليست له عاصمة إلا المسجد؛ ففيه مكان التعليم؛ فالمدارس إنما كانت في المساجد في العهد النبوي وعهد الخلفاء الراشدين، ليس للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مدرسة إلا المسجد؛ ولذلك ما دامت الدروس تتلقى في المساجد فعليها قداسة وصدق، ولا يستطيع الإنسان أن يكذب فيها على الله في مثل هذا المكان ولا على رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا أخرجت المساجد عن المدارس فستقرر فيها المقررات التي لا نفع فيها ولا خير فيها.
وهي أيضاً كانت مكان القضاء؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس للخصم في المسجد فيقضي بين الناس، فيحكم بينهم في المسجد، وهذا يقتضي عدم الميل؛ فما دام القاضي في رقابة الله سبحانه وتعالى في المسجد وهو يستشعر قداسة المكان لا يستطيع الجور في حكمه ولا الظلم، وكذلك الخصوم لا يمكن أن يجور بعضهم على بعض وهم في المسجد؛ ولهذا كان يحلف الناس عند منبره، وكان عمر بن الخطاب يحلف الناس عند المنبر، عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك المسجد هو أيضاً مكان المحاكمات وقداسته تمنع الظلم فيه.
وكذلك هو بيت المال؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع فيه زكاة الفطر وغيرها من الأموال كما بينا، وهو مكان الجيش أيضاً؛ فهو الثكنة العسكرية الأولى للمسلمين؛ ولذلك أذن النبي صلى الله عليه وسلم للأحباش في التدريب فيه، وكان يعقد فيه الألوية ويجيش منه الجيوش، وهو أيضاً المستشفى؛ فقد بنى النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده خيمة لـسعد بن معاذ يعوده فيها، وهو مكان الضيافة العامة؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل فيه الضيوف.
وهو أيضاً السجن الذي يراد به الإصلاح؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسجن الناس في المسجد لإصلاحهم؛ فـأبو لبابة بن عبد المنذر لما سرب إلى اليهود سراً من أسرار المسلمين ربط نفسه بسارية من سواري المسجد حتى حله رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن نزلت توبته، و ثمامة بن أثال الحنفي ربطه النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد؛ فكان يمر عليه إذا تقدم إلى الصلاة فيقول: ( يا محمد! إن مننت علي مننت على شاكر وإن قتلتني قتلت ذا دم؛ فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فخرج إلى الحرة فاغتسل فجاء وأسلم وحسن إسلامه )، وكذلك حبس فيه النبي صلى الله عليه وسلم سفانة بنت حاتم في سبي بني طيء فكان يمر عليها فتقول: ( يا محمد! امنن علي من الله عليك ولا جعل لك إلى لئيم حاجة؛ فقد مات الوالد وغاب الوافد؛ فيقول: ومن والدك؟ فتقول: حاتم بن عبد الله الطائي ؛ فيقول: ومن وافدك؟ فتقول: عدي بن حاتم ؛ فيقول: آلفار من الله ورسوله؟ فيتجاوزها حتى مر عليها يوماً فعادت عليه الكلام فرق لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن عليها، فأرسلها فذهبت في إثر عدي حتى جاءت به فأسلم، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فابتسم في وجهه وثنى له الوساد، ثم لم يزل بعد ذلك كلما دخل عليه يبتسم في وجهه ).
السؤال: امرأة تسأل وتقول: إنها لم تنتظم دورتها الشهرية وأنها جلست عادتها، ولما طهرت من عادتها مكثت ثلاثة عشر يوماً ورجعت لها الدورة مرة أخرى إلى أن أتمت خمسة عشر يوماً وطهرت، فتطهرت من تلك الدورة وبعد ذلك خافت من البرد وعادت تتيمم؟
الجواب: إن عدم انتظام الدورة له أسباب كثيرة؛ فمنها الاقتراب من سن اليأس، فإذا تجاوزت المرأة خمسين سنة فكثيراً ما يقع الاختلاف في انتظام دورتها، وكذلك من أسباب عدم انتظام الدورة الحمل؛ فهو سبب أيضاً لعدم انتظام الدورة، وكذلك من أسباب عدم انتظام الدورة بعض الأمراض التي تقع في الرحم، ومن أسباب عدم انتظام الدورة استعمال موانع الحمل، كالحبوب التي تمنع الحمل؛ فهي سبب لعدم انتظام الدورة، فإذا عرفت السبب الذي من أجله حصل عدم الانتظام فالدم الذي هو دم الحيض الذي تترك له الصلاة والصوم إنما هو الدم الخارج بنفسه من قبل من تحمل عادة، هذا تعريف الحيض: دم جرى بنفسه من قبل من تحمل عادة، أما الدم الجاري بسبب آخر فليس حيضاً، وإنما استحاضة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( وليس ذلك من حيضك، إنما هو عرق )، وكذلك قال: ( إنما هي ركضة من الشيطان )، فهذا سبب آخر غير الحيض.
والحيض يميز دمه عن غيره من الدماء؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـفاطمة بنت أبي حبيش : ( إن دم الحيض أسود يُعرِف أو يُعرَف )، (أسود) أي: لونه يختلف عن لون الدم الذي هو عرق، فدم الإنسان العادي الذي هو عرق كالجروح التي تقع في رحمها ونحو ذلك لونه كالدم المعتاد، أما الحيضة فهي عبارة عن انكماش المشيمة واستحالتها إلى دم فاسد، ولونه أسود يختلف عن لون الدم المعتاد غالباً، وقد يقع فيه تلون آخر كالصفرة والكدرة؛ فالصفرة والكدرة في أعقاب الحيض من الحيض وفي أعقاب الطهر من الطهر؛ كما في حديث عائشة رضي الله عنها؛ فلذلك قال: ( إن دم الحيض أسود يُعرِف )، أي: رائحته كريهة، والعرف: الرائحة، أي: رائحته كريهة، وهذا مما يميز به الحيض، (أو يُعرَف) أي: يعرفه النساء للتألم عند خروجه ولا يتألمن عند خروج دم الاستحاضة مثلاً، وغيره كذلك يعرف بالرقة؛ فهذه المميزات إذا ميزت بها المرأة دم الحيض فعرفت دم الحيض فإنها تجلس عادتها لذلك الدم هو دم الحيض المميز.
وإذا لم تميزه ولم تعرفه وكان مسترسلاً عليها فإن أتمت عادتها ثم عاد إليها قبل أقل مدة الطهر وهي خمسة عشر يوماً على الراجح؛ فإنها تلحق ذلك الدم بالحيض الماضي إذا لم تميزه حتى تتمم به خمسة عشر يوماً وهي أطول أمد الحيض إن كانت غير معتادة، وإن كانت معتادة فإنها تزيد ثلاثة أيام عند المالكية على عادتها، وأخذوا ذلك من أن العادة في الحيض لا تقتضي خروجه في ساعة معينة من ليل أو نهار؛ بل في أربع وعشرين ساعة؛ فقد يأتي في أول الليل وقد يأتي في آخره، وقد يأتي في أول النهار وقد يأتي في وسطه وقد يأتي في آخره؛ فلذلك لا عبرة باليوم الذي بدأت فيه الدورة، وكذلك اليوم الذي تنتهي فيه الدورة؛ لا عبرة به لأنها تنتهي في أوله ووسطه وآخره، واليوم الداخل بينهما يوم واحد، وهو الذي يتحقق به الأمر؛ فلذلك اجتهد المالكية فرأوا أن ثلاثة أيام تزيدها المرأة على عادتها تجلس لها؛ فإذا طهرت فبها ونعمت، وإن لم تطهر عدت ما زاد على ذلك استحاضة فتغتسل، وكلما انقطع عنها الدم تغتسل أيضاً لئلا يكون قد خالطه حيض، وهي في وقت الاستحاضة تتوضأ لكل صلاة، وتستثفر بثوب كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وتصوم وتصلي وتوطأ.
السؤال: ما هو تفسير قول الله تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى[النجم:32]؟
الجواب: نهى الله سبحانه وتعالى الإنسان عن تزكية نفسه، أي: الشهادة لنفسه بالخير؛ لأن الإنسان لا يعلم مصيره ولا يعلم ما قبل من أعماله، والمؤمن يقدم العمل الصالح وهو يخاف أن يرده الله عليه وألا يتقبله منه؛ كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ[المؤمنون:60-61]، فالذين يخافون ألا يتقبل الله منهم هم أهل الإيمان؛ ولذلك لا يزكون أنفسهم، وهذا ما ربى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه؛ فقد أخرج البخاري في الصحيح تعليقاً عن ابن أبي مليكة رضي الله عنه ورحمه الله وهو من كبار التابعين، قال: (أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما منهم أحد يقول: إيماني على إيمان جبريل و ميكائيل ، وما منهم أحد إلا وهو يخاف النفاق على نفسه)، وكذلك فإن الحسن بن أبي الحسن البصري رحمه الله وهو من كبار التابعين قال في النفاق: (ما أمنه إلا منافق ولا خافه إلا مؤمن)، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينادي حذيفة فيقول: (أنشدك الله الذي لا إله إلا هو هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين؟) وعندما جرح عمر جرحه الذي نال به الشهادة في سبيل الله وفي حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم زاره ابن عباس يعوده؛ فوجده يبكي وهو يأمر ابنه عبد الله أن يضع له خده على الأرض، وهو يقول: (يا ليتني كنت حيضة حاضتها أمي! ليتني خرجت من الدنيا كفافاً لا علي ولا لي!) فقال: ألم تشهد بدراً؟ ألم تبايع تحت الشجرة؟ ألم يشهد لك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة؟ قال: (لعل ذلك على شرط لم يقع) فهو غير مغرور، يقول: (لعل ذلك على شرط لم يقع) والغرور لا خير فيه.
فالإنسان لا بد أن يكون دائماً يعلم أنه عرضة لحسن الخاتمة ولسوء الخاتمة، ولا بد أن يخاف مكر الله تعالى؛ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ[الأعراف:99]، ولا بد أن يعيش بين الرجاء والخوف في كل أحواله إلا عند الموت؛ فإنه يحسن ظنه بالله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يقدمن أحدكم على الله إلا وهو يحسن ظنه بالله ).
السؤال: ماذا تقولون في التلفزيون؟
الجواب: التلفزيون آلة من الآلات ووسيلة من الوسائل؛ فالنظر إليها وسماعها حكمه حكم ما يخرج فيها؛ فإن كان الذي فيها مما يحل النظر إليه وكان الذي يسمع فيها مما يحل سماعه جاز سماع ما فيها والنظر إليه، وإذا ظهر فيها ما لا يحل رؤيته وجب غض البصر عنها، وإن سمع منها ما لا يحل سماعه وجب كذلك كتم الصوت عنها، وقنواتها تختلف؛ فالقنوات الإخبارية لا بد من الاطلاع على بعض أخبارها؛ لأنه ينبغي للعاقل أن يكون خبيراً بأهل زمانه، ( ومن لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم )، وهي وسائل للإعلام وإن كان فيها الغش والكذب؛ لكن مع ذلك هي من الوسائل المتاحة.
وكذلك القنوات الدعوية المختصة التي فيها بعض الدروس المفيدة؛ كقناة (المجد) وقناة (اقرأ) وغيرهما من القنوات التي فيها دروس نافعة؛ فهذه لا شك أنها أيضاً قنوات إسلامية وما يحصل فيها من المخالفات يغض عنه الإنسان أو يطفئها في وقته وما سوى ذلك يستفيد منها، وهي مثل الكتب؛ فالكتب فيها الصواب والخطأ، وما من كتاب غير كتاب الله إلا وفيه الصواب والخطأ؛ ولذلك قال البويطي : (لما ألف الشافعي كتابه ناولنيه فقال: خذ هذا الكتاب على خطأ كثير فيه، قلت: يا أبا عبد الله ! أصلحه لنا، قال: كيف وقد قال الله تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا[النساء:82]؟ أبى الله العصمة إلا لكتابه) فالكتاب المعصوم الذي ليس فيه أي خطأ هو القرآن، وما سواه من الكتب فلا بد أن يكون فيه الخطأ والصواب، ولا يمكن أن تترك الكتب من أجل بعض الأخطاء التي فيها؛ فكذلك القنوات الدعوية.
أما القنوات المفسدة الفاسدة التي بنيت على النفاق والفجور من أول يوم؛ فهذه مما ينبغي للعاقل المؤمن أن ينزه عنها سمعه وبصره، وأن يعلم أنها لا تؤدي إلى خير، وأنها تحمل فيروسات الإيمان الضارة، وفيروسات الأخلاق وفيروسات الشبهات، وفيها من أنواع الفساد ما لا يخطر على بال؛ ولذلك يصنعها الأعداء ويوجهونها إلى الشعوب الإسلامية من أجل التأثير عليها، وأذكر مرة من المرات أنه في إحدى المدن الكبرى من العالم الإسلامي اشترى رجل تلفزيوناً لأولاده، والدش الذي تؤخذ منه القنوات المختلفة، وهو مشغول بعمله وأمهم مشغولة كذلك بأعمالها؛ فبقي الأولاد يتابعون القنوات المختلفة، والأولاد كما تعلمون سفهاء، لم يكل الشارع أمرهم إلى أنفسهم؛ ولذلك لا يمكن أن يوكل إليهم أمرهم، فكانوا يفتحون هذه القنوات عن المسلسلات الخليعة وعن أنواع الفجور، ولم يعلم الوالد بذلك حتى فوجئ بأنهم - نسأل الله السلامة والعافية - قد طبقوا بعض ما رأوه في بيوتهم فكانت الكارثة الكبرى، فأفسد بيته بنفسه.
فلذلك لا بد إذا اشتراها الإنسان لأهل بيته أن يمنع تلك القنوات بالكلية، وحتى القنوات الإخبارية ما فيها من البرامج الموسيقية وغيرها لا بد أن يجعل عليها رقابة شديدة؛ فلا تفتح إلا بحضرة الرشيد الذي يمنع الأولاد من التجول بين القنوات، ولا بد أن يكون ذلك في أوقات محددة؛ لأن كثيراً من الناس يستمرئها ويستحليها فيسمع نشرة الأخبار ثم النشرة التي بعدها وليس فيها إلا تكرار، ويتقلب من قناة إلى قناة فيفسد الوقت ويضيع، وربما ضاع وقت الصلاة وربما ضاع وقت الختم المخصص له الذي يقرأ فيه حزبه اليومي، وربما ضاع كثير من الأعمال بسبب متابعة القنوات، وهذا خطر على الإنسان؛ فلذلك لا بد أن يأخذها بالعقل، وألا يتابع منها إلا قدر الكفاية والاستغناء، وألا يتعدى ذلك؛ فالإسراف في كل أمر لا خير فيه، والله تعالى يقول: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ[الأنعام:141].
السؤال: كنت أقرأ بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لجماعة المسجد وأقدم بعض الكلمات أحياناً، لكن والدتي منعتني من ذلك خوفاً علي من السجن، فما هو الحكم العام؟
الجواب: عليك أولاً أن تبدأ بوالدتك فتصحح إيمانها، وتبين لها أنها تقول في تعوذها: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فما معنى هذا الكلام الذي نقوله؟ أليست والدتك وتقول: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن؟
عليها أن تتذكر أنك لما كنت جنيناً في بطنها كتب كل أمر سيصيبك، رفعت عنه الأقلام وجفت الصحف؛ فلا يمكن أن يصيبك إلا ما كتب لك، وعلى هذا فهي محتاجة لمراجعة الإيمان بالقدر حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك؛ فعليك أنت ألا تترك عمل خير فعلته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا عبد الله ! لا تكن مثل فلان فإنه كان يقوم من الليل فترك قيام الليل )، فالإنسان إذا عمل عمل خير وأصبح عادة له ينبغي ألا يتركه بحال من الأحوال؛ ( فأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل ).
السؤال: سمعناك تذكر: أن كل قرض جر نفعاً فهو ربا، ونحن نتعامل مع التجار الكبار نأخذ من عندهم البضائع بصيغة القرض؛ فمثلاً تاجر عنده الأسمنت أقول له: أقرضني مليوناً واحداً إلى أجل سنة بنسبة ثلاثين بالمائة، ولكن تفادياً للربا أعطني الأسمنت فيفعل، فأبيعه أنا ناقصاً عن السعر المعتاد بخمسة في المائة، ومع العلم أني لا أريد البضاعة لأنها ليست بضاعتي وإنما أريد النقود؛ فما حكم هذا النوع من المعاملات؟ وما البديل الصالح عنه؟
الجواب: عهدنا هذا وعصرنا الذي نعيشه يمكن أن يسمى عصر الربا؛ فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن الربا سيعم فمن لم ينل منه ناله من غباره )، وهذا الحاصل الآن غبار الربا عم في كل مكان؛ ولذلك على الإنسان أن يحترس كثيراً وأن يتذكر إذا خرج إلى السوق ماذا يريد بالمال؟ وأن يعلم أن هذا المال لا يرفع عنه ضرراً ولا يجلب له نفعاً إلا ما كان قد كتب له، وأن يتذكر أن كثيراً سبقوه إلى الأسواق وأتعبوا ليلهم ونهارهم وماتوا وهم فقراء، وأن آخرين سبقوه إلى الأسواق ولم يبذلوا إلا جهداً يسيراً فأصبحوا من الأغنياء في مدة يسيرة محدودة؛ وبهذا يعلم أن الغنى والفقر كلاهما من قدر الله، يكتبه الله لمن شاء؛ ولهذا يقول الحكيم:
باتت تعيرني الإقتار والعدما لما رأت لأخيها المال والنعما
تبا لرأيك ما الأرزاق عن جلد ولا من الكسب بل مقسومة قسما
كلها قسمها الله سبحانه وتعالى، ثم إن على هذا الأخ وغيره، وعلينا جميعاً أن نعلم أن من المشكلات المالية التي تواجه الناس اليوم مشكلة التمويل، فالإنسان يخطر بباله أن يعمل مشروعاً من المشاريع، وليس لديه مال، لكن الذي يملكه هي العقلية التجارية التي لديه، وهو يريد استغلال عقليته التجارية فيحتاج إلى تمويل للمشروع الذي فكر فيه، وهذا التمويل إنما يبحث الناس عنه الآن من الأوجه المحرمة، يبحثون عنه بالربا؛ فيقترضون القروض الربوية بالزيادة وهي حرام، أو يحتالون على الربا كالحيلة التي ذكرت في السؤال؛ فيأخذون بضاعة مقابل النقود وهم يعلمون أنهم لا يريدون إلا النقود، والسلعة الخارجة من اليد والراجعة إليها لغو، وهي ملغاة، وقد قال مالك رحمه الله في هذه المسألة: انظر إلى اليد السابقة في الدفع فإن عاد إليها أكثر مما دفعت فامنع، هذه قاعدة: انظر اليد السابقة في الدفع فإن عاد إليها أكثر مما دفعت فامنع، ومعناه: يكون ذلك رباً، هو حرام.
فالوجه الشرعي: الجديد الذي يفتى به اليوم هو أن يبحث الإنسان عمن يتعامل معه تعاملاً صحيحاً، وذلك في القرض الحسن الذي يبتغى به وجه الله أن يجد من يقرضه بدون مقابل، وهذا نادر لكن قد يوجد.
ثم الوجه الثاني هو التعامل بالمرابحة، وهي أن تحدد مشروعك الذي تريده، فإذا كنت تريد أن تشتري سيارة أجرة فاذهب إلى التاجر الأمين وقل له: أنا أريد أن تشتري لي هذه السيارة التي صفاتها كذا وكذا وأن تبيعها علي بثمن معين أدفعه لك أقساطاً، كل شهر أدفع لك كذا وكذا، فأنت تعرف سعرها والتاجر يعرفه، وتعرف الربح الذي سيضيفه هو إلى رأس ماله وتتفقان على هذا؛ فهذه مرابحة وهي جائزة، على نفس البضاعة التي تريدها، وليس على بضاعة أخرى تستعرضها.
الوجه الثالث: الذي يكون أيضاً حلاً هو السلم، وهو أن تعامل التاجر على البضائع التي يرغب هو فيها؛ فإذا كان التاجر يرغب في نوع معين، سواءً كان خدمة أو بضاعة فقل له: أعطني مبلغاً قدره كذا الآن وأنا أتحمل لك في الأجل المحددة البضاعة التي ترغب فيها والخدمة التي ترغب فيها، هذا هو السلم، وهو من عقود التمويل التي هي الأكثر شيوعاً ونشاطاً اليوم في الأعمال التجارية، سواءً كانت أعمالاً تجارية مفردة أو كانت غير ذلك؛ ولذلك هو الذي يغطي أكثر أعمال البنوك الإسلامية.
وعموماً: فما من عمل أياً كان -أي مشروع تقدمونه- الآن إلا ووجدنا له - ولله الحمد - في شريعتنا السمحة حلاً ليس فيه رباً، أي مشروع تقدمونه الآن؛ ولذلك أنا الآن عندي رسالة الدكتوراه في هذا النوع عنوانها: العقد على موصوف في الذمة وأدرس فيها ثلاثة وسبعين عقداً من العقود الحديثة، كل عقد منها بعضها لم يصل بعد إلى البلدان الإسلامية، وهنا توجد في أمريكا أو اليابان وبريطانيا وفي أسواق المال العالمية.
هذه العقود لا يوجد فيها عقد حرام إلا وله حل شرعي، أي عقد أياً كانت المصلحة المطلوبة منه لتصرف ربوي لها حل شرعي واضح جداً، فهذا النوع أي عقد من العقود تريدون الإقدام عليه ففيه حل، له حل شرعي ليس فيه رباً، أياً كان.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر