بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد سبق تقسيم العقود باعتبار موضوعها إلى ثلاثة أقسام: إلى عقود تبرعات، وعقود معاوضات، وعقود توثقات، وسبق تقسيمها كذلك باعتبار حال العاقدين إلى أربعة أقسام، وباعتبار الزمن كذلك إلى ستة أقسام، كل تلك العقود التي سبق شرحها وذكر أركانها كان الكلام الماضي عليها إذا كانت مفردة، وسنتحدث الليلة في جمع العقود في صفقة واحدة، وهذا أمر مهم لحاجة الناس إليه اليوم؛ ولأن أكثر العقود التي تجرى في عالمنا اليوم يقل فيها العقود المفردة، فأكثرها جامعة بين اتفاقيات متنوعة.
فأقول: إن الأصل في العقود الجواز، وهي غير محصورة في هذه التي وردت تسويتها بالنص، بل الأصل الجواز فيها؛ لأن الله سبحانه وتعالى شرع لعباده ما ينظم علاقاتهم، وبين ما هم بحاجة إليه من الأمور، والفرق واضح بين التعبدات والمعاملات، فالتعبدات يقصد بها التقرب إلى الله تعالى وطلب مرضاته، والله تعالى لا يمكن أن يصل إليه عباده بنفع ولا بضرر؛ ولذلك جاء في الحديث القدسي الصحيح: ( يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني )، فلا يمكن أن يتقرب إنسان إلى الله تعالى إلا بما شرع وبين وما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا فكل عبادة لم يبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي باطلة مردودة على صاحبها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، وفي رواية: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ).
وكذلك العقائد، فإن الإنسان لا يمكن أن يرى الله تعالى جهرة، لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام:103]، ولا يمكن أن يكون له مثل فهو سبحانه وتعالى قال عن نفسه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فلا يمكن إذاً أن يثبت له، ولا أن يعتقد إلا ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده، إذ لا دخل للعقل في مثل هذه الأمور؛ لأن العقل إنما يتعلق بالمحسوس الذي تدركه الحواس، أو بما يعرف الإنسان له نظيراً ومثلاً حتى يقيسه عليه، والله تعالى لا مثل له ولا تدركه الأبصار، فلم يبق إذاً إلا الاستسلام للنصوص في هذا الباب، وعدم تعديها وتجاوزها.
أما ما يتعلق بالمعاملات فإن كل إنسان أعطاه الله تعالى من العقل ما يطلب به مصالحه، ويسعى به للوصول إلى رغباته، وهم في ذلك متفاوتون تفاوتاً كبيراً، وما من أحد إلا وهو راض عن الله في عقله وأقلهم عقلاً أرضاهم به، وبهذا يطلب كل إنسان مصالحه ويدفع المضار عن نفسه ما استطاع، وبذلك يستطيع الإنسان أن يدرك ما هو في صالحه من المعاملات، وما ليس في صالحه، إلا أنه لا بد من تقييد ذلك بدفع المضرة العامة عن الناس؛ لئلا يطلب من هو أقوى مصالح نفسه، ويهدر مصالح الآخرين، فلا يمكن أن تستغل الفرص في الفقراء حتى يشترط عليهم في العقود، أو يوضع لهم فيها ما هو مناف لمصلحتهم من أجل المبالغة في مصالح الأغنياء؛ لما في ذلك من إهدار كرامة الإنسان، وانتهاز الفرص للتضييق عليه، فاحتيج إذاً إلى وضع ضوابط شرعية للتعامل، وهذه الضوابط بعد الأصل الذي ذكرناه، فالأصل في العقود والمعاملات كلها الجواز، إلا ما فصله الشارع كما قال الله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ [الأنعام:119]، فما فصله الشارع وجاءت النصوص فيه بتحريم أو نهي فهو على ذلك، ولا شك أن المصلحة فيه هي ما ذكر من مراعاة حقوق الجانب الأضعف وحمايتها.
ثم بعد هذا يبقى أن العقد قد يكون في ذاته صحيحاً مباحاً، ولكنه إذا ارتبط بعقد آخر تغير واقعه، واستحال إلى هيئة جديدة، فكثير من العقود بالشروط وباجتماعها بعقود أخرى تنقلب عن حقائقها، وتتغير هيئاتها بالكلية، فلذلك احتيج إلى بيان حكمها عند الاجتماع، لأنه يختلف عن حكمها في حال الانفراد، فلذلك جاء البحث الفقهي في اجتماع العقود، وخلاصة ما للفقهاء فيه من أقوال: أن لدينا ثلاثة ضوابط إذا تحقق واحد منها امتنع الجمع، وإذا لم يتحقق واحد منها حل الجمع بين العقود:
الضابط الأول: عدم النهي الشرعي، فإذا نهى الشارع عن الجمع بين عقدين فإنه لا يحل الجمع بينهما؛ لأن النهي يقتضي التحريم، ومثال ذلك ما أخرج أصحاب السنن و مالك في الموطأ و أحمد في المسند: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وسلف )، فجمع البيع والسلف حرام، والبيع هنا ليس مقصوراً على البيع الاصطلاحي، بل المقصود به كل عقد فيه مكايسة، فالبيع والسلم والصرف والشركة والمضاربة وكذلك الإجارة والكراء كلها لا يحل جمعها مع السلف في صفقة واحدة؛ لأن ( النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وسلف )، ووجه النهي هنا أن السلف يقتضي أن الإنسان مضطر ومحتاج لذلك جاء يطلب ما يسد به عوزه، والبيع الأصل فيه الخلو من الضغط، أن يأتي الإنسان يريد إعمال عقله مع الطرف الآخر كل واحد منهما يريد الربح، فإذا كان أحدهما مسلطاً عليه سيف السلف وهو سيف الحاجة فليس حراً في تصرفاته كالمكره، فلذلك يكون مغبوناً في صفقته، ومن أجل هذا حرم الشارع اجتماع بيع وسلف.
وأيضاً: فإن الجمع بين البيع والسلف يقتضي أن يجر السلف نفعاً، ومن المعلوم أن من أمهات الربا أن كل سلف جر نفعاً فهو ربا، فإذا قال الإنسان لآخر: أبيعك داري هذه بعشرين مليوناً على أن تقرضني خمسة عشر مليوناً، فيدفع له خمسةً وثلاثين مليوناً: عشرون مليوناً منها ثمن الدار، وخمسة عشر مليوناً قرض، فهنا الذي باع الدار يحتاج إلى هذه النقود، وسيف الحاجة مسلط على عنقه، والذي أقرضه واشترى منه الدار لم يكن ليقرضه لولا أنه رابح في الدار، فيعلم أن هذا الثمن أقل من ثمنها، فلذلك هو رابح إذا عادت إليه نقوده التي دفع ومع ذلك ملك الدار فسيبيعها بأكثر من هذا، فهنا رابح هنا، وبهذا ربح من السلف؛ لأن السلف جر له نفعاً، فإذاً: هذا الجمع بين بيع وسلف لا يجوز.
ومثله أيضاً أن يكون البيع والسلف من جهتين مفترقتين فيقول له: بعتك داري هذه بعشرين مليوناً، وأقرضك خمسة عشر مليوناً إلى أجل، فأحدهما منتفع انتفاعاً كلياً، والآخر دافع دفعاً كلياً، وليس بينهما تداخل بخلاف الصورة الأولى، فهذه الصورة الرجل الذي باع الدار وأقرض زيادةً على ثمنها أيضاً منتفع؛ لأنه باع الدار بأكثر من ثمنها، فهو لم يكن ليقرضه لو لم يشتر منه الدار، لكن علم أنه سيبيع هذه الدار بأكثر من ثمنها، وأراد تشجيع المشتري على ذلك بإقراضه قرضاً، فهو بهذا منتفع، ( وكل سلف جر نفعاً فهو ربا ).
وهكذا في هذا النوع من التبادلات التي تظهر فيها الحاجة من وجه فيكون الإنسان غير ماض في تصرفه لحاجته، فسيف الحاجة مسلط على عنقه.
إذاً: هذا هو الضابط الأول، وهذا الضابط له صور أخرى غير بيع وسلف، فقد أخرج بعض أصحاب السنن وكذلك مالك في الموطأ بلاغاً و أحمد في المسند: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة )، وقد اختلف أهل العلم في معنى بيعتين في بيعة، ولكن كل أقوالهم تعود إلى هذا الضابط وهو جمع عقدين في اتفاقية واحدة، وهذان العقدان ليسا مثل العقدين السابقين؛ لأن العقدين السابقين سلف وبيع، فهما مختلفا الحقيقة والشكل، أما هذا الحديث ففيه الجمع بين بيعتين في بيعة واحدة، وقد اختلف أهل العلم في معناه، فذهب الحنفية والحنابلة والشافعية في جمهور أقوالهم إلى أن صورة بيعتين في بيعة أن يقول له: بعتك هذه الدار بعشرين مليوناً شريطة أن تشتري مني داراً أخرى بعشرة ملايين مثلاً، فهذا بيع فيه شرط لبيع آخر، فباع إليه الدار واشترط عليه أمراً آخر، وهذه الصورة تعود إلى سابقتها؛ لأنه باع إليه هذه الدار بثمن أغلى لرغبته فيها، واستغل رغبته فيها فباع إليه أخرى لا يرغب فيها بأكثر من ثمنها، وهنا السيف المسلط ليس سيف الحاجة وإنما هو سيف الرغبة، فهو راغب في هذه الدار، والأخرى لا يريدها، فشرط عليه شراءها معها.
ومثل ذلك جمع البضائع المختلفة كالرديء والجيد، فالإنسان يأتي بتجارة رفيعة وبتجارة فيها نقص وخراب، فيربط بيع هذه ببيع هذه، فيقول: أبيع هذه الأجهزة أو هذا الجهاز أو هذه السيارة بشرط أن تشتري مني معها هذه الأخرى، سواءً جمعهما في الثمن فلم يحدد مناب ما لكل واحدة منهما، أو أفرد لكل واحدة ثمناً فلا فرق عند هؤلاء، وعلى هذا فيخرج من هذه الصورة بالاتفاق جمع سلعتي رجلين بثمن واحد، فإذا اشترى إنسان سيارتي رجلين هذه السيارة لفلان وهذه لفلان، فاشتراهما هذا التاجر من البورصة بثمن واحد، اشتراهما معاً بأربعة ملايين، لا يُدرى هل هما على السواء، ثمنها مليونان، وهذه ثمنها مليونان، أو هذه ثمنها ثلاثة ملايين، وهذه ثمنها مليون واحد، فهذا مقتض للخصام والنزاع، وقد سد الشارع كل سبب في العقود يؤدي إلى النزاع والخصام؛ فلذلك لا يحل جمع سلعتي رجلين بثمن واحد أبداً.
فإذا كان الشخص وكيلاً مثلاً عنهما معاً فأقدم على ذلك، فالعقد فاسد، لكن هل يرد أو يضمنه البائع؟ فقالت الحنفية: يصحح البيع بعد حصوله، فيكون الوكيل قد ضمن السيارتين معاً بسعر مثلها لصاحبها، ويكون البيع مع المشتري عقداً عقده هو لنفسه، كأنه هو الذي اشترى السيارتين من مالكيهما بثمنهما المعهود، وباعهما بهذا الثمن الذي وجده، وجمهور العلماء على بطلان هذا العقد بالكلية؛ ولذلك قال خليل رحمه الله: كسلعتي رجلين بكذا، فعد ذلك مما فيه اجتماع هذا النوع مما لا يحل جمعه في الصفقة الواحدة، وهذا التفسير الذي فسر به الحنفية والشافعية والحنابلة بيعتين في بيعة يقتضي أن كل شرط يزيد في العقد من غير مصلحة لأحدهما يتضمن عقداً آخر فهو مبطل للعقد، سواءً كان ذلك نكاحاً أو بيعاً أو غير ذلك، فإذا قال له: أزوجك ابنتي على كذا شريطة أن تشتري داري بكذا، فهذا العقد باطل عند الشافعية والحنابلة والحنفية، وهو جائز عند المالكية؛ لأنه حدد لكل منابه، فالصداق متميز عن الثمن، بخلاف ما لم يكن فيه تميز، كما إذا كان العقدان مثلاً نكاحاً، فحصل الشغار والشغار له أربع صور، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الشغار، فالشغار: أنكحتك ابنتي بلا شيء على أن تنكحني أختك أو ابنتك بلا شيء، فهذا صريح شغار، وهو حرام قطعاً؛ لما فيه من إسقاط الصداق في كلا العقدين.
والصورة الثانية هي وجه للشغار وهو أن يقول: أنكحتك ابنتي بكذا على أن تزوجني ابنتك بلا شيء، أو أنكحتك ابنتي بلا شيء على أن تزوجني ابنتك بكذا، فهاتان الصورتان حرام أيضاً؛ لأن إحدى المرأتين أسقط صداقها، فكان العقد حراماً.
كذلك الصورة الرابعة: هي إذا قال: أنكحك ابنتي بصداق قدره كذا على أن تنكحني ابنتك بصداق قدره كذا، فحدد لكل واحدة منهما صداقاً فهذا جائز عند المالكية حرام عند الشافعية والحنابلة والحنفية؛ لأنه يقتضي صفقتين في صفقة واحدة، والمالكية نظروا فقط إلى جهة الصداق، فما دام الصداق محدداً فقد تم كل عقد من العقدين بكامله، كل عقد من العقدين توافرت أركانه وحصلت شروطه فكان صحيحاً، والحنفية والشافعية والحنابلة يرون أن هذا قد جمع بيعتين في بيعة، ومعنى البيع عندهم أعم، أي: العقد مطلقاً فيرونه حراماً.
أما المالكية ومثلهم ابن تيمية و ابن القيم من الحنابلة فقد فسروا بيعتين في بيعة بأن يبيعه داره بثمن قدره كذا عاجلاً إذا كانت حالة، وبثمن قدره كذا إذا كانت مؤجلة، فيفترقان دون أن يحدد الثمن، يقول: بعتك هذه الدار إذا كنت ستدفع الثمن حالاً الآن فهي بعشرة ملايين، وإذا كنت ستدفعه مؤجلاً فهي باثني عشر مليوناً، فهذا العقد عند المالكية هو بيعتان في بيعة، فقد افترقا على التردد ولا يُدرى بأي الثمنين أخذا، ويمكن أن يموت أحدهما الآن، فيبقى النزاع مع ورثته، فلذلك رأى المالكية أن الحديث منصب على هذه الصورة، ووافقهم على ذلك ابن تيمية و ابن القيم ، فاختارا أن هذا العقد هو بيعتان في بيعة واحدة، أما النوع الآخر فهو بيعتان وليسا في بيعة واحدة، بل اجتمعا معاً في وقت واحدة، ولا حرج فكل وقت يحصل فيه كثير من البيعات والعقود، والتاجر الواحد قد يقف في محله فيساومه مشتر في هذا، ويساومه آخر في هذا، ويساومه آخر في هذا، فيعقد البيع مع الجميع في نفس اللحظة، فلا يسمى ذلك بيعتين في بيعة وهو جائز بالإجماع.
إذاً: فالراجح في تفسير بيعتين في بيعة هو مذهب المالكية أن المقصود بها التردد في العقد بأن يحدد ثمناً حالاً وثمناً مؤجلاً، ويعقدا على ذلك دون بيان فيبقى التردد حاصلاً بينهما فلا يدري هل داره بيعت بعشرة ملايين أو باثني عشر مليوناً؟
كذلك أخرج أحمد في المسند و البزار كذلك في مسنده، و الطبراني في الكبير: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صفقتين في صفقة )، وقد فسر ذلك الصحابي الراوي له بنفس ما فسر المالكية به حديث بيعتين في بيعة: أن يبيعه بثمن حال معين، أو بثمن مؤجل معين، ويفترقان دون تحديد أي الثمنين، وهذا تفسير من الراوي، وتفسير الراوي مقدم لدى كثير من الأصوليين على غيره، ولكن الحنفية لا يعتبرون تفسير الراوي، فيقولون: العبرة بما روى لا بما رأى، فرأيه هو رأي رجل يؤخذ منه ويرد، وما رواه هو المعتبر؛ لأنه يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فما رواه دليل وما رآه اجتهاد، ومن هنا يؤخذ بما روى ويترك ما رأى إلا إذا وافق ما رآه الإنسان ما دل عليه دليل آخر، وعموماً: حديث صفقتين في صفقة أعم من حديث بيعتين في بيعة؛ لأن البيعتين في الأصل يختص بما كان فيه مماكسة أو مكايسة من الطرفين، والصفتين في صفقة يدخل فيهما لا مماكسة فيه ولا مكايسة، كنكاح وبيع ونحو ذلك.
الضابط الثاني: هو ألا يتوصل بالجائز إلى الممنوع، أي: ألا تسدد ريعة مغلقة، كأن يكون العقد جمع بين عقدين من أجل التوصل بالجائز منهما إلى ما لا يجوز، وذلك مثل العينة عند الحنابلة والشافعية وهي التي تسمى بعقد التورق، فأنت مثلاً لديك محل تجاري في السوق، وفيه ثلاثون طناً من السكر، فيأتيك آت فيقول: أشتري منك هذه الأطنان بمبلغ محدد تتفقان عليه، وهذا السعر أغلى من سعر السوق، ثم تشتريها أنت منه بمبلغ أقل في صفقة واحدة، فهذه الصفقة حرام بالإجماع عند جميع العلماء؛ لما فيها من إلغاء الوسط، فالوسط بين الطرفين ملغىً.
وقد قال مالك : انظر إلى اليد السابقة بالدفع، فإن عاد إليها أكثر مما دفعت فامنع، فهذا الذي أتى ليشتري السكر لا يريد هذه البضاعة، إنما يريد النقود؛ ولذلك باع البضاعة بأقل من ثمنها باتفاق مع البائع في نفس الجلسة، والبائع يعلم أن بضاعته لا تخرج من ملكه فهي في محله، وستبقى كذلك يبيعها عشرات المرات وهي مكانها، فيشتريها هذا بثمن، ويشتريها منه هو بثمن أقل، ثم يبيعها لآخر بثمن أعلى، ثم يشتريها منه بثمن أقل وهكذا، فالواقع أن هذا الشخص إنما ربح من تأجيل النقود، فالثمن المؤجل تأجيله هو وجه ربحه هو، ومن هنا فهو يربح من الزمن لا من البضاعة، وقد سبق أن الزمن لا يحل الربح منه؛ لما فيه من ربا النساء.
ولهذا فهذا النوع من الحيل لا بد من بيان الحذر منه؛ لأن كثيراً من الناس يظنون أن النصوص حرفية فيقتصر على ما ورد النص فيه من أمور الربا، وما لم يرد النص فيه يحتال عليه، وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لعن الله اليهود حين حرمت عليهم الشحوم جملوها فباعوها فأكلوا ثمنها )، فقد حرم الله الشحوم على اليهود، فجملوها أي: أذابوها وباعوها فأكلوا ثمنها، والله سبحانه وتعالى إذا حرم شيئاً حرم ثمنه، فهذا النوع هو احتيال على الانتفاع بالشحوم، فهم لا يأكلونها مباشرةً لكن يأكلون ثمنها، فما الفرق بين أكلها وأكل ثمنها؟ فهذا حيلة وهي ممنوعة.
ومع هذا لا بد من ضبط الحيلة، فإن بعض الأمور التي نبين فيها حلولاً شرعيةً ليست من باب الحيلة ولكنها قريب منها، إذا كان الإنسان لا يريد التجاسر على الحرام، ولكنه يريد أن يوقع عقداً ولو كانت صورته تشبه صورة عقد محرم وهو تجافى عن محل التحريم وتباعد عنه فهذا لا يسمى حيلةً، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما جيء بجنيب من تمر خيبر -والجنيب هو أحسن التمر- قال: أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا، إننا لنشتري المد من هذا بالمدين من الجمع، فقال: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم جنيباً )، وبين أن هذا هو الرماء، والرماء هو الربا، فهنا ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم ليس بحيلة حينما أمره أن يبيع الجمع بالدراهم، وأن يشتري بالدراهم جنيباً.
فقد بين له الصورة التي يتوصل بها إلى العقد الجائز، ونهاه عن العقد الحرام، فالعقد الحرام هو: أن يبيع هذا النوع الجيد من التمر بضعفه من النوع الرديء، فهذا حرام، لكن إذا باع النوع الرديء بالدراهم، ثم اشترى بالدراهم النوع الجيد فلم يحتل على الربا، بل عقد عقداً صحيحاً لا إشكال فيه، وليس فيه أي تحايل، وباع الرديء ليربح منه القادرون عليه، فمن الناس من لا يقدر إلا على شراء البضائع الرديئة، وقد فتح لهم الشارع هذا الباب، ومنهم من لديه طاقة شرائية أكبر من ذلك فتتعلق نفسه بالبضائع الجيدة، فلذلك أتيحت له فرصة شرائها أيضاً لكن جعل الوسيط في التبادل ثمناً، وهو النقود، ( بع الجمع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيباً ).
وعلى هذا فما ذكرناه فيما يتعلق بتحويل الأملاك هو من هذا النوع، وليس هو من باب الحيلة للفرق الشاسع بين الأمرين، فالحيلة قصد بها أكل الربا، وتلبيس ذلك، أي: أن يأكل الإنسان رباً ويلبس عليه، والطريقة الثانية عقد الإنسان فيها عقدين مختلفين كل واحد منهما جائز، وتوصل بذلك إلى غرضه المباح، فلم يقع في رباً ولا في منهياً عنه شرعاً.
الضابط الثالث: هو ألا يختلف معنى العقدين ولازمهما، فإن الشريعة المحمدية جعلت لبعض العقود لوازم، وأباحت في بعضها ما لم تبح في غيره، فدل ذلك على اختلاف معانيها وتباين مراداتها، فالنكاح مثلاً تقصد به المكارمة، والمرأة ليست بضاعةً تباع وتشترى، بل إنما يتقدم إليها الخاطب فيقدم الصداق نحلةً أي: هبةً وعطية وإكراماً، فليس الصداق ثمناً للمرأة، وإن كان يشترط فيه ما يشترط في الثمن من ناحية معرفة عدده وكيله ووزنه إلى آخره حتى يكون مضبوطاً لئلا يقع فيه الغرر، لكن ليس معنى ذلك أنه ثمن للمرأة؛ ولذلك لا بد من الانتباه إلى قول خليل رحمه الله: (الصداق كالثمن)، فالمقصود بذلك في وجوب ضبطه ومعرفته، وليس المقصود أنه كالثمن للمرأة، فليس للمرأة ثمن، بل هي حرة لا تباع ولا تشترى، ومن هنا فعقد النكاح مبني على المكارمة، بخلاف عقد البيع فهو مبني على المشاحة، فكل واحد من الطرفين يريد الربح لنفسه، ولهذا قيل لـعبد الله بن جعفر بن أبي طالب : ما لك تجود بالكثير إذا سئلت، وتضن بالقليل إذا توجرت؟ فقال: إذا جدت بالكثير في المسألة فإنما أجود بمالي، وإذا جدت بالقليل في المتاجرة فإنما أجود بعقلي.
فالبيع الذي يجود فيه إنما يجود بعقله لا بماله؛ لأنه تعامل بين عقلين، بخلاف النكاح فالمقصود به المكارمة، وكذلك المساءلة فالإنسان يجود فيها بماله إذا سئل أعطى فأجاد بماله، بخلاف ما إذا بايع فإن الآخر يغلبه في العقل، ويلبس عليه، فلهذا اختلف معنى النكاح والبيع من الناحية الشرعية، فلا يمكن جمعهما في صفقة واحدة باندماج، لكن يمكن أن تكون الاتفاقية جامعةً لبيع ونكاح كل واحد منهما كامل الأركان والشروط من غير اندماج بينهما، كأن يقول له: بعتك داري هذه لتسكنها بكذا، وزوجتك ابنتي بكذا، فبهذه الصورة هذه الاتفاقية جائزة؛ لأن كل واحد من العقدين قد كمل، وكملت أركانه وشروطه ولم يندمج أحدهما في الآخر، بخلاف ما إذا قال لامرأة: تزوجتك بنصف داري هذه، وبعتك نصفها الأخرى بكذا، فهذا اندماج بين العقدين في سلعة واحدة، وهو مقتض لجهالة إما في الثمن، وإما في الصداق، وكلاهما تمنع الجهالة فيه؛ لأنه هنا أراد أن يربح من أحد الوجهين: إما أن يكون راغباً في الزواج فأراد أن يتخلص من الدار، وأن يصل إلى مراده الذي يرغب فيه، أو أن يكون راغباً في بيع الدار ويريد الثمن فتوصل إلى ذلك بالنكاح الذي لا يرغب فيه، وكلا الأمرين مذموم شرعاً؛ فلذلك هذا الضابط لا بد من اعتباره في الأنكحة، ومثلها في الجعالة والبيع، أو نحو ذلك، فالجعالة أجاز الشارع فيها الجهالة في أحد العوضين، فإذا قال: اطلب لي ضالتي فإن وجدتها فلك كذا، فهذا العقد جائز، وهو عقد جعالة وهو جائز عند المالكية والشافعية والحنابلة، والحنفية وحدهم لا يرون جواز الجعالة أصلاً، ولكن الأدلة قائمة على جوازها، ومثلها الرقية إذا قال: هذا مريض منهوش أي: نهشته حية فاقرأ عليه القرآن، وإذا برئ فلك كذا وكذا، فهذا عقد جعالة وهو جائز، وإن كان الغرر حاصلاً فيه؛ لأن هذا قد يقرأ القرآن كله فلا يبرأ المريض، وقد يقرأ الفاتحة فقط فيبرأ المريض، فالغرر حاصل، لكن الشارع أباح هذا النوع من الغرر، وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ( أنهم خرجوا في سرية أو بعث في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلوا على حي من أحياء العرب فاستضافوهم فلم يضيفوهم، فهش سيدهم -أي: نهش سيدهم- فأتوهم فقالوا: هل عندكم شيء من هذا الخير الذي جاء به صاحبكم؟ يقصدون القرآن، فقام إليهم شاب منا والله! ما كنا نأبنه بذلك -أي: ما كنا نظنه بالرقية- فقال: والله! إنه لمعنا ولكننا ضيفناكم فلم تضيفونا، فاجعلوا لنا جعلاً عليه فجعلوا له قطيعاً من الغنم فقام إليه فجعل يقرأ بسورة الحمد، ويبصق عليه ويجمع بصاقه فقام كأنما نشط من عقال، فأعطونا قطيع الغنم فاستقناه فقال: على رسلكم حتى نقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسأله، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه فقال: اقتسموه واجعلوا لي سهماً ).
فبين أنه من أطهر ما يكون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم له سهم فيه، ولم يكن ليأخذ الحرام.
وفي الحديث الآخر: ( لمن أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق )، وما يدريك أنها رقية؟ وما يدريك أنها أي الفاتحة رقية؟ فهذا العقد أباح الشارع فيه الغرر، بخلاف البيع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر، فلا يجوز بيع حمام البرج، ولا بيع الضالة، ولا بيع المغصوب ونحو ذلك مما لا يتمكن منه الإنسان؛ لما في ذلك من الغرر، وقد ذكرنا هذا من قبل في شروط البيوع.
فإذاً: لا شك أن البيع والجعل بينهما افتراق، وأن الشارع اعتبر هذا الافتراق؛ فلذلك لا يمكن أن يجمعا في صفقة واحدة، بل لا بد أن يفترقا لافتراق مضمونهما ومقتضاهما، وكذلك الصرف مع البيع؛ لأن البيع يصح فيه التأجيل، كأن يقول: بعتك داري هذه على عشرين سنةً تدفع لي كل سنة كذا وكذا، فهذا جائز قطعاً، لكن لا يجوز ذلك في الصرف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الذهب بالذهب رباً إلا ها وها )، فلا بد من المقابضة. وقال: ( فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد )، فالصرف إذاً يختلف حكمه عن البيع، فلا يمكن جمعهما بصفقة واحدة لتباين مضانيهما.
وقد اختلف أهل العلم في الضابط الثالث بعد اتفاقهم تقريباً في الضابطين السابقين، فذهب المالكية إلى اعتبار هذا الضابط وأن كل عقدين يختلف مضمونهما ومعانيهما فلا يحل الجمع بينهما، وجمع بعضهم ذلك بكلمة (جص مشنق)، فالجيم للجعل، والصاد للصرف، والميم للمساقاة، والشين للشركة، والنون للنكاح، والقاف للقرض والقراض معاً، فهذه العقود العشرة يجمعها (جص مشنق) فلا تجمع مع البيع في صفقة، ولا يجمع اثنان منها في صفقة، وزادها بعضهم عن ذلك، وقد قال أحدهم:
عقود منعنا اثنين منها بصفقة ويجمعها في اللفظ (جص مشنق)
فجعل وصرف والمساقاة شركة نكاح قراض منع هذا محقق
وصوب هذا علي الأجهوري يريد به زيادة هذه العقود، فقال:
عقود منعنا اثنين منها بصفقة لكون معانيها معاً تتفرق
وذلك نظم لهذا الضابط،
فجعل وصرف والمساقاة شركة نكاح قراض قرض بيع محقق
فأدرج البيع معها.
وجمهور أهل العلم لا يرون هذا الضابط، فيرون جواز جمع هذه العقود، إلا إذا حصل التنافي بينها، فالعبرة عندهم بتنافي مضمون العقدين لا بذات العقدين، فالعقد في الأصل جائز، والعقد الآخر جائز، واجتماعهما في اتفاقية واحدة لا يقتضي منع ما أحله الشارع، وتحريم ما أحله الشارع مثل تحليل ما حرمه، وقد بالغ عدد من أهل العلم في الدفاع عن هذه المسألة، لكن ذكر ابن العربي رحمه الله تعالى: أن هذه المسألة من نوادر المالكية أي: من مسائلهم الرفيعة؛ وسبب ذلك أن التخريج فيها هو من تنقيح المناط بالزيادة، فالمناط معناه: مكان تعليق الحكم من النص، إذا جاء نص من الشارع فيه نهي أو أمر بمسألة فلا بد أن يتعلق العقل بذلك الأمر والنهي، فإذا عرف مكان تعلقه عرف أن هذا إنما نهى الشارع عنه من أجل كذا، أو إنما أمر الشارع به من أجل كذا، فهذا التعلق هو مناط الحكم، والمناط يبحث فيه من ثلاثة أوجه:
أولاً: تحقيق المناط.
ثانياً: تنقيح المناط.
ثالثاً: تخريج المناط.
ثلاثة أمور:
الأمر الأول: تحقيق المناط، وذلك فيما إذا أطلق الشارع أمراً عاماً فتنزيله على جزئياته وأفراده هو تحقيق لمناط الحكم، فمثلاً قال الله تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2]، وقد عرفنا أن العدالة هي اجتناب المحرمات وامتثال المأمورات الشرعية، فإذا كان الإنسان سليم الدين والمروءة فهو عدل، لكن لم يقل الشارع: أشهدوا فلاناً وفلاناً، وتنزيلنا نحن لذلك واختيارنا لفلان وفلان لإشهادهما على هذه المسألة هو من تحقيق المناط؛ لأن مناط الحكم جاء مطلقاً وهو تحقيق العدالة، وقد تحققت في هذين الرجلين فاخترناهما شاهدين، فهذا النوع يسمى تحقيق المناط ولا خلاف فيه بين أهل العلم؛ لأن كل عمومات الشرع لا بد فيها من تحقيق المناط.
الأمر الثاني: هو تنقيح المناط، وهو أن يكون الشارع علق حكماً على واقعة، وهذه الواقعة فيها عدد من الأوصاف، كل وصف منها محتمل أن يكون هو الذي أناط الشارع به الحكم، فنعدل إلى هذه الأوصاف فنزيل منها ما لا يصلح للتعليل، حتى يبقى لدينا الوصف الذي يصلح للتعليل فننوط به الحكم حينئذ، فمثلاً: ( جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث سلمة بن صخر - جاء يضرب صدره وينتف شعره ويقول: يا رسول الله! هلكت وأهلكت، قال: وما ذاك؟ قال: واقعت أهلي في نهار رمضان، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بعتق رقبة، فضرب صفحة عنقه فقال: والذي بعثك بالحق لا أملك غير هذه، فأمره بصيام شهرين متتابعين، قال: والذي بعثك بالحق ما وقعت فيما وقعت فيه إلا من أجل الصوم، فأمره أن يطعم ستين مسكيناً، فقال: والذي بعثك بالحق ما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا، فقال: اجلس، فجلس حتى جيء النبي صلى الله عليه وسلم بفرق من تمر -والفرق: وعاء يتسع لستين مداً- فقال: خذ هذا فأنفقه على أهلك )، فهذا الحكم -وهو وجوب الكفارة- جاء هنا معلقاً بقصة هذا الأعرابي، فكونه أعرابياً وصف غير معتبر شرعاً، إذ لا فرق في التكليف بين الأعرابي والحضري، وكونه جاء متأثراً تأثراً بالغاً يضرب صدره وينتف شعره لا اعتبار له من الناحية الشرعية؛ لأن الحكم ماض على من ندم ومن لم يندم.
وكونه قال: (واقعت أهلي) لا فرق بين أهله وبين الأجنبية -نسأل الله السلامة والعافية- وبين أمته فلا فرق شرعاً فالجميع اعتداء على حرمة الشهر، فإذاً: لا فرق.
وقوله: (في نهار رمضان) لا اعتبار لذلك النهار بعينه عن جميع أيام رمضان، ولا اعتبار لذلك الشهر بعينه عن كل الرمضانات.
فهذا تنقيح للمناط، وهو بمثابة إزالة اللحم عن العظم، فأزلنا كلما يمكن من هذه الصفات، وبقي لنا صفة واحدة وهي انتهاك حركة الشهر بالوقاع، فهذا النوع يسمى تنقيح المناط بالنقص، وقد أخذ به جمهور أهل العلم، فمذهب الشافعية والحنابلة والحنفية ومعهم المالكية أيضاً: أن الوقاع في نهار رمضان موجب للكفارة مطلقاً سواءً كان لزوجته أو أمته في أي يوم من أيام رمضان فهو موجب للكفارة مطلقاً.
وكذلك مثله تعمد إخراج المني مطلقاً في نهار رمضان موجب للكفارة، سواءً كان ذلك باستمناء، أو بنظر، أو بغير ذلك من أنواع المقدمات فهو مبطل للصوم موجب للكفارة إجماعاً.
لكن يبقى أمر آخر وهو إلحاق الأكل والشرب بالوقاع، فحديث الأعرابي ليس فيه ذكر للأكل ولا للشرب، فلدينا نوع آخر من تنقيح المناط هو تنقيح المناط بالزيادة، فبدل النقص أي: نقصنا كل الأوصاف سنزيد في الأوصاف، هو عكس هذا، وهذا النوع أخذ به المالكية في هذه المسألة وخالفهم الجمهور، فالمالكية يرون أن المناط يمكن أن ينقح بالزيادة، فيقال: لا فرق أيضاً بين الجماع وبين الأكل والشرب في نهار رمضان؛ لأن الصوم هو الإمساك عن شهوتي البطن والفرج وما يقوم مقامهما من طلوع الفجر إلى غروب الشمس طاعةً للمولى مخالفةً للهوى، فالأكل والشرب اعتداء على الصوم، وهما مبطلان له فلا فرق بينهما وبين الوقاع فيلزم فيهما الكفارة كما يلزم ذلك في الوقاع، فرأى المالكية أن من أكل عامداً في نهار رمضان أو شرب أو جامع فينطبق عليه هذا الحديث وتلزمه الكفارة، ومذهب الجمهور: أن ذلك في حق من واقع فقط في شهوة الفرج، أما شهوة البطن فلا تدخل عندهم؛ لأنهم لا يرون الأخذ بتنقيح المناط بالزيادة.
أما مسألة العقود التي ذكرناها فالمالكية أخذوا فيها بتنقيح المناط بالزيادة، فقالوا: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف؛ لأن معناهما يفترق، فالبيع كل واحد منهما يطلب الربح، والسلف أحدهما جاء من أجل الحاجة والضرورة يريد أن يسد خلته، والآخر متبرع لوجه الله سبحانه وتعالى يريد سد خلت هذا المحتاج، فمعناهما مختلف؛ فلذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجمع بينهما، فنلحق بهما كل ما اختلفت معانيه من العقود، وهذا تنقيح للمناط بالزيادة، وهذا الفهم الذي فهمه المالكية في هذه المسألة واضح وهو يقتضي أنه عندما يحصل التباين في مراد العاقدين، أو إذا اقتضى كل واحد من العقدين نوعاً من أنواع الأخلاق والقيم وخالفه الآخر فلا يمكن جمعهما في صفقة واحدة؛ لأن ذلك يقتضي تناقضاً وتبايناً، وبهذا فكانت هذه المسألة كما قال ابن العربي من عيون مسائل المالكية، وهي من مفرداتهم التي انفردوا بها عن المذاهب الأخرى، واختيارهم فيها بين واضح؛ لأنه من المعلوم أن الجانب الاقتصادي في الشرع مبني على القيم الخلقية؛ ولذلك لا شك أنه لو قام ملك من الملوك، أو رئيس من الرؤساء، فاتخذ قراراً بتحريم الربا، ورتب عليه عقوبةً شديدة، لكنه لم يبال بتصحيح القيم الخلقية، فترك الناس على الغش والكذب والحرص على الدنيا وإيثارها على الآخرة، وتركهم يتعاملون بما يتعاملون به في واقعهم، هل سيطيعه الناس؟
أبداً لا يطيعونه؛ لأن الناس يبنون الاقتصاد على القيم الخلقية، والقيم الخلقية تقتضي منهم الإسراع إلى الدنيا والحرص على تحصيلها بأي وجه من الوجوه؛ فلذلك لا يمكن أن يمتنعوا عن الربا حينئذ، لكن إذا بدأ أولاً بتصحيح القيم فحرم الكذب والغش والخداع والاعتداء على أموال الآخرين، وحارب كل ما يؤدي إلى نقص الثقة بين المتبايعين، فحصلت قيم أصيلة كما حصل في عهد الصحابة والتابعين حينئذ سينكف الناس عن الربا ولو لم ترتب عليه أية عقوبة؛ لأنهم رغبوا فيما عند الله، وكرهوا التوصل إلى المال بالطرق الملتوية التي هي حرام، وذلك بقيمهم الخلقية التي تدربوا عليها وتربوا عليها، ومن هنا فلذلك لا يمكن أن يحال بين القيم الخلقية والقيم الاقتصادية لانبناء القيم الاقتصادية على القيم الخلقية، فعلى هذا الراجح -إن شاء الله تعالى- هو مذهب المالكية بتحريم الجمع بين العقدين إذا كانا معناهما مفترقاً مختلفاً.
أما مسألة تتعلق بالجمع بعد هذا الترجيح وهي حكم المواعدة به، كما إذا قال الإنسان الذي لديه سيارة مثلاً قد رغب عنها وهو يريد أن يبيعها لإنسان ويشتري منه سيارةً أخرى، فقال له: اشتر مني سيارتي هذه بكذا وكذا، وأنا أشتري منك سيارتك بكذا، وجعل العقد الأول ناجزاً والثاني وعداً، فهذا الوعد عند المالكية ملزم على الراجح لديهم، وعند الجمهور غير ملزم، والمواعدة فيه في الجمع إذا كانت بهذا النوع فإن كانت بين البيع والصرف فهي أيضاً ممنوعة؛ لأن المواعدة مثل الإنجاز في ذلك، فلو قال له: أبيعك هذه السيارة مثلاً بمليونين، وهذه ألف يورو مثلاً بأربعمائة وعشرة آلاف أوقية، فجمع بين البيع والصرف في صفقة واحدة فهذا جمع واضح، لكن إذا كان الوعد بذلك فقال: اشتر مني هذه السيارة بمليونين وسأبيع منك هذه الألف يورو مثلاً بأربعمائة وخمسة أو أربعمائة وعشرة، فهذا لا فرق فيه بين المواعدة والإنجاز؛ لأن الوعد ملزم عند المالكية، وبذلك تكون الاتفاقية قد جمعت بين بيع وصرف، ومعناهما مختلف، فلا يجوز الإقدام على مثل هذا النوع من العقود.
ولا شك أن كثيراً من بياعاتنا اليوم وعقودنا في الأسواق يدخل فيها الجمع بين الأنواع المختلفة سواءً كان ذلك في المثمنات أو في الأثمان، ولا بد من معرفة هذه الضوابط التي ذكرناها وتطبيقها على البضائع والسلع.
فمثلاً الذي يأتي إلى بقالة فيشتري منها مثلاً يقول: بعني ثلاثة كيلو من التفاح وثلاثة كيلو من البرتقال، والثمن واحد وهو أربعمائة أوقية مثلاً، فيجعلها وزناً واحداً، فهذا النوع حرام؛ لأنه جمع بين صنفين مختلفين، ووزنهما متفاوت، فقد يكون البرتقال أثقل من التفاح، وكذلك نوع التفاح، فالتفاح الأصفر والتفاح الأحمر لا يحل بيع الكيلو الواحد مشتركاً بينهما، أو أن يبيعه كيلين من التفاح الأصفر وكيلين من التفاح الأحمر دفعةً واحدةً في وزن واحد؛ لأن الرغبة متباينة فيهما؛ ولأن أحدهما قد يكون أثقل من الآخر أو أكبر منه، فيكون أحد الصنفين قد زاد على وزنه المحدد، فذلك من الممنوعات.
وكذلك في بيع العملات إذا دفع إليه مليوناً فقال: أشتري منك مقابل هذا المليون من اليورو، فبقي شيء يسير جداً من المليون فقال: اجعله مثلاً بالدرهم المغربي، أو اجعله بالدولار أو غير ذلك، فيكون بهذا جمع بين نوعين في صفقة واحدة، وهذا مما لا يجوز، بل لا بد أن يفصل فيقول: هذا القدر من اليورو يقابله كذا وكذا من نقودك هذه من الأوقية، ثم ما سوى ذلك نتبايع فيه من جديد، سواءً كان بالدولار أو بالدرهم أو بغير ذلك.
كذلك بيع الأصناف المتفاوتة فمثلاً لا شك أن الملابس المستعملة قد غزت كثيراً من الأسواق وبالأخص في البلاد الإفريقية، والملابس المستعملة تجمع بالوزن فتباع بوزنها، وهي مجهولة فيها قمصان وسراويلات، وأنوع كثيرة من أنواع الملابس، وإذا فصلت فللتجار فيها نوعان من التفصيل:
النوع الأول: أن يفصلوها بثلاثة اعتبارات: الملابس الرجالية وحدها، والملابس النسائية وحدها، وملابس الأطفال وحدها، وهذا الجمع لا يغني شيئاً؛ لأن القيمة متباينة؛ ولأن بعضها صالح للاستعمال، وبعضها دون ذلك، وهي متفاوتة الأسعار لو أخذت بالمفرد لا بالجملة.
وكذلك النوع الثاني من التفصيل: هو أن يجعلوها على مراتب من ناحية الجودة، فيجعلونها مثلاً على ستة أقسام: ألف، وباء، وجيم، ودال، وهاء، وواو، فالنوع (ألف) العينات الجيدة سواءً كان ذلك في قماشها، أو في تفصيلها وخياطتها، أو في استعمالها، فالثوب الذي لم يستعمل إلا مدةً يسيرة يجعل في الرقم الأول، والثوب الذي أصلاً قماشه وخامته رفيعة يجعل كذلك في الدرجة الأولى، والثوب الذي خياطته رفيعة من ماركة عالمية مثلاً وعليه العلامة التجارية فكذلك يجعل في هذا القبيل ولو استعمل استعمالاً أكثر، ثم بعدها المراتب الأخر حتى تصل إلى ست مراتب، وهذا التصنيف الراجح فيه أنه لا يميز؛ لأن الإنسان يشتري هذه الثياب صبرةً جزافاً وذلك لا يحل؛ لأنه لا يدري كم فيها من القمصان، وكم فيها من السراويلات، وكم فيها من القبعات، وكم فيها من أنواع الثياب الأخر، فلا يحل الإقدام على مثل هذا النوع.
وأشد منه بيع ما عبئ منها تعبئةً خيرية، فالهيئات الخيرية تجمع الملابس المستعملة، ولا تميز بينها بأي نوع من أنواع التمييز، فالمهم أن تجمع جميعاً في ظرف واحد؛ لأنها لا يقصد بيعها وإنما يقصد توزيعها على المحتاجين، وحينئذ لا يحل بيعها بوجه من الوجوه؛ لأنها لم يراع فيها أي ضابط للتمييز والتفصيل، فهي تجمع الجيد والرديء والصالح والذي لا يصلح، والذي يمكن استعماله في هذه البلاد والذي لا يمكن استعماله فيها.. إلى آخره؛ فلذلك لا يمكن بيع ما عبئ من الملابس المستعملة تعبئةً خيرية، والبحث فقط في القسم الأول وهو ما عبئ تعبئةً تجاريةً إذا فصل هذا التفصيل وكان دقيقاً وأدى ذلك إلى إزالة الغرر فهذا محل اجتهاد ونظر، وأنا لا أرى جواز بيعها كذلك.
ومثل ذلك قطع الغيار المستعملة في السيارات أو الماكينات أو الكمبيوترات أو غيرها، فهذه القطع إذا خرب هذا الجهاز فإنه سيفصل ويوزع، فبعض قطعه ستكون صالحةً للاستعمال مرةً أخرى، وكذلك في السيارات والكمبيوترات وغيرها، فلا شك أن هذه القطع جميعاً تتأثر بالاستعمال، ويقع فيها احتكاك ونقص بطول مدة الاستعمال، وبعضها أشد تعرضاً للتلف من بعض؛ فلذلك بيعها في الجملة مما لا يمكن الإقدام عليه إلا إذا بيعت كسيارة مثلاً أو كجهاز، ولم تبع على أنها قطع في الجملة، فيجوز بيع السيارة الخربة، ويجوز بيع الكمبيوتر المتعطل، أو الجهاز المتعطل، ليستطيع الإنسان تفصيلها، وكل قطعة منها وحدها أو كل جزء منها وحده يجعل له ثمناً يتفق عليه بشرط الاستعمال، فإذا كانت صحيحةً مضى البيع، وإذا كان فيها خراب رد البيع، وهذا النوع من الشروط هو مما لا يتم العقد إلا به؛ لأن الإنسان إذا اشترى هذه القطعة وهو لا يدري بمجرد النظر والرؤية مدى صلاحيتها، فلا بد أن يجعلها أولاً في سيارته فإذا سمع فيها صوتاً أو لم تؤد ما أتي بها من أجله يردها، ولا بد أن يشترط ردها؛ لأن في عكس ذلك أكلاً لمال الناس بالباطل، وكثير من القطع لا يمكن معرفة صلاحيتها بمجرد النظر، بل أكثر القطع كذلك لا يمكن النظر من معرفة صلاحيتها، بل لا بد أن توضع في مكانها، وتشغل السيارة أو الماكينة، فإذا اشتغلت وجاءت على الوصف حتى لو كانت في آخر عمرها وكانت بالاشتغال لمدة يسيرة تتعطل، هذا لا يعنينا المهم أنها الآن صحيحة، وأدت الدور المطلوب، والشرط هو أن تكون صحيحةً، ويأخذ مقابل ذلك مما اتفق عليه من الثمن، فهذا في المفرد يجوز لكن في الجمع لا يجوز لما فيه من الجمع بين الجيد والرديء؛ وذلك من الجمع في البيوع كما ذكرنا.
وهكذا الماركات التجارية المعتبرة، فهذه الماركات لا شك أن ما كان منها أصلياً غير مزور فالرغبة فيه حاصلة والثمن الذي يدفع فيه هو على أساس أصالته وما كان منها مزوراً في البلدان الأخرى التي فيها حق الملكية الأدبية والفكرية ونحوها إذا اطلع عليه فهو مخالفة قانونية يعاقب صاحبها، وتوضع عليه عقوبات كبيرة، ولكن بلادنا هذه وعدداً من البلدان ليس فيها حماية لمثل هذا النوع من الحقوق، فإذا جيء بنوع من البطاريات مثلاً أصلي ونوع مزور فلا يحل الجمع بينهما، ولا يجوز بيعهما بالجملة، بل لا بد أن يباع كل نوع وحده، وأن يبين أن هذا النوع مزور، والأصل عدم جواز الإتيان به أصلاً؛ لأن تزويره إذا كان بنفس الماركة يقتضي تلبيساً على الناس، وكثير من الناس يشتريه ويظن أنه بنفس القيمة التي يوجد بها البضاعة الأصلية، وهذا من الغش، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من غشنا فليس منا )، فلذلك لا بد من الحذر منه.
ومثل هذا في الأدوية وهو أخطر وأعظم، وبالأخص إذا عرفنا أن كثيراً من الأدوية المتداولة هنا في أسواقنا الآن هي مزورة ولم تخضع للتجارب العلمية، ولم تنتجها مخابر معترف بها، وضررها أكثر من نفعها، وقد ذكر لي بعض الإخوة أن كثيراً من هذه الأدوية التي تباع هنا في الأسواق تستعمل فتكون نتيجتها عكسية، ولا يترتب عليها أي فائدة، وإذا جيء بالدواء الأصلي فاستعمل ترتبت عليه النتيجة المرجوة، ومن المعلوم أن هذه الأدوية هي مركبات كيميائية جمع فيها بين أنواع مختلفة، فمن هذه الأنواع ما هو مادة فعالة يقصد بها العلاج من مرض محدد، كمسكن مثلاً للآلام، أو منشط لحركة الدم مثلاً، أو مرقق له، أو نحو ذلك، فهذه المادة الفعالة هي المعتبرة، وهذه عادةً ما تكون خمساً وعشرين بالمائة فقط من أصل الدواء، فهذه الحبة الواحدة أو الكبسولة فيها خمسة وعشرون بالمائة هي الدواء، وخمسة وسبعون بالمائة مواد أخرى، منها مواد مسيغة، أي: تجعلها تذهب في الماكينة، ولا تتعطل فيها وترسب خوفاً من تعطل الماكينة وليس الانتفاع بالدواء، ومنها ألوان، ومنها طعوم، ومنها كذلك مواد حافظة تمنعها من التغير.. إلى آخره، فتغييرها عن هذا التركيب يجعلها خلطاً جديداً فيه جمع بين أشياء ونظائر وأمور مجهولة، فلا يحل بيعه حينئذ.
ولذلك فإن المالكية ذكروا أن ما لا يمكن ضبطه لا يحل بيعه إلا بالتراضي كالجبن فإنه إذا كانت المواد التي وضعت فيه غير متساوية، ومثله الأخلاط كالترياق ونحوه من الأخلاط كالغالية وهي جمع من أخلاط الطيب، يجمع فيجعل منه نوع واحد من أنواع الطيب، فهذا النوع لا يحل السلم فيه؛ لأنه لا يضبط، ولكن هل يحل البيع فيه مباشرةً؟ لا سيما إذا علم أن عدداً من صانعات الطيب في السوق ومن العطارين يجمعون أنواعاً من العطور، فيأخذون أنواعاً من الورود، وأنواعاً من المساحيق، ويصبون عليها أنواعاً من المسك، فيجعلون منها بخوراً مثلاً من نوع واحد، فهذا النوع لا يحل السلم فيه؛ لأنه لا يمكن أن يضبط قدر ما فيه من كل مادة من المواد، ولا يمكن معرفة ذلك، فلا يحل السلم فيه، ولكن يحل بيعه حالاً إذا رآه الإنسان أو شم رائحته وعرفه؛ لأن ذلك من التراضي، فيحل شراؤه مباشرةً، لكن لا يحل السلم فيه إلى أجل؛ لعدم إمكان الضبط فيه.
فهذه بعض الأمثلة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
السؤال: ما حكم من أخذ ديناً وفرط في أدائه حتى إذا أراد تسديد ذلك الدين لم يجد صاحبه، فهل يجب عليه أن يتصدق به عن صاحب الدين؟ وما الحكم في ماله إذا كان صاحبه كافراً هل يمكن أن يتصدق به عنه؟
الجواب: إن على كل من أخذ ديناً أن ينوي عند أخذه سداده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أخذ مال مسلم وهو يريد أداءه أدى الله عنه، ومن أخذه وهو يريد إتلافه أتلفه الله )، وهذا الحديث محتمل لأمرين: محتمل للخبر والدعاء، فإذا كان خبراً فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الصادق المصدوق، وما أخبر به فهو الحق، وإذا كان دعاءً فدعاء النبي صلى الله عليه وسلم مستجاب؛ فلذلك إما أن تكون عبارة (أدى الله عنه، وأتلفه الله) خبرين، وإما أن تكون دعاءين، وكلاهما محظور، فالخبر صدق، والدعاء مستجاب.
فلذلك على الإنسان أن يحرص على ألا يأخذ مال المسلمين إلا وهو يريد أداءه وسداده، ولا بد في الديون أن تضبط بأجل سواءً كان ذلك الأجل متفقاً عليه في الأقوال، أو كان جارياً على الأعراف، فإذا اقترض الإنسان مائة ألف من إنسان لا بد أن يحدد له الأجل الذي يردها فيه عادةً، وإذا لم يجدها عند الأجل فيمكن أن يمدده في الأجل؛ لأنها قرض مثلاً، وهكذا في كل الديون، وإذا حدد ذلك فهذا هو الأصل، وهو الذي يقتضي السلامة، وإذا لم يحدد أجلاً وأخذ مال إنسان فقصر في سداده، وامتنع من أدائه وهو قادر عليه، فهذا هو الذي يسمى بالمطل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( مطل الغني ظلم يحل عقوبته وعرضه )، وفي الحديث الآخر: ( لي الواجد ظلم يحل عقوبته وعرضه ).
فهو بذلك قد مطل ولوى غريمه فظلمه بذلك، فأحل عقوبة نفسه، وأحل عرض نفسه أيضاً، وإذا فرط حتى غاب صاحب المال ولم يجده ولم يعرف مكانه ولم يجد الوصول إليه بوجه من الوجوه فحينئذ تعلق به حقان: أحدهما: حق الله، وتجب منه التوبة، والثاني حق المخلوق، فيجب عليه استقصاء حاله حتى يجده، فإن عجز عن وجوده وأيس منه فإنه يتصدق عنه بذلك الدين الذي عليه له، فإذا جاءه يوم من الأيام قضاه مرةً أخرى، ويكون ما تصدق به من قبل في حسناته هو، كأنما تصدق به من جديد عن نفسه.
وإن كان ذلك الدين لكافر فلا يتصدق به عنه، لكن إذا كان يعلم أنه قد مطله وهو قادر على أدائه وكان ذلك في دار الإسلام فينبغي أن يخرج هو من ذلك المال الذي أخذه فعند جمهور العلماء أنه يخرج منه كاملاً، وعند بعضهم يخمسه، فيأخذ أربعة أخماسه ويخرج من خمسه، ومحل هذا إذا كان ذلك الكافر الذي تعامل معه غير معاهد ولا ذمي مثلاً، أما إذا كان معاهداً أو ذمياً فإن حقه في المال باق، فينتظره به أو يضعه تحت يد أمين حتى يأتي صاحبه.
السؤال: عندي صديق كان لا يصلي فنبهته وذكرته حتى أصبح يصلي الحمد لله، ثم سألني: ماذا يفعل في الصلوات الماضية؟
الجواب: إن كان هذا الصديق قد ترك الصلاة في الماضي جهلاً لحكمها، أو شكاً في وجوبها، أو شكاً في أصل التكليف فقد كان كافراً في الماضي، وهو الآن قد أسلم، والإسلام يجب ما قبله، فلا يؤاخذ بشيء مما مضى، ولا يلزمه قضاء شيء مما مضى، وإن كان تركها تكاسلاً تكاسل عنها، وخمولاً أو مكابرةً أو نحو ذلك، فجمهور أهل العلم على أنه لا يكفر بترك الصلاة، وأنه يلزمه قضاؤها، وذهب أحمد بن حنبل و ابن حبيب من المالكية إلى أنه يكفر بترك الصلاة تكاسلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( حد ما بين المرء والشرك والكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر )، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر )، فرأوا ذلك كفراً أكبر مخرجاً من الملة، وشملوا به ما كان تكاسلاً وما كان جحداً، وهذا القول الذي رآه الحنابلة و ابن حبيب من المالكية يقتضي أن ترك الصلاة كفر مطلقاً، وعلى هذا فمن كان تاركاً لها ثم تاب وأناب من جديد فهو مسلم، فلا يلزمه قضاء شيء مما مضى؛ لأنه أسلم الآن، لكن يلزمه تجديد عقده إن كان متزوجاً، ويلزمه الحج من جديد إن كان قد حج من قبل.. وهكذا؛ لأن أعماله الماضية قد بطلت، وبإسلامه الجديد والتزامه ترتب الخطاب عليه من جديد.
وعند الجمهور: أنه لا يبطل شيء من أعماله الماضية إذا كان ترك الصلاة تكاسلاً، ولكن يلزمه قضاء تلك الصلوات، فإن عرف عددها قاضها بالترتيب، ويبدأ بالظهر؛ لأنها أول صلاة ظهرت في الإسلام، وإن كان يجهلها فإنه يحطاط حتى يعلم أن ذمته قد برئت، فهو يعرف أنه كلف سنة كذا، ويعلم أن كل سنة فيها ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً، وأن كل يوم فيه خمس صلوات من الفرائض، فيجمعها بعملية حسابية؛ وبذلك يقضي حتى تبرأ ذمته؛ لأن الذمة إذا عمرت بمحقق لا تبرأ إلا به، ولا يحدد له قدر معين من الصلوات لا بد أن يصليه في اليوم، بل المرجع في ذلك إلى حياته هو وما لا يضر عمله ولا بدنه، فالذي يضر ببدنه ممنوع؛ لأن الشارع قال: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، وما يضر بعمله وتجارته ووظيفته ممنوع؛ لأن ذلك ضرر به، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا ضرر ولا ضرار )، وما زاد على ذلك فهو الذي يصرف فيه وقته في القضاء.
السؤال: أودع لدي شخص مبلغاً من المال من الأوقية مثلاً على أن أجعله في السكر وأبيعه بربع بالمائة إلى أجل عام لكنني احتجت أنا شخصياً للمال وتصرفت فيه لشأني، فماذا يجب علي من التعويض لصاحب المال بعد تمام العام، وأن أسلم من الربا؟
الجواب: إن اقتراض هذا المال لا يجوز؛ لأنه وكيل معزول عن غير النظر، وبذلك يكون قد أدخل الضرر على هذا الإنسان حيث عطل ماله عن التجارة التي كان يريد منها ربحاً، وقد كان يريد أن يشتري بضاعةً، فيبيعها بأكثر من ثمنها إلى أجل، وهذا عقد جائز، فعطل هو هذا المال عن حاله، فقد أدخل الضرر على ذلك الشخص، فلا بد أن يحضره فيقول له: مالك هذا أصله ها هو، وأنا قد اعتديت عليه وعطلته عن مصلحته، لكني مستعد لإزالة الضرر عنك، فالذي وصل إليك من الضرر أنا متحمل لرفعه عنك، وبذلك قد يقوم هذا الضرر فيعطى ربحاً أكثر ليس على وجه الربح من القرض، لكن على وجه رفع الضرر كما تحكم به المحاكم مثلاً، وإذا كان يخاف من غضبه أو نحو ذلك فيمكن أن يسلم إليه الثمن وزيادةً عليه يرضى هو بها من عند نفسه طواعيةً، وألا يخبره بتعطيله له خشية غضبه لما في ذلك من تغييظ قلوب المسلمين، ومن حق المسلم على المسلم ألا يغيظ صدره بما ليس بحق شرعاً.
السؤال: ما حكم شراء ما يسمى بالجرعاء أي: جزء من شاة مجهولة القدر بأن تقسم على عشرة أجزاء مثلاً؟
الجواب: إذا كان ذلك الجزء شائعاً كأن يقال: ثلث الشاة أو ربعها أو عشرها أو خمسها أو نحو ذلك فيجوز بيعه منها كأن يشتري عشرة شاةً، أو أن يشتري ثلاثة مثلاً بعيراً فينحرونه، فيدفع كل واحد ثلث الثمن ويأخذ ثلث البعير، فهذا النوع هو من الأمور الجائزة؛ لأنه اشتراك في الشراء، ولا حرج فيه شرعاً.
السؤال: هل يصح الغسل أو الوضوء إذا كان الجسد مبتلاً قبل ذلك بماء وصابون بحيث يصعب تمرير اليد على الجسد؟
الجواب: أن الماء لا يضر تغيره على الجسد، فإذا كان الجسد عليه صابون أو عليه وسخ وصب عليه ماء حتى زال عنه ذلك وباشر الماء أصل الجسد فتغير الماء عن الجسد لا يضر، فهو معفو عنه شرعاً، فلذلك يجوز الغسل والوضوء والحالة هذه.
السؤال: ما الجائز من التجميل للرجال والنساء؟
الجواب: إذا كان التجميل تغييراً لخلق الله فهو حرام، كنمص الحاجبين أي: ترقيقهما، ومثله وشر الأسنان، أي: تفليجها، ومثل ذلك الوشم، أي: تغيير لون البشرة، فهذا النوع حرام؛ لما فيه من تغيير خلق الله، وما كان منه من غير تغيير لخلق الله، وكان تحسيناً آخر لأمر ما كالخضاب والحناء وخضاب الشعر الذي هو شديد البياض لتغيير لونه، فهذا النوع هو من الزينة التي لا حرج فيها، وقد قال الله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ [الأعراف:32]، فهو من الأمور الجائزة.
ويبقى بعد هذا ما يتعلق بلون البشرة، فصبغ لون البشرة بالصبغ المغير للون كالأصباغ التي تغير اللون الأسود إلى فاتح أو إلى أبيض أو نحو ذلك، لا يحل استعمالها؛ لأنها مثل الوشم، والدهانات والكريمات التي تعالج أثر أشعة الشمس في البدن يجوز استعمالها للرجال والنساء ولا حرج فيها شرعاً؛ لأنها بمثابة العلاج من المرض.
ومثل ذلك تقويم الأسنان، فالأسنان مع البرد ومع كثير من المعالجات تنحرف في نبتتها عن مكانها، فتقويمها بأن يجعل عليها حديداً يقومها في مكانها، أو أن تقام لها عملية جراحية تردها إلى مكانها هذا لا حرج فيه؛ لأنه ليس من تغيير خلق الله بل هو من العلاج ككل الأمراض، ومثل ذلك إزالة بعض ما يأتي من النتوء كمن نبت في وجهه شامة مثلاً، فكان فيها ثقل عليه، أو أثرت على بصره، أو كان منظرها مستبشعاً، فإزالتها من الدواء وليس فيها أي حرج من الناحية الشرعية، ومثل ذلك من أصيب بضربة في فمه فتأثرت بها شفته فحصل فيها ورم أو نحو ذلك يجوز إزالة ذلك بعملية تجميل يقطع فيها الزائد الذي هو مستبشع من ناحية النظر.
واختلف في زراعة الشعر بالنسبة للأصلع إذا كان الرجل أصلع: هل يجوز له زراعة الشعر؟ إذا كان ذلك الشعر ليس نجساً، بأن لم يكن فيه أصول نبتته، فأصول النبتة التي داخل الجلد هي نجس، فإذا كان الشعر خالياً منها فهل تجوز زراعته أم لا؟ هذا محل خلاف بين أهل العلم، وهو راجع إلى الخلاف في زراعة الأعضاء، فالأعضاء التي لا حياة بدونها تدخل في حيز الضرورة كالكبد والقلب والكلى فزراعتها من الضرورات، والأعضاء التي يمكن أن يعيش الإنسان بدونها وقد لا يتضرر ضرراً بالغاً بفقدها كمن قطعت إصبع من أصابعه في حادث سير فأراد زراعة إصبعاً مثلاً، أو سقط جزء من أذنه أو نحو ذلك، فزراعة هذا النوع محل خلاف، والذي لا خلاف فيه أنه لا يجوز هذا لمن قطعت يده في حد من حدود الله كحد السرقة مثلاً، فإنه لا يحل له زراعة اليد مرةً أخرى؛ لأنها أزيلت بعقوبة شرعية.
السؤال: رجل له أبناء ذووا مال وهو يتولى تزكية مالهم بنفسه، فهل له أن يزكي مالهم هذا علماً بأن الأبناء بالغون إلا أنه يخشى منهم عدم صحة الزكاة أو نحو ذلك؟
الجواب: أن هذا الوالد إذا كان أبناؤه سفهاء أو في دينهم نقص، فيخاف ألا يؤدوا الزكاة على وجهها، فلا بد أن يباشر هو زكاة أموالهم بنفسه وهي مجزئة عنهم؛ لأن الزكاة إذا أخذت من المال فهي مجزئة حتى لو كان ذلك بالإكراه والغصب فتسقط عن صاحبها بذلك، وعلى هذا فعليه أن يخرج الزكاة من ذلك المال ما داموا سفهاء أو يخاف ألا يؤدوا الزكاة على وجهها.
السؤال: رجل قال لزوجته: عليك ألبتة ثم بعد ذلك ذكر أن قوله هذا لا يريد به الطلاق، وإنما قاله دون أن يلقي لذلك بالاً، فما حكم هذه المسألة؟
الجواب: هذا اللفظ هو من صرائح الطلاق، وصرائح الطلاق لا يمكن فيها إنكاره، من قال: أنت طالق أو أنت بتة أو نحو هذا، فقال: لا أريد الطلاق بذلك لا يصدق فيما قال؛ لأن هذا اللفظ من صرائح الطلاق، لكن فقط اختلف هل يُدَين في عدد الطلاق؟ إذا قال: أردت طلقةً واحدةً رجعية ولكني قلت: بتة، فهل يصدق فيما قال أم لا؟ فهذا محل خلاف بين أهل العلم، وهذه المسألة مما يفرق فيه بين الإفتاء والقضاء، فإن رافعته زوجته ورفعته إلى القاضي فإن القاضي يحكم بأن ذلك ثلاثاً؛ لأنه لا يستطيع إثبات نيته بأنه كان يقصد واحدة، وإذا جاءا طائعين إلى مفت فسألاه وهي لا ترافعه إلى القاضي يجوز للمفتي أن يفتيهما بأنها طلقة واحدة، ويدينه هو أن يكله إلى دينه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر