الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد سبق أن أهل العلم قسموا الربا إلى قسمين:
القسم الأول: ربا النساء.
والقسم الثاني: ربا الفضل.
أما ربا النساء فمعناه ربا التأخير، والمقصود به أن الشارع في الأصل كما ذكرنا وضع العقود لفض النزاع ومنع حصوله، وكل عقد فيه تأخير فهو احتمال كبير لنشوء النزاع؛ لأن شخصين إذا تعاقدا على أمرين في الذمة ليس أحدهما حاضراً فبالإمكان أن يعرض الندم، وإذا عرض الندم بينهما لم يعرف: هل العقد قد حصل أم لا؟ فيقع النزاع، ولهذا ففي مجال الصرف شرع الشارع أن يكون الصرف يداً بيد، كما صح في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا هاء وهاء، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا هاء وهاء، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائباً بناجز )، وفي آخر هذا الحديث يقول: ( ولا تبيعوا منها غائباً بناجز )، فيصرح النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا بد أن يكون ذلك يداً بيد، وألا يكون أحد النقدين غائباً والآخر ناجزاً في اليد؛ لما في ذلك من فتح المجال أمام الخلاف، وحصول الخصام، وهذا ما شرعت العقود لكفاحه، فلا يمكن أن تكون العقود سبباً لحصول النزاع؛ لأن المقصد الأصلي منها فض النزاع وعدم حصوله؛ ولذلك فما يظنه بعض الناس أنه يكفي مجرد التعاقد بالكلام نشاهد الخلاف يدب إذا حصل، إذا تعاقد اثنان مثلاً على مبلغ من اليورو في باريس في حساب هناك، وفي مقابله الأوقية هنا، وكان الجميع كالئاً أي: متأخراً، أو كان أحد النقدين كالئاً الأوقية مثلاً مدفوعة هنا، ولكن اليورو في باريس، كثيراً ما يؤدي هذا إلى النزاع والخلاف لأن يرتفع سعر اليورو أو ينخفض، أو يموت أحد الطرفين ويتردد الآخر ويريد فسخ العقد، أو غير ذلك من أسباب النزاع والخلاف؛ فلهذا شرط الشارع ألا يباع إلا ناجزاً بناجز، وألا يباع غائب منها بناجز.
وكذلك أخرج مسلم في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والتمر بالتمر، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح مثلاً بمثل، يداً بيد، سواءً بسواء، فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم ).
وقد أخرج البخاري و مسلم كذلك في الصحيحين قريباً من هذا اللفظ من حديث أبي سعيد الخدري ، وفي هذين الحديثين جاء التصريح فيما يتعلق بالصرف بين الذهب والذهب، وبين الفضة والفضة، ولم يرد التصريح فيما يتعلق بالصرف بين الفضة والذهب في هذين اللفظين، لكن ثبت في الصحيح من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تبيعوا الذهب بالفضة إلا هاء وهاء ) أو قال: الذهب بالورق، ( لا تبيعوا الذهب بالورق إلا هاء وهاء )، فهذا تصريح فيما يتعلق بالصرف بين الجنسين أيضاً.
ومن هنا فربا النساء محل إجماع بين أهل العلم لم يختلف اثنان في أنه رباً محرم؛ ولذلك هو أشد أنواع الربا وأعظمها؛ لما يؤدي إليه من النزاع والخلاف، وهذا الربا -وهو ربا النساء- إنما يقع في الجنس الواحد.
أما الأجناس المتباينة التي بعضها أثمان وبعضها سلع مثلاً، أو سلع لا تسد مسداً واحداً فهذه لا يقع بينها ربا الفضل، ولكن يقع بينها ربا النساء، فربا النساء يدخل في كل الأنواع، فكل ما هو ربوي يدخله ربا النساء، أما ربا الفضل فيدخل في الجنس الواحد ولا يدخل في الجنسين، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد ) كما في حديث عبادة بن الصامت في صحيح مسلم والموطأ.
وعلى هذا فهذا النوع الأول من أنواع الربا وهو ربا النساء له حضور كبير جداً في التعامل اليومي بين الناس، وجزئياته لا حصر لها، لكن من أنواعه الشائعة ما يتعلق بالقروض، فهي تجمع في كثير من الأحيان بين ربا النساء وربا الفضل، وفي كثير من الأحيان يقع فيها ربا النساء فقط، وذلك أن العلماء اتفقوا على أن مؤخر ما في الذمة مسلف، وأن معجل ما في الذمة مسلف، هذا محل اتفاق بينهم؛ لأن مؤخر ما في الذمة عن الأجل، إذا عقدنا أجلاً محدداً ضربنا أجلاً محدداً فبعتك هذه السيارة بستمائة ألف أوقية إلى أجل ستة أشهر، فجئت فطلبت زيادةً في الأجل، وفي مقابلها تزيد في الثمن، فتجعلها تسعمائة ألف، وتجعل الأجل إلى سنة، فمؤخر ما في الذمة مسلف، أنا قد أسلفتك ستمائة ألف إلى بقية السنة، فزدت أشهراً على ما كان لديك من قبل، فكأنني أسلفتك هذا الثمن لمدة الست الأشهر الزائدة، وقد أخذت زيادةً على القرض، وكل سلف جر نفعاً فهو حرام.
وكذلك معجل ما في الذمة، إذا كنت قد بعتك هذه الدار مثلاً بأربعة ملايين إلى أجل سنة، ولكنني احتجت إلى النقود، فأتيت فطلبت أن تدفع إلي فقط مليونين حالين الآن وأعفيك من البقية، فأنت أسلفتني؛ لأنك عجلت لي مليونين مما أطالبك به فكأنك أقرضتني حتى يحين الأجل، وفي مقابل ذلك استفدت أنت لأنه سقط عنك مليونان، فأنت معجل لما في الذمة، وأنت مسلف، وقد أخذت نفعاً على ذلك السلف، فمعجل ما في الذمة مسلف، ومؤخر ما في الذمة مسلف، وكل سلف جر نفعاً فهو ربا.
كذلك من هذه الأوجه: ما يتعلق ببيع العملات، فإن بيعها إذا كانت يداً بيد سواءً كان ذلك بالجنس الواحد كمن أتى يريد نقوداً متجزئة، يدفع ألفاً ويريد في مقابلها ألفاً مجزئة من فئة مائة أو من فئة مائتين مثلاً، أو حتى من النيكل أو من النحاس، من فئة عشرين، أو من فئة عشرة مثلاً أو خمسة، فهذا الآن إذا كان يداً بيد، وكان مساوياً ليس فيه زيادة فهو جائز، لكن إذا كان فيه زيادة ولو كان يداً بيد فهو حرام؛ لأنه ربا فضل في الصنف الواحد، وإذا كان فيه تأخير فهو حرام مطلقاً سواءً حصلت الزيادة أو لم تحصل؛ لأن ربا النساء ممنوع مطلقاً في مثل هذا النوع في الصرف مطلقاً، ( ولا تبيعوا منها غائباً بناجز )، وهكذا إذا كان بين الصنفين، كالذي يبيع مثلاً ألف يورو بأربعمائة وعشرين ألف أوقية ديناً، فهذا العقد حرام؛ لأن هذا الربا الذي فيه هو ربا النساء، فقد شغلت الذمة باليورو ديناً أو بالأوقية ديناً، وفي مقابله ما هو ناجز، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولا تبيعوا منها غائباً بناجز )، وهذا مدعاة لحصول الخلاف لإمكان ارتفاع سعر اليورو، وانخفاض سعر الأوقية أو العكس أيضاً.
كذلك من أوجه ربا النساء: ما يتعلق بما كان معروفاً بربا الجاهلية فإنه يجتمع فيه ربا الفضل وربا النساء، كالذي يسلم إلى آخر أو يقترض منه نقوداً إلى أجل محدد، فإذا حان الأجل قال له: إما أن تقضيني، وإما أن ترضيني، إما أن تدفع إلي الآن النقود في أجلها، وإما أن ترضيني فتزيد فيه فأزيد في المدة، فهذا ربا الجاهلية، وقد اجتمع فيه الزيادة التي هي الفضل، والتأخير الذي هو النساء، فجمع بين نوعي الربا المحرمين.
ومثل ذلك ضع وتعجل، إذا جاء صاحب الدين قبل حلول الأجل فقال له: أحط عنك بعض الدين ولكن عجله قبل الأجل، فهذا داخل في النساء، والراجح منعه مطلقاً، وقد فصل فيه بعض أهل العلم فرأوا جواز بعض صوره، واعتمدوا على حديث أخرجه الطبراني وذكره الدارقطني : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبني قينقاع لما أجلاهم عن المدينة ولهم ديون على أهل المدينة قال: ( ضعوا وتعجلوا )، فأرشدهم إلى أن يضعوا بعض ديونهم، وأن يتعجلوا، وهذا الحديث ليس بالغاً إلى درجة القبول أو الصحة أو الحسن حتى يستدل به، ومع ذلك على فرض صحته فالحنفية الذين يرون مثل هذا أصلاً هو موافق لمذهبه من جهة أخرى، فإنهم يرون أن الربا مع الكافر الحربي جائز في الأصل إذا كان المسلم هو الرابح؛ لأنهم ينطلقون من قاعدة: أن الكافر الحربي ماله غير معصوم، فيرون أن هؤلاء اليهود من بني قينقاع قد نقضوا العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، فليس لهم ضمان إذ ذاك؛ لأن عصمة المال عندهم إنما تكون بإيمان أو بأمان، والإيمان هم غير مؤمنين، والأمان هم غير مؤمنين؛ لأنهم نقضوا العهد؛ فلذلك أخرجهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة، وقد قال الله فيهم في سورة الحشر: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ [الحشر:6]؛ فلذلك مالهم غير معصوم، فرأوا أنه يجوز فيه مثل هذا النوع أن يحطوا وأن يتعجلوا بعض مالهم.
وكذلك من أمثلة هذا النوع من الربا الذي هو ربا النساء ما يتعلق بشراء الذهب سواءً كان حلياً أو كان نقوداً مسكوكةً أو غير ذلك، فشراؤه بالدين من العملات والنقود حرام مطلقاً، سواءً اشتري بذهب أو بفضة أو بعملة أياً كان نوع تلك العملة؛ لأن الأثمان كلها جنس، الأثمان كلها سواءً كانت ذهباً أو فضةً أو عملةً من أي نوع من أنواع العملات هي جنس تجمعها الثمنية.
ولهذا فإن ما يقع فيه الربا من المال قد اختلف فيه أهل العلم، فذهب جمهورهم إلى أنه ما تحققت فيه علة الربا؛ لأن الربا كما سبق حكم تعليلي وقد شرع لمصلحة واضحة، وقد سبق بيانها، فلذلك كلما تحققت فيه العلة كان حراماً؛ لأن أحكام الشارع غير معطلة عن العلل، فما شرع الشارع من أجله هذا الحكم إذا تحقق في أي شيء كان حراماً، وهذا هو ما ذهب إليه أصحاب المذاهب الأربعة السنية.
وذهب بعض أهل العلم إلى الاقتصار في الربا على محل النص وعدم الزيادة بالقياس، وهذا مذهب أهل الظاهر، ورأوا أن الربا يختص بما نص عليه، أو بما كان في قوة النص، فأخرجوا ما كان بالقياس، لكن أدخلوا ما كان بنوع من أنواع القياس يسمى القياس الجلي وهو ما كان بالدلالة الأولى؛ لأن مفهوم الموافقة عند أهل الظاهر ليس من القياس، وعند الشافعية والمالكية هو من القياس؛ لأنه قياس الأولى، لكن عند الظاهرية ليس من القياس، بل هو من دلالة الأولى، فمثلاً تحريم ضرب الوالد مأخوذ من النهي عن التأفيف عليه في قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23]، لكن هذا ليس قياساً عند أهل الظاهر بل يرون أنه من دلالة مفهوم النص مفهوم موافقة، وعليه لا يرونه من القياس بل يرون أنه من دلالة النص؛ لأن النص عندهم بمنطوقه وبمعقوله وباقتضائه وبإشارته، وهذا الذي يسمونه دلالة العبارة، ودلالة الإشارة، ودلالة المفهوم.
أما الجمهور وهم القائلون بإثبات القياس فيرون أن هذا من معقول النص وهو القياس عليه، ويسمونه القياس الجلي، ولم ينكره أحد من أهل السنة إلا الخرزي وحده من الحنابلة، وعلى هذا فإن علة الربا لا بد من بحثها وليست محل اتفاق بين أهل العلم، وعلى هذا فقد ذهب جمهورهم إلى أن علة الربا في النقدين وفي الأثمان كلها هي الثمنية، وأنها لا تحقق أية مصلحة إلا التبادل، فلا تؤكل، ولا تشرب، ولا تلبس، ولا تسكن، ولا تركب، فلا تحقق أية مصلحة إلا التبادل، وهذه العلة هي قطعاً حاصلةً في ذلك الوقت في الذهب والفضة، وإن كانت غير حاصلة في الفلوس التي يقع بها التبادل؛ لأن الفلوس في الغالب لا يشترى بها الشيء المهم، ولا تدفع بها صدقات النساء، ولا تدفع بها الديات، ولا تقوم بها الدور، ولا تقوم بها المتلفات بخلاف الذهب والفضة، ففي العصر النبوي كان الذهب والفضة معياراً شرعياً لكل شيء صدقات النساء تدفع بالذهب والفضة، الديات تدفع بالذهب والفضة، ضمان المتلفات يقع بالذهب والفضة، شراء الأشياء المهمة وتقويمها بالذهب والفضة.
أما الفلوس التي كانت موجودةً من نحاس فلم تكن هذه الفلوس إذ ذاك تدفع منها الديات والصدقات، ولا تقوم بها المتلفات؛ فلذلك لم يكن فيها الربا، وهذا القول بأن الثمنية هي علة الربا يستشكل عليه قضية الفلوس لأن الثمنية حاصلة فيها ولو كانت جزئيةً، والإجابة عنه ما ذكرناه بأن تلك الثمنية مقيدة وليست ثمنيةً مطلقة.
القول الثاني: أن علة الربا في النقدين هي الغلبة في الثمنية، ومعناه كونها الغالبة في الأثمان، وهذه العلة قد تفقد في بعض النقدين كالفضة الآن، فالفضة الآن ليست ثمناً لشيء، ولا يقوم بها شيء، ولا تقوم بها العملات، ولا تدفع بها صدقات النساء، ولا تقوم بها المتلفات، ولا تدفع بها الديات، أما الذهب فقد حافظ على سعره في العالم لعوامل سياسية واقتصادية، لكن الفضة لم تحافظ على قيمتها في العالم، فقيمتها الآن تافهة في مقابل الذهب.
ومن المعلوم أن ميزان القوة بين الأثمان والبضائع يختلف، فله دورة كما يسميها أهل الاقتصاد، فكل سلعة تصل في الدورة إلى ذروتها فتكون من الأثمان من جهة، وهي قيمة من الجهة الأخرى، أي أنها عرض من الجهة الأخرى، فمثلاً الذهب بما أنه يقوم باقتصاد البلد، وميزان المدفوعات، والرغبة في سلع البلد ومنتجاته فهو سلعة من هذا الوجه، وبما أنه لم يقوم به الاقتصاد، وتقوم به أسهم الشركات، ويقوم به مخزون البنك من العملات ونحو ذلك فهو ثمن من هذا الوجه، وكذلك النقود نفسها، فمثلاً: أية عملة من العملات أليس يرفع سعرها وينخفض، فمثلاً الدولار اليورو يرتفع سعره وينخفض، لماذا ترتفع هذه الأسعار وتنخفض؟ نظراً لأنها في ذروتها في الدائرة أي في دورة المال تكون عرضاً فتشترى؛ ولذلك يرغب فيها في بعض الأحيان وتقل الرغبة، وذلك لعدد من المؤثرات منها ميزان العرض والطلب، فإذا كثر الطلب وقل العرض ارتفع السعر، وإذا كثر العرض وقل الطلب انخفض السعر، وكذلك المؤثرات الاقتصادية كالانكماش والتضخم في المجالات الأخرى في مجال الخدمات، في مجال المستهلكات، في مجال المواد الرئيسية والتصنيع، وكذلك الجانب السياسي أيضاً له تأثير كارتفاع سعرها وانخفاضه، فلو مات مثلاً رؤساء الدول الثمانية المجتمعون الآن، أو أصيبوا بمرض، أو حصلت أية مشكلة من هذا النوع سينخفض سعر العملات فجأة، ولو حصلت أية مشكلة مثلاً في النفط في أمريكا انقطع أنبوب من الأنابيب أو حصل حريق أو انطفأت الكهرباء كما حصل في الفترة الماضية عندما انقطع التيار الكهربائي عن نيويورك وعن عدد من المدن، سينخفض المؤشر ويتأثر الاقتصاد بذلك.
فهذه أمور هي مؤثرات تؤثر في الأثمان في الرغبة فيها، وفي اقتنائها؛ لأن الناس ما دام الاقتصاد متجه يرغبون في اقتناء هذه العملات، ويشترونها للحفاظ عليها، يجعلونها بمثابة المدخرات، وعند انهياره يبيعونها ويتخلصون منها؛ لأنها لم تعد ذات مصداقية بالقدر الذي كان من قبل؛ فلذلك رأى كثير من أهل العلم أن الغلبة في الثمنية هي العلة.
وعلى هذا فكل عملة محلية تعمل في دولة من الدول تتحقق فيها هذه العلة في الدولة التي هي فيها، ولا تتحقق فيها إذا خرجت من حدود تلك الدولة إلا بالتقدير، فالعملات العامة الدولية التي تصرف في كل مكان ليست الآن ثمناً للأشياء هنا عندنا، الدولار أو اليورو في العادة لا تدفع به صدقات النساء هنا عندنا، ولا تدفع به الديات، ولا يشترى به الخبز ولا البنزين، ولا مواد الاستهلاك، لكن لا يستطيع أحد أن ينكر أنها ثمن للأشياء وقيمة للمتلفات ولو في غير هذا البلد، بينما العملة المحلية هنا هي التي تدفع بها صدقات النساء والديات، وتشترى بها الأشياء، ولكن يختص ذلك بحدود بلادنا ولا يتعداها إلى غيرها، فالغلبة في الثمنية حاصلة في بلد ومقدرة في غيره من البلدان، بخلاف ما لو وضعت عملة ليس لها بلد محدد، وتكون عامةً كالفكرة التي كانت سائدةً في الدينار الإسلامي، فإن منظمة المؤتمر الإسلامي أرادت أن تناقش طريقةً يكون بها الاستقرار في التوازن في الاقتصاد في العالم الإسلامي، وفي البداية كان الاقتراح إيجاد سوق إسلامية مشتركة، مثل السوق الأوروبية المشتركة، ولكن لم يتفق قادة الدول على هذا، فعدلوا إلى رأي أقل منه وهو إيجاد عملة واحدة تسمى: الدينار الإسلامي، وهذه العملة لا تصرف في أي بلد من البلدان وهي مجرد حبر على ورق لكن مع ذلك لها اعتبار اقتصادي في تقويم الأشياء، وحينئذ هذا النوع من العملات ليس ثمناً للأشياء ولا قيمةً للمتلفات؛ لأنه لا وجود له في السوق، فلو ذهبت إلى أي بنك من البنوك وقلت: أنا أريد أن تصرف لي هذه النقود بالدينار الإسلامي لما وجدت عنده هذه العملة، مع أنها هي موجودة ولكن وجودها إنما هو للحفاظ على التوازن الاقتصادي فقط؛ فلذلك هذه لا يدخلها هذا النوع من أنواع الربا.
كذلك ما كان مجرد اعتبار أو دلالة على عملة، على ثمن ولا تتحقق فيه هذه الثمنية بالمباشرة، كالشيكات السياحية، فالشيك السياحي مكتوب بالدولار وبالفئة المعينة منه، كل شيك مكتوب فيه الفئة ونوع العملة، وهو مضمون الشخص الموقع عليه يستطيع سحبه من أي بنك في العالم، لكن مع ذلك لا تشترى به الأشياء، ولا تقوم به المتلفات، ولا تدفع به الصدقات، ولا يكون في الديات؛ فلذلك يمكن فيه الزيادة، فإذا وجدت شيكاً سياحياً بعشرة آلاف دولار يجوز أن تشتريه بتسعة آلاف، ويجوز أن تشتريه بأحد عشر ألف دولار؛ لأنه ليس من هذه العملة، أي: ليس له هذا الاعتبار الشرعي لعملة الدولار؛ لأنه عبارة عن ورقة تدل على هذا فقط، لكن مع ذلك دلالتها إذا كانت على وجه عقد بين مصدر الشيك والمودع الذي له تلك النقود في الأصل وهو الشركة التي تصدر شيكات السياحة وتبيعها، فيكون هذا بمثابة دلالة على عملة موجودة، وحينئذ الراجح عدم جواز بيعه إلا مثلاً بمثل، فلا يجوز حينئذ الزيادة فيه ولا النقص منه في البيع، وإن كان هو في حقيقته ليس ثمناً لكنه يدل على الثمن.
ولاحظوا الفرق الآن مثلاً الأوراق التي لها قيمة مكتوبة، مثل شيكات البنزين، دفاتر البنزين يكتب على واحدة منها فئة ستمائة أوقية، وفئة تسعمائة أوقية وفئة اثنا عشر مائة أوقية، لكن هذه يجوز بيعها بأكثر مما كتب فيها، ويجوز بيعها بأقل منه؛ لأنها ليست ثمناً ولا قيمة للمتلفات، فلا تتحقق فيها العلة، ومثل ذلك أوراق التزويد بطاقات تزويد الهواتف فيكتب على إحداها عشرة آلاف وعلى إحداها خمسة آلاف وعلى إحداها ثلاثة آلاف، وعلى إحداها مثلاً ألفين.. وهكذا، هذه القيمة المكتوبة عليها هي مقابل وحدات خدمية تقدمها الشركة المصدرة لتلك البطاقة، ويجوز بيعها بأكثر مما كتب عليها، ويجوز بيعها بأقل منه؛ لأنها في الواقع سلعة من السلع وليست ثمناً؛ لأنها لا يشترى بها الأشياء، ولا تقوم بها المتلفات، ولا تدفع بها صدقات النساء، ولا تكون في الديات.
النوع الثاني من أنواع الربا: هو ربا الفضل، والمقصود به الزيادة، أن يتعمد الإنسان الزيادة فيما هو جنس.
وقد حدد الشارع أشياء باعتبارها أجناساً مستقلة، فاختلف أهل العلم في علة الربا فيها، وهي في حديث عبادة بن الصامت ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ستة أصناف: هي الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح، هذه ستة أصناف أجمع أهل العلم على أنها لا تجمعها علة واحدة، وقد سبق أن الذهب والفضة علتهما على الراجح هي الثمنية أو الغلبة في الثمنية.
وقال بعض أهل العلم: الوزن المخصوص وهذا مذهب الحنابلة في القديم لديهم، وقد تغير الاجتهاد في ذلك اليوم في العالم، فلم يعد يفتى به، فبقيت الأصناف الأخرى.
أما علة الربا فيها فمحل بحث بين أهل العلم، فقالت طائفة من أهل العلم وهذا الذي سنرجحه ونختاره: علة الربا فيها الاقتيات والادخار، وهذا مذهب مالك وهو الذي نرجحه في هذه المسألة، قالوا: هذه الأمور الأربعة يجمعها أنها مقتات مدخرة، فما كان منها غير مقتات هو مصلح للمقتات كالملح لا يقتات ولكنه مصلح للمقتات، ومصلح الشيء كهو، وما سواه البر والشعير والتمر هذه تقتات وتدخر، فجمعت هذين الركنين والعلة يجوز فيها التركيب، وهذا هو القول المشهور لدى الأصوليين أن العلة يصح فيها التركيب؛ وذلك بأن تكون وصفاً مركباً من وصفين كالاقتيات والادخار مثلاً، فكلما تحقق فيه هذان الوصفان فهو مساو للأقسام الأربعة في حصول الربا فيه، فالأرز مثلاً مقتات مدخر، والدخن وهو الذي يسمى عندنا بـ(المتري) مقتات مدخر.
وكذلك الذرة وهي بنوعيها الذرة الصغيرة التي هي الحبوب التي نسميها نحن البشنة والتغليت وغيرها هذه الذرة الصغيرة، والذرة الكبيرة هي الذرة الصفراء التي تسمى مكة، هذه مقتاتة مدخرة، والقطاني وهي اللوبيا والعدس والترمس والحُمص أو الحِمص والفول والجلبان والفسيلة أو البسيلة، هذه السبعة كلها كذلك مقتاتة مدخرة، وهي التي يسميها الناس (أبلجان) بأنواعه المختلفة، فهذه كلها تقتات وتدخر، فتتحقق فيها هذه العلة، فهذا القول يقتضي أن كلما تحققت فيه علة الاقتيات والادخار فكان طعاماً لقوم من غير الضرورة، فلا يدخل في ذلك الدواء فإنه ولو اقتيت إنما اقتيت من أجل العلاج والضرورة، فلا تتحقق في هذه العلة، والادخار مخرج للخضروات المأكولة، فهي تؤكل ولكنها لا تدخر لأنها غير صالحة للادخار، كالأوراق التي تؤكل في الخضرة كالكزبرة وغيرها، والخس بأنواعه الذي يسميه الناس (السلاط)، هذه تؤكل ولكنها لا تدخر غير صالحة للادخار، ومثل ذلك الفواكه بأنواعها كالتفاح والعنب والبرتقال واليوسفي والخوخ والمشمش والبرقوق وغيرها من أنواع الفواكه الموجودة التي قد تقتات ولكنها لا تدخر، فليس فيها ربا الفضل، واللحوم تقتات وتدخر، فهي صالحة للاقتيات ويقتات بها كثير من الناس، بل كثير من الأمم قوتها في الأصل معتمد على اللحوم مثل مادي مثلاً في الأصل قوته معتمد على اللحوم، وسكان الجزر التي في البحر أو أهل الصيد في البحر يقتاتون الأسماك، فإذاً: هي مقتات وهي كذلك مدخرة بوسائل إنضاجها وإصلاحها، فهي ربوية، أي: يتحقق فيها الربا لحصول هذه العلة فيها.
وقالت طائفة من أهل العلم: بل العلة في هذه هي المعيار الشرعي أي الكيل في بعضها والوزن في بعضها، وعليه فكل مكيل أو موزون من الجنس يسري فيه الربا، وهذا القول بعيد جداً؛ لأنه يقتضي أن النحاس فيه الربا؛ لأنه موزون، وأن الحديد فيه الربا، وأن الإسمنت فيه الربا، ويسري على كل المواد التي تقدر بمعيار الوزن أو بمعيار الكيل.
وأيضاً: فهو علة بعيدة؛ لأن الوصف لا بد أن يكون ملائماً للحكم فيتعقل العاقل وجه ترتيب الشارع للحكم على هذا الوصف، ومجرد كون الشيء موزوناً أو مكيلاً: ما الفرق بينه وبين المعدود والمذروع؟ لا يدرك العقل فرقاً يقتضي ترتيب الربا عليه؛ فلذلك هذا القول لا نأخذ به، ومثله القول: بأن الطعمية هي العلة، أي: كون الشيء مطعوماً أي: مأكولاً مطلقاً وهذه العلة يدخل فيها ما لا يدخر من الأشياء، وهذه قطعاً قياسها على البر والشعير والتمر قياس مع الفارق؛ لأن الذي يقيس مثلاً التفاح أو البرتقال أو الخس أو نحوها على البر والشعير يقيس قياساً مع الفارق؛ فلذلك مجرد اعتبار الطعمية ليس كافياً في تحقق الربا.
والقول: بأن العلة هي الطعمية هو مذهب الشافعية، والقول: أنها المعيار الشرعي هو الوزن والكيل هو مذهب الحنفية والحنابلة في القول القديم لديهم، والقول الذي اخترناه هو مذهب المالكية، وهو الذي أصبح سائداً اليوم في العالم، وهو أن علة الربا في الطعام هو الاقتيات والادخار، فما جمعهما كان ربوياً، وما لم يجمعهما لا يدخل في الربا، لكن نحتاج إلى التفريق بين الأجناس، فالجنس الواحد يحرم فيه ربا الفضل والنساء معاً، والجنسان يحل بينهما ربا الفضل وإن كان لا يجوز بينهما ربا النساء، فمثلاً: الذهب والفضة جنسان من الأثمان، فيجوز بيع عشرة دراهم بدينار واحد، وكذلك العملات كل عملة جنس مستقل، فيجوز بيع بعضها ببعض متفاضلاً، فالأوقية مثلاً جنس، والدولار جنس، فيجوز بيع الدولار بالأوقية متفاضلاً، الدولار الواحد يجوز بيعه بعدد كبير من الأوقية.. وهكذا، ثلاثمائة أوقية مثلاً أو أكثر.
فإذاً: ربا الفضل فيها جائز، لكن فيما يتعلق بفئاتها هي فهي صنف واحد لا يجوز فيها ذلك، فمثلاً: ألف أوقية مشقوقة تلفت فأصبحت نصفاً أو ثلثاً أو ربعاً فهذه لا يجوز بيعها إلا بنفس الفئة سليمةً، لا يجوز بيعها بأقل من ألف، وأيضاً ألف من فئة عشرين لا يجوز بيعها إلا بألف من فئة ألف مساوية لها، ولا يجوز بيعها بأقل من ذلك أو أكثر، وسواءً كان ذلك بسبب علة ونقص كما ذكرنا في الأوراق المتمزقة، أو كان بسبب الرغبة في النقود المتجزئة كأصحاب الحافلات مثلاً إذا كان كل الركاب يدفعون مائة أوقية، أو مائتي أوقية أو ألف أوقية، لا يستطيعون الرد للجميع مما لديهم، فيرغبون في النقود المتجزئة؛ لأنهم يصرفون بها الناس، ومثل ذلك أصحاب المحلات، فهذه لا يجوز بيعها إلا مثلاً بمثل، ولا يجوز بيع ألف متجزئة بأقل من ألف كاملة أو بأكثر منها، بل لا بد أن يكون نفس الرقم، هذه ألف وهذه ألف، أو هذه مائتين وهذه مائتين، أو هذه مائة وهذه مائة، ولا يجوز بيعها بأكثر ولا بأقل؛ لأنها صنف واحد.
وتبقى قضية في هذا وهي: هل يجوز بيع ألف مثلاً بواحدة من الخبز وزيادة من النقود، إذا أتيت مخبزة فدفعت إليها ألف أوقية وأنت تريد خبزةً واحدةً بمائة أوقية، فأنت دفعت ألفاً من جهة، وصاحب المخبزة دفع خبزةً وتسعمائة أوقية، فهل يجوز هذا العقد؟ هذا إنما يجوز في التوافه ولا يجوز في الشيء ذو القيمة الكبيرة، فالدينار الواحد يجوز فيه اجتماع الصرف والبيع في مثل هذا النوع، وما كان أكثر منه فلا يجوز فيه ذلك، فقديماً عندما كانت القيمة مرتفعةً لم يكن هذا جائزاً، واليوم بعد انخفاض سعر القيمة كل شيء له فائدة، لا يقدر الله أمراً إلا وله فائدة، انخفاض سعر العملة من فائدته أنه يبيح لنا أن نشتري بالأوراق الكبيرة ويرد لنا مع المشترى بقيتها، لكن في الدولار مثلاً إذا جئت بمائة دولار واشتريت خبزةً ويرد لك صاحب المخبزة البقية نقداً وخبزاً واحداً هذا لا يجوز؛ لأن فيه اجتماع الصرف والبيع، ومثل ذلك في كل شيء في البنزين، في المشتريات من السوق، في كل الأمور، كل ما فيه اجتماع للصرف والبيع من هذا النوع فلا يجوز.
وهذا مما ينبغي أن ينبه عليه المسافرون، فكثيراً ما يقعون في مثل هذا الإشكال يسافر الإنسان مثلاً إلى المغرب فينزل في المطار فيذهب إلى المطعم فالوجبة قيمتها مثلاً مائة وعشرين درهم مغربي وهو ليس معه الدرهم المغربي لديه مثلاً مائة يورو، فيدفعها لصاحب المطعم فيجتمع البيع والصرف، وهذا عقد باطل، فيكون قد أكل من الحرام، لا بد أن ينتبه الإنسان لمثل هذا النوع، فيذهب أولاً إلى البنك ويصرف عنده، ثم يشتري بالمصروف ما شاء، ولذلك نبه النبي صلى الله عليه وسلم على مثل هذا النوع في حديث عامله على خيبر قال: ( بع الجمع بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم جنيباً )، وفي حديث بلال قال: ( أوه! لا تفعل إنه الربا )، أوه تضجر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا، قال: ( لا تفعل إنه الربا )، وهذا يقوله لـبلال رضي الله عنه يحذره من بيع المد من التمر بالمدين من نوع أدنى منه، ويأمره أن يبيع ذلك التمر الرديء بالنقود ثم يشتري بالنقود تمراً عالي الجودة.
وهذه الأصناف ليست محل اتفاق بين أهل العلم في تصنيفها، فمذهب مالك مثلاً أن القمح والشعير صنف واحد، وعليه لا يجوز بيع خمسين كيلو من القمح بمائة كيلو أو بثمانين كيلو من الشعير؛ لأنهما صنف واحد، فـمالك يرى أن الحب أي: القمح، والسلت والشعير هذا صنف واحد، فلا يجوز بيع بعضها ببعض متفاضلاً، وقد صرح بذلك في المدونة، وذهب عبد الحميد الصائغ من المالكية إلى إنكار هذه المسألة، وهي من المسائل التي يتسمى بالحميديات في المذهب المالكي، وهي ثلاث مسائل أقسم فيها عبد الحميد لا يفتي فيها في مذهب مالك : جنسية القمح مع الشعير، والتدمية البيضاء، وترك الخيار في المجلس، ثلاثة أمور خالف فيها عبد الحميد مذهب مالك فاشتهرت باسم الحميديات.
المسألة الأولى: جنسية القمح مع الشعير، فإنه يرى أن الشعير علف للدواب، ولا يأكله البشر في الغالب عندهم، وأن القمح هو أشرف أغذية البشر، فرأى أنه لا يمكن أن يكن جنساً معه.
والثانية: هي التدمية البيضاء، وهي أن يقول القتيل أو الجريح: دمي عند فلان أي: هو الذي قتلني، فيصدق بذلك فيكون هذا لوثاً، فلا ينجو من الأخذ به إلا إذا أقسم أيمان القسامة الخمسين أنه لم يقتله، أو يقسم أولياؤه، وإذا لم يقسم يقسم أولياؤه خمسين يميناً فيستحقون دم ذلك الشخص، واللوث سبب لحلف القسامة إما للإثبات أو للنفي، وسبب إنكار عبد الحميد للتدمية البيضاء، التدمية قسمان: تدمية حمراء، وهي التي يكون فيها المدعى عليه الدم متلبساً بآثار الدم؛ ولذلك سميت التدمية الحمراء، في يديه آثار الدم، أو معه السكين فيها دم، أو معه سلاح فتسمى التدمية الحمراء، والأخرى هي التدمية البيضاء، والتدمية البيضاء شخص ليس لديه أي وسيلة قتل، ولا فيه آثار الدم ولا عليه آثار الجريمة، وادعى عليه هذا القتيل في أنفاسه الأخيرة أنه هو الذي قتله، فجمهور أهل العلم على أنه لا يصدق عليه في مثل هذا النوع؛ لأنه دعوى من غير حجة، فلا تكون لوثاً ولا يعتمد عليها بالقسامة، وذهب مالك رحمه الله إلى اعتبار التدمية البيضاء، و عبد الحميد كان يفتي بمذهب مالك ، وكان له جار من اليهود، وعداوة اليهود للمسلمين قديمة جداً، فكان الجار اليهودي هذا غنياً موسراً ولم يكن له أولاد ولا وارث من النسب، فمرض فأتاه عبد الحميد فقال: إنك جار لي منذ عشرين سنة، وقد أحسنت جوارك، وأحسنت إليك، فأريد أن توصي لي ببعض مالك لا يرثك أحد من عقبك، فقال أحضر الشهود وسأوصي لك بثلث مالي، فجاء عبد الحميد بالشهود فلما جلسوا إلى اليهودي قال: دمي عند عبد الحميد هو الذي قتلني، فحلف عبد الحميد ألا يفتي بمذهب مالك بعد في التدمية البيضاء؛ لأنه اكتوى بناره.
والثالثة هي: ترك خيار المجلس، فخيار المجلس أحد الخيارات الثلاثة عشرة في البيع، ولعله تتاح لنا فرصة إن شاء الله تعالى لتفصيلها في المستقبل، فالبيع يقع فيه الخيار في ثلاثة عشر نوعاً، خيار النقيصة أي: العيب، وخيار الشرط الذي يشترطه الإنسان، وخيار التدليس الذي هو التصرية في الحيوان، وخيار المجلس ما دام فيه، وخيار الغبن إذا كان الإنسان غبن فبيعت له السلعة بأكثر من ثمنها بأكثر من الثلث من ثمنها في السوق، وكذلك بقية الخيارات.
فخيار المجلس أحد هذه الخيارات وهو أن المتعاقدين إذا تبايعا فلكل واحد منهما الخيار ما داما في مجلس العقد، ومجلس العقد المقصود به المجلس المتصل بالكلام في التعاقد، فلو كانا مثلاً في طائرة هذا في مقعد وهذا في المقعد الذي يليه وتبايعا ومدة الرحلة ثمان ساعات، فلا يمكن أن تعتبر هذه المدة كلها مجلساً؛ لأن العقد سيكون متذبذباً بين الانعقاد وعدمه، أو كانا مثلاً سجينين في غرفة واحدة، وتبايعا، ومجلسهما مدة الوقت كله، أو كانا موظفين ومدة الدوام من الثامنة مثلاً إلى الثانية عشرة وهما في مجلس أو إلى الثالثة أو إلى الثانية، فلا يعتبر هذا مجلساً واحداً، بل المقصود بمجلس العقد ما يتحقق فيه التعاقد، وهو المدة التي يتساوم فيها المتساومان ويعقد البيع، فهذه جاء فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان صحيحان يقتضيان حصول الخيار لكل واحد من الطرفين حتى ينتهي المجلس، أحدهما ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر أنه قال: ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا )، والثاني حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو أن يقول أحدهما للآخر: اختر ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله )، فهذان حديثان ثبتا عن النبي صلى الله عليه وسلم فيهما إثبات الخيار للمتبايعين ما داما في المجلس ما لم يتفرقا، وقد أخذ بهذا الخيار جمهور أهل العلم، فمذهب الشافعي و أحمد وأهل الحديث: أن هذا الخيار ثابت في كل بيع، كل عقد بيع تعاقد فيه شخصان، والمقصود هنا بالبيع معناه الأعم فيدخل فيه الإجارة، فإذا تعاقدا وهما في مثل السن فلكل واحد منهما الخيار ما لم يتفرقا.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا خيار في مثل هذا العقد؛ لأن العقد إنما يوجب بالطرفين وهما الإيجاب والقبول في الأصل، وهذا الحديث زيادة على النص؛ لأن النص فيه وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، وفيه إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما البيع عن تراض )، وهذه النصوص قطعية، والزيادة على النص عند أبي حنيفة نسخ، والناسخ لا بد أن يكون متواتراً إذا كان المنسوخ متواتراً؛ لأن الناسخ والمنسوخ عند أبي حنيفة لا بد من اتحاد الدرجة بينهما، فعلى هذا اعتبر أبو حنيفة أن خيار المجلس زيادة على النص فهو نسخ للنصوص السابقة المقتضية لانبرام العقل، وتلك النصوص قطعية الدلالة والورود، وخيار المجلس ظني الورود، كذلك لم يأخذ به مالك رحمه الله، لكن بوجه آخر غير الوجه الذي أخذ به أبو حنيفة ، فـمالك يرى أن الحديث: ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا بالقول )، معناهما: لم يعقدا أو ما لم ينتهيا من العقد، والمقصود بالتفرق بالتفرق بالقول عند مالك وقال: بالتفرق في النصوص الشرعية، إذا جاء في أي نص شرعي من القرآن أو من السنة فمعناه التفرق بالأقوال؛ ولذلك فقول الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، قطعاً معناها: التفرق بالأقوال لئلا يقصد به التفرق بالأبدان، فلو كان بالأبدان لبقينا أبداً في اجتماعنا هذا، وهذا غير مقصود شرعاً، فالتفرق في النصوص الشرعية عند مالك معناه التفرق بالأقوال أي: بالآراء، وعلى هذا ( فالبيعان بالخيار ) كل واحد منهما له الخيار أن يعقد وأن يتراجع عن عقده، ( ما لم يتفرقا )، والتفرق بينهما يحصل بجزم العقد، أو بقطعه وانتهائه، وعلى هذا فالمقصود بالخيار هنا مع كونهما وصِفا بأنهما بيعان أنهما في ذلك الوقت لم يجزما بعد شيئاً، فكل واحد منهما بالخيار، فإذا شاء قطع العقد ولم يقبله، وإذا شاء أنفذه ومضى فيه، وفائدة هذا الخيار أن الوعد لو حصل فإنه غير ملزم ولا يقتضي إنجاز العقد.
وكذلك أن البيعين إذا تساوما فالسوم معتبر شرعاً؛ ولذلك لا يحل السوم على السوم إذا سام إنسان سلعة فلا يجوز لآخر أن يتدخل ويعرض سوماً آخر إلا إذا كان العقد عقد المزايدة، فالبيع قسمان: بيع بت وبيت مزايدة، فبيع البت هو الذي يقع فيه التساوم على هذا الجهاز بألف مثلاً، وبيع المزايدة: أن تعرض هذا الجهاز للبيع على أنك لا تجزم العقد مع أحد حتى تأخذ الثمن الأعلى، فالذي يدفع أعلى هو الذي تعقد معه البيع، ففي المزايدة يجوز السوم على السوم، وليس فيه أي مانع شرعي، لكن في العقود التي ليست مزايدةً وإنما هي عقد ناجز لا يجوز فيه السوم على السوم، كما لا يجوز الخطبة على الخطبة، وهذا من حقوق المسلم على أخيه، وقد سبق ارتباط العقود بالقيم والأخلاق؛ فلذلك لا بد من مراعاة هذا، و عبد الحميد لم يأخذ بمذهب مالك في هذه المسألة؛ لأنه كان قد ساوم رجلاً في دار فتبايعا ثم فجأةً في نفس الوقت ارتفع سعر تلك الدار، فإذا العقد قد نجز وما زال في المجلس فأراد عبد الحميد طلب الإقالة فمنعه المشتري الإقالة.
فندم على هذه المسألة، وحلف ألا يفتي في مذهب مالك فيها، وهذه المسائل هي التي تسمى بالحميديات، وقد قال فيها أحد علمائنا:
عبد الحميد خالف الإمام لدى ثلاث هاكها نظاما
جنسية القمح مع الشعير تدمية بيضاء بلا نكير
ترك خيار مجلس وقد حلف بالمشي لا يفتي بقول من سلف
حلف بالحج ماشياً لا يفتي بمذهب مالك في هذه المسائل الثلاث، وعموماً: فإن الرأي الفقهي السائد اليوم هو اعتبار خيار المجلس؛ لأن حديثه صحيح ولا إشكال فيه ولا علة، وقد أخرجه مالك في الموطأ، وأخرجه البخاري و مسلم في الصحيحين، وإن كان مالك ذكر أن العمل لم يصحبه عند أهل المدينة، وأنه وجد أهل المدينة لا يأخذون بهذا، لكن ذلك يحتاج فيه إلى تفصيل، ما الوجه الذي لا يأخذون به في اختيار المجلس؟ وما حقيقة عدم أخذهم به حتى يعتبر ذلك شكاً في دلالة الحديث أو في معناه؟ فلذلك الرأي المأخوذ به فقيهاً اليوم في العالم كله هو إثبات خيار المجلس، وأن كل اثنين تبايعا فما دام في مجلس العقد فهما بالخيار، ولا بد من تقييد مجلس العقد كما ذكرنا، وتقييده هو بما يكون زمناً معقوداً للتعاقد، وأما ذكرناه بالنسبة للجلوس في الطائرة، أو الاجتماع في مؤتمر، أو الجلوس في قاعة العمل مدةً طويلة لا يمكن أن يعتبر ذلك مجلساً؛ لأن هذا فيه تعطيل لكثير من الحكم الشرعية، فلذلك لا بد أن يحدد مجلس العقد، وتحديده في الغالب هو إما أن يحدد بمدة زمنية كتحديده مثلاً بنصف ساعة أو بساعة في بعض الأمور، فبعض الأمور يمكن التعاقد فيها خلال ساعة، وبعض الأمور يمكن التعاقد فيها خلال نصف ساعة، ويمكن أن يرجع في هذا إلى عادة التجار، فما يعرف التجار أنه يمكن التعاقد فيه خلال مدة معينة اعتبر فيها المجلس بذلك التقدير، وما لا يرونه مجلساً واحداً لم يؤخذ بمجلسيته، فلا يكون فيه اختيار، إذاً هذا فيما يتعلق بالجنسية.
واعتبار القمح والشعير جنسين يشهد له حديث في مسند أحمد وغيره، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم البر جنساً والشعير جنساً، وهذا الحديث إذا صح فهو قاض على مذهب المالكية في هذه المسألة؛ لأن المذهب المالكي الذي سقناه غير عبد الحميد ليس له دليل صريح في أن القمح والشعير جنس واحد، وهذا حديث مخالف له، وهو يقتضي وجوب الأخذ به عند ثبوته، ولو ثبت لكان مذهب مالك؛ لأن مالكاً قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي.
وكذلك اللحمان -أي اللحوم- إذا كان مما ... الضرورة فيه كلحم الطير مع لحم الحيوانات ذوات الأربع، أو لحم الغزلان مثلاً مع غير هذه تختلف الرغبات فيها، فما اختلفت الرغبة فيه لا يكون جنساً واحداً، فلحوم الطير جنس، الحبارى والديكة وغيرها من الطير كالسمانى وكالدام وغيرها من الطيور هذه لحمانها جنس، فلا يجوز بيع بعضها ببعض متفاضلاً، لكن يجوز بيعها بغيرها من اللحم بالتفاضل، فيجوز للإنسان أن يبيع كيلو واحد من الدجاج بكيلين من لحم البقر مثلاً أو من لحم الإبل؛ لأن الرغبة مختلفةً والجنس حينئذ متعدي، هذا فيما يتعلق باللحمان.
والألبان على الراجح جنس واحد، جميع الألبان لبن الإبل، ولبن البقر، ولبن الغنم الراجح فيها أنها جميعاً جنس واحد، وكذلك مشتقاتها، فالزبد كله جنس، والجبن كله جنس على اختلاف أنواعه، ومحل هذا عند عدم دخول الصنعة، إذا دخلت فيه صنعة كالألبان التي جعلت معها نكهة الفواكه، أو جعل معها بعض الفواكه، فكل لبن مع نوع من الفاكهة يعتبر جنساً مستقلاً، اللبن الذي جعل فيه الموز غير اللبن الذي جعل فيه التفاح، أو اللبن الذي جعلت فيه فاكهةً مشكلة، فيجوز فيها ربا الفضل حينئذ، ولا يجوز فيها ربا النساء ما دامت من الربويات.
وكذلك اللحمان تتأثر أيضاً بطبيعة الطبخ والإنضاج، فما جعل عليه أبزار منها وما ليس مطبوخاً بأبزار، أو المشويات مثلاً والمطبوخات أجناس، وكذلك القطاني تختلف الرغبة في كل نوع منها؛ لأن كل نوع له هواته وأهله، فلذلك كل نوع منها يعتبر جنساً مستقلاً، فيجوز بيعه بغيره متفاضلاً.
والتمر كذلك يعتبر جنساً واحداً، فجميع أنواع التمر ما كان منه أصفر وما كان أحمر وما كان قاسياً وما كان ليناً كله جنس واحد، فلا يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلاً.
ويأتي أمر آخر وهو بيع الرطب بالتمر فإنه منهي عنه نهياً مختصاً حتى لو كان متساوياً؛ لأن الرطب إذا يبس نقص وزنه، ولذلك ( سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الرطب بالتمر؟ فقال: أينقص الرطب إذا جف؟ قالوا: نعم، قال: فلا إذاً ).
فالتمر الجاف الذي وصل إلى نضجه وصحته قد انتهى وزنه إلى عدد محدد، والتمر الذي ما زال رطباً في الماء، والماء يزيد من وزنه وسيذهب مع الزمن، فلذلك ينقص إذا يبس، وهذا ينبغي أن ينظر إليه أيضاً في اللحوم، فإن اللحوم المجففة سواءً كانت قديداً أو كانت غير ذلك إذا جففت فإن زيادة جفوفها تنقص وزنها، كلما زاد الجفوف فيها نقص الوزن، فلذلك لا يباع رطب اللحم بيابسه؛ لأن الوزن سيختلف مع الزمن.
كذلك الأجبان فالسلم فيها مشكل؛ لأن الجبن يتأثر بمادته التي يجبن فيها، فالجبن لا يمكن أن يصلح إلا باستعمال مادة أخرى كوضع بكتيريا عليه معينة، أو وضع نوعاً من الخضرة عليه كأن يوضع فيه بعض الخيار، أو أن يوضع عليه أنواع من الحامض، أو نحو ذلك فالتجبين نفسه عملية معقدة، فيحتاج فيها إلى مواد وهذه المواد ما لم تعرف، وتحدد نسبتها فلا يجوز السلم فيها؛ لأن المسلم فيه لا بد أن يكون مضبوطاً بضابط عادته في البلد بكيل أو عد أو وزن، وبيعه ناجزاً إذا كان بجبن آخر، فالجبن منه ما هو أبيض ومنه ما هو أصفر، فالأجبان الصفراء عادةً تستعمل في الوجبات السريعة، توضع في ... وفي ما يشبهها من الوجبات السريعة، والأجبان البيضاء تؤكل مباشرةً، فلذلك ينبغي أن تكون جنسين: الجبن الأبيض غير الجبن الأصفر، فلاختلاف الرغبة بين الجنسين اختلفا فجاز فيهما ربا الفضل لاختلاف الرغبة فيهما ولاختلاف ما يدخلانه من الصناعات والطبخ.
كذلك المطعومات نفسها فهي مما إذا تفاوتت الرغبة فيه جاز بيع بعضه ببعض إذا كان من جنسين تختلف الرغبة فيهما يجوز فيه ربا الفضل كبيع مثلاً صحن من الأرز بصحن من البر من الكسكس مثلاً بصحنين أو أكثر أو أقل فهذا النوع إذا اختلفت الرغبة فيه جاز شرط أن يكون يداً بيد، فلا بد فيه من اشتراط أن يكون يداً بيد لئلا يدخله ربا النساء، فربا النساء ممنوع بين الجنسين، وهو جائز في الجنس الواحد.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر