بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:
قال رحمه الله تعالى: (باب الصفات) عقد هذا الباب لصفات الحروف، والصفة في الأصل: النعت وما يميز الشيء عن غيره.
والصفات ثلاثة أقسام في الأصل: صفات ذاتية، وصفات عرضية، وصفات حكمية، فالصفات الذاتية هي ما خلق الله عليه الشيء، كطول الإنسان وقصره، وحسنه وقبحه، وبياضه وسواده، ونحو ذلك، هذه صفة ذاتية فيه.
والصفات العرضية كالصفات الاختيارية أو الفعلية، كالحركة والسكون في الإنسان، والكلام والسكوت، هذا صفة عرضية؛ أي: تعرض للإنسان.
والقسم الثالث: الصفات الحكمية، وهي: ما ناطه الشارع به من الأحكام، كالطهارة والنجاسة، كون هذا الشيء طاهرًا، وكونه نجسًا، هذا ليس من خلقته، ولا هو عارض فيه، بل هو حكم رتبه الشارع عليه، وهذا عند جمهور أهل العلم، خلافًا للحنفية؛ فالحنفية يرون أن الصفات الحكمية من الصفات الأصلية لا من الصفات العارضة، فيجعلون الأحكام أصولًا يرون أن الشارع كاشف لما كان سابقًا في أصل الخلقة، فيرون أن الأصل في الماء الطهارة فهي صفة أصلية له، وأن الأصل في البول النجاسة فهي صفة أصلية له، وهذا قريب من مذهب المعتزلة الذين يرون أن التحسين والتقبيح يرجع إلى العقل؛ فيرون أن النجاسة عرفت بالعقل، والشرع كشف عن ذلك، ولكن الواقع يشهد لخلاف هذا؛ فالشارع جعل المخاط طاهرًا، فوصفه بالطهارة وهو مستقذر جدًا، وجعل الدم موصوفًا بالنجاسة، وهو غير مستقذر في العادة، دم الذبيحة غير مستقذر في العادة، ودم الإنسان إذا جرح فسال الدم من وجهه، هذا في العادة ليس قذرًا، لكنه نجس؛ وبهذا يعلم أن الشارع رتب الحكم على غير ما يحسنه العقل ويقبحه؛ فلذلك يكون الحكم الشرعي من قبل الشارع لا من قبل العقل، ولا دخل للعقل فيه؛ وعلى هذا تكون الصفات الحكمية قسمًا مستقلًّا لا هو من الصفات الذاتية، ولا من الصفات العرضية؛ ولذلك يقع فيه النسخ، فيباح الشيء فيكون طاهرًا، كلحوم الحمر الأهلية، ثم يحرم فيتصف بوصف آخر حكمي غير الوصف السابق، فدل هذا على أن وصف الطهارة فيه ليس وصفًا ذاتيًّا، ولا هو وصف عرضي، بل هو وصف حكمي مستقل.
وأوصاف الحروف تنقسم إلى قسمين: إلى أوصاف ذاتية للحروف، وأوصاف عرضية فيها، فالأوصاف الذاتية هي التي عقد لها هذا الباب، والأوصاف العرضية ستأتينا بالتدريج في أبواب أخرى، فالأوصاف العرضية كالتغليظ في الراء والترقيق، فهو وصف عرضي، وكذلك اللام، فالتغليظ فيها (التفخيم) وصف عرضي، وكذلك ما يشبه هذا؛ كالإمالة مثلًا في الحرف الممال، فهي صفة عرضية وهكذا، فإذًا هذه هي الصفات العرضية، وستأتينا إن شاء الله.
أما الصفات الذاتية، فهي تنقسم إلى قسمين: إلى الصفات المتضادة، والصفات الانفرادية، فالصفات المتضادة إحدى عشرة صفة، والصفات الانفرادية سبع صفات، فالجميع ثماني عشرة صفة، أولها: الصفات المتضادة، وقد بينها بقوله: (صفاتها)؛ أي: صفات الحروف (جهر ورخو مستفل منفتح مصمتة والضد قل).
بدأ الناظم أولًا بالصفات المتضادة، وهي إحدى عشرة صفة، ذكر منها خمسًا، وأشار إلى أضدادها، فالخمس الأول، هي: الجهر وضده الهمس، والثاني: الرخاوة ولها ضدان الشدة والتوسط، والثالث: الاستفال وضدها الاستعلاء، والرابعة: الانفتاح وضدها الإطباق، والخامسة: الإصمات وضدها الإذلاق أو الذلاقة، فهذه إحدى عشرة صفة.
قال فيها:
صفاتها جهر ورخو مستفل منفتح مصمتة والضد قل
وهو هنا يشير إليها بوصف الحروف بها، فهذه في الواقع ليست صفات، الجهر صفة من صفات الحروف، لكن قوله: (ورخو) الرخو: حرف موصوف بالرخاوة، والصفة هي الرخاوة، والحرف هو الرخو، وكذلك قوله: (مستفل)، فالمستفل وصف للحرف، لكن الاستفال هو الصفة، وكذلك قوله: (منفتح)، هذا وصف للحرف، والانفتاح هو الصفة، وكذلك قوله: (مصمتة) هذا وصف للحروف، والصفة هي الإصمات، (والضد قل)؛ أي: قل ضدها، فضد كل واحد منها معروف، وبدأ مباشرة في تقسيم الحروف على هذه؛ فأولها الجهر وهو في الأصل الرفع، فجهر بصوته؛ أي: رفع به: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا [الإسراء:110]؛ أي: لا ترفع صوتك بالقراءة، ورفع الصوت منه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم، فالمحمود كتبليغ العلم وإسماع الحق، فهذا رفع محمود؛ على أن لا يزعج السامعين، ولا يؤثر في صحة المتكلم؛ ولذلك فإن عمر رضي الله عنه سمع مؤذنًا يبالغ في رفع الصوت، فرفع عليه الدِّرَّة، وقال: أما تختشي يا هذا أن تنشق بريداؤك؟! والبريداء والمريداء: أسفل البطن، والمقصود أن عمر يخاف عليه أن يقع فتق في أسفل بطنه من شدة ما يرفع صوته.
والنوع الثاني هو: رفع الصوت المذموم؛ ولذلك قال الله تعالى في حكايته لوصية لقمان لابنه: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، يقول في هذه الوصية: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19]، صوت الحمير يبدأ بأعلى شيء؛ فلذلك كان أنكر الأصوات.
بعد هذا ضد الجهارة الهمس، والهمس: الخفاء في الصوت، فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا [طه:108]؛ أي: إلا صوتًا خفيفًا، ومنه صوت المشي، فوطء الرجل للأرض أو ما يسمع من صوت الرجل ثلاثة أقسام:
الأول: إذا كان صوتًا للنعل فيسمى قبقبة، فالقبقبة هي: صوت النعل في ضربها للأرض.
الثاني: إذا كان صوتًا للحلي فيسمى وسوسة: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور:31]، فصوت الحلي يسمى وسوسة، ومنه قول الأعشى:
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت
ومنه أيضًا قول أبي تمام:
وإذا مشت تركت بقلبك ضعف ما بحليها من كثرة الوسواس
فهنا استعمل الوسواس في معنييه: الوسواس الذي في القلب، والوسواس الذي هو صوت الحلي.
الثالث: الهمس، وهو إذا كانت الرجل ليست لابسة لنعل ولا لحلي، فمسها للأرض صوته يسمى همسًا، ومنه قول الشاعر:
معاود جرأة وقف الهوادي أشم كأنه رجل عبوس
فباتوا يدلجون وبات يسري بصير بالدجى ورد هموس
إلى أن عرسوا فأغب عنهم قريبًا ما يحس له حسيس
سوى أن العتاق من المطايا أحسن به فهن إليه شوس
هو يصف أسدًا صحب قافلة تسير في الليل يريد أن يأخذ منها فريسة، فيقول: (معاود جرأة وقف الهوادي)؛ أي: إن هذا الأسد تعود على وقف الهوادي، و(الهوادي): السوابق من الخيل أو من الوحش، وهو معاود ذلك (جرأة) مفعول لأجله؛ أي: من أجل الجراءة والجسارة، (أشم)؛ أي: مرتفع الأنف، والمقصود بذلك تكبره، كأنه رجل عبوس، فالرجل العبوس يظهر على وجهه الشمم والتكبر؛ فكذلك هو، (كأنه رجل عبوس فباتوا يدلجون) والإدْلاج: السير أول الليل، والادِّلاج: السير آخر الليل، (فباتوا يدلجون وبات يسري بصير بالدجى) والسباع كلها ترى في الظلام، (ورد) وهذا لونه، وهو: الغبرة المائلة إلى الحمرة، (هموس) فمشيه هو همس؛ أي: يسمع له صوت خفيف جدًا في مسه للأرض.
(ورد هموس إلى أن عرسوا)؛ أي: نزلوا، التعريس هو: النزول ليلًا، (إلى أن عرسوا فأغب عنهم)؛ أي: استقر في مكان قريب منهم، (قريبًا ما يحس له حسيس) لا يحسون له بشيء، (سوى أن العتاق من المطايا)؛ أي: الحرائر من الخيل، (أحسن به)؛ أي: أحسسن به، (فهن إليه شوس)؛ أي: ينظرنه بمؤخرة أعينهن، فالأشوس: الذي ينظر بمؤخرة عينه، وهذا من الوصف البليغ الذي يجعلك كأنك تنظر إلى هذا الأسد إلى وصفه؛ كأنك تراه من دقة الوصف وتمامه، فهذا الهمس.
ثم بعد ذلك الرخاوة، وهي ضد الشد؛ فالشيء الرخو هو: غير المشدود، وفي وصف الإبل، يقال:
(رخو الملاط)؛ أي: إن ما يلي الخصر من جلده رخو يقبل التمدد.
فبيناه يشري رحله قال قائل لمن جمل رخو الملاط نجيب
(لمن جمل رخو الملاط نجيب)؛ أي: خصره مسترخ.
ثم ضد الرخاوة الشدة، وكذلك من أضدادها التوسط بين الشدة والرخاوة.
والمقصود في الاصطلاح بالجهر: هو أن ينقطع النَّفَس عند النطق بالحرف، وقد ذكرنا أن الهواء الخارج ينقسم إلى: نَفَس وصوت، فالصوت يبقى لكن ينقطع النفس، فهذا هو المقصود بالجهر، وأما الشدة فهي انقطاع الصوت؛ ولذلك يجتمعان معًا، فبينهما نسبة العموم والخصوص من وجه، فبعض الحروف يجمع بين الشدة والجهر، وبعضها يختص بالجهر، وبعضها يختص بالشدة كما سيتبين إن شاء الله تعالى.
إذاً: الجهر: انقطاع النفس، والشدة: انقطاع الصوت عند النطق بالحرف.
(مستفل)؛ أي: مائل إلى السفل، والسفل هو: أسفل الشيء، والواقع أن الحرف غير مستفل، وإنما المستفل اللسان، فاللسان يستفل عند النطق بالحرف، وهو لا يستفل في الواقع، فالحرف دائمًا لا يستفل؛ لأن مكانه هو فتحة اللهاة، فإذا ارتفع اللسان سمي الحرف: مستعليًا، وإذا انخفض اللسان سمي الحرف: مستفلًا، والعلو والسفل متضادان؛ فلذلك صفة الاستعلاء وصفة الاستفال متضادتان.
(منفتح) الانفتاح هو: ضد الإغلاق، أن يكون الحرف بقي معه مكان للنفس، يخرج صوت الحرف من المخرج ويبقى معه مكان للنفس، فهذا الذي يسمى: بالانفتاح، وضده الإطباق، بحيث ينطبق المخرج على الحرف فلا يبقى فيه مكان؛ فإذًا الإطباق ضد الانفتاح، وهو من أطبق الشيء على الشيء إذا أوقعه عليه، والأطباق هي: السموات السبع الطباق؛ أي: السموات كل واحد منها طبق مغط لما تحته بالكلية، وكذلك أطوار الزمن تسمى أطباقًا، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق:19]، هي أطوار الزمان من الغنى والفقر، والصحة والمرض، والفراغ والانشغال... إلخ؛ ولذلك في حديث أم زرع: ( زوجي عياياء، غياياء، طباقاء، شجك، أو فلك، أو جمع كلا لك ).
(عياياء غياياء طباقاء)، (عياياء) معناه: عيي، لا يستطيع أن يبين فكرة في قلبه، (غياياء) معناه: كثير الغي، مائل إلى الخصام، (طباقاء) معناه: لا يتحمل ولا يطاق، كأنه يطبق على الإنسان النفس لا يستطيع أن يتنفس معه.
(شجك، أو فلك، أو جمع كلا لك)، (شجك) الشج هو: الضرب في الرأس أو في الوجه، (أو فلك)؛ أي: كسر بعض أسنانك، (أو جمع كلا لك) فهذا الإطباق.
(مصمتة)، الإصمات هو: حبس الصوت، فصمت فلان؛ أي: سكت، والصمات: السكوت، والصامت هو: ما لا كلام له بالخلقة، كما في حديث الغلول: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الغلول فعظم من شأنه، وفي هذا الحديث: ( ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته صامت، يقول: يا محمد، أغثني! ولست له بمغيث )، فالمقصود بالصامت: الذهب أو الفضة، المال الصامت هو: الذهب أو الفضة، وضد الإصمات: الإذلاق، والإذلاق هو: الحدة، فالذلق؛ أي: حديد اللسان، ورأس اللسان محدد ليس كأصله؛ فلذلك ما خرج من رأس اللسان أو من الشفتين هذا الذي يسمى بحروف الذلاقة، وهذه الصفات الإحدى عشرة الذي ينفع منها في تمييز الحروف وتحسينها هي التسع الأول، وأما الأخيرتان وهما: الإصمات والذلاقة، فلا نفع فيهما في تمييز الحروف؛ ولذلك لم يذكرهما بعض أهل الأداء في صفات الحروف أصلًا؛ لأن معرفتك أن هذا الحرف مصمت، أو أن هذا من حروف الذلاقة- لا يؤدي إلى أثر في النطق به؛ لأن المصمتة هي التي تخرج من الجوف، أو من الحلق، أو من أصل اللسان، أو من ظهره، أو من حافتيه، والمذلقة هي التي تخرج من رأس اللسان، أو من الشفتين، فالإصمات والإذلاق بيان لقسم المخرج؛ فرأس اللسان وما يخرج منه إلى نهاية الحروف هذه هي حروف الذلاقة، وما وراء ذلك كله هو حروف الإصمات؛ فإذًا الإصمات والذلاقة لا يترتب عليهما شيء في تمييز الحرف ولا في النطق به، إنما هما بيان لمكانه فقط.
بدأ في تقسيم الحروف على هذه الصفات، فقال: (مهموسها فحثه شخص سكت) الهمس صفة لهذه الحروف، وهي التي يجمعها (سكت فحثه شخص) عشرة أحرف، هي السين، والكاف، والتاء، والفاء، والحاء، والثاء، والهاء، والشين، والخاء، والصاد، هذه الحروف هي حروف الهمس؛ ولذلك قال المختار بن بونه رحمه الله:
وما من الحروف قد حوى سكت فحثه شخص فبالمهموسة
هذه هي الحروف المهموسة، والمؤلف هنا عكس الترتيب، فقال: (فحثه شخص سكت) فهذا فيه تقديم للمعطوف على المعطوف عليه، والأصل أن يأتي المعطوف عليه بعد المعطوف، ولكن قد يتقدم المعطوف على المعطوف عليه نادرًا، كقول غيلان:
كأنا على أولاد أحقب لاحها ورمي السفا أنفاسها بسهام
جنوب ذوت عنها التناهي فأخلفت به يوم دباب السفير صيام
فقوله: (ورمي السفا أنفاسها بسهام) معطوف، والمعطوف عليه قوله: (جنوب)، وهو متأخر عنه في البيت الثاني، (كأنا على أولاد أحقب لاحها جنوب) (جنوب) فاعل (لاحها)؛ أي: أعجلها، (جنوب ورمي السفا أنفاسها بسهام) (ذوت عنها التناهي) أي: يبست عنها الغدر، (ذوت عنها التناهي فأخلفت)؛ أي: أقامت به؛ أي: المكان المفهوم من التناهي، (يوم دباب السفير)؛ أي: اليوم الشديد الريح الذي يحرك السفير، و(السفير) ورق الجرجير، (يوم دباب السفير صيام) نعت لأولاد أحقب.
السفا: نبت له شوك يدخل في أنوف الغزلان فيملؤها، وينبت في المكان المشتد من الأرض، ويسمى باللهجة الحسانية أو باللغة البربرية (تيزيت)، وهو نبت أصفر اللون، (فحثه شخص سكت) هذه هي الحروف المهموسة، وما عدا المهموسة هي المجهورة، فما عدا الحروف العشرة المهموسة وهو تسعة عشر حرفًا هي المجهورة.
قال: (شديدها)؛ أي: الشديد من الحروف، وهذه الصفة الثالثة من صفات الحروف، وهي الشدة المتصف بها هذه الحروف التي يجمعها: (أجد قط بكت) وهو ثمانية أحرف: الهمزة، والجيم، والدال، والقاف، والطاء، والباء، والكاف، والتاء، وقد جمعها بهذه الجملة، ويقال: إن (قط) اسم امرأة؛ أي: أجد أن تلك المرأة بكت، وقد ورد تسمية النساء بهذا اللفظ، وهو من لغات (قط)، بمعنى: حسب، وجمعها النحويون بقولهم: (أجدك تطبق)، سئل سيبويه عن حروف الشدة، فقال: (أجدك تطبق)؛ أي: أجدك تطبق فمك عند التلفظ بها، كما سئل الخليل بن أحمد عن أحرف الزيادة، فقال: سألتمونيها؟ قالوا: نعم، قال: أجبتكم، فهي هذه الحروف التي يجمعها (سألتمونيها)، هذه هي حروف الزيادة، وهم لم يعرفوا أنه أجابهم حتى ذكر ذلك.
(وبين رخو والشديد لن عمر) المتوسط بين الشدة والرخاوة خمسة أحرف: هي اللام، والنون، والعين، والميم، والراء، يجمعها (لن عمر)، (عمر) منادى، و(لن) فعل أمر، وأهل النحو يجعلون معها ثلاثة أحرف أخرى، وهي: الألف، والواو، والياء، ويجمعونها بقولهم: (ولينا عمر)، وبعضهم يجمعها بقوله: (لم ير عونًا) لم ير العدو عونًا، وبعضهم يجمعها بـ(لم يرو عنا) فهذه الحروف متوسطة بين الرخاوة والشدة، فيمكن أن تكون خمسًا على الاختيار الذي اختاره ابن الجزري هنا، ويمكن أن تكون ثمانية إذا أضفت إليها أحرف المد الثلاثة، هذه الحروف الخمسة، وهي: اللام، والنون، والعين، والميم، والراء متوسطة بين الشدة والرخاوة، والنحويون يزيدون عليها ثلاثة أحرف، فتكون ثمانيًا، وهي أحرف المد: الألف، والواو، والياء.
(وسبع علو خص ضغط قظ حصر)، يقول: حصر هذا اللفظ الحروف السبعة التي تتصف بصفة الاستعلاء، سبع علو؛ أي: الحروف المستعلية، يجمعها هذا اللفظ وهو (خص ضغط قظ)، وهذا اللفظ لا معنى له، لكن المقصود: الخاء، والصاد، والضاد، والغين، والطاء، والقاف، والظاء، هذه الحروف السبعة هي أحرف الاستعلاء، وما عداها هو أحرف الاستفال، فما عداها كله مستفل.
ثم بعد هذا قال: (وصاد ضاد طاء ظاء مطبقه) الإطباق له أربعة أحرف، وهي كلها من حروف الاستعلاء، وهي: الصاد، والضاد، والطاء، والظاء، فبين الاستعلاء والإطباق نسبة العموم والخصوص المطلقين؛ لأن جميع حروف الإطباق مستعلية؛ وبهذا يكون حروف الإطباق جزءًا من حروف الاستعلاء، فبينهما نسبة العموم والخصوص المطلقين، بخلاف ما ذكرناه من قبل في الجهر والشدة، فبينهما نسبة العموم والخصوص الوجهي، فيشتركان في شيء، وينفرد كل واحد منهما بشيء.
قال: (وفر من لب الحروف المذلقه) انتهينا -إذًا- من حروف الإطباق، ووصلنا إلى حروف الإذلاق والإصمات، فحروف الإذلاق يجمعها قولهم (فر من لب)، وهذه جملة معناها غير مفيد؛ لأن اللب هو: العقل، ولا يمكن الفرار منه، وأيضًا هو الخالص من كل شيء، فلب الشيء هو: خلاصته، يقال: اللب واللباب:
له داع بمكة مشمعل وآخر فوق دارته ينادي
إلى ردح من الشيزا ملاء لباب البر يلبك بالشهاد
(لباب البر) اللباب؛ أي: وسطه يزال عنه ما فيه من النخالة، فيبقى اللب منه، وقد جمعها المختار بن بونه رحمه الله، بقوله: (مر بنفل)، قال: (ومر بنفل أحرف الذلاقه) (مر بنفل) فجمعها بجملة مفيدة وهي: أن تأمر بنفل، أن تأمر الإنسان بعد إكماله لفرضه بالنفل، وما عداها من الحروف جميعًا هو المصمتة؛ فلذلك الميم والباء والواو الشفوية كلها من الذلاقة، وكذلك النون والراء من رأس اللسان، والفاء واللام كذلك كلها من الحروف المذلقة، (صفيرها صاد وزاي سين) الأحرف الصفيرية هي: الصاد، والزاي، والسين، وصفتها الصفير، وكان اللازم أن تضاف أيضًا إلى أحرف الذلاقة؛ لأن الصفير (الذي) فيها وإن كانت الصفة متأخرة في المخرج، لكن هي أيضًا من رأس اللسان، لكن بما أن أحرف الذلاقة لها علامة تدل على الأصالة في اللغة العربية، فكل كلمة رباعية فصاعدًا ليس فيها حرف من أحرف الذلاقة؛ فهذا يدل على أنها ليست عربية أصيلة، بل هي معربة، كل كلمة مما زاد على ثلاثة أحرف ليس فيها حرف من أحرف الذلاقة فهي معربة، ليست من العربية الأصيلة، ومن أمثلة ذلك: عسجد، وهو اسم للذهب، فالحروف التي فيه كلها من أحرف الإصمات، فليس هذا اللفظ عربيًّا أصليًّا، وإنما هو معرب، قال: (صفيرها صاد وزاي سين) أحرف الصفير هي: الصاد، والزاي، والسين؛ وذلك لأنها عند خروجها من مخرجها يسمع معها صوت، مثل: صوت الصفير، والصفير والزفير هو: صوت الهواء في التجاويف في كل مجوف، والعرب يطلقونه على نفخ الإنسان في تجاويف يده إذا فاتته الفرصة، إذا فاتته فرصة عادة ينفخ في تجاويف يده، كما قال تأبط شراً:
فأبت إلى فهم وما كدت آئبًا وكم مثلها فارقتها وهي تصفر
(وكم مثلها فارقتها وهي تصفر)؛ أي: كم فرصة لقتلي وقعت فيها، (ففارقتها وهي تصفر) نجوت منها فبقيت تصفر، والصفير هو الذي يزعم العرب أن الجبان يرتاع عند سماعه، فصوت الريح في تحريكها للأشياء ودخولها في المجوفات يرتاع الجبان عند سماعه؛ ولذلك يقول الخارجي عمران بن حطان في خطابه للحجاج:
أسد علي وفي الحروب نعامة ربداء تنفر من صفير الصافر
هلا كررت على غزالة في الوغى أم كان قلبك بين جنبي طائر
(أسد علي)؛ أي: في حال كونه أسيرًا لديه يستأسد عليه، (وفي الحروب نعامة) بمثابة النعامة، والنعام أجبن المخلوقات، وفي الحروب نعامة (ربداء) وهذا لون النعامة، (تنفر من صفير الصافر)؛ أي: تفر إذا سمعت صفيرًا أيًّا كان، (هلا كررت) والكر هو: الرجوع بعد الفر، (على غزالة) وهي امرأة من الخوارج أقسمت أن تصلي ركعتين في مسجد الكوفة؛ فغزت الكوفة وفيها الحجاج أميراً إذ ذاك، قال: (في الوغى)؛ أي: في الحرب، (أم كان قلبك بين جنبي طائر) فهذا غاية في الجبن، وهذا الصوت هو الذي يسمع مع النطق بهذه الحروف، إذا قلت: (إص) (إس) (إز) يسمع صوت هذا الصوف هو الذي يسمى صفيرًا، قال:
صفيرها صاد وزاي سين قلقلة قطب جد واللين
يقول: إن صفة القلقلة تتصف بها هذه الحروف الخمسة، وهي التي يجمعها (قطب جد)، قال: (قلقلة قطب جد)؛ أي: القلقلة صفة لهذه الحروف الخمسة، وهي: القاف، والطاء، والباء، والجيم، والدال، فهذه الحروف عند النطق بها، ارتجاج في المخرج، فهي ترتجف في المخرج، وعند إسكانها ينطق بها مكررة؛ أي: مرتين فتقول: (إق)، (إط)، (إب)، فهذا الارتجاف في المخرج هو الذي يسمى قلقلة، ولا يتقنه كثير من الناس، حتى من بعض الفصحاء، فإذا نطقوا بها ساكنة شددوها، فيقولون: (قل أعوذ برب الفلقّْ) يشددونها (من شر ما خلقّْ) يشددونها أيضًا، (ومن شر غاسق إذا وقبّْ) هذا تشديد وليس قلقلة، والقلقلة هي أن تقول: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:1-5]، ونطقها مشددة كثيرًا ما يغير المعنى، كمن يقرأ: (قل هو الله أحدّ)، وتسمعون بعض الأئمة يفعل ذلك، فهذا مغير للمعنى؛ لأن (الأحدّ) معناه: المحدد، وهذا مغير للمعنى، وكذلك (لم يلدّ)، معناه: لم يجعل اللدود في فم الإنسان، واللدود: هو ما يجعل للإنسان إذا أمسك عن الطعام، يلد بالشيء، أي: يسعط له، أو يدخل في فمه من غير ملكه، فهذا مفسد للمعنى.
والجيم لها صفات، منها: الشدة والانفتاح، وهما صفتان قد تتعارضان لدى بعض الناس؛ فلذلك إما أن يأخذ الإنسان بالشدة فقط، فيجعلها بمثابة الدال، أو يأخذ بالانفتاح فقط، فيجعلها قريبة من الشين، وكلاهما خطأ؛ فالذي يقول: (جاء) هذا أخذ بالانفتاح ولم يأخذ بالشدة؛ فجعلها قريبة من الشين، والذي يقول: (جاء) هذا أخذ بالشدة، فجعلها قريبة من الدال ولم يأخذ بالانفتاح، وهي بينهما؛ فتقول: جاء.. جاء، فيها الشدة، وفيها الانفتاح.
نصل الآن إلى الصفات الأخر وهي سبع، لا يضادها شيء، بل هي صفات منفردة، وهذه الصفات هي:
أولها: اللين، وهو: سهولة النطق بالحرف، أن يكون الحرف غير متصل بمخرج حقيقي، بل هو يخرج من مخرج مقدر، وهذه الصفة يتصف بها حروف المد الثلاثة: الواو، والياء، والنحويون يصفون بها الألف أيضًا، والمؤلف اختار أن الألف دائمًا حرف مد ولا تكون حرف لين، والنحويون يصفونها بأنها حرف لين ومد معًا؛ لأنها دائمًا ساكنة ودائما مفتوح ما قبلها، فالنحويون يقولون كما قال المختار بن بونه:
فالهمز والها مخرج ذو النطق والألف اللين من اقصى الحلق
والذي اختاره المؤلف هنا من أقوال أهل الأداء: أن الألف حرف مد، والواو والياء يكونان حرفي مد، ويكونان حرفي لين، فاللين صفتهما وهما إذا وصفا بذلك كل حرف منهما حرف لين؛ أي: متصف باللين، فاللين كالـمَيْت؛ أي: اللين، فكلاهما حرف لين، ولين؛ أي: سهل الخروج من المخرج؛ لأنه ليس له مخرج محقق، وإنما مخرجه غير محقق في الواقع؛ فلذلك قال:
واللين واو وياء سكنا وانفتح قبلهما
أي: انفتح ما قبلهما، فالعبارة هنا غير دقيقة؛ لأن المقصود: وانفتح ما قبلهما، فإذا ضم ما قبل الواو كانت حرف مد، وإذا كسر ما قبل الياء كانت حرف مد، والواو لا تثبت قبلها الكسرة، والياء لا تثبت قبلها الضمة إلا في الإعمالات، والإعمالات ليست في الأصل من لغة العرب، وإنما هي مرتبة من مراتب تغير اللفظ، فاللفظ الواحد يمر بمراتب هي التي تسمى لدى أهل الصرف: بالإعمالات، كالهراوى، فإنها مرت بخمس إعمالات، وهكذا في الخطايا ونحوها، فهذه الإعمالات هي التي يلغز بها؛ ولذلك يقول أحد الحسنيين:
خوف الهراوى وإنجاز الوعيد بها من آل سلمى حماني أن أُلِمَّ بها
فإعمالها هو: مرورها بهذه المراتب الصرفية التي تمر بها، وإنما يستعمل ذلك في امتحان الإنسان في جودته في اللغة؛ ولهذا يضع النحويون أبوابًا للامتحان، لكن منها فيما يتعلق بالصرف باب (بناء مثال من مثال)، فهذا يأتونك فيه بكلمة وهمية ليست من لغة العرب، ويأتون بكلمة من اللغة العربية، فيقولون: ابن لنا مثال هذه الكلمة من هذه الحروف، يقولون مثلًا: ابن لنا مثال كوكب من وأى، وهكذا فتمر بإعمالات متعددة حتى تصل إلى صورتها النهائية.
الصفة الثانية من الصفات الانفرادية: الانحراف؛ فلذلك قال:
(والانحراف صحح في اللام)؛ أي: إن الانحراف صفة مصححة في اللام؛ أي: الصحيح أن اللام والراء تتصفان بصفة هي الانحراف، وهي اعوجاج رأس اللسان عند النطق بهما، ويتبين ذلك في السكون إذا قلت: (إل)، (إر)، يميل اللسان قليلًا ذات اليمين أو ذات الشمال عند النطق بهما، وليس المقصود بذلك الانحراف في المخرج؛ أي: الميل فيه، فالواقع أن المخرج هو ما يخرجان منه، فالانحراف صفتهما.
في اللام والراء، الانحراف صفة لهذين الحرفين، هذا على الأصح، ويقابل الأصح قول بنفي هذه الصفة أنها ليست صفة أصلًا من صفات الحروف.
الصفة الثالثة من الصفات الانفرادية هي: التكرير، وهو صفة للراء وحدها، وهو: ارتعاد رأس اللسان عند النطق بها، فهو صفة من صفات الراء، ولا ينبغي اتباعها؛ لأن اتباعها سيزيد فيها، وبالأخص في حال السكون، فيجعلها راءات متعددة؛ فلذلك تقول: الله أكبر، وإذا كررتها فستقول: أكبرررر؛ فتأتي براءات كثيرة جدًّا؛ فلذلك من اللحن الزيادة في التكرير في الراء، ولكن لابد من شيء من هذه الصفة، وبعض أهل الأداء يقول: إنما تذكر هذه الصفة لتجتنب أصلًا، وقد ذكر مكي بن أبي طالب أن هذا غير صحيح بل تذكر ليؤتى بها، لكن لا يبالغ فيها، ولا يزاد فيها عن قدرها.
الصفة الرابعة من هذه الصفات الانفرادية: التفشي، وهو: انتشار الهواء في الفم؛ أي: انتشار الريح في الفم عند النطق بهذا الحرف، فهو بمثابة إعمال لمكيف في داخل الفم، تحريك للهواء في داخل الفم، تقول: (إش) فكأن الهواء تفرق في داخل الفم، فهذه الصفة هي: التفشي، وهي صفة للشين وحدها على الراجح، وقد قال بعض أهل العلم توصف بها الضاد أيضًا، وهذا الذي قال فيه المختار بن بونه رحمه الله:
وللتفشي الشين باتفاق وصف به الضاد على شقاق
(على شقاق)؛ أي: على خلاف، وبعض أهل الأداء يزيد أيضًا حروفًا أخرى للتفشي: كالفاء، والثاء، والذال، والراجح أنها جميعًا ليست من حروف التفشي، وأن الشين وحدها هي حرف التفشي،
قال رحمه الله: (ضادًا استطل).
الصفة الخامسة من هذه الصفات الانفرادية هي: الاستطالة، وهي صفة الضاد، والمقصود بها الاستمرار في المخرج من أوله إلى نهايته، فالضاد تبدأ في الخروج من حافة اللسان مما يلي الأضراس، وتستمر إلى مخرج اللام: (إض)، (إض)، فتستمر استمرارًا هو الذي يسمى بالاستطالة؛ فلذلك قال: (ضادًا استطل)؛ أي: صفها بالاستطالة، وأنت بذلك استطلتها؛ أي: عددتها طويلة.
إذًا ذكر هنا خمسًا من هذه الصفات، هي: اللين، والانحراف، والتكرير، والتفشي، والاستطالة، وترك منها الغنة، فالغنة صفة للنون والميم، وهي من هذه الصفات التي ليس لها مقابل، وكذلك التفخيم هو صفة من الصفات التي يقابلها الترقيق، لكن الأصل في الحروف كلها إذا كانت مستعلية التفخيم، وإذا كانت مستفلة الترقيق؛ فبذلك تكون تلك الصفات سبعًا على إحدى عشرة، فالجميع ثماني عشرة صفة، وقد أوصلها مكي بن أبي طالب إلى أربع وأربعين صفة، فجعل للهمزة عددًا من الصفات كالنبر وغيره، ويكفي هذا في تمييز الحروف، فهو كافٍ في الصفات.
بقي أن أنبه إلى خطأ قد يكون حصل وهو أنا عددنا مخرج الفاء من المخارج اللسانية، وهذا عند بعض النحويين، فإنهم يعدون الفاء لسانية؛ لأنها من اللسان مع داخل الشفة والثنايا، والواقع أن جميع الحروف لسانية، فليس حرف من الحروف إلا وفيه مشاركة للسان، أيًا كانت تلك المشاركة، وهذا ما نبه عليه محمود خليل الحصري رحمه الله، ذكر أن جميع الحروف لسانية حتى حروف الحلق فهي لسانية أيضًا؛ لأن صوتها لا يسمع إلا بعد وصولها إلى اللسان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر