بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:
سبق أن مواضع المخارج خمسة: الجوف، والحلق، واللسان، والشفتان، والخيشوم، فهذه خمسة مواضع هي محال الضغط على الهواء المنطلق من الرئة، وفي كل مكان ضغط عليه يتركب مخرج من مخارج الحروف، وقد سبق أن العلماء اختلفوا في عدد مخارج الحروف إلى أربعة أقوال، وهي:
الأول: سبعة عشر مخرجا، وهو قول الخليل بن أحمد الفراهيدي، وهو اختيار ابن الجزري.
الثاني: أنها تسعة وعشرون مخرجا، فجعلوا لكل حرف مخرجاً.
الثالث: ستة عشر مخرجاً وهو مذهب سيبويه.
الرابع: أربعة عشر مخرجاً وهو مذهب الفراء.
إذًا: مذهب الخليل أنها سبعة عشر؛ فالجوف فيه مخرج واحد، وهو لحروف المد الثلاثة: الواو، والألف، والياء، والألف لا تكون إلا ساكنة، والواو تكون متحركة وساكنة، وكذلك الياء، وإنما تخرج من هذا المخرج في حال سكونها وتحرك ما قبلها بحركة مجانسة لها، فإذا كانت الواو ساكنة وكان ما قبلها مضموما كانت حرف مد، وإذا كانت الياء ساكنة وكان ما قبلها مكسورًا كانت حرف مد، وهذا المد لا يمكن أن يقال: إنه مكان معين بالضبط من الجوف؛ لأن المقصود به التجاويف في داخل الفم، حتى يخرج إلى الهواء الخارجي، كما سبق معنا في النظم: (أحرف مد للهواء تنتهي) فإذًا هذا المخرج الأول.
المخرج الثاني هو أقصى الحلق، والحلق فيه ثلاثة مخارج:
الأول: أقصى الحلق ويخرج منه حرفان: الهمزة، والهاء، فالضغط الشديد يخرج الهمزة، والضغط الذي دونه يخرج الهاء؛ فلذلك الهاء حرف مهموس، والهمزة حرف مجهور، والسبب هو اختلاف قوة الضغط، فالمخرج واحد لكن إذا قوي الضغط جاء الحرف المجهور، وإذا خف الضغط جاء الحرف المهموس: هكذا (أأ) (أه).
الثاني: وسط الحلق، ويخرج منه حرفان: العين، والحاء، وذلك باختلاف قوة الضغط أيضًا، فالحاء حرف مهموس؛ فلذلك الضغط عليها ضغط خفيف، والعين حرف مجهور؛ فلذلك الضغط عليها قوي، فالمخرج واحد لكن باختلاف الضغط يتكون الحرف، فإذا ضغطت بشدة على وسط الحلق تخرج العين، وإذا ضغطت بخفة عليه خرجت الحاء.
الثالث من مخارج الحلق، وهو الرابع من مخارج الحروف: أدنى الحلق إلى الفم، أو آخر الحلق؛ أي: ما يلي أصل اللسان من الحلق، وهذا يخرج منه حرفان: الغين والخاء؛ فالخاء مهموسة؛ فهي خفيفة ولذلك هي أسهل حروف الحلق، وهي أقربها إلى اللسان، والغين مجهورة، فالضغط مع الغين شديد، ومع الخاء خفيف؛ ولذلك تجدون تقاربًا بين مخرج الخاء ومخرج القاف، حتى إن بعض اللهجات لا تميز بين الخاء والقاف، من اللهجات الوطنية مثلا اللهجة السنونكية؛ فإنها لا تميز بين الخاء والقاف، وهما واحد في هذه اللهجة؛ وذلك لتقاربهما، فهذه آخر حروف الحلق.
والأخرى أول حروف اللسان، المخرج الأول من مخارج اللسان هو أقصى اللسان؛ أي: أصل اللسان، أو منبت اللسان، وهذا المكان فيه مخرجان: مخرج القاف، ومخرج الكاف، فالقاف إلى جهة الحنك الأعلى، والكاف إلى أسفل، فتقول: (إق)، وتقول: (إك)، والكاف مهموسة، والقاف مجهورة، والقاف فيها عوامل القوة؛ لأنها أولًا حرف استعلاء، وكذلك فيها القلقلة.
ثم بعد هذا وسط اللسان، ويخرج منه ثلاثة أحرف، هي: الجيم، والشين، والياء، وهنا جاءنا عامل جديد، وهو الثلاثية في التقسيم، في السابق كان التقسيم ثنائيًا، المخرج يخرج منه حرفان، إلا مخرج الجوف، وهذا لا نستطيع ترتيب الضغط فيه، فلا نستطيع أن نقول مكان منه معين للواو، أو مكان للألف، أو مكان للياء؛ لأنه ممتد، هي أحرف مد، والفرق بين المد والاستطالة التي ستأتي: أن الاستطالة مختصة بالمخرج، والمد مستمر، فالمد ليس له حدود، واستطالة الضاد تنتهي إلى مخرج اللام، عند آخر حافة اللسان مما يلي الأضراس، عند الوصول إلى الضواحك تنتهي الضاد، ويبدأ مخرج اللام، بخلاف المد، فهو استطالة ليس لها حدود.
ومخرج وسط اللسان فيه ثلاثة حروف؛ لأن الضغط إما أن يكون شديدًا، وإما أن يكون متوسطًا، وإما أن يكون رخوًا، فبحسب ذلك تكون الحروف، فإن كان الضغط بشدة جاءت الجيم، وإن كان بتوسط جاءت الياء، وإن كان بخفة جاءت الشين، فهذه الثلاثة من مخرج واحد، ولكن الضغط فيها ثلاث درجات، شديد ومتوسط ورخو.
ثم بعد هذا حافة اللسان، وهي طرفه مما يلي الأضراس، وهذا فيه مخرجان: المخرج الأول: هو مخرج الضاد، وهي من أول حافة اللسان مستطيلة معها، سواء أخرجتها من اليمين، أو من الشمال، أو أخرجتها منهما معًا، تستطيل مع الأضراس من النواجذ مرورا بالطواحن، إلى الضواحك، وتنتهي عند هذا الحد، ثم بعد ذلك يبدأ المخرج الثاني من مخرجي حافة اللسان: وهو مخرج اللام، فاللام في حافة اللسان، ولكن في آخر الحافة، فهذا الفرق، أن اللام من نهاية الحافة، والضاد مستطيل مع الحافة، من أولها إلى قرب آخرها، ثم بعد هذا طرف اللسان، وهو رأس اللسان المحدد منه، وهذا فيه أربعة مخارج، فطرف اللسان ما بينه وبين لثة الأسنان العليا، واللثة: هي اللحم الذي تنبت فيه الأسنان، وهو بالكسر والتخفيف (لثة)، وجمعه (لثات)؛ ولذلك قال غيلان بن عقبة المنقري:
لمياء في شفتيها حوة لعس وفي اللثات وفي أنيابها شنب
فاللثات: جمع لثة.
فهذا المكان يخرج منه الراء والنون، باختلاف الضغط أيضًا، فالراء بالارتفاع، والنون بالانخفاض.
المخرج الثاني من مخارج طرف اللسان: هو ما بين اللسان وأصول الثنايا العليا؛ أي: منبت الثنايا العليا، جذوع الثنايا العليا، وهذا تخرج منه هذه الأحرف الثلاثة: الطاء، وهي من أقوى الحروف عمومًا، أولًا: لأنها حرف إطباق، وهي كذلك حرف استعلاء، وهي مقلقلة، وهي مجهورة، وهي شديدة، كل صفات القوة مجتمعة فيها، فهي من أقوى الحروف؛ فلذلك يكون الضغط قويًّا عندها، فتقول: (إِط) فاللسان يلامس أصول الثنايا العليا عند منبتها بشدة، ثم بعدها الدال، وهي قريبة منها، فتقول: (إد) (إد)، وهي متوسطة في الشدة، ثم بعد ذلك التاء، وهي أيضًا في نفس المخرج لكنها أسهل ضغطا، فتقول: (إت) (إت)، كذلك إذا كان طرف اللسان؛ أي: رأس اللسان المحدد منه، مع أطراف الثنايا العليا؛ أي: مع رءوس الثنايا العليا- فهذا مخرج لثلاثة أحرف، هي: الذال، والثاء، والظاء، وذلك باختلاف الضغط أيضًا، فأشدها الظاء، فتقول: (إظ) (إظ)؛ لإطباقها واستعلائها، ثم بعدها الذال، فتقول: (إذ)، ثم الثاء فتقول: (إث)، فهذه الثلاثة باختلاف قوة الضغط أيضًا بالشدة والتوسط والسهولة.
ثم ما بين طرف اللسان والثنايا الفتحة التي بين الثنايا العليا والسفلى فتحة الفم تخرج ثلاثة أحرف، هي: حروف الصفير، وأشدها الصاد، فتقول: (إص)، ثم السين: (إس)، ثم الزاي: (إز)، فهذه أيضًا باختلاف الضغط، فإذا ضغطت ضغطا شديدًا خرجت الصاد، وضغطا متوسطًا تخرج السين، وضغطًا خفيفًا تخرج الزاي، ثم بعد ذلك الفاء، وهي مترددة بين أن تكون من مخارج اللسان، وبين أن تكون من مخارج الشفتين، لأن أصل اللسان محفوف بإطار الأسنان، لأن اللسان في داخل حظيرة الأسنان، والفاء مخرجها خارج حظيرة الأسنان، فالفاء تخرج ما بين طرف اللسان وباطن الشفة، فهي أمام الأسنان جميعًا في باطن الشفة، فتقول: (إف) (إف)، ترتفع إلى الشفة العليا، لكن هي تشارك فيها الشفتان معًا في النطق، (إف)، وهي في الواقع طرد للهواء لا ضغط عليه، ولكن الهواء إذا اعترضته الشفة العليا خرجت الفاء، فأنت إذا أطلقته تقول: (إف) تكون الفاء غير منطوقة نطقًا فصيحًا، وإذا اعترضته الشفة العليا كانت الفاء فصيحة، تقول: (إف)، فالهواء تعترضه الشفة العليا فترده قليلًا، فهي طرد للهواء، وتضغط عليه الشفة فيرتد، الشفة العليا، تقول: (إف) (إف)، الشفة العليا هي التي ردته، الشفة السفلى شاركت فعلًا، لكن مشاركتها إنما هي في إخراجه.
أما الشفتان ففيهما مخرجان: مخرج للواو، وهو في الواقع اجتذاب للهواء، كأن الهواء قد خرج من الفم فتداركه الفم برد شيء منه، تقول: (إِو)، وتشاهدون تقلص الشفتين إلى الداخل عند النطق بالواو ساكنة، تقولون: (إو).
ولذلك فالواو هي التي منها أخذ أبو الأسود الدؤلي شكل الحروف، فالضبط الذي كلف به الحجاج بن يوسف الثقفي أبا الأسود الدؤلي أخذه من الواو، دعا فتى نبهًا فقال: انظر إلى فمي كيف أنطق، فإذا نطقت فارسم لي هيئة فمي، فقال: (و) فرسم له خطًا مستقيمًا، فقال: (وِ) فرسم خطًا مائلًا إلى أسفل، فقال: (وُ) فرسم له صورة فمه مفتوحًا هكذا بمد الشفتين فجعلها للحركات، فقال: (إوْ) فرسم له فمه مستديرًا، فكان السكون بالاستدارة، والضم كهيئة الفم المفتوح لطرد الهواء، والفتحة والكسرة كلاهما فيها فتح للشفتين، لكن الكسر مع انجرار الحنك إلى أسفل؛ فلذلك جعل إحداهما فوق وهي الفتحة، وجعل الأخرى إلى أسفل وهي الكسرة.
ثم المخرج الثاني من مخارج الشفتين قد سبق أنه يخرج منه حرفان وهما: الباء، والميم، فالميم بضمه، والباء بفتحه، إذا قلت:(إم) فستستقر الشفتان على الإطباق، وإذا قلت: (إب) فستستقران على الفتح، والعبرة بنهاية الوضع عند النطق بالحرف، انظر إلى العضو بعد نهاية النطق بالحرف، فما استقر عليه فهو المعتبر.
وبهذا انتهت الحروف وبقي أن الخيشوم محل لمخرج واحد وتخرج منه الغنة، والغنة قد سبق الاعتراض فيها هل هي حرف أو صفة، وهذا الاعتراض لا نستطيع جوابًا عنه في الواقع، وهي تخرج من تجاويف الأنف، فالهواء المنطلق من الرئة ينشعب إلى شعبتين، إحداهما: تخرج من اللهاة إلى جهة الفم، والأخرى: تذهب في تجاويف المنخرين فتنطلق من الأنف، فالذي يخرج من الفم هو الذي يتكون منه الصوت دائمًا، والذي يذهب إلى الأنف هو الذي يتكون منه النفس، وقد سبق في الصفات أن الضغط إما أن يكون معه احتباس للنفس أو احتباس للصوت، فإن كان معه احتباس للنفس؛ فهذا الجهارة، وإن كان معه احتباس للصوت؛ فهذا الشدة، سبق الفرق بين الجهارة والشدة، وهما صفتان سيأتي بيانهما الآن إن شاء الله.
وبهذا يعلم أن الخيشوم في الواقع الذي يخرج منه في الأصل هو التنفس لا الصوت، ومع ذلك فالغنة صوت محاذ مصاحب، وسنعدها إن شاء الله تعالى من الصفات، وذلك ببعض الاعتبارات لا بكلها، فهي فيها معنى الحرف، وفيها معنى الصفة.
ذكرنا أن صفات الحروف تنقسم إلى قسمين: إلى صفات أصلية، وصفات عارضة، فالصفات الأصلية ذكرنا أن المؤلف عد منها ثماني عشرة، وأن بعض أهل علم التجويد -ومنهم الإمام مكي بن أبي طالب- عد منها أربعًا وأربعين صفة، عد صفات الحروف أربعًا وأربعين صفة، ونحن نقتصر على ما ذكر المؤلف، فقد ذكر من الصفات الأصلية ثماني عشرة صفة.
وهذه الصفات تنقسم إلى قسمين: إلى الصفات المتضادة، وإلى الصفات المنفردة، ولابد أن نميز هنا بين الضدين والنقيضين، فالضدان: هما الأمران الوجوديان اللذان بينهما غاية المنافاة، ولا يجتمعان ولا يرتفعان إلا إذا كان لهما ثالث كالبياض والسواد، فالبياض والسواد ضدان، وهما أمران وجوديان ليس أحدهما نفيًا، ومع ذلك لا يجتمعان، وقد يرتفعان إن كان لهما ثالث، فالضدان قد يكونان منفردين؛ كالحياة والموت والحركة والسكون لا ثالث لهما، وحينئذ لا يرتفعان ولا يجتمعان، وقد يرتفعان إذا كان لهما ثالث، كالألوان مثلًا، فكل لون ضد للون آخر، ومثل هذا الحركات.
الأصوليون يقولون: النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده، والأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده، إذا قلت لك: قم، فهذا نهي عن الجلوس، وعن الاتكاء، وعن الارتفاق، وعن المشي، أليس كذلك؟ لأنه أمر بالشيء، فهو نهي عن جميع أضداده، لكن إذا قلت لك: لا تقم، يجوز أن تجلس، وأن تتكئ، وأن ترتفق، إذا أتيت بأي ضد فأنت ممتثل للنهي، فالأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده، والنهي عن الشيء أمر بأحد أضداده.
وبهذا يعلم أن الضد قد يتعدد، فهذه الصفات بعضها ضده متعدد، وهو صفة واحدة لها ضدان، الرخاوة ضدها الشدة والتوسط لها ضدان، وما سوى ذلك من الصفات كلها ضدها واحد، فإذًا هي إحدى عشرة صفة متضادة، لا يمكن أن يتصور حرف إلا وهو متصف بخمس منها؛ لأنها متضادة، لابد أن يتصف كل حرف بخمس منها، هي:
الهمس، وضده الجهر؛ وإنما بدأنا بالهمس لأنه أقل في الحروف، فحروفه هي هذه العشرة التي يجمعها (سكت فحثه شخص) فهي عشرة، والتسعة عشر الباقية هي حروف الجهر.
ثم بعد هذا الصفة الثالثة: هي الشدة، وبدأنا بها كذلك لقلة حروفها في مقابل ضديها، وإلا فالتوسط أقل منها حروفًا، وذكرنا أن كل حرف لابد أن يتصف بخمس من الصفات، كل حرف لابد أن يتصف بخمس صفات عل الأقل، لا يمكن أن يتصف بصفة واحدة، فاسمك مثلاً: عبد الله، هذا الاسم مشترك تتصف أنت، ويتصف به سواك، لكن من صفاتك أنت مثلًا: السمرة في اللون، وانتصابك في القامة، ونحو ذلك في الخلقة، هذه الصفات أيضًا يمكن أن توجد في سواك، فأنت صفاتك غير محصورة في صفة واحدة، وأيضًا لست أنت مختصًا بها، بل توجد فيمن سواك، كذلك الحروف.
فالشدة حروفها هي: (أجدك تطبق) التي يجمعها: (أجدك تطبق) كما سبق، كما سئل سيبويه عن حروف الشدة سأله سائل عن حروف الشدة، قال: ما حروف الشدة؟ قال: (أجدك تطبق)؛ أي: أجدك تطبق فمك عند النطق بها لشدتها، وهي هذه الحروف التي في هذه الجملة (أجدك تطبق) أو (أجد قط بكت) كما جمعها المؤلف، لكن هذا الكلام، ويؤوله بعض الناس فيشرحه بأن الأصل (أجد قط بكت)، (أجد) فجزم الفعل بغير جازم، والمقصود بذلك الإسكان للتخفيف، و(قط) اسم امرأة و(بكت)، فـ(أجدك تطبق) أفضل من هذا الجمع.
والتوسط اختلف في عدد حروفه، فقيل: خمسة، وقيل: سبعة، فإذا كانت خمسة فيجمعها: (لن عمر) معناه: (لن يا عمر) (عمر) منادى، و(لن) فعل أمر، معناه: اتصف باللين الذي أمر الله به، فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهمْ[آل عمران:159]، وإذا كانت سبعة يجمعها: (ولينا عمر)، أو (لم يرو عنا)، أو (لم ير عونا)، ثلاث جمل كلها تجمعها، والرخاوة هي لباقي الحروف، بقية الحروف تتصف بالرخاوة.
ثم بعد هذا الاستعلاء، وهو صفة للحرف لكن الواقع أنه صفة للسان، نحن نصف به الحرف، لكن الواقع أنه صفة للسان، فاللسان هو الذي يستعلي ويستفل عند النطق بالحرف، فيعلو عند النطق بهذه الحروف التي جمعها المؤلف بقوله: (خص ضغط قظ) وهذا ليس جملة مركبة، وإنما هو حروف فقط هي هذه الحروف، (خص) الخاء والصاد (ضغط) الضاد والغين والطاء (قظ) القاف والظاء، هذه هي حروف الاستعلاء التي يستعلي عندها اللسان.
حروف الإطباق أربعة، وهي: الصاد والضاد والطاء والظاء، لكنها هي أكثر من حروف الإطباق، فهي فقط هذه السبعة المجموعة في (خص ضغط قظ) هذه الحروف السبعة هي حروف الاستعلاء التي يستعلي عندها اللسان، وما سواها من الحروف حروف استفال، وهذه الصفة الأخرى هي الاستفال؛ أي: انخفاض اللسان عند النطق بها، فتتسع الهوة لخروجها، وهذه هي حروف الاستفال، هي بقية الحروف.
ثم بعد هذا الإطباق، والمقصود به تضخم الحرف في داخل المخرج حتى يسده، وقد سبق أن الطبق اسم للسماء لأنها تنطبق على الأرض، ويوصف به المطر، كما قال امرؤ القيس:
ديمة هطلاء فيها وطف طبق الأرض تحرى وتدر
(طبق الأرض)؛ أي: تطبق الأرض كلها فتسترها، وسبق أيضًا أن في حديث أم زرع: (زوجي عياياء، غياياء، طباقاء، شلك، أو فلك، أو جمع كلًّا لك) طباقاء معناه: لا يطاق، يكتم النفس، فحروف الإطباق هي هذه الأربعة: الصاد، والضاد، والطاء، والظاء، وهي متوالية في ترتيب المعاجم، الترتيب المعجمي للحروف هو بهذا الترتيب، ثم بعد ذلك ما عداها من الحروف متصف بصفة هي الانفتاح.
والصفة الأخرى هي: الإذلاق، والمقصود بها: أن هذه الحروف تخرج من أقرب الفم إلى الخارج؛ أي: هي من آخر الحروف خروجا، وهذا يقتضي سهولة في النطق بها، ويسرًا في خروجها؛ لأنها لم تأت من بعيد ليس فيها شيء من الحلق، ولا من أصل اللسان، ولا من وسطه، ولا من الجوف، كلها من طرف اللسان فدونه، وهذه الحروف هي التي جمعها المؤلف في قوله: (فر من لب) والجمع الصحيح هو الذي ذكرنا، وهو: (مر بنفل) فهذا يجمع حروف الإذلاق، والإذلاق ليس صفة مفيدة في الحرف؛ لأنه لا يتعلق بذات الحرف، إنما هو بيان للينه وسهولته، وضده الإصمات، وهو لباقي الحروف؛ لأنها إما أن تخرج من الجوف، أو من الحلق، أو من أصل اللسان، أو من وسطه، وحروف الإذلاق هذه تمتاز اللغة العربية بأن أية كلمة رباعية فصاعدًا لابد أن يكون فيها حرف منها إذا كانت من العربية الأصلية، وإلا كانت معربة؛ كـ(عسجد) فهو اسم رباعي، والحروف التي فيه كلها مصمتة ليس فيها شيء من حروف الإذلاق، فهذه الصفات هي المتضادة وهي: الهمس والجهر، والشدة والتوسط والرخاوة، والاستعلاء والاستفال، والإطباق والانفتاح، والإذلاق والإصمات، وبعض أهل الأداء يحذف الإذلاق والإصمات لعدم فائدتهما في النطق بالحروف، ليس لهما تعلق بالنطق بالحروف.
ثم بعد هذا الصفات المنفردة؛ أي: التي لا تقابلها صفة أخرى، وبعض الناس يقول: التي لا ضد لها، وهذا الأدب أن يقال: الله عز وجل هو الذي لا ضد له، فالمخلوق دائمًا له ضد، وهذه الصفات هي المنفردة، وهي القلقلة، وهذه أقوى الصفات المنفردة، وحروفها (قطب جَد) أو (قطب جِد)، فالقطب هو ما تدور عليه الرحى، الوسط من كل شيء يسمى قطبًا له؛ لأنه الذي يدور عليه، و(الجد) بالفتح السعد، ويطلق على والد الأب أو والد الأم، من له ولادة غير مباشرة على الإنسان هو الذي يسمى جدا له، ويطلق على السعد؛ أي: حظ الإنسان، وبهما فسر قول النبي صلى الله عليه وسلم في الرفع من الركوع: ( ولا ينفع ذا الجد منك الجد )، قيل: معناه: ذا النسب العالي، وقيل: معناه: ذا السعد والحظ، لا ينفعه سعده ولا حظه من قدر الله، وإذا قلت: (قطب جد)؛ أي: أن هذا الطالب لجده ونشاطه وتشميره هو قطب للجد، فلا يدور به ولا يحيط به إلا من كان من أهل الجد والتشمير، فهذه إذًا هي حروف القلقلة.
وقد سبق شرح القلقلة أن القلقلة هي اهتزاز، هي في الواقع مثل صوت الأطيط الذي يسمع للرحل؛ وذلك أنها يهتز المخرج عند النطق بها، ويقال: إن النطق بها ساكنة مثل بروك البعير، البعير يبرك بمرحلتين، بالأمام أولا ثم بالخلف، فكذلك هي تقول: (إقْ) فتنطق بها في مرحلتين، (إجْ) (إدْ) (إبْ) وهكذا.
الصفة الثانية من الصفات المنفردة هي: الصفير، وهو الصوت المحاذي للنطق بالحرف، تقول: (إص) (إز) (إس) ولا ينبغي الامتداد فيه كثيرًا، لكن هو صفير، وقد سبق شرح الصفير أنه: طرد الهواء من الفم؛ بسبب التوجع، أو فوات فرصة، أو نحو ذلك.
الصفة الثالثة منها هي: اللين، وهو صفة للواو والياء الساكنتين المفتوح ما قبلهما، والمقصود بالفتح هنا المغايرة للشكل، وإلا فلا يثبت قبل الواو كسر ولا قبل الياء ضم، إلا في الإعمالات، والإعمالات هي في الواقع امتحانات، وليست في النطق العرفي في الأصل؛ ولذلك يذكرها أهل الصرف من باب التدريب والامتحان؛ فلذلك لا توجد في لغة العرب الفصيحة، إنما هي إعمالات تمر بها الكلمة ثم تحسن وتغير، إذا كانت الضمة قبل الياء فلابد من التغيير، قبل الياء الساكنة مثلا، وهكذا إذا كانت الكسرة قبل الواو لابد من التغيير أيضًا.
الصفة الرابعة من الصفات المنفردة: التكرار، وهو ارتعاد لرأس اللسان، وهو طرف اللسان عند النطق بالراء، وبالأخص في حال السكون والتشديد، فتقول: (إر) ولا ينبغي تتبعه؛ لأنه زيادة في الحرف، كأنك تعيده أكثر من مرة؛ فلذلك لا تقل: الله أكبررررر، بل قل: الله أكبر، فالتكرار موجود لكن لا تتبعه ولا تزده، وهو مختص بالراء.
كذلك الصفة الخامسة هي: الاستطالة، الاستطالة وهي مختصة بالضاد، والمقصود بها أن مخرجها مستطيل سواءً كان ذلك بالمفهوم اللغوي، فالاستطالة هي: الاتصاف بالطول، وهي فعل لازم، استطال الشيء: إذا طال، أو كان بالمعنى الهندسي، فالاصطلاح الهندسي المستطيل، أيضًا مكان لمخرج الضاد، فمخرجها من حافة اللسان، توصف بالاستطالة فهي تربيع مع طول في ضلعين، فهذا بالاصطلاح الهندسي أيضًا مناسب لمخرج الضاد.
ثم بعد ذلك صفة الانحراف، وهي السادسة من الصفات المنفردة، وهي وصف لحرفين هما: اللام، والراء، والمقصود بالانحراف: ميل رأس اللسان عند النطق بهما في آخر المخرج، وليس المقصود ميل المخرج نفسه، فالمخرج هو هو، فتقول: (أل)، تقول: (إِرْ) (إِلْ)، فيميل رأس اللسان قليلًا.
ثم السابعة منها هي: التفشي، وهو انتشار الهواء في الفم عند النطق بالحرف، وهو متفق عليه في الشين، وبالأخص يظهر كثيرًا عند سكونها، إذا قلت: (إش) فالهواء يتفرق في الفم، فيتفشى فيه، والتفشي هو: الشيوع، والخبر الفاشي؛ أي: الشائع، فشا الأمر.. يفشو معناه: شاع، ومنه في حديث أم زرع: (جارية أبي زرع، وما جارية أبي زرع، لا تفشي حديثنا تبثيثًا، ولا تملأ بيتنا تغشيشًا).
والتفشي مشتق من الفشو، وهو: الانتشار، يقال: فشا الخبر يفشو، إذا انتشر واشتهر، والفاشي هو: المنتشر، وفي حديث أم زرع: (جارية أبي زرع، وما جارية أبي زرع، لا تفشي حديثنا تبثيثًا، ولا تملأ بيتنا تغشيشًا).
فإذًا هذه هي الصفات الثماني عشرة التي ذكر المؤلف، فالمتضادة إحدى عشرة، والمنفردة سبع، فالجميع ثماني عشرة صفة، معها الصفات الفرعية، وهذه الصفات الفرعية هي الناشئة عن التركيب، فليست أصلًا في الحرف، ولكنها ناشئة عن تركيبه، إذا ركب مع حرف آخر عرضت هذه الصفة فيه، وذلك مثل التفخيم والترقيق في اللام والراء، فالتفخيم والترقيق صفتان أصليتان لبعض الحروف، فالحروف المستعلية كلها مفخمة، والحروف المستفلة كلها مرققة في الأصل، لكن ثلاثة من الحروف المستفلة يعرض فيها التفخيم، وهي: اللام، والراء، والألف اللينة، هذه الثلاثة يعرض فيها التفخيم، فهو صفة عارضة، والترقيق كذلك في مقابلها.
وكذلك من الصفات العارضة الغنة، وبالأخص في حال النطق بالنون عند أحرف الإخفاء، فإنها تبقى غنتها (كنتم) فالغنة في حال الإخفاء عارضة في النون، وإلا فالغنة صفة أصلية في النون والميم لكن تزداد عند الإخفاء كما تزداد عند الإدغام الناقص، وبالأخص إدغام النون في النون؛ فإنها تغن بمقدار حركتين (إنّ) تغن بمقدار حركتين إذا شددت، النون المشددة تغن بمقدار حركتين، وكذلك الميم المشددة: (اللهمَّ).
يقول المؤلف رحمه الله: (باب التجويد) عقد هذا الباب لبيان أحكام التجويد، وبيان هيئة تطبيقه وتنفيذه، والتجويد قد سبق تعريفه في اللغة بأنه التحسين، وقد سبق أنه في الاصطلاح ينقسم إلى قسمين هما: التجويد العملي، والتجويد العلمي، وقد سبق أن التجويد العلمي واجب عيني، وأن التجويد العملي كفائي.
فالعملي لابد أن تنطق أنت بالفاتحة؛ ولذلك لابد أن تنطق بها على الوجه الصحيح، فهو واجب عيني، فكل مسلم تجب عليه الفاتحة.
والعلمي هو: معرفة هذه القواعد ودراستها ولا تجب على كل أحد؛ لأن من الناس من يكون ناطقًا بالعربية على وجه السليقة، فلا يحتاج إلى إتعاب نفسه في تعلم المخارج والصفات، كما لم يحتج إلى ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
والمؤلف هنا يقول:
الأخذ بالتجويد حتم لازم من لم يجود القرآن آثم
يقول: (الأخذ بالتجويد) معناه: تطبيقه، وهو بهذا يشير إلى التجويد العملي، فهذا الأخذ به؛ أي: تطبيقه، وفي حقنا نحن؛ أي: غير الناطقين بالعربية، الذين يتعلمون أن الفاعل مرفوع، وأن المفعول منصوب، وأن المضاف إليه مجرور، هؤلاء لابد أن يتعلموا، فيكون ما يتعلمون به النطق- ولو كان بمجرد المحاكاة- واجبًا في حقهم؛ أي: السماع من الغير، هذا الجانب من التجويد العملي واجب في حقهم ولو بمجرد المحاكاة والتقليد.
(الأخذ بالتجويد حتم لازم)، بين أن التجويد العملي الأخذ به؛ أي: تطبيقه وتنفيذه حتم؛ أي: أوجبه الشارع، وهو لازم؛ أي: لا يسقط، وهذا الحتم واللازم معناهما في الأصل واحد؛ لأن الحتم معناه: الشيء الذي لابد منه، ولا يستطيع الإنسان التخلص منه، واللازم هو: الملازم لمحله، الذي سقط في محل فلزمه ولم يتحرك منه، والواجب كذلك، الواجب معناه: الساقط الملازم لمحله، وجبت الشمس معناه: سقطت فلزمت محلها.
(من لم يجود القرآن آثم) هذا تأسيس على القاعدة السابقة، وهي: أن الأخذ بالتجويد حتم لازم، شرح المقصود بالحتمية واللزوم أنها ليست حتمية صناعية كما يزعمه بعض أهل هذا العلم، فالوجوب الصناعي مثل قول النحويين: يجب للفاعل الرفع، ويقولون: الحرف يجب له البناء، هذا الوجوب إنما هو وجوب صناعي لا شرعي، فالوجوب الشرعي هو: الذي يثاب فاعله، ويعاقب تاركه، وهذا غير موجود في اللغة إلا بالتعدي إذا كان ذلك في النصوص الشرعية، بعض أهل التجويد يرى أن ما يذكر من الوجوب في علم التجويد إنما هو من الوجوب الصناعي، وبعضهم يرى أنه من الوجوب الشرعي، وقد مال المصنف إلى أنه للوجوب الشرعي، والواقع أن التجويد تعتريه أحكام التكليف الخمسة، فيكون واجبًا، وذلك القدر الذي تصح به حروف العربية كما ينطق العرب هذه الحروف، القدر الذي إذا أخل به الإنسان كان ناطقًا بغير العربية؛ كالذي ينطق الراء غينًا مثلًا- وهو قادر على نطقها راءً- هذا أخذ بغير العربية، فهذا القدر من التجويد الذي يفرق به بين الراء والغين مثلًا، وبين الزاي والثاء والذال مثلًا، هذا النوع من التجويد واجب قطعًا، لا خلاف في وجوبه شرعًا.
النوع الثاني هو ما يقتضي تحسينا للكلمات بحيث تفهم؛ كالنطق بالحروف على وجه تتصف فيه بصفاتها، وتفهم فيه، يفهم الإنسان معنى الكلمة إذا سمعها دون لبس، فهذا سنة؛ لأنه من البيان، وهو قاطع للبس، وهو من التحسين الذي هو مؤكد فيكون سنة.
والقسم الثالث ما كان مندوبًا وهو: تحسين الصوت بالقراءة بحيث تؤثر في سامعها، ويخشع معها القارئ والسامع، فهذا مندوب، وليس المقصود به التلحين، بحيث يقع فيها تمطيط أو إسراف في الصفات، كالإسراف في القلقلة أن يقول الإنسان: (قال) ونحو ذلك من الإسراف في القلقلة، أو الزيادة في الغنة: (إن) فهذا النوع إسراف؛ فلذلك هو مكروه، وهو القسم الرابع من أقسام التجويد، والتجويد المكروه هو: الإسراف في اتصاف الحروف، وهو درجة من درجات التغني يتجاوز الإنسان به حد تحسين الصوت، فتحسين الصوت مندوب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (حسنوا القرآن بأصواتكم)، ولقوله: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن)، ولقوله لـأبي موسى: (لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود).
وأما الألحان التي لا تفسد الحروف ولا تخرجها عن وضعها لكنها تجعلها بمثابة الرنات الموسيقية، وفيها زيادة في الصفات لا في الحروف، فهذا مكروه؛ لما فيه من القطع عن الخشوع، والتكلف الذي فيه مناف لأصل الشرع، فالله تعالى يقول: وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ[ص:86]، فالأصول الشرعية تقتضي عدم التكلف، الشرع لم يأمرنا بالتكلف في النطق بالحروف ولا في غيرها، ونجمع بين السنة والمندوب فنجعلهما قسمًا واحدًا كما هو المذهب المالكي.
والقسم الرابع هو: الحرام من التجويد، وهو ما كان فيه تمطيط بزيادة الحروف، كالذي يغني فيزيد المد الطبيعي فيجعله كالمد اللازم مثلًا، أو يمد المفتوح بالألف، ويمد المضموم بالواو، ويمد المكسور بالياء، يجعل الحرف الذي هو مجرد مفتوح يجعله كالممدود من أجل التغني، كما ينشد الإنسان الشعر، فالإنسان إذا أنشد الشعر في قافيته يقول مثلًا:
أقلي اللوم عاذل والعتابا وقولي إن أصبت لقد أصابا
(أصابا) هي في الأصل (أصاب) فعل ماض مبني على الفتح، ولكنك إذا أردت الترنم تأتي بالألف هي مدة الروي، الذي يفعل هذا فيمد المفتوح أو المضموم أو المكسور مدة ليست من القرآن، ويقصد بذلك الترنم، هذا الذي فعله حرام؛ لأن فيه زيادة على القرآن بما ليس منه.
القسم الخامس هو: الجائز، وهو الخيار بين ثلاث درجات هي التي تسمى: بالترتيل، والتدوير، والحدر، هي أوجه في القراءة وكلها جائزة، يجوز للإنسان أن يقرأ بالحدر فيقول: بِسْمِ اللهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[الفاتحة:1-3]، هذا الحدر، ويجوز أن يقرأ بالتدوير فيزيد قليلًا فيقول: بِسْمِ اللهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[الفاتحة:1-3]، ويجوز أن يأخذ بالترتيل فيقول: بِسْمِ اللهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[الفاتحة:1-3]، فقد رأيتم أن القراءات الثلاث كل واحدة منها أخرجت فيها الحروف من مخارجها، وجيء بها بصفاتها، فهذه الأوجه الثلاثة جائزة، وكلها تسمى قراءة تحقيق، وقراءة التحقيق هي: التي يستطيع الإنسان معها التفهم بحيث يكون القلب عند الأذن، والأذن عند اللسان، والجوارح عند القلب، ويقول الشيخ محمد عالي رحمة الله عليه:
ختم الكتاب تابع لحال تاليه في الحل والارتحال
فثاقب الفهم الذي يعاني بفهمه لطائف المعاني
ومثله مدرس العلوم ونحوه كفاصل الخصوم
فهؤلاء ختمهم بما لا يكون في أعمالهم إهمالا
ويقرأ التالي بالاستقلال ما لا يجره إلى الملال
قراءة بينة ومُحكمه بدون تمطيط ودون هذرمه
والأذن عند اللفظ والقلب لدى أذن ليرعى حق ما تقلدا
من واجب الشكر أو المتاب بحسب الوارد في الكتاب
فالذي تقرؤه إذا كان أمرًا لابد أن تعرضه على نفسك، فإن كنت ممتثلًا فهي نعمة تستحق الشكر، وإن كنت غير ممتثل فهذا ذنب يستحق التوبة، وكذلك إذا كان نهيًا تعرضه على نفسك، فإن كنت مجتنبًا له فهي نعمة تستحق الشكر، وإن كنت غير مجتنب فهو ذنب يستحق المبادرة إلى التوبة؛ لهذا قال: (من واجب الشكر أو المتاب) الشكر في حال الاجتناب والامتثال، (أو المتاب) في العكس، (بحسب الوارد في الكتاب).
(من لم يجود القران آثم) وهو هنا يقول: القران، وقد قرأها بقراءة ابن كثير، فـابن كثير يسقط همزة القرآن في كل القرآن، فقراءته (إن هذا القران يهدي للتي هي أقوم) "القران" وذلك لصعوبة النطق بالهمز كما قال ابن بري رحمه الله:
والهمز في النطق به تكلف فسهلوه تارة وحذفوا
وأبدلوه حرف مد محضا ونقلوه للسكون رفضا
(آثم)؛ أي: متصف بالإثم، والإثم هو ما يترتب على المعصية في الأصل، يطلق على الجزاء وعلى سببه، وهو الآثام أيضًا، يَلْقَ أَثَامًا[الفرقان:68]؛ أي: يلق جزاء الإثم، والإثم يطلق على كل معصية، كل معصية فصاحبها آثم؛ أي: متصف بالإثم، وهذان الإطلاقان؛ أي: إطلاقه على الذنب وعلى جزائه مشهوران، معروفان، وقد قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وهو من فقهاء المدينة السبعة من التابعين:
تجنبت إتيان الحبيب تأثمًا ألا إن هجران الحبيب هو الإثم
تأثمًا؛ أي: مجانبة للإثم... ألا إن هجران الحبيب هو الإثم.
من لم يجود القران آثم
لأنه به الإله أنزلا وهكذا منه إلينا وصلا
هذا دليل إثم من لم يجود القرآن أن الله سبحانه وتعالى أنزله إلينا بالترتيل، فقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا[الفرقان:32]، وأمرنا بترتيله فقال: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا[المزمل:4]، وأمرنا أن نقرأه على نحو ما نسمع، فقال: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ[القيامة:16-18] (فاتبع قرآنه) فهذا يقتضي أن يتبع الإنسان ما سمع، ولهذا يقول أهل الأداء: القراءة سنة متبعة؛ أي: لابد أن يحرص الإنسان على أن يؤدي اللفظ على نحو ما سمعه من شيخه.
(لأنه به الإله أنزلا) والإله هو: فعال من لاه، إما بمعنى ارتفع، ومنه قيل للشمس: إلهة، قال الشاعر:
تروحنا من الدهناء عصرًا وأعجلنا الإلهة أن تغيبا
أو من (لاه) بمعنى: احتجب، ومنه قول الشاعر:
لاهت فما عرفت يوما بخارجة يا ليتها برزت حتى عرفناها
أو من (أله) بمعنى: اشتاق؛ لاشتياق المؤمنين إليه، أو من (أله إليه) بمعنى: رغب، ومنه قول الشاعر:
ألهت إليكم في أمور تهمني فألفيتكم فيها كرامًا أماجدا
وقيل: بل هو من (أُلِهَ إلهة) كعُبِدَ عبادة وزنا ومعنى، (لأنه به الإله أنزلا)؛ أي: أنزل به القرآن، (وهكذا منه إلينا وصلا) (هاء) حرف تنبيه، والكاف حرف تشبيه، و(ذا) اسم إشارة، وجميعها تقتضي تشبيه الحال بالماضي، وهكذا؛ أي: هذا الحال الذي نحن فيه كالحال الماضي، والمقصود بذلك: أن النقل إنما جاء على تلك الطريقة، وهي التجويد والترتيل، فنحن تلقيناه بذلك، ومن قبلنا تلقاه كذلك إلى أن وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أنزله الله عليه كذلك، (وهكذا منه)؛ أي: من الله (إلينا وصلا) فالقرآن منه بدأ.
وهو أيضًا حلية التلاوة وزينة الأداء والقراءة
(وهو)؛ أي: الترتيل (أيضًا)؛ أي: رجوعًا، والمقصود بذلك تثنية على ما سبق، فالأيض: مصدر آض.. يئيض إذا رجع، آض إليه بمعنى: رجع، فتقول: أيضًا، كما تقول: حمدًا وضربًا مصدر نائب عن فعله المحذوف، (وهو أيضًا حلية التلاوة)، والحلية: ما يعلق على الشيء من الزينة: وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا[النحل:14]، وهي: اللؤلؤ الذي يستخرج من البحر، فهو حلية يلبسها البشر، فالترتيل هو: حلية التلاوة، والتلاوة في الأصل: مصدر تلا الشيء يتلوه إذا تبعه، والتالي هو: التابع، ولما كانت القراءة سنة متبعة سميت تلاوة؛ لأن الإنسان يتلو سابقه، فهو يحاكيه في قراءته، والتلاوة تسمى أيضًا: تمنيًا، فيقال: تمنى بمعنى: (تلا)، ومنه قول الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ[الحج:52]؛ أي: إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته، ومن ذلك قول الله تعالى: إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ[البقرة:78] في ذكر بني إسرائيل في سورة البقرة، (إلا أماني)؛ أي: إلا تلاوة وترانيم يترنمون بها في كلامهم يريدون أن يلحقوه بكلام الله وليس منه.
(وزينة الأداء والقراءة) وهو أيضًا زينة الأداء، (وهو)؛ أي: الترتيل والتجويد، أيضًا زينة الأداء؛ أي: تحسين للأداء، وهو تأدية القرآن وتوصيله إلى الناس، والقراءة في الأصل معناها: الجمع كما سبق، والمقصود بها جمع الحروف في الكلام، والجملتان متقاربتان من ناحية المعنى، حلية التلاوة وزينة الأداء والقراءة معناهما واحد تقريبًا، إلا أن الزينة أعم من الحلية؛ فالحلية ما كان على الشيء من غيره، ما علق على الشيء من خارجه، والزينة تشمل ما كان منه في الأصل، والزينة تشمل المعنوي والحسي، والحلية تختص بالحسي، فالمعنوي يسمى زينة، ومنه الحديث: (اللهم، زينا بزينة الإيمان)، هي زينة معنوية.
ما يكون به النطق على الوجه العربي هذا واجب، وما يخالفه، وهو ما يكون به النطق على غير الوجه العربي هذا حرام، وما يكون بالحسن هذا درجتان: منه ما هو سنة، ومنه ما هو مندوب؛ كما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، هذا السنة، وما كان فيه تحسين يقتضي خشوعًا؛ فهو مندوب، والمكروه منه ما كان فيه ترنم وتغني، لكن لم يخرج الحروف عن هيئتها، وإن كان فيه إسراف في الصفات، والمحرم فيه زيادة حروفه وتجاوز لها.
وبالنسبة القسم الأول الذي هو واجب شرعًا يمكن أن يفهم بعض الفقهاء أن قراءة ما يدرسه المعلمون للصبيان الذي لا يأتي على تمام الهيئة عند أهل علم التجويد، أو لا يأتي بالصفات تمامًا، لا بالحقوق ولا بالمستحقات، هذا القدر الواجب، والآخر يكون سنة، فقد ذكرنا أن ما يكون به الكلام ككلام العرب، نحن الآن نتكلم بالعربية، وهذه الطريقة التي أتكلم بها هي التي كان العرب يتكلمون بها، لكن مع ذلك ما أقوله أنا ليس مثل قراءة القرآن التي أقرأ بها لو قرأت أية آية من كتاب الله، فهذا الحد الذي ألفظ به الآن إذا تلفظت بالقرآن به فقد أديت الواجب، وإذا زدت على ذلك أصل إلى السنة أو المندوب أو الجائز، الجائز المقصود به التخيير، وإلا فليس هناك جواز مستوى الطرفين؛ لأن العبادة لا تكون جائزة مستوية الطرفين، والقراءة لابد أن تكون عبادة، لكن المهم أنك مخير بين مراتب التحقيق الثلاثة بأيها قرأت أجزأ.
وأما ما يتعلق بالتنغيم، وهو: قراءته على أوجه الموسيقى، بأن ينوعه الإنسان، يقرأ مثلًا فيه فرق في النبرات في القرآن بين المكي والمدني؛ فالمدني يمتاز بقصر الآيات، ويمتاز كذلك في الغالب بالفواصل، فواصله على حرف واحد في الغالب، بخلاف المكي؛ فيمتاز بطول الآيات، وأيضًا فواصله لا تكون على تلك الهيئة، المدني هو الذي يمتاز بطول الآيات، وأن فواصله لا تكون كفواصل المكي، فمثلًا من المكي قول الله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى[النجم:1-8]، فتلاحظون أن الآيات قصيرة، وأنها مفصلة؛ أي: جاءت فيها فواصل، والفواصل هي مثل فقرات السجع، ومثل قوافي النظم، وهذا لا يوجد في المدني، المدني مثل قول الله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا[البقرة:142]؛ فهذا الآن آياته طويلة، منها مثلًا أطول آية في كتاب الله آية الدين، ومنها كذلك آية آل عمران وهي التي يجتمع فيها حروف المعجم كلها التسعة والعشرون، وهي: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ[آل عمران:154]، فهذه آية واحدة، وقد جمعت كل حروف المعجم، ولم تجتمع حروف المعجم في آية واحدة من القرآن إلا في هذه الآية، أطول آية في كتاب الله آية الدين، ومع ذلك لم تجتمع فيها حروف المعجم كلها، وهذا من إعجاز القرآن، مثل كون الفاتحة جمعت حروف المعجم إلا سبعة أحرف، والأحرف السبعة التي ليست في الفاتحة جمعتها آية واحدة من سورة يونس، وهو قول الله تعالى: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[يونس:27]، فهذه الآية جمعت الحروف السبعة التي ليست في الفاتحة.
فهذا التفريق بعض الناس يستغله استغلالًا موسيقيًا؛ فإذا قرأ بالمكيات قرأ بها في مقامات موسيقية، وإذا قرأ بالمدنيات أيضًا قرأ بنبرة تختلف عن تلك.
فإذا أنشد الإنسان الآن:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها من جنوب وشمأل
هذا مقام الطويل، وإذا أنشدت في مقام البسيط مثلًا:
يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأمد
وقفت فيها أصيلانا أخاطبها عيت جوابًا وما بالربع من أحد
هذا مقام البسيط، وإذا أنشدت في الخفيف مثلًا:
آذنتنا ببينها أسماء رب ثاو يمل منه الثواء
آذنتنا ببينها ثم ولت ليت شعري متى يكون اللقاء
بعد عهد لنا ببرقة شماء فأدنى ديارها الخلصاء
فالمحياة فالصفاح فأعناق فتاق فعاذب فالوفاء
هذا مقام مختلف، هذه المقامات إنما هي بالنبرة الموسيقية لا بالنبرة التجويدية؛ ولذلك من أخذ بها في القرآن فهذا الذي فعله إذا أدى الحروف على هيئتها فهو مكروه، وإذا لم يؤدها وزاد فيها مدودًا؛ فهذا حرام، وقد جاء في مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر: (أنه في آخر الزمان يقدم القوم الرجل ليس بأعلمهم ولا بأفضلهم، ما قدموه إلا ليغني لهم)، فيختار الناس على أساس أصواتهم، لأن الناس لم يعودوا ينظرون إلى المعاني، ولا يتدبرون القرآن، وإنما يقرءونه لا يتجاوز تراقيهم أو حلوقهم، فلذلك يريدون سماع الصوت المطرب فقط، بهذا يقدمون الرجل ليس بأعلمهم ولا بأفضلهم، ما قدموه إلا ليغني لهم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر