إسلام ويب

مصادر التشريع الإسلاميللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أرسل الله الرسل لئلا يكون للناس عليه حجة بعد الرسل, وقد أوتي نبينا عليه الصلاة والسلام القرآن ومثله معه, وقد احتاج الناس فيما بعد للبحث في الورود والدلالة فأنتج ذلك علوماً جديدة, وأعمل الفقهاء عقولهم في الاستنباط فأورثوا المذاهب الفقهية, لكنه لما كان لا بد من الخلاف لاختلاف العقول وضعت قواعد أصول الفقه لضبط الاستدلال, فكان منها ما هو متفق عليه, وكان منها ما هو مختلف فيه

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    أما بعد:

    فإن الله عز وجل قد خلق هذه البشرية ولم يتركها سدى، بل أرسل إليها الرسل لإقامة الحجة عليها: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165].

    وكان في كل فترة يرسل رسولاً بشرع يتناسب مع مستوى أهل تلك الفترة، مستوى معاشهم، ومستوى ثقافتهم ومستوى حضارتهم، ولم تزل البشرية في تطور مضطرب، وفي كل فترة يأتيها رسول بشريعة ناسخة للتي قبلها، ويأتي بمعجزة أيضاً مناسبة لحضارة ذلك العصر تقوم بها الحجة على كل من رآها، أو من نقلت إليه بالتواتر, إلى أن وصلت البشرية إلى نضجها واكتملت أطوار تطورها، فمكثت فترة من الرسل تتجول بين الأفكار والنظريات السابقة وبين التجارب التي قد خاضتها فلم يبقَ لها إلا الرجوع إلى آثارها أو توجيه جديد من السماء. هذه الفترة هي أطول الفترات بين الرسل، ولذلك وصفها الله تعالى بقوله: عَلَى فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ [المائدة:19].

    الجاهلية ومقت الله لأهل الأرض قبل البعثة

    في هذه الفترة امتلأت الأرض بالجهل فلذلك سميت بالجاهلية، وامتلأت بالطغيان فلذلك توزعت الأمم النفوذ، وتوزعت الثروات, ولم يبق لحكم الله تعالى أي ذكر فوق هذه الأرض، ولذلك أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن واقع تلك الفترة في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه، وهو حديث طويل يقول فيه: ( إن الله نظر إلى أهل الأرض, فمقتهم عربهم وعجمهم غير بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأمتحنك وأمتحن بك ).

    ففي هذه الفترة نظر الله تعالى إلى أهل الأرض فمقتهم جميعاً, أي: حل عليهم مقت الله تعالى (غير بقايا من أهل الكتاب) وهم الرهبان المنفردون في دور العبادة لعبادة الله تعالى، وقيل: معناه بعد بعثته لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا يقتضي أن الله تعالى بعد أن نظر إلى أهل الأرض فمقتهم نظر أيضاً إليهم بعين الرحمة فأهدى إليهم هذه الرحمة المهداة التي هي ختام لما قبلها، وأيضاً استمرار لكل ما يأتي بعدها وهي بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب البليغ المؤثر فقال: ( إنما بعثتك لأمتحنك وأمتحن بك ).

    امتحان النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة

    الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه ممتحن بهذه الرسالة هل يؤديها على الوجه الأكمل كما قد حصل أو ينكص على عقبيه، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الرسالة، وكان لافتتاح هذه الرسالة إرهاصات عجيبة، منها تكوينه صلى الله عليه وسلم، والعناية الربانية به حيث خرج عن طور عصره، وشق صدره وغسل منه مأوى الشيطان، ثم بعد ذلك ربي تربية خاصة تقتضي أن يغلب في قلبه جانب الرحمة على جانب القوة، ولذلك ربي على رعاية الغنم في فترة من فترات حياته، وربي أيضاً يتيماً من الأبوين، وعاش في كنف جده ثم مات جده قبل بلوغه فعاش في كنف عمه، ولم يكن له أخ ولا أخت وكل هذا مؤثر من مؤثرات التربية فيه، وذلك ليكون انتسابه وانتماؤه لهذا الدين الذي يأتيه، وليكون اعتزازه وولاؤه لله تعالى الذي أرسله واختاره وقواه.

    ولذلك خاطب الله تعالى المؤمنين به بقوله: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].

    الرؤيا الصادقة في النوم

    فأول ما بدأ به من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، والرؤيا الصادقة إذا كانت للأنبياء فهي وحي من السماء، ولذلك ذكرت في أنواع الوحي في سورة الشورى في قول الله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى:51].

    فقول الله تعالى: (( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً )) أجمع المفسرون أن المقصود بالوحي هنا الرؤيا الصادقة في النوم، (( أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ )) وذلك ككلام موسى من الشجرة، (أَوْ يُرْسِلُ رَسُولاً) كما في القراءة الأخرى وهي بالرفع: (أَوْ يُرْسِلُ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) يرسل رسولاً وهو الملك المقرب، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالتفصيل عن هذه الصورة الأخيرة، وذلك ما ثبت في الصحيحين وغيرهما، وأخرجه البخاري ثاني حديث في صحيحه فقال: أخبرنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! كيف يأتيك الوحي؟ فقال: أحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعيي عنه ما يقول، وأحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي, فيفصم عني وقد وعيت ما قال).

    اعتبار فترة الرؤيا الصادقة من فترة الرسالة

    فهذا البيان الشافي لطريقة نزول الوحي أيضاً منبه إلى هذه العوامل المؤثرة في تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وقد مكث صلى الله عليه وسلم ستة أشهر لا يأتيه من الوحي إلا الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وهذه الأشهر الستة هي الأولى طبعاً من فترة الوحي, إذا أضيفت إلى فترة رسالته منذ البعثة إلى وفاته وهي ثلاث وعشرون سنة، وقسمناها تقسيماً على الطريق الحسابي فإن نسبة ستة أشهر إلى ثلاث وعشرين سنة هي نسبة جزء من ستة وأربعين جزءاً؛ لأن ثلاثاً وعشرين سنة لو وزعت على اثنين، مثلاً ستة أشهر هي نصف السنة لو ضربت في اثنين كم يصير؟ ثلاثة وعشرون لو ضربت في اثنين: النتيجة ستة وأربعون، ستة وأربعون جزء واحد منها كم عدده على هذا؟ عدده ستة أشهر.

    ولهذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءاً من أجزاء النبوة )، فأجزاء نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لو وزعناها على ستة أشهر وهي ثلاث وعشرون سنة، فيكون الجزء الواحد من ستة وأربعين جزءاً هي ستة أشهر، وهذه هي فترة الرؤيا الصادقة التي بُدئ بها الرسول صلى الله عليه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088534117

    عدد مرات الحفظ

    777179581