بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله فطر الإنسان على حب العزة، فهو يسعى للوصول إليها بشتى الطرق وبكل الوسائل، لكن هذه العزة لها أسباب موصلة إليها، ولا تنال بدونها، وكثير من الناس يبحث عنها في غير محلها، ويطلبها في غير متطلبها، فجمهور الطالبين للعزة يبغونها في أمور الدنيا الفانية، بما فيها من سلطان ووسائل قوة عاتية، ولما فيها كذلك من ملك وكثرة وثروة، وغير ذلك، وهذه كلها ليست أسباباً للعزة، وقد بين الله ذلك في كتابه نصاً بقوله: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعًا [النساء:139].
فالعزة كلها لله سبحانه وتعالى، وإنما ينال المخلوق العزة بالاتصال بالخالق سبحانه وتعالى، والاعتماد عليه والتوكل عليه سبحانه وتعالى وحده، ولهذا قال الله تعالى: وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]، فالمنافقون كانوا يظنون أن الفقراء من المهاجرين الذين ليس لهم وطن ولا مال، وليسوا في ديارهم وقد أخرجهم أحب الناس إليهم وأولاهم بهم، ليس لهم حق في العزة، ولذلك قالوا في غزوة بني المصطلق: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ [المنافقون:8]، فيظنون أن هؤلاء الفقراء الذين امتدحهم الله بالفقر، وأثنى عليهم في كتابه ليس لهم ملجأ وليست لهم عزة، ولا يمكن إلا أن يُخرجوا من هذه المدينة بعزة المنافقين، الذين لهم المال والأولاد والمكانة الاجتماعية، لكن الله سبحانه وتعالى بدد هذا الرأي ورد زاعميه وأبطله بالكلية، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو من المهاجرين وقد خيّره الله بين أن يكون نبياً ملكاً وأن يكون نبياً عبداً، فاختار أن يكون نبياً عبداً، وكان يسكن في حجرٍ لو قام الرجل للامست يده سقفها، وينام على حصير يؤثر في جنبه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فإذا استيقظ إذا أثر العيدان في أضلعه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ويمكث ثلاثة أشهر تباعاً لا توقد في بيوته نار، ويجتمع على عداوته أهل الأرض جميعاً، فيرد الله كيدهم في نحورهم، ولا ينالون منه أي نيل، وينال هو ما كتبه الله له وما تعهد له به من النصرة والتمكين.
إن رأي المنافقين رأي داحض، وقد عبروا عنه في عدة مواقف، فعندما كان يوم الأحزاب، وحوصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بين لابتي المدينة، وهم نفر قليل لا يتجاوزون ألفاً وخمسمائة رجل، وليس لهم أي مدد خارجي، وقد جاءهم الكفار من أهل جزيرة العرب من المشركين من فوقهم، وجاء اليهود من أسفل منهم، ووصف الله ذلك الموقف بالوصف العظيم؛ إذ قال: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب:10-11]، عبر المنافقون عن هذا الموقف فقالوا فيما حكى الله عنهم: وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12]، فقالوا: يزعم محمد أنه ستفتح عليكم كنوز كسرى وقيصر، وها أنتم لا يستطيع أحد منكم أن يخرج لقضاء حاجته، فلم تمض ست سنوات حتى فتح الله كنوز كسرى وقيصر على أولئك الفقراء المحصورين في المدينة، وأنفقت في سبيل الله، فعلم أن زعم المنافقين داحض باطل، وأن ما كانوا يتوقعونه من أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لن يعودوا أبداً، ولن تكون لهم أية دولة في هذه الأرض، هو الزعم الباطل وهو ظن السوء، وقد عبروا عن ذلك أيضاً في موقعة أخرى عندما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزو اليهود في خيبر، وقد جمع اليهود كل قواهم، وناصرهم مشركو العرب، ونصارى الشام، واجتمع عليهم من المال والكراع والسلاح فوق ما كانوا يتوقعون، وملئوا حصونهم بأنواع الأزواد والتجارات، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم غازياً في ألف وخمسمائة ومقابل وهو يركب حماراً، فقال المنافقون: أتظنون أن محمداً يعود إليكم، تالله لن يعود إليكم بعد عامه هذا، وليقتلنهم اليهود قتل عادٍ وإرم، فأنزل الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم في سورة الفتح: وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالمُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ [الفتح:6]، وقد بين الله هذا الظن فيما حكى عنه في قوله: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا [الفتح:12].
فقد كتب الله العزة لرسله أجمعين، وقفّى على آثارهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وكتب له العزة، وكتب المذلة والصغار على كل من خالف أمره، ونصره بالرعب مسيرة شهر وترك ذلك النصر لأتباعه، إن هذه العزة التي يبغيها الناس ويلتمسونها، إنما تبتغى بالتذلل إلى الله سبحانه وتعالى، والخضوع بين يديه، وبأداء عبادته على وفق ما شرع، وباتباع رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به، ولذلك فلا شك أن الله سبحانه وتعالى قد كتب القبول في الناس لأولئك الفقراء المساكين الذين لا يملكون شيئاً، وليس لهم ناصر.
فالمؤمنون في مشارق الأرض ومغاربها اليوم يود أي إنسان منهم لو رأى ثوباً قد لبسه بلال بن رباح ، أو عمار بن ياسر ، بمجرد رؤية شيءٍ قد لامست تلك الأجساد الطاهرة يفرح المؤمنون؛ لأن الله كتب في قلوبهم المحبة لأولئك الناصرين لله ورسوله، الذين جعل الله لهم العزة الباقية الخالدة، وما تشهدونه في قلوبكم من محبة أولئك النفر لا يساوي شيئاً مما أعد الله لهم من العزة في الدار الآخرة، فقد ذكروا في الملأ الأعلى قبل أن يذكروا في الملأ الأدنى، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريل : إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل ثم ينادي به جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض).
إن هذه العزة التي نشهدها في قلوبنا لأولئك النفر الذين ضحوا وبذلوا في سبيل الله، ولو كانت تضحيتهم قليلة يسيرة فلا يمكن أن تقارن بشيءٍ مما يأتي من بعد، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحدٍ ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، مجرد مد من الشعير ينفقه أحد أولئك الفقراء الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم في سبيل الله ونصرةً لرسوله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، لو أنفق أحد ممن يأتي بعدهم مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ ذلك المد عند الله، فميزان الله ليس مثل موازين أهل الدنيا الذين ينظرون إلى الماديات الفانية، وينظرون إلى الغنائم الفائدة، كما قال أحد المنافقين: ما يغني مد هذا عن الله ورسوله، عندما جاء رجل من الأنصار لا يملك إلا مداً من شعير، جاء يحمله في طرف ثوبه، فقال المنافقون: ما يغني مد هذا عن الله ورسوله، فالله سبحانه وتعالى هو الغني، وإذا أمر عباده بالإنفاق فإنما ذلك ليقدموا لأنفسهم، وهو الذي يضاعف لمن يشاء، وقد بين مثلاً غريباً في المضاعفة في الحبة الواحدة تزرع في الأرض، فتخرج منها سنبلة في كل سنبلة سبعمائة حبة، وتزداد السنابل إلى أن تصل إلى سبعمائة سنبلة وهكذا، فهذا التضعيف هو مثال فقط يفهم به تضعيف الله سبحانه وتعالى لأعمال من ارتضى خدمتهم وعبادتهم.
إن الله سبحانه وتعالى غني عن كل ما يقدمه عباده: لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37]، فكل ما يقدمه العباد من الطاعات لا يحتاج الله إليه في شيء من نصرته، فقد قال في كتابه في ذلك: وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، ولهذا فإن الناس لا يثابون على قدر الغلاء والبلاء، وإنما يثابون على قدر ما وقر في القلوب من الإيمان واستقر فيها من التقوى، وأبرك غزوة وأكثرها أثراً هي غزوة الحديبية التي لم يقع فيها قتال ولم يُنفق فيها كثير مال، ولا استشهد فيها أحد في سبيل الله، لكن علم الله من قلوب أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم الصدق والتقوى، فأنزل عليهم رضوانه الأكبر الذي لا سخط بعده، فهم يسيرون على الأرض قد غفرت ذنوبهم، لا تقع ذنوبهم إلا مغفورة، ولن يلج أحد بايع تحت الشجرة النار، ولذلك قال: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [الفتح:18-19]، فأولئك القوم علم الله من قلوبهم الصدق والإخلاص، فعجل لهم رضوانه الأكبر الذي لا سخط بعده، وعجّل لهم الفتح والتمكين؛ لأنهم تبايعوا مع الله عز وجل فأربح الله بيعتهم، وعندما انتهت البيعة قال جابر : نظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أنتم خير أهل الأرض)، وقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة ).
فقد عاشوا بهذه العزة، من عاش فوق الأرض، يسير على قدميه وهو يعلم أنه من أهل الجنة، ويعلم أنه لا يحجب عن الله حتى ولو زنى ولو سرق ولو شرب الخمر، فلا يقع ذنبه إلا مغفوراً، إنها العزة التي ما فوقها عزة، إن أولئك القوم أدركوا أن ما يتنافس فيه الناس من شأن هذه الدنيا فانٍ لا بقاء له، فلذلك بايعوا على الموت، علموا أن الذي يستحق أن يتنافس فيه هو الخالد الباقي الذي لا انقطاع له، إن الإنسان لو نال ملك شداد بن عاد على هذه الأرض، وعاش ما عاش نوح عليها لا بد أن يكون مصيره إلى الزوال، ولا بد كذلك لو قدر بقاؤه مدة طويلة كإبليس أن يمل البقاء، فهذه الدنيا مملولة وكل ما فيها من الملذات منقطع.
أما نعيم الجنة فإنه لا يزول ولا ينقطع، ولا يظل شيء مما فيها : كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة:25]، فلا يملون شيئاً مما فيها بحال من الأحوال، ولا ينقطع شيء من ملذاتها، فاللذة الأولى التي ينالها الإنسان عندما يصل إليه شيء من روحها وريحانها، تستمر ولو جاء بعدها مليارات الملذات، كل ملذة تبقى ردفاً للأخرى دون انقطاع، فلا ينقطع شيء من نعيمها.
إن أولئك القوم حين صدقوا بهذا، وشربته قلوبهم وكتب الله الإيمان في قلوبهم، عرفوا أن ما يتنافس الناس فيه لا يساوي شيئاً، وأن الذي ينشغلون به هم الذين ينشغلون بالتوافه الفانية، فرأواهم على قدر هممهم، فمن كان همه مقصوراً على هذه الحياة الدنيا وزخارفها الفانية، فإن همته نازلة ضعيفة، إنما يهتم بالحضيض المملول الزائل، ولذلك لو أراد الإنسان أن يعرف قيمة ما يتنافس الناس عليه في الدنيا، فلينظر إلى القمامات فسيجد نماذج كل ما يتنافس الناس عليه، يتنافس الناس على المباني الشاهقة وستحطم بعد سنوات قليلة، وتجد حطامها في القمامات، ويتنافسون على الملابس الوثيرة والفرش الجميلة، وستجد بقاياها مرمية في القمامات، يتنافسون على المآكل والمشارب وغير ذلك، وستجد آثارها مرمية في القمامات، يتنافسون على السيارات أو الطائرات أو غير ذلك وستجد بقاياها مرمية في القمامات، كل الدنيا هكذا، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كان حقاً على الله أن لا يرفع شيئاً إلا وضعه)، لهذا احتجنا إلى أن نراجع قليلاً هذا الأصل من أصول التصور، وهو أصل مبتغى العزة من أين تطلب؟ وما هي وسيلة الوصول إليها؟
إن الإنسان أول ما ينبغي أن يتصوره أنه عبد مملوك لله، وأنه موظف في مهمة محددة وأن عليه الرقابة التي لا يفوتها شيء، لا يمكن أن يخفي شيئاً من شئون نفسه عن الله، وأن له أمداً محدداً ووقتاً محدداً، إذا لم يؤدّ فيه المهمة فلا يمكنه أن يتداركها أبداً، إذا عرف الإنسان هذا عرف أنه هنا ما جاء إلى هذه الحياة الدنيا ليعيش أبداً سرمداً، ولا جاءها ليبقى أبد الآبدين، ولا جاءها لتكون داره الباقية، إنما جاءها ليجعلها زاداً يتزود به في رحلته إلى الدار الآخرة، ومن هنا سيحرص على ما هنالك وعلى ما أمامه، وسيعامل هذه الدنيا معاملته لشجرة يقيل تحتها في سفره ينتظر زوال الشمس أو دلوكها، ليخرج في سفره الطويل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما لي وما للدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة)، فالدنيا هكذا مثل ظل الشجرة، يستظل تحته الإنسان ليقيه حر الهاجرة، لكنه وهو مسافر لا يمكن أن يركن إليه، ويستقر فيه، بل لا بد أن يقطع المسافة في الوقت المحدد.
إن الذي يريد العزة لا بد أن يتحرر من الأغيار كلها، وأن يكون عبداً خالصاً لله، فما دام الإنسان يجد في نفسه ركوناً وميلاً ومحبة لشيءٍ مما في هذه الدنيا، حباً غير طبيعي بمعنى الحب الذي يقتضي تجاوزاً لكل القناعات والتصورات، فليعلم أنه لا يمكن أن ينال العزة بذلك، بل مازال رقيقاً ذليلاً لشيء من الدنيا الفانية، وما دام يستجيب للضغوط في هذه الحياة، تأخذه في الله لومة لائم يخاف من أحدٍ سوى الله يتذكر أن عقوبة ستحل به من أحد غير الله، فإنه لا ينال هذه العزة.
ألا ترون إلى الموقف العزيز الذي وقفه إبراهيم عندما كاد له أهل الأرض جميعاً، وأولهم أبوه وأعمامه وأقاربه، فألهمه الله الحجة عليهم وأظهره: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83]، فإنهم عندما حاجوه قالوا له: نحن نملك كل شيء، وسنوقد لك النار ونرميك فيها، ولن تؤثر في شيء من أمورنا ولن تغير شيئاً من قناعاتنا، فماذا كان جواب إبراهيم ، قال: أَتُحَاجُّونِي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:80-82]، إنها الحجة البالغة التي ألهمه الله، فقطعت على أولئك القوم كل ما كان يلهجون به من الحجج، وكل ما كانوا يفكرون فيه، بآلياتهم وقوتهم المادية، فإن إبراهيم ذكر لهم علاقته بالله وتوكله عليه.
وهذه العزة أيضاً ظهرت في تجلٍ آخر لـموسى عليه السلام، عندما خرج ببني إسرائيل يسري بهم ليلاً هجرةً في سبيل الله فلما طلع الفجر إذا البحر من أمامهم وإذا فرعون وجنوده من ورائهم، فقال له أصحابه: إنا لمدركون، فماذا كان موقف موسى : كلا، بكل ثقة وطمأنينة يقول: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، وقد شاهد قومه ذلك عندما أمره الله أن يأخذ تلك العصا النحيفة النحيلة فيضرب بها البحر، فينفلق البحر ويكون أطواداً كالجبال العظيمة، ويسلك موسى وقومه طريقاً في البحر يبساً، لا تخاف دركاً ولا تخشى، ويتبعه فرعون وجنوده حتى إذا توسطوا البحر التمَّ وفاض، فابتلعهم ولم يترك منهم أية باقية.
ونجد هذا الموقف أيضاً يتكرر مع محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، عندما أتاه نعيم بن مسعود فقال: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ [آل عمران:174]، إن الذي يصل إلى مقام التوكل على الله سبحانه وتعالى وتمام الثقة به هو العزيز، الذي لا يعتلي عزته أي تراجع؛ لأنه يعلم أن عزته من عزة الله الباقية الخالدة، وقد كتب الله هذه العزة للسالكين لهذه الطريق، فليست خالصة بأشخاص، فلا يمكن أن يقول إنسان: كانت تلك المواقف لأولئك الأنبياء وقد انتهت، بل هذا الحال متكرر مستمر، كل مؤمن مكلف يؤمن بالله ويرضى به رباً يتكرر معه الموقف نفسه إذا تراكمت الضغوط، وجمع أهل الدنيا قواهم، وحشروها، فإن كان هو صاحب عزة بالله، فإنه سيقول ما قال نوح: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [يونس:71]، ويقول ما قال هود : إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56]، وبذلك سيرى أن الأرواح كلها بيد الله سبحانه وتعالى متى شاء حفظها ومتى شاء أرسلها: اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر:42].
ويعلم أن القلوب أيضاً بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فالذي يرهبه ويتذكر عداوته أليس يذل لسلطان الله سبحانه وتعالى؟ فليس في قبضة يمينه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرسولي كسرى عندما أتيا قال: ( أرسلكما كسرى؟ فقالا: نعم، فقال: قتله ابنه البارحة )، الذي يخافه هذان الرسولان، ويسافران من أجل سلطانه وأمره مسافة شاسعة قد قتله ولده البارحة.
إن من يعلم أن الله سبحانه وتعالى بيده الأمر إليه كله ويرجع الأمر كله، لا يمكن أن ينخدع بشيءٍ من أمور هذه الدنيا الفانية، وهو يعلم أنها امتحان وتسليط من عند الله سبحانه وتعالى، فما الناس فيها في سلطان الله إلا كالنمل، وأنواع الحشرات، فكلها مرسلة، فإذا أرسل الله سبحانه وتعالى ضرراً فلا بد أن يصل ولا تجدي المذلة أمامه، وإذا لم يرسله فلا يمكن أن يضر ولا أن يصل بوجه من الوجوه، مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:2]، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17]، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [يونس:107]، إن المؤمن الذي يعتز بالله سبحانه وتعالى وبمنهجه ينظر إلى ما يجري في الأرض كما ينظر الناس إلى ما يجري في السماء، فالله سبحانه وتعالى بين أنه يرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء، وبين أنه يرسل في المطر ما يرسل فيه من أنواع الضرر وأنه: فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [النور:43-44].
إذا نظر الإنسان إلى تصرفات أهل الدنيا وما فيها، وأنه مقدر مكتوب، وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف، عما هو كائن، فلا يمكن أن يخاف مخلوقاً؛ لعلمه أن ما يصيبه فهو من عند الله، لا يمكن أن يُصرف عنه، وأن ما لم يقدر الله إصابته له لا يمكن أن يناله بوجه من الوجوه:
أي يومي من الموت أفر يوم لا يقدر أم يوم قدر
يوم لا يقدر لا أرهبه ومتى يقدر لا ينجو الحذر
فإن ما يقتضي ذلك من الإنسان تمام العزة لله سبحانه وتعالى، والاتصال به على الوجه الذي يرضيه.
إن الله سبحانه وتعالى يسر للإنسان سبل الخير، وأقام عليه الحجة بكل هذه الأمور التي ذكرناها، لكن كثيراً من الناس ينشغل عن تلك السبل بأمور أخرى، وببنيات الطريق، فيظن أن مخلوقاً من المخلوقين يمكن أن ينفعه أو أن يضره، وأنه إذا تقرب منه فأصبح من المنسوبين إليه أو ذوي بلاطه، أو من الذين يرحبون به في المناسبات، أو يظهرون معه في وسائل الإعلام، أنه سينال بذلك عزة ومكانة، وهذا غاية الغلط في التصور، فإن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الحج:73-74].
ولذلك فإن رجلاً من أهل اليمن جاءه رسول من عند ملك غاضب، فقال: يدعوك الملك الآن للحضور، وإذا الرسول مصر على الإسراع، فقال: أتسمح لي يا سيدي بسؤال؟ فقال: تفضل، فقال: هذا الملك الذي يدعوني للحضور هل يذهب إلى الخلاء؟ هل يحتاج إلى الماء؟ فقال: كيف تسأل هذه الأسئلة؟ قال: إن من يذهب إلى الخلاء ويحتاج إلى الماء لا يمكن أن يُخاف منه، فإذا عجلنا نحن وأتينا في الموعد، قد يكون هو مشغولاً بأمر من هذه الأمور.
وكذلك الحال بالنسبة لجانب الطمع، فلا بد أن يتذكر الإنسان أن الرزق كله بيد الله، وأنه لا ينال منه إلا ما كتب له بحال من الأحوال، لو تنازل عن كرامته وعن شخصيته، ورضي أن يكون من السفلة والخدام، فإنه لا يمكن أن يرزق بأكثر مما كتب له بحال من الأحوال، لا يمكن أن يزيد بقدر ما تحمله النملة من رزق مهما سدن وخدم، إذا تذكر الإنسان ذلك عرف أن الذي يستحق أن يرغب فيما عنده وأن يطمع فيما عنده هو الملك الديان وحده، ولذلك يقول المكودي رحمه الله:
إذا عرضت لي في زماني حاجة وقد أشكلت فيها علي المقاصد
وقفت بباب الله وقفة ضارعٍ وقلت إلهي إنني لك قاصد
ولست تراني واقفاً عند باب من يقول فتاه: سيدي اليوم راقد
فالذي ينام ويمرض لا يمكن أن يطمع فيه الإنسان؛ لأنه لو كان يمكن أن ينفع لنفع نفسه ولما احتاج إلى غيره، فلذلك لا بد أن تلتمس العزة من عند الله وحده.
إن هذه العزة قد كتبها الله للمؤمنين، لكن ليس ذلك لكل مؤمن، بل لا ينالها من المؤمنين إلا من جاهد نفسه حتى يصل إلى مقام التوكل على الله سبحانه وتعالى، إن كثيراً من النصوص التي فيها وعد أو ذكر لمقام من المقامات ينسب إلى المؤمنين، لا يقصد بها أنها لكل مؤمن ومؤمنة، بل إنما ينالها خواص المؤمنين، الذين جاهدوا أنفسهم حتى استقامت على منهج الله، فأولئك هم الذين يستحقون هذه الميداليات ويستحقون هذا التشريف من عند الله، فالذين لا ينالون هذه العزة، من الذين آمنوا ليس معنى ذلك أنهم غير مؤمنين، لكن معنى ذلك أنهم ناقصوا إيمان، فإنما ينالها من جاهد نفسه حتى يصل إلى مقام التوكل، وهو من المقامات العالية في الإيمان، إن خالد بن الوليد رضي الله عنه لما فتح الله عليه في غزوة اليرموك سأل الروم عن أضر أسلحتهم فأشاروا إلى سم يقتل من ساعته، فقال: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، وشرب ذلك السم، ثم قال: ما أضر شيء بعد هذا السم؟ فقالوا: الشمس، فجلس في الشمس بارزاً، والروم يعجبون، فهذا السم، بمجرد شم رائحته وهو نفاذ يموت الإنسان، والشمس أضر شيء على المسموم، و خالد يشربه ثم يجلس في الشمس ولا يتأثر، وجعل يقضي بين الناس في خصوماتهم وهو جالس في الشمس، فكان ذلك سبباً لإسلام الأسرى، فكان كلما أسلم أسير وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قام إليه خالد فحل نسعته، وقال أنت الآن أخونا يلزمك ما يلزمنا، وعلمه ما يلزمه من أحكام دينه، ولا ينتهي من تعليم أسير حتى يتهيأ أسير آخر للإسلام ويتقدم إليه خالد فيحل نسعته وهكذا.
إن أولئك شاهدوا هذه العزة عند أولئك القوم فكانوا مثلاً عالياً بالنسبة إليهم، فكان ذلك سبب إيمانهم وإسلامهم، إن هذا الحال الذي حصل لـ خالد بن الوليد عندما توكل على الله سبحانه وتعالى واستعاذ به، لا يمكن أن يُعترض عليه بأنه فعل أمراً محرماً مخالفاً للشرع حين شرب السم، ولا يحل للإنسان أن يشربه؛ لأن ذلك بحسب حال الإنسان نفسه، فإن كان موقناً وصل إلى درجة اليقين بأنه لا يضره شيء إلا ما كتب له، وأيقن أنه سمع هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن من قال: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاثاً لم يضره شيء )، فأيقن هو بذلك فحينئذٍ يسوغ له ما لا يسوغ لغيره، ولا يتحقق له ذلك.
ثم إن الذين جاءوا بعدهم من الذين سلكوا هذا الطريق أظهروا هذا المستوى من العزة بالله سبحانه وتعالى حتى في أشد المواقف وأضيقها.
فهذا الإمام أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني يرسله خليفة المسلمين إلى ملك الروم للمفاوضة، وكان السفراء في أيام عزة الإسلام هم العلماء الكبار، فإذا اشتهر عالم من كبار علماء المسلمين يختاره الخليفة رسولاً ليفاوض باسم المسلمين، كما فعل عبد الملك بن مروان حين أرسل عامرا ًالشعبي إلى الروم، وكما فعل ملك بني العباس حين أرسل أيضاً أبا بكر الباقلاني إليهم، وكان من عادة الروم أن كل من دخل إلى بلاط الملك لا بد أن يركع بين يديه، فقالوا: كيف نركع هذا العالم فجاء عقلاؤهم ففكروا فجعلوا سلماً في الباب الذي يدخل منه إلى مجلس الملك، ولم يتركوا من طول الباب إلا قدر ما يدخل منه الرجل راكعاً، فلما جاء الباقلاني رأى هذه الحيلة ففهمها، فولاهم دبره وجاء يزحف إلى الوراء، فجعل الملك يده على وجهه حياءً من هذا المنظر، وعرفوا أنهم لم يصلوا إلى مبتغاهم، فلما رأى وجهه قام إليه إعجاباً وتقديراً، فأجلسه معه على سريره، فقال: يعرفه بمن في مجلسه هذا الذي على يمينك البابا رئيس الكنيسة رئيس الدين عندنا، فانصرف إلى البابا، فسلم عليه، وقال: كيف زوجتك وأولادك؟ فضج كل من في المجلس وقالوا: نحن نجله عن هذا الذي تسأله عنه، فقال: سبحانه الله! لا تجلون الذي خلقه عنه وتجلونه هو، تزعمون لله صاحبة وولدا، وتجلون البابا أن يكون كذلك، فألقمهم جميعاً حجراً، وخرج من مجلسهم.
ومثل هذا الحال ما تكرر مع شيخ من شيوخ دمشق كان في الجامع الأموي وقت دخول إبراهيم باشا ، وهو ملك مصر عندما دخل بجيوشه فاجتاح دمشق سأل: من بقي من أعيان دمشق لم يستقبلني قيل: الشيخ فلان، هو ذلك جالس في مسجد بني أمية يدرس طلبة العلم، فقال: تعالوا بنا نذهب إليه، فخرج إليه الملك مع جنوده والأتراك يلبسون السلاح، حتى دخلوا المسجد، فوقفوا على الشيخ فما غير جلسته ولا قطع حديثه ولا تأثر وجهه بالنظر إليهم، فلما دخلوا قال له بعض الطلاب: هذا الملك وجنوده قد دخلوا المسجد، فقال: حُدثنا أن النظر في وجوه الظلمة يقسي القلب، فأمر الطلاب أن لا ينظروا إليهم بأعينهم؛ لكي لا تقسوا قلوبهم، فجاء الملك متواضعاً حتى جلس بين يديه، فاستمر الشيخ في حديثه والملك يستمع إلى الحديث حتى أنهى الدرس، فسلم فرد عليه السلام، ثم إن الشيخ مد رجله في وجه الملك، وهذا مما يستعظمه الأتراك، والأعاجم يرونه غايةً في الإذلال والمهانة، فقام الملك فأرسل إليه مالاً عظيماً، فلما جاءه الرسول يحمل المال، قال: ارجع إليه فقل له: إن من يمد رجله لا يمد يده، إن هذه العزة إنما ينالها الصادقون مع الله سبحانه وتعالى، ثم إن الذي يصل إلى هذا المستوى من التوكل على الله سبحانه وتعالى، والثقة به، لا يمكن أن يتأثر بالمصائب الدنيوية، حتى لو أهين بأنواع الأذى، وابتلي بأنواع البلاء سيبقى عزيزاً صامداً على كل ذلك.
فهذا أحمد بن حنبل مكث في السجن ثمانية عشر سنة والقيود في يديه ورجليه ويُضرب بالسياط على أن يقول كلمة واحدة، فما قبل شيئاً من ذلك بوجه من الوجوه، يحدث عنه أنه قال: حُملت إلى بغداد وبيدي ورجلي سلاسل الحديد، فدخل عليّ شيخ كبير من أهل المحلة، وهي مكان في بغداد، فقال: يا أحمد أنت اليوم في الناس رأس فاصبر على الحق، فإنما الناس بك أي أتباع لك، فقال أحمد : ما شاء الله فعلم أن ذلك الشيخ هو تثبيت من عند الله أرسله ليثبته به، فثبت على ذلك واستمر عليه حتى رفعت المحنة.
وكذلك الحال بالنسبة لما حصل لعدد من السابقين، عندما سيم الخسف وأوذوا بأنواع الأذى، لم يكونوا ليتراجعوا عن مبادئهم ولا ليستسلموا بحال من الأحوال، فهذا حبيب بن زيد رضي الله عنه لما جاء إلى مسيلمة الكذاب جعل يقول له: أتشهد أن محمداً رسول الله، فيقول: أشهد، فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: أنا أصم، فيقطع منه عضواً، ثم يعيد عليه السؤال: ثم يقطع منه عضواً آخر، حتى قطعه إرباً إرباً، هو صامدٌ على قوله لا يتأثر.
وكذلك امرأة الأخدود التي كانت تحمل صبياً مرضعاً في المهد، فلما وقفت على النار تذكرت حال هذا الصبي وأنها ستسقط به في تلك النار المروعة، فترددت قليلاً، فقال لها الصبي الذي في المهد: يا أماه نار الدنيا أهون من نار الآخرة، فانكبت به في تلك النار، وقد أنزل في ذلك القرآن في سورة البروج.
إن الذي يدرك هذا المقام تهون عليه الضغوط التي يواجهها، ولا يمكن أن يُغرى بأي مغرٍ من المغريات، فرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما عرض عليه أهل مكة أن يملكوه عليهم، وأخبروا أبا طالبٍ بذلك، قال له: (يا عم لو جعلوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك شيئاً مما جاءني من عند ربي ما فعلت ذلك).
وهذا سعد بن أبي وقاص عندما أضربت أمه عن الطعام فامتنعت منه حتى كادت تموت، ليرجع عن دينه، همس في أذنها فقال: يا أماه لو كان لك مائة نفس، فخرجت نفساً تلو الأخرى، على أن أرجع عن ديني ما رجعت، فاحيي أو فموتي.
إن أولئك القوم قد عرفوا أن ما عند الله سبحانه وتعالى هو الباقي الخالد، وأن ما سواه من الأمور المنقطعة التي لا يحرص عليها إلا الضعفاء، فهذا مصعب بن عمير لم يكن في مكة فتىً أبلغ رفاهاً منه، كان إذا مر من طريق عرف رائحة الطيب من ذلك الطريق، لمروره منه، وكانت أمه تشتري له كل شهر حلة، فلا يلبسها في غير ذلك الشهر، وكانت تنعمه بأنواع ما يحتاج إليه، فلما أسلم كلفت به رجالاً أشداء وحبسته بين أربعة جدران، فكانوا يضربونه صباح مساء، ويؤذونه بأنواع الأذى، وقد حرم من كل شيء، إنما هو في الحديد والقيود ليرجع عن الدين فما قبل، وعندما اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم سفيراً أول سفير في الإسلام إلى المدينة، خرج وما عليه إلا بردة له وسيفه، واستمر الحال على ذلك ثلاث سنوات، بعد الهجرة، قتل يوم أحد في العام الثالث من الهجرة، وليس له إلا سيفه وبردة عليه، إن نحن غطينا بها رأسه بدت رجلاه، وإن نحن غطينا رجليه بدا رأسه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه، وأن نجعل على رجليه من الإذخر، فلم يتعجل من أجره، لكنه عرف الحق فلزم.
كذلك فإن الذين سلكوا هذا الطريق من المتأخرين أيضاً تعرضوا لكثير من الأذى والضغوط، ليرجعوا عما هم عليه فلم يزدهم ذلك إلا ثباتاً واستمراراً عليه وعزة بالله سبحانه وتعالى، حتى في أحرج المواقف وأحرجها.
فهذا سيد بن قطب رحمه الله عند قتله أتاه رجل من علماء الأزهر يريد أن يلقنه الشهادة، قال له: قل: لا إله إلا الله، قال: أنا أموت عليها وأنت تحيا بها تتعيش بها، فهذا الذي يلقي عليه هذه الكلمة لا يعرف إلا لفظها، ويأخذ عليها جنيهات يتعيش بها، وهو يُقتل في سبيلها، وكذلك عندما طلبوا منه وهو يُقدم للمشنقة أن يكتب اعتذاراً ولو سطراً واحداً ليعفى، قال: إن هذه الإصبع التي أرفعها في التشهد لله سبحانه وتعالى، لا يمكن أن أخالف بها ذلك، إن هذا الموقف يتردد كثيراً في هذه الأمة..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر