إسلام ويب

منهجية السلفللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • استحقت الأمة العز لما كانت على المنهج الذي تركها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بعدت عنه استحقت الذل والهوان، ومن قوام منهج السلف تمسكهم بالوحي إجمالاً وبعدهم عن التنطع والتفصيل، والأمة مطالبة اليوم بالتخلص من براثن التقليد والعودة إلى جمع كلمة الأمة على اتباع الدليل والعمل به.

    1.   

    منهج النبي صلى الله عليه وسلم وتعامله

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    نحمد الله تعالى على ما من به من الهداية، ونسأله المزيد من فضله.

    أما بعد: فإن كل سالك في طريق لا بد أن يعتاد في سيره على منهج محدد يتخذه حتى يصل إلى نهاية ذلك الطريق المقصود في سفره القاصد، وإن السالك في حيات هذه الدنيا التي هي منتهية لا محالة لا بد أن يحدد منهجاً يسير عليه في سلوكه لعلمه أن هذا الطريق منته إلى نهاية حتمية، وإن أهل الدنيا قد سلكوا مسالك متعددة، وهي متفاوتة طولاً وقصراً، ومتفاوتة كذلك استقامةً وتعرجاً، وإن أصوب المناهج وأرضاها وأحسنها وأعدلها لهو المنهج الذي أرسل الله به رسله عليهم الصلاة والسلام، وختمهم وقفا على آثارهم بنبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم، وإن المنهج الذي جاء به قد رضيه الله تعالى لعباده، ولم يرض لهم سواه، ولذلك لا يقبل الله تعالى من أحد سلوكاً على طريق إلى الله إلا إذا كان سالكاً على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء به من عند الله، وإن هذا من المسلمات لدى عموم الناس، لا يكاد يختلف فيه اثنان، ولكن موضع الخلاف ومحله هو تحديد ذلك المنهج الذي تركنا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي سماه المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.

    فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا الطريق محفوف بالمخاطر، وأن على جنباته بنيات الطريق، وأبواباً مفتحةً عليها ستور، على كل باب منها داع يدعو إليه، ولذلك كان الخطر شديداً، وكان الطريق مما يصعب التمسك به والصبر عليه، ولا شك أن المؤثرات في سلوك المناهج متعددة، ومن أعظمها: ما يتعلق بالحضارات والقيم التي تسود، والأعراف التي تنتشر، وكذلك ما يتعلق بالأحكام التي توجه الناس وتقودهم، فلا شك أن منهاج الناس في أيام عزة الإسلام ورفعة رايته وقوته كانت أقرب إلى ما تركهم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بكثير من مناهجهم في أيام التدني والانحطاط والضعف والمذلة، ولذلك قال الحكماء: الناس على دين ملوكهم، وقالوا: كما تكونوا يولى عليكم، قد روي ذلك أثراً عن بعض السلف الصالح، فبحسب حال الناس وبحسب ما يسود فيهم من الحضارة، وما يقتنعون به من الأعراف يتفاوت سلوكهم في المناهج، وتتأثر مناهجهم بذلك، فأصفى المناهج وأعدلها هو المنهج الذي ترك الرسول صلى الله عليه وسلم الناس عندما أعز الله دينه وأظهره على الدين كله، وقامت تلك الحقبة الزمنية التي ساد فيها العدل وانتشر، وعلت فيها كلمة الله في هذه الأرض في عصر الخلافة الراشدة، ولم يزل الأمر يتطور بحسب ما يتجدد من الحضارات وما ينقل، وبحسب انبهار الناس بالحضارات الأخرى التي ينفتحون عليها من خلال الترجمات، ومن خلال الاختلاط والاحتكاك بالأمم الأخرى، حتى وصل الأمر إلى قمته عندما سقطت آثار الخلافة الإسلامية وبقاياها في بداية القرن المنصرم.

    ثم بعد ذلك نشأت هذه الصحوة المباركة التي تطالب بالعودة إلى ما كان عليه ذلك الصدر الأول، وإلى ذلك المنهج الذي سلكوه فأداهم إلى مرضات الله، وأوصلهم إلى محبته وطاعته، لا شك أن المنهج المسلوك في هذا الدين تتنوع عناصره بحسب عناصر الدين نفسه، وأنتم تعلمون أن عناصر الدين ثلاثة، هي: الإيمان، والإسلام، والإحسان، التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل حين سأله، وتعلمون أن هذه العناصر الثلاثة متكاملة، وأن توزيعها بحسب عناصر ابن آدم نفسه في خلقه، فابن آدم مؤلف من ثلاثة عناصر هي: العقل، والبدن، والروح، وهذه العناصر الثلاثة على أساس تنوعها جاء تنوع عناصر الدين، فالإيمان لمصلحة العقل، والإسلام لمصلحة البدن، والإحسان لمصلحة الروح، وإذا غلا بعض الناس في بعض هذه الجوانب فإن ذلك لا بد أن يؤثر في الاتزان، ولا بد أن يؤدي إلى نتائج وخيمة، لما في الميل الدائم الذي هو مع حركة ومرور من الانحراف، فأنتم تعلمون أن العربة المستقيمة إذا سلكت خطاً وليكن مثلاً سكة حديد فإنها ستستمر عليها ما دامت معتدلةً في جوانبها، أما إذا كان أحد الجانبين أثقل من الآخر، أو كان أحدهما أرفع من الآخر فإن الانحراف سيكون وبالأخص مع سرعة السير وطول الطريق؛ ولذلك فإن هذه الأمة عرفت مناهج متعددة، سمي أقدمها بمنهج السلف الصالح، والسلف اسم يطلق على من سلف ومضى، ومنه الصالحون الذين رضيتهم هذه الأمة وشهدت لهم بالخير، ومنه قوم دون ذلك، والتفاوت الحاصل في سلوك طريقهم ناشئ عما ذكرناه من العوامل، فعصر الخلافة الراشدة وبالأخص في أيام أبي بكر و عمر وست سنوات من خلافة عثمان كان زمن اتفاق، لم يحصل فيه اختلاف بين المسلمين، وإنما نشأ الخلاف بعد مضي ست سنوات من خلافة عثمان ، أي: بعد مضي عشرين سنةً من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما تمت العشرون ونشأت خلوف لم تترب كما تربى السابقون، وعاشت حياة الراحة والدعة، وتوقف كثير من الناس عما كانوا ربوا عليه من الجهاد والعمل الصالح والاستقامة، بدأ هؤلاء في سلوك مناهج بدأت في الانحراف، وكان الانحراف صغيراً قليلاً من بدايته، ولم يزل يتسع ويزداد حتى اتسع الخرق على الراقع، ولذلك كان الخوارج يمتحنون الناس، فيقولون: ما رأيك في أبي بكر و عمر و في عثمان ست سنين وفي علي قبل التحكيم؟ وهذا امتحانهم الذي يمتحنون الناس عليه بالاعتقاد.

    وكذلك قال أحدهم لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين! ما بال الناس اتفقوا على أبي بكر و عمر واختلفوا عليك وعلى عثمان ؟ فقال: اتفق الناس على أبي بكر و عمر حين كان الناس أنا و عثمان ، واختلفوا علي وعلى عثمان حين كان الناس أنت وأمثالك.

    ما دام الناس على تربية صحيحة، وعلى منهج مستقيم لا يحصل الخلاف بينهم، وتستقيم الأمور وتأخذ مجراها المعتاد.

    نلحظ أن حياة هذا الصدر الأول ومنهجهم الذي سلكوه ليس فيه ميل ولا انحراف، بل كان متزناً في مختلف جوانبه، عادلاً في تقسيم الوقت بين عناصره، فعناصر الدين كانت جميعاً يقام بها على وجهها الصحيح، ولننظر إلى حياة بعض النماذج من هذا الصدر الأول، فنجدهم في مجال الاعتقاد قدوةً يقتدى بهم، وفي مجال إصلاح القلوب وتربية النفوس قدوةً يقتدى بهم، وفي مجال العلم والتفكير والعقل قدوةً يقتدى بهم، وفي مجال إعلاء كلمة الله والجهاد في سبيله والدعوة إليه قدوةً يقتدى بهم، ولذلك لا نحتاج إذا أخذنا نموذجاً منهم أن نذهب إلى التخصصات المختلفة ونصنفه في خانة تخصص محدد، بل إنما نشأت هذه التخصصات في الخلوف اللاحقة، أما الصدر الأول فما عرفوا التخصص، ولذلك كان الشخص الواحد يقوم بمسئوليات مختلفة.

    خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الناس

    فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإمام الأعظم والقائد الأعلى، وهو قائد الجيش الذي يرتب الناس في الصف، وهو القاضي الذي يحكم بين الناس، وهو المفتي الذي يفتي في النوازل، وهو المعلم الذي يدرس، وهو منظم حياة الناس البلدية المتعلقة بحياتهم المدنية، فهو الذي يغرس النخل بيده، ويوزع الأرض بين أهلها، حتى يوزع مياه السيول بين أهلها ويأمر رجلاً فيقف حتى يصل الماء إلى كعبه، ثم يأمر الرجل أن يرسل ما وراء ذلك من الماء، هو الذي يهتم بكل الأمور، ولذلك تجد هذا في الأحاديث المتواترة عنه صلى الله عليه وسلم: ( أنه كانت الأمة تأتيه فتأخذ بيده حتى يقضي لها حاجتها، ويأتيه الأعرابي فيجذبه بثوبه حتى يؤثر في صفحة عنقه -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- فيقول: يا رسول الله! مر لي بشيء من مال الله الذي تحت يدك، فيبتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقضي له حاجته ).

    يقول أنس بن مالك رضي الله عنه في قصة المرأة التي كانت تبكي عند قبر: ( فوقف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أمة الله! اتق الله واصبري، فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمثل مصيبتي، فقيل لها: ويلك! إنه رسول الله، فذهبت إليه فجاءت إلى بيته فلم تجد حارساً ولا بواباً، فخرج إليها وأزرار قميصه محلولة، فكلمته فقالت: يا رسول الله! إني تائبة فوالله ما عرفتك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى ).

    كان الباحث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى عناء كبير، ولا إلى مواعيد، ولا إلى تقديم وثائق وأوراق، بل إذا أراد الذهاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم طرق باب إحدى حجره أو دخل عليه في المسجد، أو أتاه عند أي بيت من أصحابه حتى إنه يمكن أن يجده في بيوت أهل الذمة من اليهود الخاضعين لدين الله، فإنه كان يعود مرضاهم، ويزورهم في بيوتهم، أجاب دعوة أحدهم إلى خبز ناس -معناه: ناشف- وإهالة -معناه: زبدة- سنخة -معناه: متغيرة اللون.

    1.   

    منهجية الصدر الأول من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

    تعامل أبي بكر رضي الله عنه وخلقه

    وهكذا نجد خليفته أبا بكر رضي الله عنه يزور عجائز الموالي، ويذهب في إصلاح الأمور، ويباشرها بيده، وينزل إلى الأسواق ويبيع فيها، ويخيط قميصه بيده، ولما حضرته الوفاة قال لـعائشة رضي الله عنها: انظري إلى هذا القميص فاغسلي عنه ما فيه، وكفنوني فيه، فقالت: إن عندنا جديداً، فقال: إنما هو للمهلة والتغير، وإن الحي أولى بالجديد. والمهلة هي الصديد الذي ينشأ من تغير البدن وانتفاخه.

    وكذلك نجده عندما يأتيه رجل من الأعراب فيناديه ويقول: يا خليفة الله في أرضه! يقول: إني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بذلك راض، يكفيني أني خليفة رسول الله، لا أريد منصباً أعظم من هذا.

    وكذلك نجده يقف على المنبر خطيباً فينادي الناس في المسجد، وهذا أعلى اجتماع وأعظمه بالنسبة للأمة الإسلامية، هو مكان اتخاذ القرارات هو منبر المسجد، يقف في الناس خطيباً وينادي أهل المسجد فيقول: أيها الناس! إني كنت امرأً تاجراً، وإنكم شغلتموني بأموركم العامة عن تجارتي، فلو جعلتم لي رزقاً من بيت مالكم، يوجه هذا الطلب إلى جماعة المسجد، وجماعة مسجده التي تتحكم في راتب الخليفة الأعظم، الذي تغزو جيوشه كسرى وقيصر، وتصل إلى مشارف الهند، وهو مع ذلك يريد تحديد راتبه من جماعة المسجد من أمثالكم الآن.

    حكم عمر رضي الله عنه وتواضعه

    وكذلك نجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو الخليفة من بعده يلبس مرقعته، وينام بعد أن صلى الضحى، وبعد أن مر على الأسواق ومر على أطراف المدينة ينام تحت ظل نخلة وهو متوسد ذراعه، فيأتيه رجل من الفرس فيقف عند رأسه ويتأمل ويقول: أهذا هو عمر الذي تخضع له الجيوش في كل مكان؟ فيقولون: نعم، فيقول: عدلت فأمنت فنمت، لا يحتاج إلى حارس ولا إلى بواب، ولا يحتاج من يريده لحاجة أن يبحث عنه في مختلف الأماكن، نجده يلقي أموره كلها واستشاراته كلها على الناس في المسجد، هو الذي يصلي بهم في جميع الأوقات، حتى إن القوم الذين تمالئوا على اغتياله لم يبحثوا عنه في بيته، وما بحثوا عنه في القصور المشيدة، بحثوا عنه وقت صلاة الفجر في مقدمة المسجد، وطعن وهو يؤم الناس في الركعة الثانية من صلاة الفجر.

    تفاني عثمان رضي الله عنه في تعليم وخدمة المسلمين

    وهكذا نجد الخليفة من بعده عثمان بن عفان رضي الله عنه فيما أخرج عنه مالك في الموطأ بإسناد صحيح: أنه كان يأتي في الثلث الأخير من الليل الأخير فيرتفق في مؤخرة المسجد يعلم الناس القرآن، يجتمع الناس عليه يعلمهم القرآن في الثلث الأخير من الليل، وكان يجلس على باب المسجد يعلم الناس الوضوء، كما أخرج ذلك عنه البخاري و مسلم من حديث حمران مولاه، يعلم الناس الوضوء على باب المسجد، الذي يبحث عنه لا يذهب يسجل اسمه، ولا يقدم وثائقه وأوراقه، ولا يحتاج إلى انتظار الأيام العديدة، يأتي إلى باب المسجد يجده يعلم الناس الوضوء، يأتي إلى مؤخرة المسجد في الثلث الأخير من الليل يجده يعلم الناس القرآن.. وهكذا.

    عدل علي رضي الله عنه وإنصافه

    وهكذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه نجده يسلك نفس الطريق، عندما تمالأ الخوارج على اغتياله لم يبحثوا عنه في القصور المشيدة، ولا وراء العساكر والجنود، إنما بحثوا عنه في آخر الليل في المسجد قبل أن يأتي المؤذن، فيجدونه في المسجد.

    نجده يأتي إلى بيت مال المسلمين عند بداية السنة الهجرية التي تدخل فيها المداخيل، وتتم فيها الموازنة عندما تؤخذ الجزية من أهل الكتاب، ويجمع الفيء ويؤخذ الخراج على الأراضي المفتوحة، فيجتمع ذلك في بيت المال، فيقوم أمير المؤمنين بتوزيعه على الناس حتى لا يبقى في بيت المال درهم ولا دينار، ثم يقمه بردائه ويرش فيه من الماء ويصلي فيه ركعتين.

    عندما كان الناس هكذا لم تكن الحياة معقدة، ولم تكن تحتاج إلى كثير من الروتين، وكان العدل سائداً فيها، وكل الناس على رضاً إلا من انحرف عن هذا المنهج فهو الذي يجد نزعة الغضب في نفسه، أما من كان مستقيماً على هذا المنهج الصحيح الذي لا يرضي الله سواه فلا يمكن أن يجد غضباً في نفسه؛ لأن جميع حقوقه قد أديت إليه، ولذلك قال علي رضي الله عنه للخوارج: إن لكم علينا ثلاثاً: أن لا نبدأكم بقتال، وأن لا نمنعكم مساجدنا ما صليتم إلى قبلتنا، وأن لا نمنعكم فيئاً من بيت مالنا، ما كانت أيديكم معنا. هذه الحقوق الثلاثة مؤداة حتى إلى الخوارج الذين خرجوا عليه وكفروه، ولما سئل عنهم قيل: أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، قيل: أفمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، قيل: فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا، هذا العدل الذي جعل أمير المؤمنين يصدر منه هذا القول هو أيضاً الذي حمل صاحبه عثمان بن عفان عندما كان محاصراً في الدار وقد قطع الناس عنه الإمدادات والماء وهو محصور لا يصل إليه من الماء في صيامه إلا ما تحمله أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها وتوصله إليه، نجده يرتفع يوماً من شرفة داره فيطلع على الناس، فيخاطبه رجل فيقول: يا أمير المؤمنين! أنت إمام سنة، وهؤلاء إمامهم إمام بدعة، وهم يصلون أفنصلي معهم؟ قال: إن الصلاة من أحسن ما يصنع الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإن أساءوا فتجنب إساءتهم، فهذا تأدب بأدب القرآن الذي أدبنا الله به في كتابه: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]، هؤلاء القوم الذين شنئوه وقاتلوه وظلموه وحاصروه في الشهر الحرام في البلد الحرام، مع ذلك لم يحمله هذا على ألا يكون عدلاً في الحكم عليهم، وتوجيه الخطاب إليهم، بل كان في كل ذلك ملتزماً بهذا المنهج الصحيح.

    1.   

    بداية التخصصات والميل عن منهج السلف

    نجد أن هذه الأمة بعد هذا العصر بدأت بالتدريج في الابتعاد شيئاً فشيئاً في جمهورها وأكثرها، ولكن الله تعهد بأن لا تنحرف هذه الأمة بكاملها، بل لا بد أن تبقى منها طائفة قائمةً على الحق لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى يأتي أمر الله، كما ثبت ذلك وتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية ثمانية عشرة من أصحابه، لكن بدأ هذا الانحراف بالتدريج شيئاً فشيئاً، ومن بداياته قضية التخصصات، فمثلاً عندما تقرءون في منظومة ابن عاشور في عقد الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك، تقولون: هل كان مالك غير مرضي في الاعتقاد والعمل؟ أو كان الجنيد غير مرضي في الاعتقاد والفقه؟ أو كان الأشعري غير مرضي في الفقه والعمل؟ يأتي هذا السؤال عابراً ولكنه لا يجد جواباً، لماذا لا يقول: في عقد مالك ، وفقه مالك ، وفي طريقة الإمام مالك مثلاً؟ أليس مالك مرضياً في كل ذلك؟ بلى، ولكن المشكلة هنا هي مشكلة التخصص، أن الناس عندما بدأت التخصصات، وانبهروا بالحضارات، رجعوا يطبقون هذا على أسلافهم، فنقلوا واقعهم الذي يعيشونه إلى ماضيهم الذي قد مر بسلام، وفهموا ماضيهم وتاريخهم من خلال نظرتهم الضيقة إلى واقعهم الذي يعيشونه، ينظرون من زاوية أنفسهم فيطبقون ذلك على من مضى، وهذا من جنس تفسير الرؤى والأحلام، فقد جاء رجل إلى محمد بن سيرين رحمه الله، فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم، ولا أتمارى في ذلك، ولكنني رأيته أسود، فقال ابن سيرين : إن السواد الذي رأيت في عينك أنت وليس في جسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعله بمثابة من ينظر من نظارات سوداء، فكلما وقع عليه نظره سيكون أسود بالنسبة إليه، فبسبب ابتداع وقع هو فيه اختل ميزان نظره، فكان ينظر إلى الأشياء على أنها سوداء، لكن لو جاءت الصقالة إلى قلبه لرأى الأشياء على حقيقتها.

    1.   

    الإيمان الإجمالي والبعد عن التفصيل

    هكذا جاءت هذه التخصصات المتباينة، فانشغل بعض الناس في التركيز على مجال الاعتقاد فقط، وانشغل آخرون في التركيز على المجال العلمي الفكري فقط، وانشغل آخرون بالمجال العملي فقط، وقل من يجمع بين هذه الجوانب المختلفة في العصور المتأخرة، فلما رأى الناس ذلك ظنوا أنه من المستحيل أن يكون من سبق قد جمعوا كل هذه التخصصات، وما ذلك إلا لضيق باعهم؛ ولأنهم ما رأوا هذا في حياتهم، فظنوا أن السابقين لا يمكن أن يجمعوا بين هذه التخصصات المختلفة، والواقع خلاف ذلك، فالتعقيد الذي حصل، والشروط التي اشترطها كثير من الناس في تحصيل العلوم مثلاً، وهي جانب من هذه الجوانب لم تكن موجودةً، ولم يكن الناس بحاجة إليها، ولنأخذ علماً من هذه العلوم وهو علم التوحيد، هذا العلم أصبح كثير من الناس ينفرون منه، ويظنونه من العلوم المعقدة، ويتوقعون صعوبةً فيه ومزالق ومشكلات لا حصر لها، وما سبب ذلك إلا ما نشأ من التخصصات والتركيز على زاوية محددة، فالتوحيد له معنيان: معنىً أعم، ومعنىً أخص، أما المعنى الأعم فهو المشروط على كل مسلم من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والبعث بعد الموت والقدر خيره وشره، هذه الأمور التي يشترط على كل مسلم أن يؤمن بها إيماناً إجمالياً، ولا يشترط في ذلك التفصيل، لا يشترط أن يعد الشخص صفات الباري سبحانه وتعالى، ولا يشترط أن يعد ما يتصف به الأنبياء من الصفات، ولا يشترط أن يعد ما يتصف به الملائكة من الصفات، ولا يشترط أن يدرك رد الشبهات المتعلقة بالقدر، ولا يشترط أن يدرك تفاصيل أمور القيامة ومشاهدها، إنما يشترط الإيمان بذلك إجمالاً، ودليل ذلك: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سأله جبريل عن الإيمان فقال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره )، ولم يفصل له في هذه الأمور، ولم يكن يفصل ذلك لمن يدخل الإسلام في بداية عهده، بل ثبت في صحيح البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: ( أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت قتال، فقال: يا رسول الله! أسلم وأقاتل أو أقاتل فأسلم؟ قال: أسلم ثم قاتل، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأخذ سيفه فقاتل حتى قتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمل هذا قليلاً وأجر كثيراً ).

    هذا الرجل لم ينشغل بالتفاصيل في أركان الإيمان الستة، ولم يشتغل بعد صفات الباري سبحانه وتعالى وتتبعها، ولم يجلسه الرسول صلى الله عليه وسلم عن المواجهة وجعله في الصف حتى يعد له كل ما جاء به تفصيلاً، وإنما آمن إجمالاً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وصدق به وكفاه هذا، فدخل الجنة.

    1.   

    ربط السلف للإيمان بالعمل والرقائق

    السبب الذي حمل الناس على تأويل بعض الصفات، وحصرها في عدد محدد هو: أنهم شق عليهم تتبعها وعدها، وطال عليهم ذلك وكثر، فشق عليهم ذلك، فبحثوا عن التسهيل والتقليل، فأعادوها إلى عدد محصور يحفظونه، وجعلوا الاعتقاد بذلك مادةً جافةً خارجةً عن طور الإيمانيات ومحبة الله تعالى، والاهتداء بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعمل المقرب من الله، إلى أن تكون مادةً تحفظ يحفظها الأتقياء ويحفظها الأشقياء، يحفظها البررة كما يحفظها الفجرة، والواقع ليس كذلك، فهذه المادة ينبغي أن تسمى مادة الإيمان، وينبغي أن يتفاوت الناس فيها بحسب إيمانهم لا بحسب علمهم، بحسب قوة الإيمان يكون الاعتقاد صحيحاً، لا بحسب كثرة المعلومات، وكثرة النصوص التي يحفظها الشخص وكثرة مروياته؛ ولذلك نجد سلفنا الصالح الذين كتبوا في هذا المجال ألف كثير منهم الكتب تحت عنوان الإيمان، مثلاً تجدون كتاب الإيمان لـأبي خيثمة زهير بن حرب شيخ مسلم بن الحجاج ، وتجدون كتاب الإيمان لـأبي بكر بن أبي شيبة مؤلف المصنف شيخ البخاري و مسلم ، وتجدون أصول الإيمان لـأبي بكر عبد الله بن الزبير الحميدي شيخ البخاري وتلميذ سفيان بن عيينة ، وتجدون كتاب الإيمان للحافظ ابن منده ، تجدون كثيراً من هؤلاء السلف الذين ألفوا في هذا المجال يضعونها تحت باب الإيمان، ويدخلون فيها الرقائق والمواعظ، ونجد كثيراً منهم يكتب في ذلك مثل كتاب العظمة لـأبي الشيخ الأصفهاني ، ومثل كتاب الرؤية للإمام الدارقطني ، ومثل كتاب الأسماء والصفات للحافظ البيهقي وغير ذلك، تجدون هذه النصوص العقدية مربوطةً بالرقائق والأمور المقربة من الله سبحانه وتعالى، والتي تزيد في الإيمان ولا تزيد الصلف، ولا تجعل الشخص منفصماً في شخصيته، يقرأ هذه المادة ويحفظها على أنها نصوص جافة غير مؤثرة، فلا يتأثر بها بل يحفظها فقط، إذاً هذا هو الإطلاق الأول للتوحيد.

    1.   

    التسليم للنصوص عند السلف دون موافقة عقل أو مألوف

    الإطلاق الثاني: إطلاق تخصصي يطلق على مادة من المواد الشرعية، أو على علم من العلوم الشرعية، فيه كثير من النصوص وكثير من المعلومات التي تحتاج إلى دراسة، ولكنها لا يجب على جميع الأفراد تعلمها، بل يكفي أن يتعلمها من تقوم به الحجة فقط، ودليل هذا: أن نصوص الاعتقاد وبالأخص ما يتعلق بالتفصيل كصفات الباري سبحانه وتعالى وغير ذلك لم ترو عن الرسول صلى الله عليه وسلم تواتراً، يندر جنداً أن تجد حديثاً من أحاديث الصفات مروياً بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكثرها نصوص مروية بالآحاد لأهل العلم المتخصصين فيه؛ لأنها لا يحتاج إليها جمهور عوام الناس، بل هي لأهل العلم والتميز والفهم القوي، ولا يحتاج إليها البلداء، ولا الطبقة التي تليهم من الناس؛ لذلك كانت أحاديث الصفات مقصورةً في البداية على أهل العلم والرواية فقط، ولا يشترط على جمهور الناس حفظها، يشترط عليهم الإيمان الإجمالي بها، وهذا هو منهجهم، فالمشروط في هذا الإيمان أن يقوى على العاطفة والعقل، بأن يكون الشخص إذا بلغه نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو وجد نصاً في كتاب الله آمن به، ولا يشترط لذلك أن يوافق عقله، ولا أن يوافق مألوفه، ولا أن يوافق ما أدرك عليه أجداده وآباءه، وإنما يشترط لذلك أن يصح فقط؛ لذلك كان إيمان أبي بكر لو وزن بإيمان الأمة لرجح، وهو الذي قال: إن كان قالها فقد صدق. لم يشترط أن تكون موافقةً للعقل، ولا أن تكون موافقةً للمألوف هي قصة الإسراء والمعراج، رجل يخرج في الثلث الأخير من الليل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ويمكث فيه ما شاء الله أن يمكث، ويصلي بالأنبياء، ثم يرتفع فتفتح له أبواب السموات السبع، ويعلو مكاناً علياً، ويشرع له ما شرع ثم ينزل ويصبح في المكان الذي خرج منه، هذا غير مألوف لدى الناس، وكثير من الناس يظنه مصادماً للعقل، ولكن أبا بكر لم يشترط له الموافقة مع العقل، ولا الموافقة مع المألوف، وإنما اشترط له أمراً واحداً وهو صحة النقل، فقال: إن كان قالها فقد صدق.

    شهادة خزيمة بن ثابت وربطها بالتصديق الإجمالي

    وكذلك نجد خزيمة بن ثابت رضي الله عنه ( عندما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طرف من أطراف المدينة ، فأتاه أعرابي يقود فرساً فساومه فيها فاشتراها منه، وقال: اقتد فرسك حتى أنقدك الثمن، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سريع المشي، والأعرابي في أثره، فرأى الناس الفرس وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشترها، فجعلوا يسمونها من الأعرابي، فلما أعطوه ثمناً أكثر مما أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يا محمد! إن كنت مشترياً الفرس فاشترها وإلا فأني سأبيعها، فعاد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألم أشترها منك بكذا؟ فقال: لا والله، فجاء خزيمة بن ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول للأعرابي: بلى قد اشتريتها منك، والأعرابي يقول: هات شهودك، فقال خزيمة : أنا أشهد بذلك، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أين لك ذلك؟ فقال: صدقناك على خبر السماء، أفلا نصدقك على خبر الأرض؟! ).

    روح التسليم للنص عند زوجة ابن رواحة

    وكذلك نجد هذه الروح لدى عوام المسلمين في ذلك العصر، فهذه فتاة من الأنصار حديثة السن هي زوجة عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وطئ عبد الله جاريةً له، فأغارت هذه الفتاة وغضبت، فأراد عبد الله أن يرضيها فأنكر ما رأت بعيني رأسها، فقالت: إني أعلم أن الجنب لا يقرأ القرآن، فإن كنت صادقاً فاقرأ من القرآن، فقال:

    شهدت شهادةً لا ريب فيها بأن الله ليس له شريك

    وأن محمداً عبد رسول إلى الثقلين أرسله المليك

    فقالت: صدقت الله وكذبت عيني. ظنت أن هذا من القرآن قالت: صدقت الله وكذبت عيني، قد شاهدت الأمر ولكنها علمت أنه لم يكن ليقرأ القرآن وهو جنب أبداً، وظنت أن هذا من القرآن؛ لأنه كلام طيب فيه اعتقاد صحيح.

    وهكذا كان هذا السلف الصالح في هذه الفترة كلها يأخذون هذا المنهج بالتسليم، فإذا ثبت الوحي فإنه على الرأس والعين لا يمكن أن يقع فيه ريب ولا إشكال، ولذلك لا تجدون كثيراً من الاعتراضات ولا من الأسئلة والمشكلات في ذلك الصدر الأول، بل قال ابن عباس : لله در أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما سألوه إلا عن بضع عشرة مسألةً كلها في القرآن، فهؤلاء قد انطلقوا من مبدأ القناعة والثقة، فلما حصلت لهم الثقة بقيادتهم أخذوا ما جاء منها بحذافيره، ولم يفصلوا فيه، أخذوه على وجهه الصحيح، أما حين اهتزت الثقة فيمن وراء ذلك فبدأ التفصيل، وبدأ الاغتياب، وبدأت المناقشة، كان هؤلاء رضي الله عنهم في مجال الاعتقاد منطلقين من هذا المبدأ الذي هو مبدأ التسليم للوحي، وتقديمه على العقل، وتقديمه على العاطفة، وتقديمه على الموروث وعلى المألوف.

    1.   

    همة السلف في طلب العلم

    وكذلك كانوا في مجال العلم ساعين لما يزيد تنمية قدراتهم العقلية، وما يزيد المحافظة على هذا الشرع، وعلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى، فيرحلون الأسفار الشاقة في طلب حديث واحد، سافر جابر بن عبد الله من البصرة إلى المدينة في طلب حديث واحد، وسافر عبد الله بن حنيف من المدينة إلى الشام في طلب حديث واحد، وسافر أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى مصر في طلب حديث واحد، ثم جاءت الرحلة بعد هذا في العصور التي تليه، فإذا قرأنا في حياة أولئك الذين جمعوا لنا علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقلوه إلينا ونقلوا إلينا كتاب الله نجد أنهم قد بذلوا في سبيل ذلك أوقاتهم الغالية، وراحة أبدانهم، وأموالهم الطائلة، إذا قرأنا في حياة أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ، أو يحيى بن معين ، أو عبد الرحمن بن مهدي ، أو يحيى بن سعيد القطان ، أو عبد الله بن المبارك ، أو طبقة هؤلاء نجد أنهم قد جابوا بلاد الإسلام، ولم يبق قطر قد اشتهر فيه علم إلا ودخلوه، وجمعوا ما فيه من العلم، وكانوا لا يتركون علماً إلا كتبوه، يكتبون الأحاديث التي يجزمون بأنها موضوعة، ولكنهم يجمعونها حتى يفندوا هذه الشبهة ويعرفون من أين أتت ويخرجوا ذلك للناس، يحيى بن معين كتب أربعة آلاف حديث موضوع، وهو يعلم أنه موضوع مكذوب، لكنه أراد أن ينقذ الأمة من هذه الأحاديث، ولذلك نجد محمد بن سعيد المصلوب وهو وضاع مشهور كذاب وضع الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما أخذه الخليفة وحاكمه وحكم عليه بالقتل فقتل وصلب عندما عرضوه على السيف قال: إن تقتلوني فقد تركت فيكم أربعة آلاف حديث أحل بها الحرام، وأحرم بها الحلال، كلها موضوعة، فقال الخليفة: ويلك! أين أنت من ابن المبارك و ابن مهدي يبقران عنها حتى ينخلانها، فجاء الخليفة فسأل هؤلاء عن أحاديث هذا الرجل فقالوا: عنده الحديث الفلاني يرويه عن فلان ابن فلان، عن فلان ابن فلان وهو موضوع، وعنده الحديث الفلاني يرويه عن فلان ابن فلان وهو موضوع، والخليفة يعد ذلك حتى وصل إلى أربعة آلاف حديث؛ لأنهم قد تقصوا هذه الأمور وقيض الله هؤلاء الجهابذة لهذا الدين فنخلوه، وحفظه الله تعالى بهم، يتتبعون طرق الحديث الواحد ويحصرونها.

    ومن أغرب الغريب ما تجدونه إذا قرأتم في كتاب العلل الكبير للدارقطني ، هذا الرجل يسأل عن حديث فيقال مثلاً: ما رأيك في الحديث الذي يرويه حفص بن غياث ، عن أشعث ، عن عبيدة السلماني وهو كذا وكذا؟ فيقول: هذا الحديث خرج من ثمانية عشر طريقاً:

    الطريق الأولى: كذا وكذا، ويأتي بإسناده إلى حفص بن غياث .

    والطريق الثانية: كذا وكذا، ويأتي بإسناده إلى حفص بن غياث ، ويذكر اختلاف الكلمات في الروايات.

    وحصل فيه انقلاب على فلان، وحصل فيه اختلاف على فلان.. وهكذا.

    نجد هذا على وجه البديهة هو يسأل ولا يرجع إلى كتاب ولكنه يعود إلى ذهنه ولما أودع الله فيه من العلم والفهم الثاقب، فيرجع إلينا هذه البضاعة كما هي، إذا قرأتم اليوم في سنن النسائي مثلاً وكتاب المجتبى الذي هو بين أيديكم وهو متوفر تجدون حديثاً واحداً وهو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في القتل شبه العمد، تجدون أن النسائي يقول بعده: باب الاختلاف فيه على خالد الحذاء ، ثم يأتي بأوجه الاختلاف على خالد الحذاء ، ثم يأتي بعده فيقول: باب الاختلاف فيه على أيوب بن أبي تميمة السختياني ، فيأتي بأوجه الاختلاف على أيوب ، فيجتمع من ذلك ثلاثة عشر طريقاً لهذا الحديث الواحد، كل هذا كان من اشتغالهم بخدمة هذا العلم، والسعي لاستصلاح هذه الأمة، والحرص على هدايتها وإرشادها.

    1.   

    جمع السلف بين العلم والعبادة والجهاد

    كذلك في المجال العملي نجد هؤلاء كما وصفهم من رآهم رهباناً بالليل فرساناً بالنهار، في وقت الحاجة إلى نصرة الإسلام وإعلائه والجهاد في سبيله نجدهم في مقدمة الصفوف يقارعون الأعداء، وفي وقت نوم الناس نجدهم قياماً تتجافى جنوبهم عن المضاجع، نجد عبد الله بن المبارك الذي حدثنا عن سعيه في خدمة العلم نجده يرسل كتابه إلى الفضيل بن عياض وهو في المدينة يقول فيه:

    يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب

    من كان يخضب نحره بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب

    أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم النخيلة تتعب

    نجده في مقدمة جيش المسلمين الذي يفتح ما وراء النهر، ونجد آثاره باقيةً إلى وقتنا هذا، فما تسمعون من الجهاد في الشيشان، وما تسمعون من الجهاد في طاجاكستان، وما تسمعون من الجهاد في داغستان وفي قيرغستان وفي كازخستان وغيرها كله من آثار جهاد أولئك الرهط الذين خرجوا يحملون هذا العلم الذي يحملونه وهذا النبراس من هداية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيزرعونه في تلك الأراضي القاحلة، فحرارة إيمانهم لم يطفئها برد سيبيريا، نقلوه فغرسوه في تلك الأراضي النائية، كما فعل أبو أيوب الأنصاري عندما جرح في حصار مدينة ... التي هي القسطنطينية اسطنبول، وحضرته الوفاة، جاءه قائد الجيش فسأله عن حاجته فقال: إذا أنا قضيت فجهزوني واجعلوني على فرسي واتركوها تستن يوماً في أرض العدو، وادفنوني حيث بلغت، فقال: وما حاجتك إلى ذلك؟ قال: أريد أن تركض خيل المسلمين حتى تصل إلى قبري وأسمع الأذان في مكاني داخل أرض العدو.

    يريد أن يدخل الله عليه السرور في قبره كما فعل بأصحابه الذين سبقوه وهم أصحاب أحد الذين قال الله تعالى فيهم: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:171].

    أولئك الذين بشرهم الله وهم في قبورهم بأن الدائرة على الكفار، وأن الله قد أظهر دينه ونصر رسوله صلى الله عليه وسلم، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [آل عمران:170]، يبشرهم الله سبحانه وتعالى وهم في قبورهم بالانتصارات التي نالها المسلمون فيفرحون بذلك، وهم في قبورهم، أراد أبو أيوب أن يكون مثل هؤلاء، وأن يدخل عليه السرور في قبره بنصرة الإسلام.

    ودليل ما حصل من الانحراف في السير على هذا الطريق ما تشاهدونه اليوم، فالذين يرجى منهم استجابة الدعاء من كبار السن ومن المهتدين العباد الزهاد كثير منهم إذا سئل: هل ما هو متمسك به هو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ لقال: بلى، هذه هي السنة، ولكنك إذا سألته عن أكثر أوقات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في أي عمل كانت تصرف؟ لتذكر أنهم كانوا يجاهدون في سبيل الله، ويعلون كلمة الله، أن هذه الثلاثة والعشرين سنة التي عاشها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن أنزل الله عليه الوحي إذا وزعناها سنجد حصة الجهاد فيها أعظم الحصص، ثم بعدها حصة الدعوة إلى الله، ولذلك أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على القوم الذين قال أحدهم: ( إني سأقوم ولا أرقد، وقال الآخر: أصوم ولا أفطر، وقال الآخر: لا أتزوج النساء، فقال: لكني أقوم وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، ومن رغب عن سنتي فليس مني ).

    لذلك يقول أحد علماء هذه البلاد وهو الشيخ سيدي محمد ابن الشيخ سيديه رحمهما الله تعالى في قصيدته الهمزية ينكر على هؤلاء الذين يزعمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه نصروا هذا الدين بالوداعة وبوضع السلاح، ويقسم أن من يرى ذلك أكذب من على الغبراء، وهو صادق فيما قال، لكنه نظر من الزاوية الصحيحة ومن النظرة المعتدلة، هذا الشمول والتوازن في المنهج هو الذي جعل هذا السلف الصالح يكمل بعضهم بعضاً، ولا تنشأ بينهم الفتن والمماحكات، ولا تقع بينهم المطاحنات، والذي يتقن العلم منهم يتقن العمل والجهاد، ولا ينعزل بعلمه في زاوية من الزوايا ويترك نصرة الدين، بل يكون رجلاً حقاً متكاملاً في مختلف الجوانب، ولذلك يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين وقف على طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قتيلاً يوم الجمل تمثل فيه بالأبيات المشهورة التي يقول فيها:

    فتى كان يدنيه الغنى من صديقه إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر

    يتمثل فيه بهذه الأبيات التي يذكر فيها شجاعته وكرمه وتواضعه وإخلاصه لإخوانه، وعندما رجع الناس من هذه الغزوة قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما قرأ قول الله تعالى في سورة الحجر: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً [الحجر:47]، قال: إن هذه الآية نزلت فينا أصحاب محمد حين اقتتلنا، فلا نجد غلاً ولا حسداً بينهم، مع أن الأمر قد يستدعي حصول القتال، ولكن مع ذلك لا يكفر بعضهم بعضاً، ولا يبدعه، ولا يفسقه، ولا يتشفى فيه، بل نادى منادي علي رضي الله عنه: ألا يتبع منهزم، وألا يدفف على جريح، وألا يغنم شيء من الغنائم، وجمعت الأسلاب حتى أتاها أهلها فأخذوها، ولم يفقدوا منها شيئاً؛ ذلك أنهم كانوا معتدلين في هذا المنهج.

    1.   

    إنصاف السلف وعدلهم ورحمتهم

    بينما نجد من المتأخرين من يميل به جانب من الجوانب وهو يحاول أن يسلك منهج السلف، ولكنه للأسف يسلك منهج الصلف، فيشتد على الناس يشتد على أهل الإيمان ويتهاونوا مع الطواغيت، نجد كثيراً من الناس يزعم أنه على منهج السلف الصحيح في الاعتقاد، وهو إن شاء الله تعالى صادق في ذلك، ولكنه يترك الجوانب الأخرى من منهجه، لا نجد لديه جهادهم، ولا عبادتهم، ولا رقة قلوبهم، لا نجد لديه بصائرهم النافذة، ولا نجد لديه شفقتهم على الناس، وحرصهم على هداية الناس، مثلاً نقرأ في حياة عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه وهو من أئمة السلف الصالح وكان إمام مكة، وكان منادي بني أمية ينادي في الناس في الحجيج: ألا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح ، وهو عبد أسود أفطس أشل أعور، ومع ذلك كان ينادي منادي الخليفة: ألا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح ، وكان الخليفة إذا أتى إلى مكة ذهب إلى بيت عطاء حتى يسلم عليه في بيته، ونجد عطاءً يأتيه رجل من أصحابه فيقول: يا عطاء ! إن مجلسنا مورود وإن الناس يجتمعون إليك، وفيهم أهل البدع، وإني أشتد عليهم، وأخاطبهم بكلام شديد، فيقول عطاء : أما سمعت قول الله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [البقرة:83]، فإنه يدخل في ذلك اليهودي والنصراني، والمقصود هنا اليهودي والنصراني الخاضع للإسلام، الداخل تحت حكمه، وليس المقصود أهل العداء الذين تجب الشدة عليهم، وفي ذلك يقول الله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29].

    وكذلك يقول الله سبحانه وتعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54].

    ويقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123].

    ويقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التحريم:9].

    هذه الغلظة مع الذين يضادون هذا الدين، ولا يخضعون لحكمه، أما الذين يخضعون لحكم الدين فهم من رعايا هذه الدولة المسلمة، ولذلك يعاملون معاملةً حسنةً كما ذكرنا عن الرسول صلى الله عليه وسلم من عيادته لليهود، وإجابته لدعوتهم عندما كانوا خاضعين لحكم الإسلام، يؤدون الجزية عن يد وهم صاغرون.

    إذاً باعتدال هذا المنهج، وعدم الميل مع جانب من جوانبه يكون الشخص مستقيماً سالكاً لطريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أما إن ركز على بعض الجوانب فقط، فأخذ مثلاً جانب العمل، وبالغ في الإيغال فيه، وفي اتخاذ الرقائق، ومعالجة النفوس، وابتعد عن جانب الاعتقاد أو عن جانب العلم فإنه سيضل ويكون أضل من حمار أهله؛ لأنه ترك الجوانب المهمة وعدل إلى جانب واحد، فتكور أدراجه، ويرجع على أعقابه.

    وكذلك حين نجد آخر يركز على الجانب العلمي فقط يجمع العلم دون عمل، فهذا أخطر الثلاثة؛ لأنه قد قامت عليه الحجة بكل ما درس، وهو بذلك يكون كاليهود الذين ضرب الله لهم مثلاً بقوله: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ [الجمعة:5]، فيحمل العلم على ظهره، ولا يحمله في صدره، وبذلك لا يتأثر به، ولا ينعكس عليه، فتقوم عليه الحجة بما تعلم.

    إذاً هذه الجوانب المختلفة إذا تكاملت كانت الشخصية سليمةً، وكان الشخص على منهج السلف في الاعتقاد والعمل، إذا انطلق من مبدأ التسليم في الاعتقاد للنصوص، وتقديمها على العقل، وتقديمها على الموروث، وتقديمها على المألوف، فإنه يكون صحيح الاعتقاد، وإذا جمع من العلم ما استطاع، وقارن علمه العمل، ثم بعد ذلك سعى في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى والجهاد في سبيله، ثم سعى لإصلاح نفسه، وتهذيب أخلاقه، وترقيق قلبه، وتنوير بصيرته؛ فإنه يكون متكاملاً، ويكون على منهج السلف.

    1.   

    الشمولية والعموم في منهج السلف

    لكن المشكلة أن كثيراً من الناس اقترن عنده اسم السلف بالجانب العقدي فقط، لا يدري أن هذا السلف الصالح هم أئمة العلم في الدين، وهم أئمة العمل الصالح، وهم أئمة إصلاح القلوب وتهذيب النفوس، وهم أئمة الدعوة والجهاد، ظن أنهم أئمة الاعتقاد فقط، وهذا خطأ فاحش في فهم ما كانوا عليه، لذلك فإن منهجهم الخلقي الذي ذكرنا من أمثلته مثال عطاء بن أبي رباح في استدلاله بقول الله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [البقرة:83]، هذا المنهج الخلقي اعتنى به كثير من أئمة السلف الصالح وألفوا فيه، فتجدون مثلاً كتاب الزهد لـهناد بن السري وهو شيخ أبي داود و الترمذي ، وكتاب الزهد لـوكيع بن الجراح وهو شيخ أحمد بن حنبل ، وكتاب الزهد لـأسد السنة ، وكتاب الزهد والرقائق لـعبد الله بن المبارك ، وكذلك كتب ابن أبي الدنيا ككتاب الأهوال، وكتاب المحاسبة، وكتاب الأولياء، وكتاب المنامات، وكتاب الكرامات، وكتاب العيال، وغيرها من الكتب الكثيرة المتعلقة بهدي السلف الصالح في إقبالهم على الله تعالى ورقة قلوبهم وهدايتهم، وأنهم كانوا يلحظون ذلك في كل الأمور، وتجدون في هذا آثاراً عجيبةً عنهم من ترسمهم بالسنة واتباعهم لها، واجتهادهم في العمل الصالح، مع صحة ما كانوا عليه من الاعتقاد، تجدون أن طائفةً منهم خرجت غزاةً في سبيل الله، فلما وقفوا في وجه العدو امتنعوا عليهم ولم ينهزموا أمامهم، وكانت العادة عند المسلمين أنه إذا ارتفع التكبير وتقدمت الوجوه المشرقة التي تتسابق إلى جنة عرضها السموات والأرض، وتتهيأ للقاء الباري سبحانه وتعالى، وتأهبت نفسه لتقول: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84] وأنه لا تقف أمامهم قوة، بل تنهزم أمامهم جميع القوى، كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم. ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى رسول الله؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم. ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم ).

    1.   

    الاهتمام بالنفس وترك التعليلات

    فلما لم يفتح أمام هؤلاء رجعوا إلى أنفسهم وعرفوا أن العيب فيهم، ولم يرجعوا إلى التعليلات التي نجدها في عصرنا هذا، نجد في عصرنا المنهزمين يعللون بقوة الأعداء، ولا ينظرون إلى ضعف أنفسهم، إن ضعفنا سابق على قوة أعدائنا، لماذا تعلل بأن العدو يملك ويملك، ولديه من العدة والعدد دون أن تعلل بأنك أنت خواء من الإيمان ومن الالتزام بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن مؤهلات النصر التي لم يكتبها الله تعالى إلا لحزبه الغالبين؟ كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21]، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8]، لو تتصف أنت بمواصفات النصر فانهزمت فجعلت تنسب انهزامك إلى قوة العدو وغفلت عما أنت متصف به، هذا غير منهج السلف، السلف يرجعون إلى أنفسهم فيقولون: ما الذي حصل فينا؟ لذلك رجع هؤلاء إلى أنفسهم فوجدوا أنهم قد قصروا في سنة من السنن وهي السواك، فأمرهم الأمير أن يجمعوا السواك من الشجر وأن يستاكوا اتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فعلوا ذلك رآهم العدو فقالوا: إن هؤلاء يشحذون أسنانهم ليأكلوننا بها، فانهزموا أمامهم، ظنوا أن السواك إنما هو شحذ للأسنان حتى تتمكن من الأكل والعض.

    بالرجوع إلى الأنفس يتبين لنا كثير من النواقص التي هي سبب ما نراه من الانهزام، وما نراه من تسلط الأعداء.

    إذا رجعنا إلى أنفسنا وجدنا لدينا كثيراً من الخلل، وكثيراً من التقصير في كثير من الجوانب التي يكمل بعضها بعضاً، ونحن بحاجة إلى تكميل أنفسنا فيها، نجد أن جيوشنا اليوم التي تغزو أول ما يبدأ به في الغزو هو إخلاص النية لله تعالى؛ لأنه لا يمكن أن يكتب النصر الحقيقي الثابت عند الله تعالى إلا لمن كان مخلصاً له، ولذلك قال الله تعالى لأهل أحد: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ [آل عمران:152]، لا بد إذاً من إخلاص الجميع، إذا نظرنا إلى جيوشنا اليوم لا نجد هذا الإخلاص في أفرادهم، ولا نجد تحديد الهدف: لماذا كنا جيشاً؟ وجيش من نحن؟ وأي فكرة نحمل؟ وعلى أي شيء نجاهد؟ وعلى أي شيء نموت؟ هل نرتسم في أنفسنا أن نقول: لا إله إلا الله عليها نحيا وعليها نموت وفي سبيلها نجاهد وعليها نلقى الله؟ المشكلة أن كثيراً من جيوشنا لا تسلك هذا النهج ولا تدركه.

    وكذلك إذا كان هؤلاء منعوا النصر بسبب ترك سنة فقط، فكيف بمن يتركون الفرائض أو يقعون في المناكر والمحرمات؟ إذاً لا بد لتحقيق النصر من كثير من الأسباب التي أخذ بها السلف الصالح فنجحوا، وضيعناها نحن، فحصل فينا ما حصل، هذا المنهج الذي هم عليه كانوا فيه على بصيرة وعلى بينة، يزنون بالقسط، ويرجعون إلى النصوص، يقفون عند الوحي، لا يهتمون كثيراً بكثير من الفلسفات والتعقيد والتعليل، ولا يقتنعون بذلك، لذلك تجدون أن عبد الله بن عبد الحكم بن أعين ، وهو من أكبر أصحاب مالك رحمه الله تعالى حين جاء الشافعي إلى مصر دعا ابنه محمداً ، فقال: يا بني! اصحب هذا الرجل -يقصد الشافعي - فما بينك وبين أن يضحك الناس منك إلا أن تخرج من مصر فتقول: قال ابن القاسم ، فيقول محمد : فخرجت إلى بغداد فسئلت عن مسألة فقلت: قال فيها ابن القاسم : كذا، فقال الناس: ومن ابن القاسم ؟ فقلت: فقيه كان عندنا بمصر، فضحك الناس.

    1.   

    التمسك بالدليل والبعد عن التقليد

    كانوا يسألون عن الدليل، ولا يسألون عن التعليل ولا عن الأشخاص الذين قالوا بهذا، نجد هذا واضحاً في حياتهم كلها، إذا قرأت في موطأ مالك رحمه الله تعالى وهو أقدم كتاب لدى المسلمين بعد كتاب الله، لا يوجد لدى المسلمين كتاب مؤلف أقدم من هذا الكتاب، إذا قرأت فيه تجده يمثل حياة جيل بكامله، ولذلك قال مالك : إنه يختم الباب دائماً بحديث ابن شهاب ليكون نوراً على ما قبله، حديث ابن شهاب يجعله في آخر الباب حتى يكون نوراً على ما سبق، وافتتح مالك موطأه بحديث ابن شهاب ، أول حديث فيه هو قوله: حدثنا الزهري : ( أن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة يوماً، فدخل عليه عروة بن الزبير فقال: ما هذا يا عمر ؟ أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر : اعرف ما تقول يا عروة وإن جبريل هو الذي أقت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الصلاة )، فقال: كذلك كان بشير بن أبي مسعود البدري يحدث عن أبيه، فهذا الحديث افتتح به مالك موطأه؛ وذلك ليكون نوراً على ما وراءه، نجده يقول: والذي عليه أهل العلم ببلدنا كذا، والأمر المجمع عليه عندنا كذا، يعيد الأمور إلى نصابها، ولا تجدون فيه تلك التعليلات التي سلكها المتأخرون، تقرأ كتاباً كبيراً لا تجد فيه دليل لحكم شرعي، فكأن الشرع إنما جاء فقط من أفهام الرجال، تجده يعلل لكل مسألة تعليلاً، وإن كان معقولاً قوياً إلا أنه ليس وحياً، ونور الوحي لا يمكن أن تقوى أمامه تلك التعليلات العقلية؛ لأن منهج السلف كما ذكرنا هو بداية تسليم للوحي، وخضوع العقل لحكم الوحي.

    1.   

    رجوع السلف إلى الوحي في الاستدلال

    كذلك نجد أن هؤلاء السابقين رحمهم الله تعالى في مجال الاستدلال للاعتقاد إنما يبحثون في الرجوع إلى الوحي، أخرج مسلم في الصحيح في كتاب الإيمان من حديث يحيى بن يعمر في قصة القول بالقدر: أن قوماً من أهل البصرة يزعمون أن الأمر أنف، فخرج اثنان من رجال أهل البصرة إلى مكة وقالوا: لو قيض لنا أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألناه، فوفق لنا عبد الله بن عمر فاكتنفته أنا وصاحبي، فأخذت بيده فظننت أن صاحبي سيكل إلي الكلام فقلت: يا أبا عبد الرحمن ! إنه ظهر قبلنا طائفة يزعمون أن الأمر أنف، فقال: إذا رجعت إلى هؤلاء فأخبرهم أني منهم بريء، وأنهم مني برآء، حدثنا عمر بن الخطاب -وهو أبوه- قال: ( بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ دخل علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي الله صلى الله عليه وسلم )، لم يعدل ابن عمر هنا إلى الأدلة العقلية في إثبات القدر، إنما ذهب إلى النص؛ لأن معه الوحي الذي يجب التسليم له على كل المسلمين كما شرط الله ذلك عليهم: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].

    كذلك نجد هذه الفلسفات التي نشأت، والتي عقدت الأمور وزادتها بعداً عن نور الوحي تزيد ظلمةً في القلوب، ولذلك قال الشافعي : من أراد أن يخرب قلبه كما تخرب الفأرة البيت فليقرأ علم الكلام، فعلم الكلام يطفئ نور القلب، ويحدث فيه صدأً وظلمة، ولذلك كان مالك رحمه الله إذا أتاه رجل من أهل الكلام يريد مناظرته في العقل يقول: أما أنا فعلى بينة من أمري، وأنت شاك فاذهب إلى شاك مثلك فجادله.

    وقد أفتى مالك رحمه الله تعالى: أنه لا يجوز الجلوس معهم، واستدل لذلك بقول الله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68]، قال: إن هؤلاء يخوضون في آيات الله، فمنع من الجلوس معهم والتحدث إليهم، وأنتم تجدون هذه القسوة واضحةً بارزةً إذا رجع الشخص إلى عقله ووكل إلى نفسه، وجعل يضرب أخماساً لأسداس في مجال الاعتقاد، وعدل عن متابعة النصوص؛ ستجدونه مظلم القلب مظلم الوجه، مشغولاً بأمور لا أول لها ولا آخر، ولذلك يقول الفخر الرازي رحمه الله تعالى بعد أن خاض عمره كله في علم الكلام، ثم منّ الله عليه بالتوبة في أخريات عمره، فقال في ذلك:

    نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال

    وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذىً ووبال

    ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى جمعنا فيه قيل وقال

    1.   

    اختلال منهجية الاعتقاد عند المتأخرين

    تجد الرجل المتخصص في مجال يسميه العقيدة، أو علم الكلام، ولكنه قل ما تأتي مسألة واحدة إلا قال فيها خمسة أقوال أو ثلاثة أقوال، أو المسألة فيها أربعة أقوال، ليس هذا اعتقاد المسلمين؛ لأن اعتقاد المسلمين لا يمكن أن يكون فيه خلاف، اعتقاد المسلمين وحي ولا يوكل إلى تحسينات العقول؛ لذلك تجدون الخلافات التي قد تصل في بعض الأحيان إلى سبعة أقوال، مثلاً الخلاف في أول واجب على المكلف تجدون المتكلمين يذكرون فيها سبعة أقوال، الخلاف في حكم التقليد في الاعتقاد تجدون للمتكلمين فيها سبعة أقوال، ينسبون فيها ثلاثة أقوال لـأبي الحسن الأشعري وحده، و أبو الحسن بريء من هذه الأقوال كلها، وكذبها في كتابه مقالات الإسلاميين، تجدون كثيراً من النقول التي تنقل عن هؤلاء الأمة ولا تجدها في شيء من كتبهم، ولذلك تجدون بعض المتأخرين من المدققين ينكرون نسبتها إليهم، مثلاً في هذا الجانب الذي كنا نتكلم فيه في جانب التقليد يقول السيوطي مثلاً في الكوكب الساطع يقول:

    لكن أبو هاشم لم يعتبر إيمانه وقد عزي للأشعري

    قال القشيري عليه: مفترى، أي: أن نسبة هذا القول إلى أبي الحسن الأشعري افتراء.

    1.   

    أخذ السلف بالدليل وأخذ المتأخرين بالتقليد

    كذلك تجد الشخص من المتأخرين الذين عدل كثير منهم عن منهج السلف في الاعتقاد والعمل، يأخذ بالتقليد في كل الأمور حتى في معرض النص، يأتيه نص من الوحي آمر بعمل معين، ولو وجد في حاشية من الحواشي على بعض الشروح أو على بعض المختصرات التي هي مختصرات لبعض المتون ذلك الحكم لتمسك به، وعظ عليه بالنواجذ، ولكنه يجده في الموطأ عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر فلا يأخذ به، أي ميزان هذا؟ وأنتم هنا تستحضرون قول يحيى بن بكير رحمه الله تعالى وهو تلميذ مالك لـأبي زرعة الرازي وهو إمام من أئمة الحديث، قال له: يا أبا زرعة ! إن هذا ليس زعزعةً عن زوبعة، هذا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، ما بينك وبين أن ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ترفع الستر فتراه، ليس هذا زعزعةً عن زوبعة، مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، ومع ذلك لا تجد القناعة تحصل بهذه الأسانيد التي وثقتها الأمة وأجمعت عليها، تجد كثيراً من الناس يقتنعون بأن أصح كتاب بعد كتاب الله كتاب الجعفي محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري ، ويليه كتاب مسلم بن الحجاج القشيري صحيح مسلم ، ولكنهم مع ذلك طول أعمارهم لا يلتفتون إلى هذين الكتابين، ولا يبحثون عنهما، يبحثون عن حواشي بعض المتأخرين الذين عاشوا في القرن الثاني عشر الهجري، والتي ليس فيها شيء من الوحي إلا النادر، والمشكلة هنا هي الانفصام الذي نجده لدى كثير من فقهائنا حين نجد بعضهم إذا ألف في مجال الحديث بارعاً متقناً، لكن إذا ألف في مجال الفقه ينقيه من الحديث يسله منه سل الشعرة من العجين، لا نجد لذلك العلم الذي في صدره أثراً على فقهه، وهذا من العجب العجيب، لدينا اليوم بعض الحواشي لبعض المتأخرين الذين لديهم كتب مؤلفة في مجال الحديث، ولكن حواشيهم لا تجد فيها حديثاً واحداً ولا دليلاً واحداً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ينور هذا.

    وقد سئل إبراهيم الحربي رحمه الله تعالى -وهو تلميذ الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله- عن سبب تنوير أهل الحديث الذين أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن نورهم فيما تواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( نظر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها )، من أين لهم هذه النضرة في وجوههم؟ فقال: من كثرة صلاتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، في المجلس الواحد يتكرر ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة، وفي كل مرة يصلون عليه صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    تأثير الفلسفة على منهجية المتأخرين

    كذلك نجد أن هؤلاء المتأخرين الذين انغمسوا في ظلام الفلسفات عندما سادت هذه الحضارات المترجمة أثرت على الصفاء الذي كان لديهم، فانعكست موازينهم، ونجد هذا حتى عند المتأخرين في بلادنا هذه، فنجد رجلاً من أهل هذه البلاد موصوف بالعلم والعدالة خرج فجمع كثيراً من العلوم، فلما رجع إلى هذه البلاد وكان في سن صغيرة لم يكن يتجاوز الثلاثين من عمره، ولم يعش إلا ثلاثاً وثلاثين سنة، وهو المشهور بـالمجيدري بن حب الله ، هذا الرجل لما أتى متحرراً من كثير من التقاليد راجعاً إلى النصوص في كثير من الأمور وبالأخص في جانب الاعتقاد حمل الناس عليه وشنوا عليه حملةً شعواء، وزعموا أنه مبتدع، وفي ذلك يقول هو: لو كنت بدعياً لما كان الصواب عندي الأحاديث الصحاح والكتاب، ليس هذا عمل المبتدعة، ومع ذلك فإن أهل هذه البلاد قديماً قد منّ الله تعالى عليهم في العصور الأولى بكثير من صفاء الاعتقاد، حيث قامت دولة المرابطين هنا وكانت دولة جهاد وقوة، وسلكت منهج السلف في كثير من الأمور؛ فلذلك أقام الناس على هذا المذهب زماناً طويلاً حتى إنه عند سقوط دولة المرابطين في المغرب على أيدي الموحدين الذين يسمون أنفسهم بالموحدين وهم أتوا بعلم الكلام وأدخلوه، وهو التوحيد الذي يزعمون، لم يصل ذلك إلى هذه البلاد، ولم يتقو الموحدون على دخولها، بل أقامت على ما كان عليه المرابطون، إلى أن دخلها بعض العلماء البارعين في مختلف العلوم من المتكلمين فأدخلوا إليها ما أتوا به ومنهم: الشيخ سيدي أحمد المغيلي رحمه الله تعالى الذي جاء من الجزائر، والشيخ عبد الرحمن السيوطي رحمه الله تعالى الذي جاء من مصر، وقد دخل هنا حتى وصل إلى ولاة، وذكر ذلك في كتابه الحاوي في الفتاوي فذكر فيه رسالةً من رجل صنهاجي أرسلها إليه من الحوض الغربي هنا من هذه البلاد، وصلت إلى السيوطي في مصر فنقلها في كتابه وهي مطبوعة فيه اليوم، وفيها حديث عن حال أهل هذه البلاد وما يلتزمونه من الالتزام بكتاب الله وصحيح البخاري والموطأ وغير ذلك من الكتب التي هي أصول، فلما جاء هؤلاء تغيرت النظرة؛ لأن الناس تبع للموضات ولما هو منتشر، ولقوة الشخصيات العلمية.

    1.   

    الإلغاز في العقائد عند المتأخرين

    وقد برز بعض الشخصيات العلمية التي برزت في علوم مختلفة، وكانت تركز جهة علم الكلام؛ فلذلك أصبحت ذات أثر بالغ في هذه البلاد، وتذكرون ما حصل من الخلاف بين المجيدري وطلابه الذين منهم: المأمون ، و اليعقوب بن عبد الله المجاور ، و مولود بن أحمد الجواد ، ومع الشيخ المختار بن بونا رحمه الله تعالى، وبعض طلابه أيضاً، فتذكرون أن المختار مثلاً يلغز بقصيدته المشهورة التي يخاطب فيها مولوداً ويقول فيها:

    أحاجيك هذا النور قل ما وجوده بقلب الذي يتلوه ويقرأ بالفم

    أينمى لما ينمى له وهو قائم بذات العلي الواحد المتكلم

    أتجعله إذ ذاك وصفاً محله ذوات الورع أم ذو الجلال المعظم

    أيجعل مقسوماً إلى الخبر الذي تضمن والإنشاء أم لم يقسم

    كسائر أوصاف العزيز الذي علا علواً كبيراً جل عن كل موهم

    إلى آخره، هذه القصيدة كلها من علم الكلام وكلها ألغاز، حتى أن المختار يقول في آخرها:

    عنيدي إن حاجيته وأجبته ولم يدر لماذا أقول ويفهم

    فماذا عسى يوماً يناظرني به ويجعل أهلاً أن يكون مكلم

    لا تفرقوا فيها بين اللغز والجواب، ومع ذلك يزعم كثير من الناس في ذلك العصر أنها الاعتقاد، الاعتقاد الذي لا يكاد كبار العلماء يميزون فيه بين اللغز والجواب، في اللغز والجواب لا يفصلون بينهما، هل هذا هو الاعتقاد الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ورسخه في نفوس الناس؟ هذه فلسفة تبعها الناس وتوسعوا فيها، فكانت سبباً من الأسباب الحائلة دون إمساكهم بالنصوص، واتباعهم لمنهج السلف الصالح بما يتعلق بالاعتقاد، وكذلك إيغالهم في الروحانيات وفي العمليات، كثير من الناس بالغ في مجال التعبد والرقائق حتى وصل إلى مخالطة الجن والعزلة والخلوة التي تقتضي منه الترويع وأن يدخل الجن عليه بصورة رأس حمار مثلاً أو غير ذلك؛ سبب ذلك الإيغال في جانب من جوانب الخير، والحامل عليه إنما هو حب الخير ولكنه لم يأت الباب من مأتاه الحقيقي، كذلك نجد آخرين يوغلون في طلب العلم، ويتبعون كل الجزئيات حتى كل ما كتب ويزعم كثير منهم أن كل كتاب نقل ينبغي أن لا يكون الشخص طالب علم حتى يحيط به ويقرأه، وكثير من الكتب أصبحت مسلمةً لديهم كل ما فيها مأخوذ به مع أنهم يعلمون أن المجتهدين يقولون كما قال مالك رحمه الله تعالى: ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر. كل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم، وهم مع هذا يعلمون أن الشيعة وجه ضلالهم أنهم يعتقدون العصمة لأئمتهم، هذا أعظم شيء في اعتقاد الشيعة، وأهل السنة جميعاً سواءً كانوا أهل حديث أو متكلمين أو فقهاء يردون عليهم في هذا، وهم جميعاً يجمعون على أن الاعتقاد الصحيح معتقد أهل السنة والجماعة أنه لا معصوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة، فكل الناس يؤخذ من قوله ويرد، لديه صواب ولديه خطأ، ولكن علينا أن نأخذ منهج السلف في التقويم، وأن لا يطغى علينا الانفعال حتى نتبرأ من الأشخاص بسبب بعض الأخطاء التي وقعوا فيها عن اجتهاد عذروا فيه شرعاً، فالمتكلمون الذين ذكرناهم، والمتصوفون الذين ذكرناهم، وبعض طلاب العلم الذين ذكرناهم كل هؤلاء فقهاء، وكل هؤلاء ما أوغلوا فيما أوغلوا فيه إلا طلباً للحق، واجتهاداً منهم، وسعياً فيما يقرب من الله ويؤدي إلى الطريق الصحيح، هذا في أغلبهم، ونحن لا ننكر أن بعضهم قد يدخل عن سوء نية لكن جمهورهم وأكثرهم إن شاء الله كانوا إنما فعلوا ذلك عن تسليمية، وعن إخلاص لله تعالى، ولكنه حصل الخطأ منهم مصداقاً لما وعد به الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي قال: ( قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر )، تعرف وتنكر، هنا لم يأمرك أن تنكر الجميع، ولا أن تعرف الجميع، بل أمرك أن تعرف وتنكر، تعرف المعروف وتنكر المنكر، ولا تأخذ الجميع بحذافيره، لا تأخذ طريقة ملأٍ من هؤلاء على أنها الصواب مائةً بالمائة، بل اعلم أنك ستأخذ منها وتنكر، تأخذ صواباً وترد باطلاً.

    1.   

    عقبات السلوك على منهج السلف

    هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا سلك سلفنا الصالح، ونحن اليوم مطالبون أن نسلك آثارهم، وأن نقتدي بها، ولكننا نجد عقبات في سبيل ذلك، ومن هذه العقبات عقبات لدى الشيوخ وعقبات لدى الشباب، أما العقبات التي يجدها الشيوخ فهي أنهم أدركوا قوماً رضوا عنهم ديناً ومروءةً والتزاماً وأخلاقاً، ولم يجدوهم يتفحصون هذا الفحص، ولا يتسنمون هذا الطريق، ولذلك يجعلون هذا حجةً على الشباب إذا طالبوا بالرجوع إلى الوحي، أو سعوا من أجل تعلم هدي السلف ومنهجهم في الاعتقاد أو في العمل أو في الأخلاق، والواقع أن هذه الشبهة تحتاج إلى تذكير بسيط وهو: أن أولئك الأجداد والآباء الذين رضين عنهم من ناحية الدين والخلق والأمانة والعبادة، ونعلم أننا لن ندركهم هل كانت حياتهم مثل حياتنا؟ بالرجوع إلى المقارنة نجد أن الأخلاق قد تغيرت، وأن الآداب قد تغيرت، وأن الديانة قد تغيرت، وأن أولئك لم يكونوا يأكلون الربا ويعيشون عليه ولا ينجون منه، ولم يكونوا يشاركون في رفع راية الظلم والعناد وتقليص راية الحق، ولم يكونوا أبداً يشاركون في فشو الأخلاق السيئة، ولم يكونوا يروجون المخدرات، ولم يكونوا ينشرون الظلم بين الناس، وكان أولادهم مؤدبين على ذلك الأدب من التعلم والعمل، وكانت بناتهم أيضاً ملتزمةً بما كانت عليه من الحشمة على حسب الحال.

    أما نحن اليوم فنجد أن هذه الأمور كلها قد اختلت فينا، فنجد بنات المسلمين يسافرن المسافات الشاسعة من أجل التجارة إلى أوروبا، يذهبن إلى لاس بالماس، نجد التزوير في كل أمور المسلمين، نجد أن كثيراً من الناس يعيشون بالربا الذي يؤدي إلى حرب الله، ويمنع من استجابة الدعاء، الربا مشكلته أمران:

    أحدهما: أنه يمنع من استجابة الدعاء، وهذا يشترك معه فيه عدم الدعوة إلى الله، فمن أعرض عن الدعوة إلى الله تعالى لا يستجاب دعاؤه، ومن أكل الربا لا يستجاب دعاؤه، ودليل هذين الأمرين ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: ( أنه ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟! )، هذا آكل الربا.

    ودليل الأمر الثاني: حديث أبي بكر : ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ثم يدعونه فلا يستجاب له ).

    إذاً ترك الدعوة وأكل الربا مانع من استجابة الدعاء، كذلك الربا مقتض لحرب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279].

    كذلك إذا قارنا حياتنا في معاشنا ودنيانا بحياة ذلك الرعيل الذي سلف نجد البون شاسعاً بين حياتنا وحياتهم، هل فينا من يرضى اليوم أن يعيش فيما كان يعيش فيه أجداده قبل مائة سنة؟ وهل يستطيع أن يعيش سواءً من ناحية المياه مثلاً الآن كثير من الناس ما زالوا متعودين على التيمم بالحجارة في المساجد، مع أننا اليوم نعيش في هذه المباني الدافئة، ولدينا المياه المتوفرة، ونحن على شاطئ المحيط، ونستدل بعمل الأجداد الذين كانوا يعيشون في أعماق الصحراء، ولا يجدون الماء إلا إذا حفروا القامات الطويلة في الأرض ذات الحجارة القاسية.

    والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767962709