إسلام ويب

نصرة الإسلام الوسائل والغايات [1]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أراد الله بحكمته البالغة أن يجعل الحياة الدنيا امتحاناً للناس وابتلاءً لهم، ثم جعل الناس فيها على حزبين: حزب الله وحزب الشيطان، ومن ثم فقد أوجب على حزبه دعوة غيرهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ولما كانت وسائل الدعوة غير توقيفية فإن وسائلها لا تحصى كثرة، والقول بأنها توقيفية غير سديد

    1.   

    الحكمة من إيجاد الحياة الدنيا

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، وعلى من اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن لله الحجة البالغة على عباده جل شأنه، وإنه جل وعلا يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة؛ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء:23]، وقد أراد بحكمته البالغة أن يجعل الموت والحياة امتحاناً للناس وابتلاءً لهم؛ فجعل هذه الدار دار عمل ولا جزاء، وجعل بعدها الدار الآخرة دار جزاء ولا عمل، وجعل هذه الدنيا مسرحاً للصراع بين الحق والباطل، ولو شاء ما خلق إبليس وما خلق الشر كله، ولو شاء لما كفر به أحد من خلقه، فالبشر لا يمثلون من خلق الله إلا نسبة ضئيلة يسيرة، وما أهون الأرض وأهلها إذا عصوه وكفروا به، فالأرض ومن عليها لا تساوي شيئاً من ملكوت الله جل جلاله.

    ولذلك أخرج مسلم في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله قيوم لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه، يرفع إليه أمر الليل قبل النهار، وأمر النهار قبل الليل، حجابه النور )، وفي رواية: ( حجابه النار لو كشف الحجاب عن وجهه لحظة لأحرقت سبحات وجهه ما وصل إليه بصره من خلقه )، فلذلك لو شاء الله لآمن كل من في الأرض، ولو شاء لجعل الناس كالدواب والشجر وغيرها من الخلائق التي هي مفطورة على أصل الدين.

    فالله تعالى يقول في سورة الحج: أَلَمْ تَرَ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ[الحج:18]، وهذه الآية صريحة في أن الأصناف الأخرى غير الإنس والجن كلها موحدة وكلها ساجدة عابدة لله ليس فيها هذا الصراع الذي وجد في الإنس والجن، وهذا يدل على حكمة الله البالغة؛ فلو شاء لجعل الناس جميعاً كما سبق من الأصناف المسخرين للعبادة والطاعة ولكنه أراد بحكمته البالغة أن يجعل هذه الدنيا مسرحاً للحق والباطل يتصارعان فيها، وله في ذلك حكمه التي لا تحصى.

    ولذلك قال جل من قائل: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ[يونس:99-100]، وقال تعالى في الآيات التي سمعتم من سورة محمد: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ[محمد:4]، فهذا امتحان وابتلاء في هذه الدار فقد خلق الله إبليس للشر وحكمة الله في خلقه هي الإغواء والشر، وخلق حزب الشيطان ذرأهم للنار؛ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ[الأعراف:179]، خلقهم الله ليكفروا به وليعصوه، وله الحكمة البالغة في ذلك.

    إذا عرفنا هذا عرفنا أن هذه الدار ليست دار قرار، وإنما هي دار امتحان وعمل، وأنها بنيت على سنن من عند الله سبحانه وتعالى ماضية، ومن هذه السنن سنة التدافع بين الحق والباطل، وهذه السنة لا يمكن أن تتوقف لحظة، فلو توقفت لحظة لفسدت الأرض لو توقفت سنة الدفع فتمحض الحق على الأرض ولم يبق للباطل وجود لاستحق أهل الحق أن ينقلوا إلى الجنة لأنهم نجحوا في الامتحان والجنة هي دار الجزاء، ولو تمحض الباطل على الأرض فلم يبق للحق وجود ولم يبق منكر لهذا الباطل ولا راد له فإن أهل الأرض حينئذ لابد أن يحل عليهم سخط الله، ( إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله )، وذلك حين لا يبقى على الأرض من يقول الله.

    سنة التدافع في الأرض

    ولهذا بين الله أهمية هذه السنة للأرض وما عليها؛ فقال تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ[البقرة:251]، لولا هذه السنة لفسدت الأرض، وهذه السنة تقوم على الصراع بين حزب الله وحزب الشيطان، فحزب الله هم أهل الهداية الذين خلقهم الله ليكرمهم خلقهم لجنته كما قال تعالى: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ[هود:118-119]، وبين حزب الشيطان الذين خلقهم الله لناره ومعصيته ومخالفته؛ فهم مفطورون على ذلك، واللوائح منزلة من عند الله؛ فلان ابن فلان مستغل في حزب الله لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه، وفلان بن فلان مستغل في حزب الشيطان لإغواء الناس والصرف والصد عن سبيل الله، ولا يستطيع الإنسان التدخل في هذه اللوائح فليست على أساس مستوى الإنسان الثقافي ولا مستواه العلمي ولا مستواه الاجتماعي ولا مستواه الاقتصادي، بل هو اختيار من عند الله ولذلك قال الله تعالى: اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ[الأنعام:124]، فلذلك لا معقب لحكمه جل جلاله.

    وقد ذكر أهل العلم أن أول من يأخذ كتابه بيمينه يوم القيامة أبو سلمة بن عبد الأسد وأن أول من يأخذ كتابه بشماله يوم القيامة شقيقه الأسود بن عبد الأسد خرجا من بطن واحدة، لكن أحدهما سجله الله في حزب الله واختاره لأن يكون من ناصري كلمة الله، والآخر سجله الله في حزب الشيطان وخذله فكان من ناصري دعوة الشيطان والساعين لتحقيق يمينه؛ فحزب الله يسعون لهداية الناس إلى الله، يسعون لتمهيد الطريق أمام الناس ليعرفوا ربهم وليعبدوه ولأن لا يشركوا به شيئاً وليفوا له ببيعته معهم، وعهده المؤكد في أعناقهم الذي أخذه في عالم الذر عندما مسح بيمينه ظهر آدم فأخرج منه ذرية فقال آدم : أي ربي! من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره أخرى فأخرج منه ذرية فقال آدم : أي ربي! من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للنار وبعمل أهل النار يعملون، ثم خلطهم حتى ما يتميزون فناداهم فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، قالها مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم كلهم جميعاً أقروا بذلك، قالوا: بلى، شهدنا؛ فأقام الله عليهم الحجة وأخذ عليهم العهد أن يعبدوه وأن لا يعبدوا الشيطان قال الله تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ[يس:60-61].

    لكن علم الله بحكمته البالغة أن حزب الشيطان يسعون لتحقيق يمين إبليس بإغواء الناس وقد أقسم بعزة الله ليغوين أكثر الناس عن سبيل الله؛ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ[ص:82-83]، وقد أخبرنا الله أن هذه اليمين صدقت على أكثر الناس، قال: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ المُؤْمِنِينَ[سبأ:20]، (إلا فريقاً من المؤمنين) و (من) هنا بيانية أي: هذا الفريق هم المؤمنون، وقيل: (من) تبعيضية، فبعض المؤمنين أيضاً اتبعوا إبليس بالفسق فهم مع ذلك بإيمانهم لا يخرجون من أصل الإيمان، ولكن بفسقهم دخلوا في حزب الشيطان، فـ(من) فيها خلاف هل هي بيانية أو تبعيضية.

    استمرار الصراع بين الحق والباطل

    وبهذا يعلم أن هذا الصراع موجود مستمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها فما من إنسان ترونه على وجه الأرض إلا وهو من حزب الله أو من حزب الشيطان، على كل إنسان أن يبحث عن نفسه ما محله من الإعراب وما موقعه وفي أي الحزبين سجل ومن أي الحزبين هو؟ وما العمل الذي ينبغي أن يقوم به لتحقيق انتمائه للحزب الذي هو منه؟ فهذا من واجبات الإنسان، والإنسان إذا عرف أنه من حزب الله واختار طريق الهداية فإن ذلك يقتضي منه عملاً ونصرة لدين الله وإعلاءً لكلمته ووفاء ببيعة مؤكدة أكدها الله بالتوراة والإنجيل والقرآن؛ إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[التوبة:111].

    1.   

    فضل الدعوة إلى الله

    وقد شرع الله تعالى لأوليائه وحزبه أن يدعوا إلى سبيله وأن يهدوا الناس إلى طريقه ومنهجه، وهذه الدعوة هي صفة الله جل جلاله فقد وصف الله بها نفسه فقال تعالى: وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[يونس:25]، وقال تعالى: وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ[البقرة:221]، وهي كذلك صفة محمد صلى الله عليه وسلم فقد قال الله تعالى: وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا[الأحزاب:46]، وقد أمره الله بها بقوله: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ[القصص:87]، وبقوله: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل:125]، وقد أمره أن يخبر عن نفسه وعن أتباعه بأن الدعوة سبيلهم فقال: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ[يوسف:108].

    وقد أخبر الله تعالى أن هذه الدعوة هي أربى الأقوال عند الله فقد قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ[فصلت:33]، ومعنى ذلك: لا أحد أحسن قولاً ممن دعا إلى الله، وعمل صالحاً، وقال: إنني من المسلمين، فإذا كان الحال كذلك فإن علينا أن نعلم أن هذه الدعوة هي سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وأن كل من لم يشارك فيها فليس من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، لأن الله تعالى يقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي[يوسف:108]، فكل من زعم أنه من أتباعه ولم يدع إلى ما دعا إليه فهو كاذب كذبه الله في كتابه بنص القرآن، فلابد أن يكون لكل إنسان منا مشاركة ومساهمة في إعلاء كلمة الله ونصرة دينه والسعي للتمكين لهذا الدين في الأرض.

    المطلوب من الداعية

    ونحن نعلم أن الله غني عنا وعن جهودنا، وأنه لا يحتاج إلى الأنصار، وأنه لو شاء لانتقم من أعدائه بطرفة عين، ولو شاء لما خلقهم أصلاً، لكن الامتحان لنا إنما هو ببذل العمل، أما النتائج فهي إلى الله من القدر، والتكليف بالشرع لا بالقدر؛ فالشرع أوجب الله فيه علينا الدعوة والقدر كتب الله فيه من يهتدي ومن لا يهتدي، شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ[هود:105-108]، فلذلك كلفنا بالشرع الذي يقتضي منا بذل الجهود؛ ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ[المائدة:23]، ولم نكلف بالنتائج: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ[القصص:56]، فهداية التوفيق هي من عند الله وبيده وحده لا يقدر عليها المخلوقون، وهداية الإرشاد هي التي يستطيع المخلوقون إقامة الحجة بها، وإنارة المحجة بها.

    ولذلك أثبت الله القدرة عليها لمحمد صلى الله عليه وسلم بقوله: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[الشورى:52]، ولاحظوا الفرق بين الهدايتين؛ إحداهما نفيت عنه القدرة عليها؛ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ[القصص:56]، وهذه هداية التوفيق، والأخرى أثبتت له القدرة وهي هداية الإرشاد: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ[الشورى:52-53]، وهداية الإرشاد هي التي أثبت الله لثمود فقال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى[فصلت:17]، وهداية التوفيق هي التي تسألونها في صلاتكم ويسألها الشيخ لنا جميعاً في الصلاة عندما يقرأ قول الله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ[الفاتحة:6]، فهذه هداية التوفيق لا هداية إرشاد، فهداية الإرشاد قد حصلت: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا[المائدة:3].

    الحوافز المغرية بالدعوة إلى الله

    إذا عرفنا هذا عرفنا أننا جميعاً موظفون عند الله في ديوان الخدمة لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه وأن الله قد دعانا لنصرة هذا الدين ونصرة هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وحفزنا إلى ذلك بأنواع الحوافز المغرية فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[التوبة:38-39]، وهذا الحافز هو أبلغ الحوافز للموظفين إذا قيل للموظف: إذا لم تؤد عملك على أحسن الوجوه فسنعزلك ونأتي بمن هو خير منك فيؤدي العمل على أحسن الوجوه، وقد جاء ذلك في القرآن في أربعة مواضع فقد قال الله تعال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ[المائدة:54].

    والموضع الثاني في سورة التوبة وهو هذا الموضع وهو قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[التوبة:39-39].

    والموضع الثالث هو ما سمعتم في سورة محمد: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ[محمد:38]، وقد جيء بهذا الحافز في هذه الآية مربوطاً بأمرين عظيمين:

    الأمر الأول: أن من قصر وبخل فإنما يبخل عن نفسه؛ لأن هذه الدنيا هي تجارة، ( كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها، والله يحصي الأعمال لعباده، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه )، فقد مكننا الله في أنواع النعم وأقام علينا الحجة وأنار لنا المحجة في هذه الحياة الدنيا، وبين لنا أنها ليست دار قرار وإنما هي دار عمل نتزود منها للدار الآخرة، ( ما لي وما للدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة )، ليس فيها لنا قرار؛ فهي حال سيال، وبقاء الحال من المحال؛ فلذلك لابد من التزود منها للدار الآخرة، وقد قال الأعشى حين سمع خطبة لرسول صلى الله عليه وسلم :

    أجدك لم تسمع وصاة محمد رسول الإله حين أوصى وأشهدا

    إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

    ندمت على أن لا تكون كمثله فترصد للموت الذي كان أرصدا

    فنحن منتقلون إلى الله سبحانه وتعالى، كل إنسان يأتي يحمل طائره في عنقه ويقال له: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا[الإسراء:14]؛ فيقرأ بأعلى صوته ما في كتابه من الخير والشر، ويوضع الميزان بين يديه له كفتان ولسان؛ فكفة للحسنات وكفة للسيئات، فمن رجحت كفة حسناته نجا ومن رجحت كفة سيئاته هلك، فإذا كان الأمر كذلك فعلينا أن نتزود من هذه الدار للدار الآخرة؛ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ[محمد:38].

    ثم الأمر الثاني هو قوله: وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ[محمد:38]، الله الغني، لا يحتاج إلى عبادة جبريل ولا إسرافيل ولا ميكائيل ولا محمد صلى الله عليه وسلم ولو شاء ما خلقهم؛ فكيف بمن دونهم من عباده وخلائقه! لا يبلغه عباده بنفع ولا بضر: ( يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ).

    ثم جاء الحافز الثالث: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ[محمد:38].

    أما الموضع الرابع فهو في قصص السالفين السابقين من الأنبياء المرسلين في سورة الأنعام فقد قص الله علينا قصصهم ثم قال بعد ذلك: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ[الأنعام:89]، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ[الأنعام:90]، فعند الله من العباد من خلقهم ليكرمهم، فهم في الدنيا في كرامة الله وفي الآخرة في دار النعيم، خلقوا ليكرموا فهم من نعمة إلى جنة، هؤلاء العباد خلق كثير؛ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ[الأنعام:89]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أطت السماء وحق لها أن تئط، فما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك لله فيه ساجد أو راكع ).

    وذكر في حديث المعراج أنه لما أتى البيت المعمور إذا إبراهيم مسند ظهره إلى البيت المعمور وإذا هو كل يوم يدخله سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون إليه، كل يوم يدخله سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون إليه، وذكر في حديث المحشر أن جهنم يؤتى بها - أجارني الله وإياكم - تقاد بسبعين ألف زمام في كل زمام سبعون ألف ملك، أي: أربعة مليارات وتسعمائة مليون من الملائكة الكرام يجرون جهنم جراً، وكل واحد من البشر معه واحد وعشرون من الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، كل واحد من البشر معه واحد وعشرون من الملائكة، منهم صاحب اليمين الذي يكتب الحسنات، وصاحب الشمال الذي يكتب السيئات والقرين الذي يلم بقلبه، وملائكة الجوارح؛ كل جارحة عليها ملك، والمعقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله، والملائكة الذين يتعاقبون بالليل وبالنهار يجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر، ومجموع ذلك واحد وعشرون ملكاً.

    إذا عرفنا كثرة عباد الله سوانا وعرفنا أن عبادتنا لا تساوي شيئاً من عبادتهم؛ فالملائكة عبادتهم دائمة قارة، الراكع منهم راكع دائماً، والساجد ساجد دائماً، والمسبح مسبح دائماً، وهكذا فهم في عبادة دائمة؛ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ[الأنبياء:20]، ولله خلائق أخرى لا نحيط بها علماً؛ فإذا عرفنا ذلك كان لزاماً علينا أن لا نقطع علاقتنا بالله جل جلاله لشدة حاجتنا إليه في كل الأوقات؛ فلذلك شرع لنا أن ننصر دينه وأن نعلي كلمته وأن نبذل الجهود في ذلك.

    1.   

    أهداف الدعوة وأقسام المدعوين

    وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أهداف هذه الدعوة إليه في قصة الملأ من بني إسرائيل فهي ترجع إلى هدفين: قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَهمْ يَتَّقُونَ[الأعراف:164]، (معذرة إلى ربكم) أي: إقامة الحجة لله سبحانه وتعالى وللقيام بما أمرنا به فقد أمرنا بأن نبلغ رسالاته وأن ندعو الناس إلى منهجه، وهو يعلم من يؤمن منهم ومن يكفر، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى[عبس:3-4]، أمر الهداية إلى الله جل جلاله.

    الهدف الثاني: هو قوله: وَلَعَلَهمْ يَتَّقُونَ[الأعراف:164]، أي: من أراد الله به الخير منهم فإنه سيستجيب لهذه الدعوة، والناس في سبيل هذه الدعوة -التي هي الذكرى- ينقسمون إلى أربعة أقسام:

    الذين لا يسمعون الذكرى

    القسم الأول: الذين لا يتحملون سماعها، ويفرون منها كما يفرون من الأسد، إذا سمعوا حفلاً غنائياً أو اجتماعاً قبلياً أو اجتماعاً لأهل الدنيا ومصالحها أقبلوا عليه بلبهم وبكل قلوبهم، واجتهدوا في التوسعة له ولم يضايقوه بأي نوع من أنواع المضايقة، وإذا سمعوا دعوة إلى الله وتذكيراً بآياته وأيامه الخوالي وترقيقاً للقلوب لتقبل على بارئها غاظهم ذلك واشتد غيظهم به وسعوا للحيلولة دونه بما يستطيعون، هؤلاء هم المشركون الذين قال الله فيهم: فَمَا لَهمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ[المدثر:49-51]، وقال: وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا[الأعلى:11-13]، هذا الذي يتجنب الذكرى لا يستطيعها ولا يتحملها ويفر منها؛ وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا[الأعلى:11-13].

    الذين لا تصل الذكرى إلى قلوبهم

    القسم الثاني: الذين يتحملون سماع الذكرى في آذانهم، ولكن آذانهم غير أمينة فلا توصلها إلى القلوب؛ لأن القلوب قد طبع الله عليها بطابع النفاق، وهؤلاء هم المنافقون الذين قال الله فيهم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا[محمد:16]، كأنهم ما حضروا، مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ[محمد:16].

    الذين يفصلون في قبول الذكرى

    والقسم الثالث: هم الذين يفصلون في الذكرى؛ فيقبلونها من بعض الناس دون البعض، إذا قام مذكر يعجبهم علمه أو نسبه أو حسبه أو مستواه أو بينهم وبينه علاقة استمعوا إليه واستطاعوا الجلوس لحديثه، وإذا قام مذكر مجهول لا يعرفونه ولا يعرفون مستواه أو يزدرونه ويحتقرونه لم يستمعوا إليه؛ كأن الحق يعرف بالرجال، وهؤلاء هم مرضى القلوب، يريدون الانتفاع بالأشخاص ليس فيهم النفع إنما هو فيما يقدمونه، فالحق يعرف بالحق، والرجال يعرفون بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال أبداً؛ ولذلك قال الله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ[الفاتحة:6-7].

    ما حكمة التكرار في الفاتحة؟ الفاتحة فيها اختصار القرآن جميعاً، جميع علوم القرآن في الفاتحة فلماذا يقع فيها هذا التكرار؟ اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ[الفاتحة:6-7]، لماذا لا يقول: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم؟ لئلا يعرف الحق بالرجال، ليعرف الصراط المستقيم باستقامته، ثم بعد ذلك يعرف بعد ذلك الرجال بسلوكهم له؛ اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ[الفاتحة:6-7]، والذين يفصلون في الذكرى هم مرضى القلوب، أصابهم داء أهل مكة وأهل الطائف عندما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ[الزخرف:31-32].

    الذين يستمعون الذكر فيتبعون أحسنه

    القسم الرابع: الذين يسمعون الذكرى من كل أحد فينتفعون بما فيها من الحق، وهؤلاء هم المبشرون ببشارة الله، قال الله تعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[الزمر:17-18]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا[الفرقان:73]، وقال تعالى: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ[يس:11]، هؤلاء مبشرون بالمغفرة ومبشرون بالأجر الكريم؛ لأنهم يسمعون القول فيتبعون أحسنه، يسمعون القول ولا يبالون بالقائل، لا ينظرون إلى القائل، يسمعون القول فيتبعون أحسنه.

    1.   

    وسائل تحقيق الدعوة إلى الله

    وقد ذكر الله سبحانه وتعالى سبع وسائل لتحقيق هذه الدعوة وإعلاء كلمته، ولم يحصر فيها وسائل الدعوة؛ فهذه الوسائل ثلاث منها في آية وأربع منها في آية، أما الأربع ففي قوله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ[يوسف:108].

    البصيرة في الدعوة

    فالوسيلة الأولى هي قوله: عَلَى بَصِيرَةٍ[يوسف:108]، فالداعي إلى الله والساعي لنصرة دين الله، لابد أن يكون ذلك على بصيرة ، لابد أن يكون عارفاً بما يدعوا إليه، لابد أن يكون متثبتاً في الحق عارفاً له، فالداعي وهو شاك مرتاب أو جاهل بما يدعو إليه لا يمكن أن يستجاب له، لابد أن يكون على يقين مما يدعو إليه، لابد أن يكون على بينة وثبت مما يدعو إليه؛ فلذلك علينا أن نأخذ بهذه البصيرة وأن نعلم أنها وسيلة عظمى من وسائل هذه الدعوة، وهذه البصيرة تشمل المعرفة بالواقع والمعرفة بالشرع وتشمل كذلك المعرفة بلغة الناس: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهمْ[إبراهيم:4]، وتشمل كذلك التنويع باختلاف الفوارق الاجتماعية والثقافية والاقتصادية؛ فقد جعل الله الناس طباعاً وطبقات ولم يجعلهم شريحة واحدة، ولله الحكمة البالغة في ذلك؛ فخطاب الذكي ليس مثل خطاب الغبي، وخطاب العالم ليس كخطاب الجاهل، وخطاب الفاسق ليس كخطاب المتقي؛ فكل له خطابه، ومع ذلك ثم قاسم مشترك وهو البصيرة؛ أن يعرف الإنسان ما يوجه به الخطاب لكل ممن يوجههم.

    الإخلاص في الدعوة

    الوسيلة الثانية هي قوله: وَسُبْحَانَ اللهِ[يوسف:108]، هذه الدعوة وهذا النصر لدين الله عبادة لله لا يصلح لها قصد الدنيا، إذا كان الإنسان يريد أجراً على دعوته أو يريد ذكراً أو شكوراً بين الناس؛ فإنه يدعو إلى نفسه لا يدعو إلى سبيل الله؛ كما قال علي رضي الله عنه في القاص الذي سمعه يقص: (اجلس! إنما أنت رجل يقول: اعرفوني اعرفوني)، فلذلك لابد أن يكون الداعي مخلصاً قاصداً وجه الله الكريم، وأن ينظر إلى الناس على أنهم مثل غيرهم من الخلائق كما ينظر إلى النجوم والكواكب والجبال والشجر والدواب؛ فالجميع خلائق لله، لون الله علاقاتهم فيما بينهم بهذا الشرع الحنيف، كل له حقه من الشرع وعليه ما عليهم من الحقوق كذلك، فإذا نظر إليهم بهذه النظرة لم يخف في الله لومة لائم، ولم يطمع في مخلوق، ولم يرج غير الله ولم يخف غير الله جل جلاله؛ كما قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (أي يوم أخشاه قبل يوم القيامة فلا وقيت شره).

    وقد حدثني أحد الثقات عن الشيخ عبد الله بن ولد داداه رحمة الله عليهما: أنه قال عندما جاءه بعض التخويف في ذلك الوقت من بعض الجهات ابتسم وقال: (لقد عرضت على قلبي هذا أن يخاف من مخلوق فلم يقبل ذلك)، وهذا اللازم يلزم أن يكون المؤمن كذلك، يلزم أن يكون المؤمن لا يخاف إلا الله؛ فالمؤمن إذا عرف أن السماوات السبع والأرضين السبع في قبضة الديان جل جلاله، وأن القلوب جميعاً بين إصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، وأن الأمر كله بين الكاف والنون؛ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[النحل:40]، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[يس:82]، عرف أنه لا يملك له أحد غير الله نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، قال الله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[الأنعام:17]، وقال تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ[يونس:107]، وقال تعالى: مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ[فاطر:2]، وقال تعالى: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المُتَوَكِّلُونَ[الزمر:38].

    وقال تعالى في ذكر الخوف: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ[الحج:73-74]؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرسولي كسرى لما أتياه وقد قطعا مسافة طويلة وتعنيا عناءً كبيراً من أجل تنفيذ أوامر مخلوق لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً، قال: ( أرسلكما كسرى إبرويز ؟ قالا: نعم، قال: قتله ابنه البارحة )، هذا الذي تخافانه وتسعيان لتطبيق أمره قتله ابنه البارحة!

    إذا عرف الإنسان أن كل مخلوق بالإمكان أن تكون هذه اللحظة لحظة موته أو هدايته واستقامته لم يخفه، بل توجه خوفه لله وحده الذي بيده الأمر كله وهو الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتون؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك لابد للداعية أن يحقق الرغبة إلى الله فهي العبادة، ( الدعاء هو العبادة )، وأن يمد إليه أيدي الضراعة، وأن يكون ربانياً في سلوكه وعبادته والتزامه وخلقه وهديه ورقته وخشوعه بين يدي الله، لا يمكن أن يستجاب لدعوته إلا إذا كان كذلك، ولا يمكن أن ينتفع الناس بها إلا إذا كان كذلك، فإذا حصل منه ذلك، وأقبل على الله جعله من مفاتيح الخير مغاليق الشر، وأجرى على لسانه الحكمة وأجرى على يديه الهداية، ونحن جميعاً سترنا الله بستره الجميل ولو رفع عنا هذا الستر لما استطاع أحد منا أن ينظر إلى أحد ولا أن يسمع منه ولا أن يجالسه، لكن ستر الله الجميل هو الذي ستر ذنوبنا؛ فلذلك لابد أن يكون الداعية ربانياً متصفاً بهذه الصفة وهذه الوسيلة من وسائل الدعوة، لابد أن يكون متصفاً بهذه الوسيلة من وسائل الدعوة، وهي الربانية.

    الجماعية في الدعوة

    ثم بعد هذا جاءت الوسيلة الثالثة وهي قوله: أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي[يوسف:108]، فالداعية لا بد أن يكون عمله عملاً جماعياً، فالدعوة ليست عملاً فردياً، فالفرد لا ينصر مظلوماً ولا يقيم حقاً ولا يقيم دولة ولا حداً من حدود الله، ولا يجاهد عدواً ولا يعدل في الأرض ولا يستطيع القيام بأي عمل؛ فالمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، ونصرة الدين عمل جماعي لابد فيه من جهد مشترك تبذل فيه جهود الجميع، وينساق الناس فيه جميعاً وراء هذا الدين وتحت لوائه، ويستغلون ما آتاهم الله من الطاقات والمهارات والخبرات لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه، كل يبذل ما يستطيعه؛ فهم جميعاً ميسرون لما خلقوا من أجله وقد وزع الله بينهم الأرزاق، وكل آتاه ما لم يؤت من سواه، وهو الحكم العدل؛ فإذا كان الحال كذلك فعليهم جميعاً أن يتحدوا على هذه الوظيفة التي من أجلها خلقوا وأن يقوموا بهذا العمل على الوجه الأكمل، يكمل عمل بعضهم بعضاً وينصح بعضهم لبعض ويتعاونون على البر والتقوى كما شرع الله لهم، ولذلك قال الله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ[المائدة:2]، وقال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[آل عمران:103-105]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة:119]، وقال تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَهمْ يَحْذَرُونَ[التوبة:122]، وهذه الآيات صريحة في وجوب العمل الجماعي ونصرة الدين وغيرها من الآيات القرآنية كثير.

    وقد ورد في ذلك من السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواضحة الدلالة الشيء الكثير كقوله صلى الله عليه وسلم: ( يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار )، وكقوله صلى الله عليه وسلم: ( يد الله على الجماعة، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية )، وكقوله صلى الله عليه وسلم: ( من فارق الجماعة شبراً مات ميتة الجاهلية )، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( من فارق الجماعة خلع ربقة الإسلام من عنقه )، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة )، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة )، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم لـحذيفة : ( تلزم جماعة المسلمين وإمامهم )، فإذا كان الحال كذلك عرفنا أن العمل الجماعي وسيلة من وسائل نصرة الدين وإعلاء كلمة الله، وأنه واجب بالكتاب والسنة، وهو واجب بالإجماع كذلك وواجب بالقياس وواجب بالفطرة، والقياس الذي يوجبه نبه الله عليه في سورة التوبة في قوله: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً[التوبة:36]، هذا هو القياس؛ وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً[التوبة:36]، فعمل الكافة لا يدرأ إلا بعمل الكافة، وحزب الشيطان كافة يتعاونون على إغواء الناس؛ فلابد أن يكون عمل حزب الله عملاً كافة، لابد أن يتعاون فيه الناس على البر والتقوى وعلى إعلاء كلمة الله ونصرة دينه؛ وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً[التوبة:36]، وهو واجب كذلك بالفطرة؛ فقد فطر الله الخلائق على التعاون على الأعمال الجادة؛ فكل عمل جاد يراد منه الإنتاج لابد أن يكون جماعياً مشتركاً تذوب فيه الحساسيات والفروق، وتتفق فيه الآراء وتنظم فيه الجهود ويؤدي فيه كل إنسان دوره؛ ولذلك قال الأفوه الأودي :

    لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا صلاح إذا جهالهم سادوا

    والبيت لا ينبني إلا بأعمدة ولا عمود إذا لم ترس أوتاد

    وقال الحارث بن هشام رضي الله عنه يوم بدر لما فر عن أخيه أبي جهل فقتل فعيره حسان بن ثابت بقوله:

    إن كنت كاذبة الذي حدثتني فنجوت منجى الحارث بن هشام

    ترك الأحبة لم يقاتل دونهم ونجا برأس طمرة ولجام

    فأجابه الحارث بقوله:

    الله يعلم ما تركت قتالهم حتى رموا فرسي بأشقر مزبد

    وعلمت أني إن أقاتل واحداً أقتل ولا يغرر عدوي مشهدي

    ففرت منهم والأحبة فيهم طمعاً لهم بلقاء يوم مفسد

    وهذه الفطرة كذلك هي التي عبر عنها عبد الملك بن مروان في وصيته لأولاده في قوله:

    انسوا الضغائن بينكم وتواصلوا عند الأباعد والحضور الشهد

    حتى تلين جلودكم وقلوبكم لمسود منكم وغير مسود

    إن القداح إذا جمعن فرامها بالكسر ذو حنق وبطش أيد

    عزت فلم تكسر وإن هي بددت فالوهن والتكسير للمتبدد

    فهي فطرة فطر الله الخلائق عليها.

    تميز الداعية

    ثم بعد ذلك ذكر الوسيلة الرابعة وهي قوله: وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ[يوسف:108]، و (ما أنا من المشركين) هذه الوسيلة هي التميز؛ فالداعية لابد أن لا يدعو إلى شيء يخالفه، إذا كان يدعو الناس إلى الاستقامة ولا يستقيم، يدعو الناس إلى ترك الربا فيأكل الربا، يدعوهم إلى الالتزام بأمر الله ويخالف أمر الله، لا يمكن أن يستجاب له! ولذلك حكى الله عن خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام فقال: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[هود:88]، وقد قال أبو الأسود الدؤلي رحمه الله وهو من التابعين:

    يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم

    تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا كي ما يصح به وأنت سقيم

    وأراك تلقح بالرشاد عقولنا أبداً وأنت من الرشاد عقيم

    ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

    فهناك يسمع ما تقول ويشتفى بالقول منك وينفع التعليم

    لا تنهى عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم

    ومن أمثلة العرب البيت المشهور الذي تعرفونه جميعاً وهو من شواهد شرح الشيخ سدية على الآجرومية:

    فإنك إذ ما تأت ما أنت آمر به تلف من إياه تأمر آتيا

    وله رواية أخرى:

    فإنك إذ ما تأب ما أنت آمر به تلف من إياه تأمر آبيا

    إذا دعوت إلى شيء وكنت ممتثلاً له فسيستجاب لك، وإذا كنت غير مستجيب فلا يمكن أن يستجاب لك.

    الحكمة في الدعوة

    والوسائل الثلاث الأخر هي في قوله: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل:125]، فالحكمة هي الوسيلة الأولى منها وهي وضع الشيء في موضعه، والحكمة لا تكون إلا حسنة فلذلك لن تقيد وقيد صاحبتاها فقد قال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل:125]، فالموعظة قيدت بالحسنة والمجادلة قيدت بالتي هي أحسن، والحكمة لم تقيد بشيء؛ فالحكمة حسنة في كل الأبواب وفي كل الأوقات، والحكمة هي وضع الشيء في موضعه وضع الشدة في موضعها ووضع اللين في موضعه ووضع العلم في موضعه ووضع السيف في موضعه؛ كل له موضعه لا يصلح له إلا هو ولو وضع في غيره لفسد وبطل، قال أبو الطيب المتنبي :

    ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى

    فالله تعالى يقول لـموسى و هارون في رسالتهما إلى فرعون : فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى[طه:44]، و إبراهيم عليه السلام يقول لأبيه آزر : يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا[مريم:43]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول للوليد بن المغيرة الذي ذمه الله في القرآن وأنزل فيه: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا[المدثر:11-17]، وهو جبل من جبال النار، يقلده في رقبته يوم القيامة؛ سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا[المدثر:11-17]، هذا العدو من أعداء الله أتى النبي صلى الله عليه وسلم يجادله في الحق الذي جاء به فقال له: ( اسمع أبا الوليد )، فلم يغضب عليه، ولم يواجهه بشده إنما واجهه بحكمة فقال: ( اسمع أبا الوليد )، فناداه بأحب أسمائه إليه، وكناه، والعرب يحبون الكنية كما قال الشاعر:

    أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوءة اللقب

    كذاك أدبت حتى صار من خلقي أني رأيت ملاك الشيمة الأدب

    فيحتاج الإنسان إلى هذا الخلق وهو يقتضي أن يعامل الناس في البداية باللطف والرفق ليستجيبوا لدعوته؛ فهذه هي الحكمة، وهذا يشمل جميع الخلائق، لا أحد تقدم له الشدة قبل اللين في الدعوة، ولا أحد يقدم له السيف قبل الدعوة، لابد أن تكون لنا البداية بما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين صعد الصفا: ( أبدأ بما بدأ الله به )، فلذلك لابد من البداءة بالحكمة أولاً.

    الموعظة الحسنة في الدعوة

    ثم بعد ذلك قال: وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ[النحل:125]، هذه وسيلة أخرى من وسائل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه وهي الموعظة الحسنة، فهذه القلوب ترقق وترقيقها إنما هو بالذكرى؛ فهي غذاؤها، إذا فقدت الذكرى ماتت، والقلوب ثلاثة أقسام: قلب سليم، وقلب ميت، وقلب مريض، فالقلب السليم هو: الذي يعرف المعروف ويستجيب له ويعرف المنكر وينفر منه، والقلب السقيم هو: الذي يعرف المعروف ولكنه لا يستجيب له ويعرف المنكر ولكنه لا يفر منه، والقلب الميت هو: الذي لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، فهذه القلوب الثلاثة علاجها بهذه الذكرى، فالقلب السليم تزيده نوراً على نوره، والقلب السقيم هي برؤه وشفاؤه، والقلب الميت هي حياته تدب فيه؛ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا[الأنعام:122]، اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[النور:35].

    فلذلك يحتاج الناس إلى الموعظة الحسنة، وما تشكونه الآن من قسوة القلوب وجمود الدموع سببه نقص الموعظة؛ ولذلك شرعت الموعظة في الخطبة في كل أسبوع، فإذا تخلف الإنسان عن الجمعة ثم تخلف جمعة ثم تخلف عن جمعة فاجتمع له ثلاث جمع متواليات كان من الغافلين وطبع على قلبه؛ كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( ألا هل يوشك أحدكم أن يتخذ الصبة على رأس ميلين؛ تأتي الجمعة فلا يشهدها، والجمعة فلا يشهدها، والجمعة فلا يشهدها.. )، ثلاث جمع، ( فيطبع على قلبه فيكون من الغافلين ).

    وفي الحديث الصحيح الآخر في صحيح مسلم : ( لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليطبعن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين )، فما ترونه من القسوة يشتهر وينتشر في الناس سببه الإعراض عن الذكرى، لو كانوا يتعظون فيبكون في كل أسبوع كفى ذلك تغذية للقلوب، لكن من لم يبك من خشية الله ثلاثة أسابيع متوالية سيجد قلبه قاسياً قسوة شديدة، يمكن أن يقرأ القرآن كاملاً فلا تقطر له دمعة ويمكن أن يسمعه كاملاً فلا يقشعر له، مع أن الله جعل من خصائصه هذه الصفة؛ اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ[الزمر:23]، لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَهمْ يَتَفَكَّرُونَ[الحشر:21].

    فلذلك يحتاج الناس إلى الموعظة والذكرى، لكن لابد أن تكون حسنة وحسنها هو بمراعاة الأحوال والفروق والأوقات والعبارات وما يقدم للناس؛ ( وما أنت بمحدث قوم بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة عليهم )، ( حدثوا الناس بما يفقهون أتحبون أن يكذب الله ورسوله )، فلابد أن تكون الذكرى باقتصاد ولابد أن تكون أيضاً بالتخول بالموعظة في الأيام مخافة السآمة، كما في حديث ابن مسعود فتكون الموعظة بذلك موعظة حسنة.

    المجادلة بالتي هي أحسن في الدعوة

    ثم الوسيلة الأخيرة هي قوله: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل:125]، فالإنسان مؤلف من ثلاثة عناصر هي: العقل؛ الذي إقناعه إنما يكون بواسطة المجادلة، والروح؛ التي إقناعها إنما يكون بواسطة الموعظة والذكرى، والبدن؛ الذي إقناعه بواسطة الحس بالمرئيات والمسموعات والملموسات والمشمومات والمبصرات.. إلى آخره، فالحس به إدراك البدن، والجدال به إقامة الحجة على العقل، والموعظة بها إقامة الحجة على النفس والروح؛ فلذلك قال: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل:125]، والجدال لا يكون حسناً إلا إذا لم يكن فيه مراء، فالمراء مذموم لا محالة، والمراء هو ما كان لقصد الانتصار؛ أن يجادل لأجل أن ينتصر لا من أجل نصر الحق.

    وقد قال الشافعي رحمه الله: (ما ناظرت أحداً إلا سألت الله أن يظهر الحق على لسانه، قيل: ولم؟ قال: إن ظهر الحق على لساني خشيت أن أفتن، وإن ظهر على لسان خصمي عرفت الحق ولم أفتن)، فلذلك يحتاج الإنسان إلى أن تكون مجادلته بالتي هي أحسن، ولذلك ضوابط بينها الله بقوله: لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ[النساء:148]، وفي قوله: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ[العنكبوت:46]، وهذه الآية فيها قواعد عجيبة في الجدال منها: البداءة بالمتفق عليه؛ إذا أردت أن تجادل إنساناً لإقناعه بأية ذكرى فابدأ بالمتفق عليه بينك وبينه، القواسم المشتركة؛ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ[العنكبوت:46].

    ثم بعد ذلك تذكر ما تتميز به، كثير من الناس لا يحسن المجادلة؛ فلا تكون مجادلته بالتي هي أحسن، فيبدأ أولاً بالمختلف فيه؛ فلن يجتمع مع خصمه في شيء؛ لأنه أتى بالقاضية، بالضربة القاضية في أول الأمر، وقد حصلت قصة عجيبة بين رجلين صالحين نحسبهما من أهل هذه البلاد، أحدهما كان في هذه البلدة مدة سنين وهو الشيخ أفاه ولد محمد مهدي ولد الشيخ المهدي رحمة الله عليه والثاني هو الشيخ المجتاب أبو الخطر الأنصاري البصاري ؛ فقد اجتمعا فقال الشيخ أفاه للشيخ المجتاب : نحن أهل تصوف وعندنا طريقة نتعبد الله بها ونسعى لترقيق قلوبنا ونحب الجنة ونكره النار، وأنت صاحب سنة وصاحب علم، ولك طريقة تتعبد الله بها وتطلب الجنة وتكره النار؛ فتعال نتفق فيما بيننا، هذا كلام الشيخ المجتاب أبو الخطر ، الشيخ أفاه قال: الطريقة التي نتفق عليها هي طريقة السنة؛ فقال: السنة نعم، على الرأس والعين لا نختلف فيها لكن نختلف في طريقة السنة، في طريقتها، قال: وما ذاك؟ قال: موسى عليه السلام لما كلم الخضر قال له أولاً في الإنكار عندما خرق السفينة وهي في عباب الماء في البحر: قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا[الكهف:71]، فلما قتل الغلام قال: قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا[الكهف:74]، قال: فأخر (نكراً) عن (إمراً) فنحن نريد منك فقط أن تنكر بهذه الطريقة تبدأ أولاً تقول: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا[الكهف:71]، ثم بعد ذلك تقول: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا[الكهف:74]، فكان الاتفاق بينهما على أن القضية هي مجرد طريقة الأداء، فلا أحد منهما يتكبر على السنة، ونعم؛ قد يجهل أحدهما السنة ويعرفها الآخر، هذا ممكن، وقد يكون أحدهما مقلداً في بعض الأمور ويكون الآخر قد عرف فيها الحق ودرسه؛ فهذا أمر لا عار فيه ولا عيب، لكن الطريقة طريقة الإقناع وطريقة التعليم هي التي نحتاج إليها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767946870