الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فإن للإنسان حالين:
الحال الأول: حال الحياة، وهو حال البداية، والحال الثاني: حال الموت، وهذا الحال الذي هو حال الموت يغفل عنه كثير من الناس لتأخره عن حال الحياة، والناس بحاجة إلى التذكير به، فهو واعظ الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك كفى بالموت واعظاً، فهو الذي يقطع ما فيه الناس من خير وشر، وهو أول مشاهد القيامة، فإذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته.
هذا الموت ليس بفناء محض، وإنما هو انتقال من دار إلى دار، وتحول من حال إلى حال، ينقضي به عمر التكليف، وللإنسان ثلاثة أعمار، هذه الأعمار أحدها متدرج لا ينقضي في لحظة واحدة، وإنما ينقضي بالتفاوت بمرور الأيام والليالي، وهو عمر الإمكان؛ فكل شخص يكتب الله تعالى عليه ما يرزقه به وما يجعل تحت يده من الطاقات العقلية والبدنية ومن الوظائف والأموال التي تجعل تحت يده؛ ولهذه عمر محدد تنتهي إليه في علم الله تعالى؛ فطاقة العقل والتفكير لها عمر محدد في علم الله تعالى وبعد ذلك العمر يذهب العقل ويزول التفكير، وطاقة البدن لها عمر محدد.
فالشخص اليوم ما دام في عمر الإمكان يمكن أن يقول: لا إله إلا الله، ولكنه سيأتي وقت يحال بينه وبينها، يمكن أن يتكلم بمرضات الله ويمكن أن يتكلم أيضاً بما يسخط الله سبحانه وتعالى عليه، ولكن هذا الإمكان له أجل ينتهي إليه، وفي بدنه كثير من الطاقات يتصرف بها، يمكن أن يتحرك يميناً وشمالاً ولكن لذلك أجل ينتهي إليه، يوشك أن يأتي الوقت الذي يستيقظ فيه على فراشه بعد أن تقلب يميناً ولا شمالاً ولا يجد في بدنه حراكاً، وكذلك بصره الذي يرى به الأشياء ويستقيم على أساسه مشيه وقوامه له أمد ينتهي إليه ويؤخذ إما بالتدريج - بالنقص - كلما ازداد كبراً انتقص بصره حتى يأتي الوقت الذي يكف فيه بصره ويؤخذ، وإما يؤخذ جملة، وكذلك سمعه وكل قواه، وكذلك ما يجعل الله تحت يده من المال فهو بقدر لا ينفع فيه بذل الجهد في الاكتساب ولا كثرة مباشرة الأسباب وإنما يكتب الله تعالى من المال ما شاء لمن شاء، ولا ينال أحد إلا ما كتب له؛ فإذا كتب له مال فإنه ليس مبقى ببقائه، وإنما له أجل محدد يمكنه الله تعالى فيه، ثم ينتزعه منه إذا شاء، وانتزاعه منه بوسائل متعددة مختلفة، فيمكن أن يسلط الله عليه جائحة تجتاح ماله فيصبح صفر اليدين بعد أن كان غنياً، وكذلك يمكن أن يضرب على يديه الحجر؛ فيحول ذلك بينه وبين المال، وكذلك ما للإنسان من القوى التي يمكن أن يستعملها في طاعة الله ويمكن أن يستعملها في اتباع الشهوات والشيطان، لكن لها أجلاً محدداً تنتهي إليه.
ومثال عمر الإمكان مثال هذا الشريط الذي يسجل فيه الصوت؛ فهو تسعون دقيقة أو ستون دقيقة يمتلئ بما ملأته به؛ فإذا انتهى أمده توقف ولم يقبل زيادة؛ فكذلك طاقات الإنسان كلها بمثابة عمر هذا الشريط لها أجل محدد في علم الله تعالى، وإذا انتهت إليه توقفت، هذا العمر الأول هو عمر الإمكان الذي كل الناس - إلا من رحم الله - في غفلة عنه.
والشرع قد نبه إليه في كثير من المواضع ومنها الأذكار المرتبة على الانتقال من حال إلى حال؛ فالإنسان العاقل ذو البصيرة النيرة يدرك انتقاله من الدنيا وتنقله عنها بكثرة التقلبات التي تطرأ في حياته، فهو عندما يصبح ويرى الفجر ينبثق من الجهة الشرقية ثم يرى الشمس تخفيه يراها أيضاً عندما تغرب إلى الجهة الغربية ويأتي الليل يكوره الله على النهار، وهذا انتقال من حال إلى حال وتغير من واقع إلى واقع، وكذلك عندما يجنه الليل ويسدل أطنابه ويأتي بظلامه؛ فإن وراءه فجراً لابد سيطلع وينتهي إليه أمد ذلك الليل، وكذلك الإنسان في حال يقظته وتمام عقله وإدراكه تأخذه السنة والنوم فيزول عقله في لحظة من اللحظات، وسبحان من لا تأخذه سنة ولا نوم، وبتلك السنة والنوم يستحضر الإنسان ويتذكر انتقاله من حال إلى حال هو قبل أن ينعس وينام كان حاضر الجوارح حاضر العقل، مفكراً يمكن أن يستفيد ويسمع ويرى، وخلال لحظة عين يذهب الله كل ذلك؛ فإذا به مغطى جميع وسائل الإدراك.
وكذلك في حال الأكل والشرب وغير ذلك من أنواع معاشه وحياته اليومية يجد كثيراً من التقلبات التي تمر عليه، هذه التقلبات التي تمر شرع الله أذكاراً محاذية لها في البدايات والنهايات ليدل الإنسان على أنه ينبغي أن يبتدئ عمره بذكر الله ويختمه بذكر الله، لدينا أذكار شرعها الله في النوم وأذكار شرعها للاستيقاظ، وأذكار شرعها للأكل وأذكار شرعها للشرب، وأذكار للصباح وأذكار للمساء، وأذكار للسفر وأذكار للقدوم، كل هذه المرتبة على الأحوال تدلنا على أن هذه الأحوال آجال محددة، وعمر الإنسان بمثابة سفر يقطعه وهو جاد في طريق محدد يسير فيه لياله وأيامه ويوشك أن يصل إلى النهاية.
هذا العمر الذي هو عمر الإمكان من أوضح ما فيه الاستيقاظ من النوم؛ فالنوم موت أصغر تزول فيه الجوارح وتذهب فيه النفس كل مذهب، ثم يمسك الله تعالى ما شاء من النفوس فلا يردها إلى أبدانها ويأذن لبعض النفوس إذا شاء فيردها إلى أبدانها ويستيقظ الإنسان كأنه بعث من جديد، فما هو إلا موت أعقبته حياة؛ ولذلك قال الله تعالى: اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى[الزمر:42]، ولهذا شرع لنا إذا نحن استيقظنا من المنام أن نبدأ بذكر الله؛ فإن النائم إذا بدأ بذكر الله أول ما يستيقظ ثم توضأ ثم صلى انحلت عقد الشيطان التي يعقد على قافية رأسه، ويقول في استيقاظه: ( الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره )، فكثير من الناس في نومه لا يرد الله عليه روحه وكثير منهم يرد عليه روحه ولكنه يصبح غير معافىً في بدنه، قد أصيب بمرض عضال في نومته تلك، إما في إيمانه وقلبه وإما في بدنه، كثير من الناس قد لا يشعر بالأمراض الإيمانية التي تصيبه، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الرجل لينام النومة فيسرى على أمانته من قلبه فيبقى أثرها كالوكت، كجمر دحرجته على رجلك فنفط وانتفخ )، فيبقى أثر الأمانة في قلبه منتفخاً وليس فيه شيء، وهكذا فيأتي نقص الإيمان بالتدريج ويستيقظ الشخص من نومته وقد أخذ منه أعز شيء لديه وهو الإيمان، ثبتني الله وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
كذلك يبتلى بكثير من الأمراض التي لا تظهر أعراضها في الساعة الأولى ولكنها تأتي بالتدريج، وكانت قد كتبت في تلك اللحظة حينما ينام ويذهب عنه عقله وتأتي معقبات الله سبحانه وتعالى من بين يديه ومن خلفه.
ثم إنه إذا استيقظ وقام قد أتيحت له فرصة جديدة ليفتح صفحة جديدة مع الله تعالى وليتوب إليه وليندم على ما فات ويستدرك ما هو مستقبل بين يديه؛ فلذلك يحاول أن يكون قد أذن له بذكر الله؛ فكثير من الناس يستيقظ فيرد الله عليه روحه ويقوم معافىً في بدنه ولكنه لا يؤذن له بذكر الله، يشغل عن ذكر الله إما بالكفر وإما بالنسيان وإما بالغلفة وإما بالإعراض وإما بالانشغال بأمور الدنيا، كل ذلك يشغل الله به من لا يريد لهم الفضل ولا يزكيهم ولا يطهرهم؛ فيشغلهم عن ذكر الله، فيستيقظون كما تستيقظ البهائم تقوم من نومتها وتشتغل في معاشها دون أن تشعر بالانتقال من حال إلى حال، ودون أن تحمد نعمة الله على هذا العمر المتجدد وهذه النعمة العظيمة.
ثم إن العمر الثاني من أعمار الإنسان هو عمر هذه الدنيا التي يعيش فيها وهذه الدنيا ليست دار قرار، لها عمر محدد في علم الله، والمشكلة فيها أن عمرها لا يدري أحد إلا الله سبحانه وتعالى وقت نهايته؛ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً[الأعراف:187]، يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ[الأعراف:187]؛ فالله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يعلم متى تقوم الساعة، والساعة أمرها عظيم، نهاية هذه الدنيا أمر عظيم جداً، لاحظوا الفرق بينه وبين بدايتها، ويتضح ذلك في حال ميلاد الإنسان وحال موته، الفرق بين حال الميلاد وحال الموت، حال الميلاد يأتي فيه وقد قدم إلى هذه الدنيا ورأى النور بعد أن كان في الظلمات بعد أن كان في الرحم وفي المشيمة داخل الرحم، يخرج فيرى النور ويوقن بأمر جديد ويفتتح حياة جديدة، ولكنه يدخل إليها بمسرة وبرحمة والناس مقبلون عليه فرحون به، لكنه في حال الموت ينقلب ذلك الفرح إلى حزن ويتضاعف، فساعة الموت يكون الحزن فيها أضعاف السرور في ساعة الميلاد.
فهذا الانتقال الذي يحصل مثال للانتقال من هذه الدنيا وطي صفحاتها عندما تشقق السماء وتبدل غير السماء وتطوى الأرض وتبدل غير الأرض، وينادي منادي الله تعالى في الناس: أن هلموا إلى ربكم! فيخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون، ويجتمعون في الساهرة يلتقي أولهم وآخرهم، يجتمعون جميعاً لا يفقد منهم سقط ولا كبير ولا صغير، من مات قبل آلاف السنين كمن مات في لحظته تلك، يداركون فيها جميعاً؛ حينئذ تقوم الساعة وتأتي الطامة والصاخة، ويأتي وعد الله الحق الذي لا مرية فيه ولا جدال، في ذلك الوقت ينتهي أمر هذه الدنيا التي هي دار عمل ولا جزاء.
ويبتدئ عمر الآخرة التي هي دار جزاء ولا عمل، ينصرف الإنسان عما كان فيه مما مكن له فيه في هذه الدنيا، وقد مكن له في كثير من الأمور التي لا يصحبه منها إلا عمله، ينظر يمينه فلا يرى إلا عمله وينظر شماله فلا يرى إلا عمله وينظر أمامه فلا يرى إلا عمله وينظر من خلفه فلا يرى إلا عمله، لا يصحبه من هذه الدنيا غير عمله؛ ولذلك يحشر الناس إلى ربهم حفاة عراة غرلاً، الرجال والنساء يجتمعون جميعاً في صعيد واحد.
هذا الأمر الشاق العظيم الذي وصفه الله سبحانه وتعالى بقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ[الحج:1-2]، هذا انتهاء لعمر هذه الدنيا التي أنتم فيها، وهو موت هذه الدنيا، يعقبه بعث وانطلاقة جديدة وحياة دائمة مستقرة؛ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ[العنكبوت:64]، هي الحياة الحقيقة وأما هذه الحياة الدنيا فما هي إلا ظل لانتهائها؛ فإنها ولو طالت آلاف السنين فلابد أن تنتهي إلى أجل محدد.
العمر الثالث عمر الإنسان الخاص به، وهو الذي يبتدئ بنفخ الروح عندما يبعث الله إليه ملكاً وهو في بطن أمه فيأمره أن ينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، يفتتح عمر الإنسان من هذا الوقت، وتأتي فيه الحوادث العظيمة، يأتي فيه حادث الميلاد ثم حادث التكليف، ثم ما يعقب ذلك من الأعراض وما يسلط عليه من الفتن والشهوات، ثم بعد ذلك نهايته إلى الموت، هذا الموت يأتي بمقدمات وأعراض، هذه المقدمات والأعراض إما أن تكون تهيئة للقاء الملك؛ فالجنس الملكي ليس مثل الجنس البشري.
الملائكة خلق عظيم، وصف الرسول صلى الله عليه وسلم أحدهم وهو جبريل أمين الوحي بأن له ستمائة جناح، ما بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب، ووصف حملة العرش بأن كل واحد منهم ما بين شحمة أذنه وظلفه مسيرة خمسمائة عام للحجر الضخم الهاوي، مسيرة خمسمائة عام، هؤلاء الملائكة الذين رتبوا لتدبير هذه الأمور وكلف منهم بالإنسان الواحد حسب إحصاء العلماء واحد وعشرون ملكاً لكل واحد من البشر، كل واحد من البشر كلف به واحد وعشرون ملكاً؛ ليعلم الإنسان أنه لا يعجز الله تعالى وأنه لا يمكن أن يفكر لحظة عين ولا أن ينظر نظرة أياً كانت ولا يخلو بنفسه إلا وقد أحاط به جند الله؛ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ[المدثر:31]، هذا الإنسان الذي يدعي الكبرياء والعظمة ويحاول أن يخرج على سلطان الله يحيط بالواحد منه واحد وعشرون ملكاً وقد ذكرنا عظمة الملائكة.
لكن استقبال الملائكة عياناً أمر شاق جداً، ولاحظوا ظاهرة الوحي؛ فظاهرة الوحي اتصال بين الجنس البشري والجنس الملكي، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما أتاه جبريل بالوحي لم يكن مجيئه سهلاً ولا هيناً، غطه ثلاثاً حتى بلغ منه الجهد، كل ذلك يرسله فيقول: اقرأ، فيقول: ما أنا بقارئ، لماذا يغطه؟ معناه: يخنقه ثلاثاً حتى يبلغ منه الجهد؛ ليهيئه لاستقبال الملائكة؛ لأن استقبال الملائكة أمر عظيم، وكذلك الإنسان عندما يأتيه ملك الموت يهيأ لاستقبال ملك الموت بسكرات الموت؛ ( إن للموت لسكرات )، هذه السكرات لا نقدرها ونحن نراه عندما تفيض روحه وتجتمع في صدره وتبلغ التراقي ولم يؤذن لها بعد بالخروج، لا نقدر أنه في تصوره هو كأنه وضع على الأرض وأطبقت عليه السماء، وقد وصف ذلك عمرو بن العاص رضي الله عنه؛ فحين سأله ابنه - كما ثبت في صحيح البخاري - وهو في حال الموت قال: (يا عمرو صف لنا ما تجد من أحوال الموت؟ فقال: أشعر كأن شوكاً يجر داخل مفاصلي..) شوك يجر بشدة داخل العظام مع المخ ويحس به في كل مفصل من مفاصله وكل عظم من عظامه، (وكأني قد وضعت بقاع قرقر من الأرض، وكأن السماء وضعت على صدري) هذه سكرة من سكرات الموت، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول في مرضه الذي لقي الله فيه: ( لا إله إلا الله! إن للموت لسكرات ).
هذه السكرات شديدة جداً، ولكنها تهيئة لأمر أعظم منها، تهيئة لاستقبال ملك الموت، ملك الموت أمره عظيم، لكننا لا نقدر عظمته في الدنيا، ولاحظوا معي إلى حديث ثبت في الصحيحين يدلكم على عظمة ملك الموت، وهو ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: ( يوم القيامة يؤتى بالموت في صورة كبش أقرن؛ فيعرض على أهل الجنة فيشمئزون منه، فيقال: أعرفتموه؟ فيقولون: نعم، هو الموت، ويعرض على أهل النار، فيشمئزون منه، فيقال: أعرفتموه؟ فيقولون: هو الموت )، يشمئز منه أهل الجنة الذين قد دخلوا دار كرامة الله، ويشمئز منه أهل النار الذين شاهدوا ما في جنهم وسمعوا تغيظها وزفيرها، ورأوا ما فيها مع ذلك يشمئزون من الموت، ثم يضجع على مرتفع بين الجنة والنار فيذبح، وينادي مناد: ( يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت ) ليطمئن أهل الجنة وليشتد العذاب على أهل النار.
عندما يأتي ملك الموت إلى الإنسان يتنوع الإنسان هنا إلى أنواع:
فالمؤمنون الذين يرجون لقاء الله سبحانه وتعالى ولم يكفروا به وهم يعلمون في كل اللحظات أنهم مقبلون على أمر عظيم وأن أمامهم عقبة لا يقطعها إلا كل ضامر مهزول، وهم ينتظرون لقاء الله عندما يناديهم أو يأذن لملك الموت فيأخذ أرواحهم، تنزع أرواحهم نزعاً خفيفاً، وطائفة أخرى من الناس انغمست في هذه الدنيا فانشغلت عن الله، هذه تنزع أرواحها نزعاً شديداً.. شديداً.. شديداً، يقول الله تعالى: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا[النازعات:1-2]، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا[النازعات:1] معناه: أن ملك الموت عندما ينزع أرواح بعض الناس نزعاً خفيفاً سهلاً ليناً، وفي بعض الناس ينزعها بالنشط، وآخرون ينزعها بالنزع، وبينهما فرق شديد من ناحية الشدة؛ فبعض الناس ينزع روحه ويأخذها أخذاً ليناً سهلاً، وبعض الناس يأخذها بالشدة والانتزاع القوي، وهذا بداية فقط.
عندما ينزع روح الإنسان لا تمكث في كفه قدر لحظة عين، بل يسلمها إلى ملائكة مادي أيديهم مد البصر، يسلمها إليهم ومعهم ما يرفعونها فيه، هؤلاء الملائكة مهمتهم تصنيف هذه الأرواح التي يسلمها إليهم ملك الموت، ويقسمونها إلى قسمين لا ثالث لهما: أرواح طيبة وأرواح خبيثة، الأرواح الطيبة يجعلونها في أكفان من أكفان الجنة ويطيبونها ويبشرونها ثم يصعدون بها فيستأذنون ويستفتحون عند باب السماء؛ فيقال: أهلاً بالنفس الطيبة، ويفتح لهم فتخر تلك النفس ساجدة تحت العرش، ثم يقال لها: ارجعي من حيث أتيت، ويؤذن لها في الرجوع إلى القبر، الذي سيدفن فيه صاحبها أو مستقرها في علم الله، وحينئذ سيأتي السؤال، سؤال الملكين وهو المرتبة اللاحقة.
وإن كانت النفس خبيثة جعلوها في سفط من أسفاط النار، مغشاً بالقطران الأسود ويحملونها فيستأذنون عند باب السماء فلا يؤذن لهم؛ لا تُفَتَّحُ لَهمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ[الأعراف:40]، عندما يستأذنون عند باب السماء يقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة، ولا يؤذن لها، فترجع من حيث أتت، نعوذ بالله! أنواع من أنواع اللباس الغليظ المغشى بالقطران الأسود.
ثم بعد ذلك إذا عادت هذه الأرواح فيبدأ عهد جديد وهو عهد القبر وما أدراك ما القبر، منزلة عظيمة أعظم من كل ما قبلها وأعظم منها كل ما بعدها، هذا القبر كثير من الناس يتصور أنه أمر بسيط جداً، بيت كبيت ينتقل إليه الإنسان بعد أن كان في حياة هنيئة ينتقل إلى حياة شظف، وأن الأمر هكذا، ولكن الواقع بعيد من هذا؛ فهيهات.. هيهات!
ينتقل الإنسان إلى القبر فعندما يوضع فيه تأتي ضمة القبر التي تختلف منها الأضلاع وتزول منها الحمائل، ضمة القبر تهيئة لاستقبال ملائكة آخرين، وهم ملائكة السؤال، عندما يوضع فيه الإنسان ينضم عليه هذه الضمة الشديدة، بعدها ينزل ملائكة السؤال، وهم منكر و نكير ، وقد ورد في وصفهما كثير من الأحاديث التي تدل على فظاعتهما وفظاعة ذلك المشهد الذي يأتيان فيه، جعدان أسودان أزرقان، شعرهما تسحبه الرجلان، صوتهما كمثل رعد قاصف.
عندما يأتي هذان الملكان إلى الإنسان وهو في قبره تعاد إليه روحه إعادة الله أعلم بها، قيل: تعاد إليه روحه جميعاً وقيل: تعاد إلى محل السؤال منه، فيقعدانه جلوساً ليس كجلوس الأحياء الذين يعيشون في الدنيا، جلوساً الله أعلم بهيأته، ويسألانه، فيقولان: ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ هذه الأسئلة الثلاثة هي أهم ما ينبغي للإنسان أن يملأ به قلبه وباله لأنه عندما يمتلئ بها قلبه وتفكيره سيثبت للإجابة الصحيحة، وإن امتلأ قلبه بما سواها فإن ذلك سيشغله وسيكون تلبيساً وتشويشاً على الجواب؛ فلا يوفق حينئذ للجواب الصحيح.
الذي يسأل في حال البغتة وقد خرج لساعته من ضمة القبر وأتاه هؤلاء الملائكة في هذا الشكل المفظع إذا كان في الدنيا قد امتلأ قلبه من أي شيء من أشياء الدنيا فإنه إن سئل: ما ربك؟ ربما أجاب بما كان قد امتلأ به صدره، إن كان من المنافسين في الدنيا الذين يصرفون كل أوقاتهم في جمع الدراهم والدنانير إن سئل في حال البغتة بهذه الصورة المفظعة عن ربه ربما قال: الدينار أو الدرهم! نعوذ بالله من ذلك الجواب المخزي! لكن إن كان لم يشغله شاغل عن الله سيتذكر فيقول: ربي الله.
وكذلك الذي يجهل انتماءه في هذه الدنيا ولا يعرف لمن يكون ولاؤه، ويعلم أن ولاءه تبع لمصالحه الدنيوية، يشترى كالعروض كلها؛ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ[النساء:143]، ليس له مبدأ ثابت، لا يعلم انتماءه إذا سئل في قبره: ما دينك؟ ربما تذكر انتماءاته التي كان ينتمي إليها من قبيلة أو حزب أو شغيلة أو غير ذلك.
فعلى الإنسان أن يكون انتماؤه للإسلام حاضراً بين يديه سابقاً لكل الانتماءات الأخرى؛ لئلا يجيب الملائكة عندما يسألونه: ما دينك؟ بهذه الأجوبة المخزية.
والدين يشمل قناعة الإنسان وما كان عليه في حياته ويشمل قانونه الذي ينظم علاقاته؛ ولذلك قال الله تعالى في قصة يوسف : كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ المَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ[يوسف:76] (في دين الملك) معناه: في قانونه الذي وضعه، فالقانون الدين.
عندما يسئل الإنسان: ما دينك؟ سيتذكر ما كان قد امتلأ به صدره ومخه في هذه الحياة الدنيا فيذكر انتماءه في ذلك الوقت الحرج.
ثم بعد ذلك يأتي السؤال الثالث وهو: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ للناس رجالات كثير ينتمون إليها، كل أمة تنتمي إلى إمام معين، وكل جماعة من الناس تنتمي إلى شخص معين، وكثير من الناس يعجبون ببعض الرجال فيستحوذون على قلوبهم وعقولهم، لكن أمة الإسلام الرجل الأول فيها هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي ينبغي أن تمتلئ منه القلوب، وأن لا يكون الانتماء إلا إليه؛ لأنه حين ينادي المنادي يوم القيامة ينادي كل إنسان أن يلتحق بإمامه؛ سيؤذن للذين كانوا يأتمون بمحمد صلى الله عليه وسلم ويقتدون بسنته أن يدخلوا تحت لواء الحمد لواء محمد صلى الله عليه وسلم، ويمنع منه أقوام قد غيروا وبدلوا؛ فيقال: التحقوا بأئمتكم الذين شرعوا لكم ما ابتدعتم.
عندما يكون المؤمن يعلم أن قدوته الحسنة والرسول الذي أتاه من عند الله والإمام الذي ينبغي أن يقتدى به ويتبع وأحب بني آدم إليه الذي يحبه أشد مما يحب نفسه التي بين جنبيه، ويحبه أشد مما يحب ولده ووالده والناس أجمعين هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم سيجيب الملائكة حينئذ فيقول: هو محمد.. هو محمد.. هو محمد ثلاثاً، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا؛ لأنه لم يختلط في تصوره وإدراكه برجال آخرين، إذا سئل هذا السؤال لن يقل: عبد الناصر ولن يقل أي زعيم من زعماء الدنيا، ولن يقل غير ذلك، لكن كثير من الناس سيلتوي لسانه إلى أئمته الذين كان يقتدي بهم، الذين كان ينتسب إليهم؛ فإذا سئل: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ لم يتذكر من الرجال إلا من كان يحبه حباً شديداً في حال الدنيا؛ فينصرف جوابه إليه.
هؤلاء الملائكة يبتدئون عهداً جديداً مع الإنسان؛ فإن ثبته الله بالقول الثابت وأجاب بهذا الجواب: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل المبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا؛ يقولان له: صدقت وبررت، يصدقانه على ما قال ويبشرانه بأنه قد بر؛ فهو من الأبرار الذين ينالون الجنة، كما قال تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ[الانفطار:13]، يبتدئ نعيمه من هذه الكلمة: "صدقت وبررت" يملآن عليه قبره خضراً ونوراً، ويريانه مقعده من الجنة ويفتحان بينه وبينه نافذة يصل إليه روحها وريحانها، ويوسعان عليه قبره وينورانه عليه، وحينئذ قد أيقن وأتاه ما يوعد.
وإن أجاب بغير ذلك يقولان له: "لا دريت ولا تليت" لا دريت معناه: لا عرفت، يدعوان عليه بأن لا يعرف حقيقة أياً كانت، وكثير من الناس في حال الدنيا تنطلي عليه الحقائق وتتلبس عليه لأن الله قد أعمى قلبه؛ ولهذا قال الله تعالى في وصف الكفار: وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ[الأنعام:109-111]، كثير من الناس يظن أن عقله هو أكبر العقول وأن إدراكه مقدم على كل الأشياء؛ فلذلك لا يحاول أن ينطلق من مبدأ التسليم للوحي، من مبدأ التسليم لكلام الله، لا يقول صادقاً: صدق الله، والله تعالى يقول: قُلْ صَدَقَ اللهُ[آل عمران:95].
على المؤمن أن ينطلق في إيمانه من تصديق الله في كل ما أخبر به وفي كل ما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، ويجعل ذلك غالباً على عقله وتصوره؛ لأنه إن لم يفعل ذلك ابتلاه الله بالفتن؛ فيعمي الله قلبه عن إدراك الحق ويرى الحق واضحاً فلا يتبعه، يرى الآيات البيانات، لو أتاه الملائكة فكلموه عياناً أو لو كلموه الموتى وخرجوا إليه من قبورهم؛ فإن الله يصرفه عن الحق ولا يوفقه له، ولاحظوا بني إسرائيل! لاحظوا حالهم حين نزلت عليهم المائدة من السماء ورأوا من الآيات العجب العجاب؛ رفع فوقهم الطور حتى كاد يقع على رءوسهم، أتاهم الملائكة يحملون تابوتاً من السماء فيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون ، نزلت عليهم الألواح، كتب الله فيها التوراة بيمينه، شاهدوا من المعجزات الشيء العجيب الغريب، لو سمعتم معجزة واحدة من معجزاتهم لاقشعرت لها أبشاركم! قوم يأتيهم الملائكة يحملون التابوت عياناً، تنزل عليهم المائدة وقت الضحى يحملها الملائكة عياناً، فيأكلون منها لا يمد أحد يده إلا صادف ما يهواه في نفسه، ثم ترتفع المائدة إذا شبعوا منها، ثم تأتي من الغد.. وهكذا، يكون بين يديهم من يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، يخلق من غير أب، يخلقه الله من أم فقط دون أب، يكلمهم في المهد، ينتزع فمه من ثدي أمه ويضع مرفقه على الأرض وينظر إليهم بعينيه ويقول: إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا[مريم:30-31]؛ فيهربون عنه ولا يتحملون سماع كلامه إلا زكريا وحده، رأوا كل هذه الآيات البينات ولكن الله صرف قلوبهم؛ لأنه لم يجعلهم أهلاً لأن يكونوا أهل الحق وحملته، وأنعم الله عليكم معاشر المؤمنين ولم تشاهدوا ما شاهده بنو إسرائيل من هذه المعجزات - أنعم عليكم - بأن هدى قلوبكم ووفقكم لأن تؤمنوا وتصدقوا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما من نبي بعثه الله قبلي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي؛ فإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة )، وقد حقق الله رجاءه، فهو أكثر المرسلين تابعاً يوم القيامة.
عندئذ يكون جواب الملكين للذي يتردد أو يقول: هاه.. هاه! لا أدري! كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، يكون جواب الملكين له: لا دريت ولا تليت، لا تليت إما أن تكون بمعنى: لا تلوت، معناه: لا قرأت القرآن، أو يكون معناها: لا تبعت معناه: نسأل الله أن لا يتبعك أحد على جوابك المخزي؛ وذلك لشفقة الملائكة على الجنس البشري، فالملائكة جبلهم الله على الشفقة على بني آدم؛ ولذلك قالوا عندما أخبرهم بخلق آدم قالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ[البقرة:30]، والله أخبر أنهم يستغفرون لمن في الأرض، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ[غافر:7-8]، فحينئذ يجيبانه بهذا الجواب ويضربانه بمرزبة معهما لو اجتمع عليها أهل منىً ما أقلوها، أهل منىً أهل الحجيج، الذين يعدون بالملايين، وليس المقصود هنا بأهل منىً أهل موقف واحد بل كل من زار منىً ودخلها منذ شرع الحج إلى نهاية الدنيا لو اجتمعوا عليها ما أقلوها، معناه: ما استطاعوا حملها! يضربانه بها، وفي رواية أخرى في حديث أسماء بنت أبي بكر في الصحيحين: ( أنهما يضربانه بمطارق من حديد بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الإنس والجن ).
ثم بعد ذلك يملآن عليه قبره من وسائل عذاب القبر أجارني الله وإياكم! من العقارب والحيات والتنانين والسموم، ويأتيه عمله في أقبح صورة، وبعد ذلك يعرض عليه مقعده من النار، ولا يزال في عذاب مستمر ما دام في قبره إلى أن يبعث منه.
وهنا يتفاوت أهل القبور فيما هم فيه، وعلينا أن نبحث عن أسباب عذاب القبر ونعيمه..
الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر بعض الأسباب لعذاب القبر، ومنها:
عدم التستر من البول، وهذا يدلنا على أن عذاب القبر قد يقع من بعض الذنوب التي يزدريها بنو آدم ويظنونها ذنوباً خفيفة، الذي لا يستنجي ولا يستتر من البول يعذب على ذلك في القبر، ثبت أن: ( رسول الله صلى الله عليه وسلم مرب بقبرين فقال: إن هذين ليعذبان وما يعذبان في كبير.. )، وفي رواية: ( في كثير )، ( أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة )، المشي بالنميمة ونقل الكلام على وجه الإفساد بين الناس أيضاً سبب من أسباب عذاب القبر.
ثم إنه من أسبابه أيضاً إخلاف الوعد، وقد ثبت أن رجلاً مات فكان يعذب في قبره؛ فيقول: شن وما شن؟! بول وما بول؟! وذلك أنه كان ينفخ قرباً ويجعلها على شاطئ الطريق؛ فإذا مر به شخص وسأله أن يسقيه قال: اذهب إلى ذلك الشن فاشرب منه؛ فيفتحه فلا يجد فيه شيئاً، فكان يعذب على ذلك فيقول في قبره: شن وما شن؟! بول وما بول؟!
وكذلك لعذاب القبر كثير من الأسباب الأخرى وهو يعد من مكفرات الذنوب؛ لأنه ربما يكفر بعض الذنوب عن أصحابها الذين لا يستحقون عذاب النار فيعذبون في القبر العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر.
كذلك نعيم القبر من أسبابه كثرة الصدقة وكثرة الذكر؛ فالذاكرون الله كثيراً والمتصدقون ينعمون في قبورهم..
هذا وما أريد أن آخذ كل الوقت على الأسئلة فأضطر لقطع هذا الموضع وعسى أن يكمل في جلسات أخرى إن شاء الله، ولكن الذي أريد أن أنبه إليه هنا أنه ليس هذا الموضوع ولا أضرابه من الموضوعات بالموضوعات الثقافية التي يسمعها الناس لمجرد السماع، بل إنما هذه الموضوعات ذكرى وتذكرة ينتفع بها أولو الألباب؛ فكل شخص منا يعلم لا محالة أن مصيره إلى هنالك، وهو يتذكر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما وقف على ضجنان، وهو جبل بقرب مكة، قال: (لا إله إلا الله! كنت أرعى إبلاً للخطاب على ضجنان؛ فكنت إذا أبطأت ضربني وقال: ضيعت، وإذا عجلت ضربني وقال: لم تعش! ولقد أصبحت وأمسيت وليس بيني وبين الله أحد أخشاه) ثم أنشأ يقول:
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد
لن تغني عن قيصر يوماً خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له والجن والإنس فيما بينها تفد
أين الملوك التي كانت لعزتها من كل صوب إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود بلا كذب لابد من ورده يوماً كما وردوا
ويقول الآخر:
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب إذا حط ذا عن نعشه ذاك يركب
ويقول كعب بن زهير :
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول
ولا ينجي من ذلك التظني ولا التمني، إنما عدة ذلك ما يستعد به الشخص اليوم ليقرض الله قرضاً حسناً، ولينجو من عذاب القبر وعذاب النار..
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر