إسلام ويب

وقفات مع التاريخللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن كثيراً من الناس إذا سمعوا عن التاريخ ظنوه الحديث عن الديناصورات والحضارات البائدة، والحقيقة أن التاريخ نبراس لهذه الأمة تستدل به وتأخذ منه الدروس والعبر. وهناك سنن للتاريخ يعيدها الله في الرفعة والضعة لابد من مراجعتها والانتفاع بها

    1.   

    مقدمة في التاريخ

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بُعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن كثيراً من الناس إذا سمعوا الحديث عن التاريخ ظنوا أن الكلام متجه إلى صرف الأحداث، وذكر حوادث السنين والتهويج والفراغ في بعض الأحيان؛ وذلك لأن كثيراً ممن يكتبون التاريخ في مختلف جوانبه يصورونه كذلك.

    فيتصور الناس أن الحديث في التاريخ هو الحديث عن الديناصورات وحديث عن الحضارات والآثار، وحديث عن أمور ٍهي أشبه ما تكون بجنس الفراغ.

    حقيقة التاريخ ومصادره وسننه

    لكن الذي علمنا الله في كتابه وعلمنا إياه رسوله صلى الله عليه وسلم أن التاريخ نبراس لهذه الأمة تستدل به على المواقف وتأخذ منه العبر، وتستفيد منه أموراً تعينها على فهم متطلبات حياتها، فإن الله سبحانه وتعالى ربط هذا الكون جميعاً بسننه، وسيره على وفق تلك السنن، وجعل له نواميس تضبطه وهذه النواميس لا تختلف، إنما هي مثال يتكرر بحسب أحوال الأمم، ولذلك قال الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ[الأنفال:53]، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ[الرعد:11]، وقال تعالى: إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ[الرعد:11].

    ثم إن فهمنا للتاريخ إنما نستشفه من خلال كلام ربنا، فإن الله سبحانه وتعالى جاء في هذا القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو 6214 آية بألف آية تتعلق بالتاريخ، ألف آية من كتاب الله تتعلق بالتاريخ، لكن ليس فيها تحديد للسنوات ولا للأوقات، ولا قصد للتهويل، ولا ذكر لشيء يختلف مع مقتضيات العقول، ولا لشيء يختلف مع السنن التي نعيشها ونراها، لذلك عندما يقرأُ الإنسان في كتاب الله قصة نبي ٍمن الأنبياء، ولو كانت قصة نوح الذي هو أقدم الرسل إلى أهل الأرض سيجد فيها كثيراً من المواقع والدروس التي تتكرر في حياته ويشهدها، وتدله على عواقب الأمر الذي لم يشهده بعد، فكثير من الناس قد شهد انتفاخة الباطل وانتفاشته، ورأى ما فيه من صولة، ولكنه لم يرَ بعد اضمحلال ذلك الباطل وارتفاع الحق، لكنه إذا قرأ قصة نوح أو غيرها من القصص آمن وصدق بأن للباطل صولة فيضمحل وأن الحق يعلو ولا يُعلى عليه، وأن الله سبحانه وتعالى سير هذا الكون على أن يكون لأهل الباطل صولة فيه، ثم يأتي أهل الدفع والجهاد فيردون تلك الصولة، ثم بعد ذلك يكتب الله العاقبة للمتقين.

    إن هذه السنة هي من أقدس سنن التاريخ وأعظمها وأهمها، ولذلك فقد جاءت في الكتب السابقة كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء:105-107]، وكذلك قال تعالى: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[النور:55]، وقال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ[الحج:39-41].

    هكذا سنن الله سبحانه وتعالى والتاريخ كله يعيده الله سبحانه وتعالى، لا كما يقوله العوام: إن التاريخ يعيد نفسه، بل الله سبحانه وتعالى يُعيد هذه السنن، ويهيء لها أسبابها ويهيء لها رجالها الذين يؤثرون فيها، وإلا فإن الأصل في العالم البشري كله استواؤه من ناحية الفطرة واتفاقه من ناحية المبدأ، ولكنه يختلف باختلاف الأحوال وباختلاف الرجال أيضاً، كما قال أبو حيان رحمه الله:

    فما فضل الأرجاء إلا رجالها وإلا فلا فضل لتربٍ على تربِ

    حال المؤرخين وكتب التواريخ

    إن الذين كتبوا التاريخ عبر العصور كلها يتأثرون بواقعهم وثقافتهم ومنطلقاتهم، فاليهود إذا كتبوا في التاريخ ربطوه بالخرافة والدجل وبأمور لا يصدقها العقل، وهذا الذي شحنوا به أسفار كتابهم المبدل المحرف، فمن قرأ اليوم في التلمود يجد فيه قصصاً عن يعقوب أنه صارع الرب، وأنه صرع الرب، وأنه كذا وأنه كذا، من أمور لا يمكن أن يصدقها عقل ولا شرع، ولا يمكن أن تنزل في وحي من عند الله أبداً بحال من الأحوال، وكذلك الحال إذا قرأ الإنسان في كتب النصارى سيجد أنهم لا ينطلقون من منطلقات العقل، ولا من منطلقات الشرع والوحي، وإنما ينطلقون من واقع الخرافة والتهويل؛ لأنهم يريدون أن يجعلوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، فيحوكون حولهم كثيراً من الخرافة، ويشحنون به كتبهم، فمن قرأها بدأ في التفكير هل هذا وحي منزل من عند الله أو هو غير وحي منزل؟ فإن هداه الله سبحانه وتعالى وراجع أصل فطرته علم أن ذلك هو من التهويل الذي ما أنزل الله به من سلطان، ولا له أي أصل بحال من الأحوال.

    ومن هنا فإن الله تعالى استدل على اليهود والنصارى بالتاريخ في دحض شبهتهم حين زعموا أن إبراهيم عليه السلام كان يهوديا، وأنه كان نصرانيا، واختلفت اليهود والنصارى في إبراهيم وتنافسوا فيه، فأنزل الله تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ[آل عمران:67]، وبين الله الحجة التاريخية في ذلك، فبين أن إبراهيم بعث وأرسل وعاش ومات من قبل أن تنزل التوراة والإنجيل، فمتى بدأت اليهودية؟ بنزول التوراة على موسى ، ومتى بدأت النصرانية؟ بنزول الإنجيل على عيسى ، ومتى عاش إبراهيم ؟ لقد عاش لحقبٍ تاريخية متطاولة قبل ميلاد موسى وقبل ميلاد عيسى ، فالبون التاريخي شاسع يكفي ردعاً وتكذيباً لليهود والنصارى في ادعائهم أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانيا.

    وكذلك استدل الله تعالى في كتابه بالتاريخ على اليهود في زعمهم أن لحوم الإبل كانت محرمة على يعقوب عليه السلام، وأن ذلك قد كان من ملة إبراهيم ، أو ممن سبقها من الملل، فقال الله تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[آل عمران:93] فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[آل عمران:94] قُلْ صَدَقَ اللهُ[آل عمران:95].

    تزوير المؤرخين

    إن الذين كتبوا التاريخ في هذه الأمة قد تأثروا بكتب التاريخ في الأمم السابقة، فإما أن ينطلقوا من دوافع سياسية، كالذين كتبوا التاريخ الأموي في أيام بني العباس انطلقوا من خلفيتهم السياسية ومن توجه الدولة، فشوهوا تاريخ بني أمية بالكلية، وملئوه بما يثير الأحقاد والضغائن وبالحكايات التي لا يمكن أن تصدق بوجه من الوجوه، وكذلك الحال بالنسبة للدول التي جاءت بعد هذا، من الدول التي عادت بني العباس وبنت على أنقاض دولتهم، فقد كُتب في أيام هذه التواريخ ما فيه تشويه كبير لأئمة بني العباس وخلفائهم، رحم الله الجميع.

    وهكذا الحال في زماننا هذا في تاريخ الدول التي سبقتنا، فلا نزال نسمع من يقص عن بعض خلفاء المسلمين الذين كانت لهم الفتوحات الكبرى في تاريخ الإسلام، والذين ائتمنهم الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقادوها في الاتجاه الصحيح، والذين عُرفوا بأدائهم للحق الذي عليهم بكثير من التشويه والدجل، وقد برز في ذلك الذين يكتبون تحت عنوان التاريخ الأدبي، والواقع أنهم تركوا الأدب وراء ظهروهم حين أساءوا إلى تاريخ أمتهم وشوهوه.

    فإذا قرأ الإنسان في كتاب العقد الفريد لـابن عبد ربه الأندلسي سيجد أنه ينسب كثيرا ًمما لا يليق ببعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينسب لكثيرٍ من الخلفاء الأمويين والعباسيين قصصاً لا يمكن أن تتناسب أبداً مع حياتهم وواقعهم، وقد يتداولها الناس حتى تصبح مسلّمة تاريخية كتمزيق الوليد بن يزيد للمصحف، فقد أصبح شائعاً لدى الناس، وأصبح كثير منهم يتخذونه مسلماً، والواقع أن ذلك إنما كان من تشويه التاريخ وتبديله، ولهذا فإن أبا بكر بن العربي رحمه الله عندما وجد فُسحة ليس فيها ضغط سياسي، فكان في الأندلس في وقت تقاسمت فيه الأندلس دويلات، وكان هو قاضياً ذو قوةً ومكانة استطاع أن يكتب بكل تجرد، وأن لا يتأثر بالسياسة، فكتب كتابه المشهور: العواصم من القواصم، وهذا الكتاب رد فيه ابن العربي رحمه الله الافتراءات التي لفقها المؤرخون عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن التابعين لهم بإحسان وأتباعهم وعن خلفاء المسلمين من بني أمية وبني العباس ومن جاء بعدهم، وكذب تلك الأباطيل كلها وردها ويكفي لتكذيبها وردها أن نضع لها الميزان الذي وضعته الأمة لدراسة الحديث، فحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعت له الأمة ميزاناً للتلقي والنقل وللتعديل والتجريح، ولمعرفة من كان أهلاً لأن يتلقى عنه الحديث، ولمراتب الناس في الجرح والتعديل، وحتى لتواريخ دخول المدن وتواريخ الغزوات وتواريخ الميلاد، لنتبين هل فلان لقي فلاناً أو لم يلقه.

    الاستعانة بالتاريخ لتفنيد أقوال الكذابين

    ولذلك فإن الحاكم النيسابوري رحمه الله في كتابه علوم الحديث ذكر استدلال أهل الحديث بالتاريخ، وذكر منها أنه سمع شيخاً يحدث فيقول: حدثنا هشام بن عمار ، فقال: أيها الشيخ متى دخلت مصر؟ قال سنة 76، فقال: إن هذا الشيخ لقي هشام بن عمار بعد موته بإحدى عشرة سنة، فانفضت عنه الحلقة، ومثل ذلك ما حصل لليهود عليهم لعائن الله عندما أخرجوا كتاباً كتبوه في العصور الماضية، ووضعوا على ورقته زيتاً وعرضوه للشمس حتى أصبح الناظر في الورقة لا يشك في قدمها، وأخرجوها في أيام أحد خلفاء بني العباس، وفي هذه الورقة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط الجزية عن عموم اليهود، وشهد على ذلك عدد من الصحابة، منهم علي بن أبي طالب و سعد بن معاذ و معاوية بن أبي سفيان وغيرهم، فعُرضت هذه الورقة على الخليفة فجمع لها علماء المسلمين، فكان ذلك مشكلةً لديهم حتى جاء الخطيب البغدادي أحمد بن ثابت حافظ المشرق، فنظر في الورقة فبصق عليها وأخبر أنها محرفة تاريخياً، فسأله الخليفة لمَ؟ قال: إن سعد بن معاذ و معاوية بن أبي سفيان لم يجتمعا في الإسلام، فإن سعداً رضي الله عنه مات بعد موقعة بني قريضة بليالٍ، وكان ذلك في العام الخامس من الهجرة، و معاوية بن أبي سفيان لم يسلم إلا عام الفتح في العام الثامن من الهجرة في أواخر شهر رمضان، فعُلم أن الوثيقة باطلة من أصلها، وأنها منافية للتاريخ، فاستشهد عليها سعد بن معاذٍ الذي مات في العام الخامس من الهجرة، و معاوية بن أبي سفيان الذي لم يسلم إلا في العام الثامن من الهجرة.

    وكذلك الحال بالنسبة لدراسة الناس للتواريخ فإنهم وجدوا أن مدار كثير منها على نوح بن أبي مريم وهو وضاع كذاب، وعلى محمد بن سعيد المصلوب وهو وضاع كذاب، وعلى أبي مخنف وهو وضاع كذاب كذلك وكان رافضياً متعصباً، فما روي من طريق هؤلاء لا يمكن أن يقبل في التاريخ.

    1.   

    المبادئ والسنن التاريخية

    والذي يهمنا هنا من قواعد التاريخ أن نعلم أن ما بينه الله في كتابه وجاءت به السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من التواريخ فيه من الدروس والعبر ما يكفي هذه الأمة، ويبصرها بواقعها ومستقبلها، ويسلي من يجد كمداً أو نكداً عن أحواله وأحداثه كما قال البحتري :

    أتسلى عن الهموم وآسى بمحل منها لتذكار درسي

    أذكرتنيه الخطوب التوالي ولقد تذكر الخطوب وتنسي

    إن الآيات التي جاء فيها القصص والتواريخ في القرآن ليس فيها تحديد تاريخ محدد أبداً، لم يأتِ فيها العام الذي هُبط فيه آدم إلى الأرض ولا العام الذي مات فيه، ولا العام الذي أُرسل فيه نوح ولا عام الطوفان، ولا عام بعثة إبراهيم ، ولا عام بعثة موسى ولا عيسى ، ولم يرد فيه تحديد أي شيء من ذلك؛ لأن هذا من الأمور التي نحن في غنىً عنها ويحصل فيها الكذب والتهويل، فلذلك لا نحتاج إلى هذا النوع من التواريخ، إنما نحتاج إلى ما نأخذ منه الدروس والعبر.

    سنة التدافع

    وبمراجعتنا لما جاء في كتابنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم من التواريخ والعبر نجد أن الأمة إذا أراد الله لها الرقي فإنها لا بد أن تظهر فيها سنة التدافع، فيُخرج الله سبحانه وتعالى لها المجددين المصلحين، الذين يحرصون على إصلاح أحوال الناس وهدايتهم، ثم يتعرضون للأذى والمحن فيصبرون ويصمدون ثم بعد ذلك تكون العاقبة للمتقين، ويغير الله تعالى وجه الأرض حينئذٍ، ويأتي بما يُصلح أحوال الناس، ثم تدور الدائرة، وإذا ولى الله المترفين على أهل الأرض فذلك علامة أخذ الله الوبيل وسرعة مكره بهم، ولهذا قال تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا[الإسراء:16-17].

    فلذلك على أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا شاهدت انتشار الرذيلة ورأت تولي أهل الترف وأهل الإقبال على الدنيا، ورأت أن الأمور أصبحت تُوزن بميزان المادة، وأن الإنسان لا يشرف إلا بقدر ما يملك أو بقدر مكانته المالية أو بقدر مكانته الاجتماعية، فليعلموا أن أخذ الله قريب، ولذلك فقد جاء العطف بين هذه الأفعال في كتاب الله بالفاء التي تقتضي الترتيب والتعقيب، وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا[الإسراء:16] أي: جعلناهم أمراء فيها، فَفَسَقُوا فِيهَا[الإسراء:16] فالمترفون لا يصدر منهم إلا الفسوق والفجور، فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا[الإسراء:16] تحققت فيها السنة التاريخية، فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا[الإسراء:16]، فيأتي التدمير من عند الله حينئذٍ، ولا ينافي هذا أن الله تعالى قد يملي لقومٍ في فترة من التاريخ، فيستدرجهم حتى يأخذهم أخذاً أشد، وهذا الاستدراج قد يضر بعض الناس فيظنون أن الأمر لا يزال مستمراً كهيئته، وأن الأحوال قد أصبحت راشدة ثابتة، وينسون أن الدهر منجنون متقلب لا يثبت على حال، وأن هذه الدنيا ليست دار قرار، وأن كل ما فيها عرض سيال، وبقاء الحال من المحال.

    وإذا راجعوا أنفسهم وتذكروا ما مضى من السقط عرفوا أن إملاء الله للعباد مؤذن بسرعة الزوال والأخذ، أين الذين كانوا يستهزئون بنوح والذين آمنوا به؟ أين الذين كان يستهزئون بإبراهيم ويتآمرون عليه؟ أين الذين كانوا يستهزئون بموسى فيقول لهم: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ[الصف:5]؟ أين الذين كانوا يستهزئون بعيسى ؟ أين المستهزئون بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ[الحجر:95].

    فكل أولئك ولو تصوروا بقاء حالهم واستمراره فإن أخذ الله محيط بهم، وسيأتي ذلك اليوم الذي يقتفون فيه آثار من سبق، وتدور الدائرة عليهم، وتبقى السنة مستمرة سائرة، لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ[يونس:64]، ولا تبديل لسنة الله سبحانه وتعالى في هذا الكون.

    الناس على دين ملوكهم

    كذلك فإن من هذه المبادئ التاريخية أن يُعلم أن الناس على دين ملوكهم، فهذه القاعدة التاريخية أثبتها التاريخ في كل العصور، فإذا صلح قادة الناس لا بد أن يتنافس الناس في الصلاح، وأن تكون الرعية على قلب الأمير، ولذلك فإن عمر بن عبد العزيز رحمه الله حين تولى الخلافة دعا رجاء بن حيوة فقال: يا رجاء إني أريد إصلاحاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، لكني لا أجد رجاله، فقال: يا أمير المؤمنين السلطان كالسوق يُجلب إليها ما يروج فيها، فإذا اتقيت الله فسيجتمع حولك الصالحون الأتقياء المصلحون.

    فلذلك كان رجال عمر بن عبد العزيز رجاء بن حيوة ، الحسن البصري ، إياس بن معاوية بن قرة ، وغيرهم من كبار التابعين ومن أئمة الهدى كمحمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، و أبي بكر بن عمرو بن حزم الأنصاري وغيرهم من رجال عمر بن عبد العزيز .

    وهكذا الحال في كل العصور، فعندما أراد محمد المهدي بن الخليفة المنصور أن يصلح أحوال أمة محمد صلى الله عليه وسلم صلح في نفسه، فاجتمع حوله الصالحون وتنافس الناس في ذلك، حتى قال أحد الشعراء:

    تلقى الأمان على حياض محمدٍ ثولاء مخرفة وذيب أطلسُ

    لا ذي تخاف ولا بهذا صولة تهدى الرعية ما استقام الريسُ

    إن أولئك الذين أرادوا الإصلاح في كل عصرٍ من العصور هم الذين يجتمع عليهم الصالحون، أما من سواهم فقد يتعرض صالح من الصالحين لهم لقصد الإصلاح، كما حصل ليوسف في حكومة مصر، ولكنه سرعان ما يجد أن الحال منافٍ لما يريد، فينكفئ على نفسه ويجد أنه قد ضيع الطريق فيقول ما قال الصديق رضي الله عنه:

    يا هادي الطريق جرت أو حرت إنما أمامك البحر أو الفجر.

    ثم يقول ما قال الشاعر:

    أملته ثم تأملتهم فلاح لي أن ليس فيه فلاح

    ثم إن السنة الماضية في هذا الباب أنه لا يمكن أن يستمر حكم من الأحكام على الظلم والجور، بل لا بد أن يتذمر الناس إذا حصل الظلم والجور، ولا يمكن أن تعيش الأجيال على الجور ثم تورثه للأجيال اللاحقة ويستمر الحال على ذلك، بل لا بد أن تأتي انتفاضة التاريخ ليخرج الزبد فيذهب جفاءً، ويبقى ما ينفع الناس فيمكث في الأرض فتلك سنة من سنن التاريخ.

    التنافس المهلك على الدنيا

    كذلك من سنن هذا التاريخ الثابتة: أن الأمم التي تتنافس على أمور الدنيا وتجعلها أكبر همها ومبلغ علمها تكون عادةً عرضة للفتن والمشكلات؛ لأن الذين يجعلون الدنيا أكبر همهم ومبلغ علمهم سيجمعون من حطامهما ما يقتضي حسداً في النفوس وبغضاً لهم، كحال قارون لدى أصحابه، وحينئذٍ تقع الحروب الأهلية والفتن المهلكة المردية، وفي ذلك من أنواع الفساد ما يقتضي الإسراع بعجلة التاريخ وتغيير أوضاعه.

    سنة الابتلاء

    كذلك من هذه السنن التاريخية الثابتة: أن الله سبحانه وتعالى يبتلي عباده على طريق الإيمان ببلاءٍ عظيم ومحنة عظيمة، ومن سنته أن يتساقط جمهورهم في ذلك الابتلاء، ثم يأتي بعده ابتلاء آخر فيسقط فيه الجميع أو الأكثر، ثم يأتي ابتلاء ثالث فيسقط فيه الجميع أو الأكثر، ثم يأتي مثبت من عند الله يثبت الله به قلوب المؤمنين، وحينئذٍ سيكون ذلك المثبت من جنس خوارق العادات التي لا بد أن يستسلم لها الجميع، ثم بعد ذلك يبدأ مسلسل الامتحانات ثلاثاً أيضاً في الغالب، وهذا يؤخذ بالاستقراء من عددٍ من التواريخ في كتاب الله، كتاريخ بني إسرائيل الذي بين الله في كتابه في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى المَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا[البقرة:246].

    هذا امتحان من عند الله نظري، وهو سؤالهم إذا فرض عليهم القتال وكلفوا بالتكاليف الشاقة، هل سيستمرون على هذا الحماس أو سيتراجعون على أدبارهم؟ فرسبوا في هذا الامتحان، فقالوا: وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا[البقرة:246]، ثم بعد هذا جاء الامتحان الثاني وهو الامتحان التطبيقي بأمرهم للقتال: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ[البقرة:246]، فرسب جمهورهم في الامتحان ونجحت طائفة يسيرة، ثم بعد ذلك جاء امتحان ثالث وهو: وَقَالَ لَهمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا[البقرة:247] تولية طالوت عليهم، فرسبوا في هذا الامتحان جميعاً: قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ[البقرة:247] فوزنوا بميزان غير ميزان الله، وانحرفوا عن منهج الله، لكن بعد رسوبهم في هذا الامتحان جاء مثبت من عند الله سبحانه وتعالى، وهو نزول التابوت الذي فيه: سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ المَلائِكَةُ[البقرة:248]، فكان ذلك تثبيتاً للناس ورجوعاً إلى الحق وإرجاعاً لهم إلى الحق، وإلى منهج الله عز وجل، ثم بدأ مسلسل الامتحانات مرة أخرى، فلذلك قال: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ[البقرة:249]، فكان الامتحان بذلك النهر فرسب فيه جمهورهم كما قال تعالى: فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ[البقرة:249].

    ثم جاء بعد هذا امتحان آخر وهو تذكرهم للمواجهة ورجوعهم إلى عددهم وعُددهم، فلذلك قال: فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ[البقرة:249]، ثم بعد هذا بين نجاح طائفة يسيرة: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[البقرة:249]، وجاء الامتحان الثالث في قوله: وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[البقرة:250]، وهؤلاء تحلوا بصفتين عظيمتين يدل التاريخ على أنهما أصل الغلبة والنصر والنجاح في كل حقب التاريخ، أولى هاتين المزيتين: عقيدتهم الصحيحة، فقد وصفهم الله بقوله: يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ[البقرة:249]، يظنون أي: يوقنون بأنهم ملاقوا الله ويجزمون بذلك.

    الثانية هي الدعاء: فإنه يصطرع في السماء مع البلاء ولا يرد القدر إلا الدعاء، وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[البقرة:250]، حينئذٍ جاء المثبت من عند الله بهزيمة الأعداء والتمكين للأولياء، فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ المُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ[البقرة:251].

    1.   

    نماذج تطبيقية للسنن التاريخية

    بعد هذا قوض الله هذه المسيرة في كتابه ليجعلها سنة ثابتة مستمرة فقال: وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ[البقرة:251]، فبين أن من سنته أن يحصل هذا التدافع وأن يستمر، وهذا التدافع لا ينشأ إلا من الاحتكاك بين حزب الله وحزب الشيطان، فإذا استمر حزب الشيطان في طغيانه و زاد عن حده حينئذٍ تأتي التضحيات الجسام من حزب الله، وإذا جاءت تلك التضحيات كانت سبباً للنصرة والتمكين؛ لأنهم نجحوا في الامتحان حين انتصروا أولاً على أنفسهم، ويكون ذلك سبباً لنصرهم على من سواهم، ولذلك قال حسن الهضيبي رحمه الله: "إن من انهزم أمام نفسه في معركة الإصلاح حري أن ينهزم أمام غيره في معركة السلاح"، وهذه القاعدة أثبتها التاريخ وأثبت صحة ضدها أيضاً، فمن انتصر على نفسه في معركة الإصلاح حري أن ينتصر على غيره في معركة السلاح، أما أهل الخور والجبن والضعف فهم الذين ينهزمون، وتأتي الهزيمة من عندهم لتحرق من سواهم، فإذا انتبه أصحاب الجلد والشجاعة وأصحاب المبادئ رأوا أنه إنما تفرق عنهم رعاع الناس الذين لا يمكن أن يوثق بهم، ولا أن يتكل عليهم في أي حال من الأحوال، وتذكروا قول الله تعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[البقرة:249]، فأقدموا في الحين الذي تقتضي منهم عقيدتهم الإقدام فيه.

    المهلب بن أبي صفرة مع الخوارج

    لذلك فإن المهلب بن أبي صفرة رحمه الله قاتل الخوارج بأربعين ألفاً من أهل البصرة، وقد ذب في نفوسهم الوهن والخور، فكان ذلك في يوم تلا وسيل الراء فهزم المهلب بمن معه، فلما غابت الشمس نظر فإذا لم يبقَ معه إلا أربعة آلاف من أربعين ألفاً، فقام فيهم خطيباً فقال: إنما تفرق عنكم ضعفاء الناس وجبناؤهم فاستعينوا بالله على عدوكم، فكر راجعاً إلى العدو في أربعة آلاف في ليلته فهزمهم الله أمامه، قد قاتلهم طيلة اليوم بأربعين ألفاً فهزموه، ولكنه كر إليهم بأربعة آلاف فهزمهم في يوم دولاب ، وفي ذلك يقول قطري بن الفجاءة :

    ولو أبصرتني يوم دولاب أبصرت طعان فتىً في الحرب غير ذميمِ

    غداة طفت علماء بكر بن وائل وعصنا صدور الخير نحو تميمِ

    وكان لعبد القيس أول يومها وأحلافها من يحصب وسليم

    فكانت الدائرة على الخوارج، وحصلت الهزيمة، مع أن أعدادهم أكبر وقواهم أكثر، لكنها السنة.

    قتيبة بن مسلم مع محمد بن واسع

    ونظير هذه السنة يتكرر في كثير من المواقف والمشاهد الإسلامية، فعندما يراجع المسلمون المنهج الذي به انتصروا على أعدائهم، ويراجعون ما تركوا منه، فإن الله سبحانه وتعالى يعدهم بالنصرة والتمكين، ولذلك فإن قتيبة بن مسلم رحمه الله تعالى عندما كان في غزوة من الغزوات في بلاد المشرق في البرد الشديد حاصر مدينة من المدن وطال الحصار فلم يأتِ الفتح، وقد كان يستفتح في كل الأوقات ويقدم الضعفة من المسلمين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟)، وكان إذا طال الحصار سأل عن محمد بن واسع فقيل: سبحان الله! وما حاجتك إليه هو ذاك في طرف الجيش يرفع إصبعه النحيلة إلى الله، فقال: والله لأصبعه تلك أحب إلي من مائة ألف سيف، ثم لما طال الحصار نادى في أصحابه فاجتمعوا: الصلاة جامعة، ثم قال: إنكم قد تركتم شيئاً من دينكم أخر عنكم الفتح بسببه فراجعوا أنفسكم ما الذي تركتم من السنن؟ فتذكروا سنة السواك، فأمر فرساناً فذهبوا فأتوا بالمساويك فوزعها في الجيش، فلما واجهوا العدو أخذوا بالمساويك يستاكون، فقال العدو: إن هؤلاء يسنون أسنانهم ليأكلونا، فهزموا وفتحت مدينتهم، ودخلها المسلمون.

    يوسف بن تاشفين مع النصارى في الزلاقة

    وكذلك الحال بالنسبة لما حصل ليوسف بن تاشفين رحمه الله تعالى في يوم الزلاقة عندما غدر به النصارى فقالوا له: اليوم يوم الجمعة وهو يوم عيدكم فلن نقاتلكم فيه، والغد يوم السبت يوم اليهود فلن نقاتلكم فيه، وبعد غدٍ يوم النصارى يوم الأحد فلن نقاتلكم فيه فيكون الالتقاء بيننا يوم الإثنين، فسر بذلك المسلمون؛ لأنهم في مكان غير آمن، وأرادوا أن يصلوا إلى المكان الآمن، وتكفي هذه الأيام الثلاثة لوصولهم إلى ذلك المكان، فدخل يوسف يغتسل فاغتسل ثم قام خطيباً في الناس في خطبة الجمعة، فوضع له منبر أمام الجيش، فلما قام خطيباً على المنبر حمد الله وأثنى عليه، فثارت الخيل في وجهه، فنادى بالمسلمين فقال: صلوا صلاة الجمعة بالمسيافة، وذلك أول مشهد في الإسلام تصلى فيه صلاة الجمعة مسيافةً، فاختصر خطبته واقتصر فيها على قدر الفرض، ثم قاتل حتى هُزم النصارى أمامه، وكان مع يوسف ثلاثون ألفاً، وكان النصارى إذ ذاك مائة وعشرين ألفاً، فلم ينج من النصارى إلا تسعة آلاف، وقُتل منهم مائة وأحد عشر ألفاً في معركة الزلاقة، واقتضى ذلك تأخير سقوط الأندلس مائة عام من ذلك التاريخ.

    تمكن المستعمر بسبب تخاذل المسلمين

    إن المسلمين إذا رجعوا إلى هذه السنن وأخذوا بها لا يمكن أن يُغلبوا إلا إذا جاء الخلل من تلقاء أنفسهم، لكن عندما يدب الوهن وتحصل الخلافات والشقاق والنزاع فقد أثبت التاريخ أن ذلك يقتضي التمكين للعدو، ألم تسقط الأندلس عندما تخاذل أهلها؟ ألم تسقط صقلية عندما تخاذل أهلها؟ ألم تسقط قبرص قبل ذلك عندما تخاذل أهلها؟ وهكذا الحال في كل العصور، إن مجيء الاستعمار إلى هذه البلاد إنما كان بسبب التخاذل وكون سكان هذه البلاد لا يجتمعون على أمور دينهم ولا ينسقون فيها، فلذلك ضعفوا أمام المستعمر، وقد انتبه لهذه السنة التاريخية الشيخ سيدي بن محمد بن الشيخ سدية رحمه الله إذ قال:

    وروم عاينوا في الدين ضعفاً فراموا كل ما راموا اختبارا

    فألفوكم كما يبغون فوضى حيارى لا انتداب ولا ائتمارا

    فعندما جاء النصارى لم يجدوا تنسيقاً، بل إن بعض أمراء هذه البلاد حاول أن يتقرب إلى غيره من الأمراء الذين كانت بينه وبينهم حروب حتى يتفقوا على قتال النصارى فلم يتمكن من ذلك؛ لأن النفوس الضعيفة شحيحة، وهي تريد الانتصار لما كانت عليه، فلذلك استطاع النصارى الاحتواء على البلد وابتلاعه، ولا تزال آثار ذلك بارزة إلى وقتنا، ثم إن هذا الحال هو الذي حصل قبل هذا في الجزائر، فما استطاع الفرنسيون التغلب على أهلها إلا بعد أن دعاهم والي قسطنطينية وأسقيف وعقد معهم هدنة وآزرهم على المسلمين من سكان الجزائر، بل إن الثورة الجزائرية التي قادها الأمير عبد القادر لم يكن النصارى ليتغلبوا عليها بوجه من الوجوه، لولا مساعدة ملك المغرب عبد العزيز ، الذي كان يدعم النصارى بالأبقار والسلاح، وكان يقطع الميرة والسلاح عن المجاهدين في الجبال في الجزائر، ولذلك أفتى علماء المسلمين في ذلك الزمان بأن مظاهرة النصارى كفر - والعياذ بالله -، وممن أفتى بذلك الشيخ محمد عليش رحمه الله، وفتواه في جوابه للأمير عبد القادر موجودة في كتابه المطبوع المسمى "فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك "، وقد جلب في هذه الفتوى فتوى سابقة للونشريسي كتبها في أيام سقوط الأندلس وعنوانها: "أسنى المتاجر في حكم من غلب النصارى على وطنه ولم يهاجر"، وقد كان الحال بارزاً لدى بعض الشخصيات التي أرادت قتال النصارى في هذه البلاد عند بدء استعمارهم، فالشيخ محمد عاقد بن مياضة رحمه الله يقول في أرجوزته المشهورة:

    مني إلى من في حمى المكبلِ للقرب لما وراء العقلِ

    أعيذكم بالله من فضيحة الدنيا ومن رأيكم المفيلي

    إلى آخر أرجوزته المشهورة، فسعى فيها لتصحيح الكلمة وجمعها على أمرٍ سواء وعلى مقاتلة الغزاة الكافرين، وقد كانت تجربة قبل هذا بفتوى من العلامة الشيخ محض بابا وعمل بها الأمير محمد بن حبيب بقطع إمدادات الصمغ عن الفرنسيين، عندما استولوا على بعض الأجزاء من السنيغال، وكان سكان هذه البلاد إذ ذاك يرون أن سكان السنيغال من إخوانهم المسلمين الذين تجب نصرتهم ومساعدتهم على العدو الفرنسي، وأنه لا يجوز خذلانهم ولا إسلامهم بحال من الأحوال، وكتب في ذلك عدد من العلماء فتاوي مشهورة، ولكن الأمة ضعفت بعد ذلك الحين، فأسلم السنيغال في البداية للمستعمر البرتغالي ثم بعد ذلك استلمها منه الفرنسيون، ثم بدأت أجزاء هذا البلد تتساقط جزءاً بعد جزء حتى استعمره الفرنسيون.

    1.   

    مراجعة سنن التاريخ في المواقف

    إن هذه السنن المتكررة تقتضي منا أيضاً مراجعة سنن التاريخ في المواقف التي تحصل لنستقرئ منها حالنا وأين نحن الآن من التاريخ؟

    إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أقام دولة الإسلام في المدينة ساء ذلك أعداء الله من اليهود والنصارى والمجوس والمشركين، فتألبوا عليه جميعا، وجهز كسرى وهو ملك المجوس رجلين بعثهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقتلاه وليأتيا به، وجهز هرقل جيشاً من العرب والأنباط والبيزنطيين وسكان مصر لغزو المدينة، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم جيش مؤتة للوقوف في وجهه، وجهز كذلك أهل الجزيرة العرب من المشركين جيوشهم وغزوا المدينة بها في العام الخامس من الهجرة في غزوة الأحزاب، واشتد الحصار على المسلمين حتى بلغ المقام ما بينه الله سبحانه وتعالى بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولًا[الأحزاب:9-15]، فلما اشتد الحصار وحصل ما بين الله في كتابه اختلفت مواقف سكان المدينة إذ ذاك الذين هم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أربعة مواقف:

    تباين المواقف يوم الأحزاب

    الموقف الأول: موقف أهل الإيمان والتقوى والجلد والشجاعة، وأولئك بين الله موقفهم بقوله: وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:22-23].

    الموقف الثاني: موقف الصرحاء من المنافقين الذين قالوا: يزعم محمد أنه ستفتح عليكم كنوز كسرى وقيصر وها أنتم اليوم لا يستطيع أحد منكم أن يخرج لحاجته، وهذا الموقف بينه الله بقوله: وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12].

    الموقف الثالث: موقف طائفة منهم من ضعفة القلوب، ومن أصحاب مرض القلوب الذين سعوا للتخذيل وأرادوا أن يفتوا في الأعضاد، وأن يفرقوا الجماعة، وهؤلاء بين الله موقفهم بقوله: وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا[الأحزاب:13]، وفي القراءة السبعية الأخرى: لا مَقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا[الأحزاب:13]، أي: ليس لكم مكان ولا لكم أثر فانهزموا وارجعوا، وهذا الموقف بينه أيضاً بقوله: قَدْ يَعْلَمُ اللهُ المُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا * يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا[الأحزاب:18-20].

    الموقف الرابع: موقف الذين انكفؤوا على مصالحهم الخاصة وتركوا أمر الدين، وهؤلاء يقولون: إن للبيت رباً سيمنعه ونحن أصحاب الإبل، فانطلقوا إلى مصالحهم الخاصة وتركوا أمر الدين، وموقف هؤلاء فضحه الله بقوله: وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ[الأحزاب:13]، أي: ليست داخل السور وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا[الأحزاب:13]، فسمى الله الانكفاء على المصالح فراراً من الزحف، ولا شك أن الفرار من الزحف من أكبر الموبقات التي توبق في النار يوم القيامة، فلذلك قال: وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولًا[الأحزاب:13-15].

    تكرر المواقف الأربعة في كل ضائقة

    إن هذه المواقف الأربعة تتكرر في كل ضائقة من ضوائق التاريخ، وفي كل امتحان من امتحانات الله للعباد، وإذا راجعتم أنفسكم اليوم في الوقت الذي تعيشونه وهو وقت فترة من فترات هذه الأمة ووقت ضعف وتراجع فيما يتعلق بالأخذ في الدين، ستجدون أن أمم الكفر قد تكالبت على هذه الأمة، وجاءت من كل حدبٍ وصوب يحدوها الطمع في ثمرات هذه الأمة وخيراتها، ويستدعيها ضعفة الإيمان من المنتسبين إلى هذه الأمة طمعاً في ما عند أولئك وخوفاً من الدوائر وولاءً لأعداء الله سبحانه وتعالى، ونسياناً لحقوق أمتهم، وأولئك القوم سيحصل لهم ما حصل لـابن العلقمي الذي جاء بالتتار حتى قتلوا خليفة المسلمين ذبحاً في سنة 656 ببغداد، وكان ذلك سبباً لسقوط الخلافة أول سببٍ لانعدام خليفة للمسلمين لمدة ثلاث سنوات، وقُتل في بغداد وحدها أكثر من ستمائة ألف، وحصل الخراب في الديار العراقية وفي كثيرٍ من أراضي الشام، وكان ابن العلقمي شيعياً، فأراد إذا جاء التتار أن يملكوه وأن يجعلوا له مكانة في الدولة بدل الخليفة العباسي، فلم يحصل على شيء من ذلك بل أودعوه السجن وأهانوه وأذلوه ثم ذبحوه كما تُذبح الشاة، وكذلك الحال في حق أصحاب الطمع الذين يظنون أنه ستتحقق لهم بعض المصالح الآنية العاجلة، فيبيعون أمتهم وأمجاد أسلافهم وحقوق شعوبهم بشيءٍ عاجلٍ من أمور الدنيا، ومع ذلك لا ينالون إلا حظهم، ولا يمكن أن يُكتب لهم إلا ما كان مكتوباً قبل أن يخلقوا، وهؤلاء ما أكثر عبيدهم في هذه الأمة فهم كثير جداً في كل عصر من عصور هذه الأمة، لكنهم في زماننا هذا أكثر، فكثير ما هم في زماننا هذا.

    أمثلة معاصرة للمواقف الأربعة

    ثم إن الواقع الذي حصل رأينا مواقف الناس فيه قد انقسمت على هذه الأقسام الأربعة، فرأينا طائفة يسيرة من المؤمنين زادت عنايتها بالدين وزاد تعلقها به، وزاد اهتمامها بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وحرصت على التمسك بالسنة عند فساد الأمة، ورأت أنها الآن في الوقت الذي يكون فيه القابض على دينه كالممسك بالجمر، ورأت أن هذا الدين لا بد أن يكون الدفاع عنه من واجبات هذه الأمة، وأنه إذا تخلى عنه الناس فسيأتي الله ببديل هو خير منهم، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[المائدة:54].

    بذل هؤلاء ما يستطيعون، وحاولوا أن يقوموا بالحق الذي لله ثم للأمة عليهم، ولا بد أن يكون لجهودهم ولأعمالهم الثمار العاجلة، فإن الله تعالى لا يضيع جهودهم، ولم يكن ليترك الناس على ما هم عليه، بل لا بد أن يأتي الفتح من عنده سبحانه وتعالى، ولذلك قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَهمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ[المائدة:51-52].

    ثم بعد هذا نجد موقف صرحاء المنافقين الذين يزعمون أن هذا الدين حقبة تاريخية قد ولت وانقضت، وأنه لا يمكن أن يعود، فيظنون بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جنهم وساءت مصيرا، أولئك الذين يزعمون أن الدين لا يمكن أن تعود له دولة ولا أن تكون له مكانة، ويظنون أن أحكام الله قد أدبرت إلى غير رجعة، وأنه لا يمكن أن يأتي الوقت الذي تقطع فيه يد السارق وتحسم، ويرجم فيه الزاني المحصن، ويجلد فيه الزاني البكر مائة جلدة ويُغرب عاماً، ولا يمكن أن يأتي الوقت الذي تؤخذ فيه خيرات بلاد المسلمين فتوزع بالسواء والعدل بينهم، ولا يمكن أن يأتي الوقت الذي يكون فيه المسلمون أمة واحدة يرجعون لمرجع واحد يجمعهم جميعاً على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء ظنهم بالله هو ظن السوء كحال أسلافهم من المنافقين كعبد الله بن أبي ابن سلول ومن كان معه بالمدينة، الذين أنزل الله فيهم: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا[الفتح:12] وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا[الفتح:13].

    ونرى الموقف الثالث شائعاً كذلك في أوساط كثير من الناس، وبالأخص في فرسان الأقلام وأصحاب الصحافة والإعلام، فإن كثيراً منهم يقولون: يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا[الأحزاب:13]، يقولون ذلك بلسان الحال وبلسان المقال، ويسعون لصرف الناس عن نُصرة الدين بكل وجهٍ من الوجوه، تارة بالترغيب وتارة بالترهيب وتارة بالتشويه وتارة بذكر المثالب وتارة باختلاق ما لم ينزل الله به من سلطان، لكن من الغريب أن تكون أقلام الكفرة الفجرة أصدق وأصفى لهذه الأمة من أقلام الذين يسمون بمحمد وعبد الله وخالد وسعيد، إن هذا من العجائب، وقد شاهدنا في كتابات كثيرٍ من أعداء الله المشركين الكافرين إنصافاً لم نره في أقلام إخواننا في بلاد الإسلام الذين يعلنون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لكن أصبحوا ميسرين مخيسين لأعداء الله لا تكتب أقلامهم إلا ما تُمليه عليهم أبواق أسيادهم، فهم يتصرفون بالوكالة عن أمريكا وعن الصهاينة اليهود، ويكتبون لهم ما يريدون، سواءً نالوا على ذلك أجراً أو لم ينالوه، فهم على كل حال قد باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، ولم يكونوا ليؤثروا إلا في من كان ضعيفاً من أمثالهم من أصحاب الخور والضعف والتراجع، ونجد الموقف الرابع شائعاً في مختلف أصقاع هذه البلاد، فنجد كثيراً من الكبار والصغار والمتوسطين في العمر والمثقفين والدكاترة والتجار يرجعون إلى مصالحهم الخاصة، ويهتمون بها ويقولون كما قال عبد المطلب : أنا رب الإبل وللبيت رب سيمنعه، فيكلون أمر الدين إلى مجرد الإيمان بالقدر، ومن المعلوم أن القدر يستدل به في المصائب لا في المعايب، وأن الاستدلال بالقدر في المعايب هو من اتباع إبليس الذي استدل بالقدر في كثيرٍ من المواقف، والتكليف في الشرع لا بالقدر، فقدر الله نافذ وليس لأحد حق المشاركة فيه، وإنما نُكلف نحن بشرع الله، فعلينا أن نبذل الجهد في الوصول إلى ما أمرنا بتحقيقه في شرع الله، ثم بعد ذلك ينفذ قدر الله لا معقب لحكمه، لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[التكوير:28-29].

    إن كثيراً من شباب المسلمين اليوم همهم البحث عن الوظائف والمناصب وبناء البيوت والحصول على السيارات الفارهة، وإحراز المستقبل الدنيوي، ويغفلون عن مستقبل أمتهم، وينسون أنه ما مدح من هجي قومه، هب أنك أنت وجدت مكانة كبيرة ووجدت قصراً من القصور الفرنسية ووجدت كل ما تبتغيه في هذه الدنيا، لكن كانت أمتك ذليلة مخيسة، تنتهب خيراتها وتداس كرامتها وتدنس مقدساتها، هل أنت صاحب سعادة حينئذٍ؟ لا والله إنك قد ديست كرامتك وبيعت بالكلية عندما أُذلت أمتك، فلذلك لا بد أن يعلم هؤلاء أن كرامة هذه الأمة متكاملة، وأن المؤمنين جميعاً كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، وأن التاريخ يدل على ذلك في كل حقبه.

    اقتراب فتح الله

    وهنا أزف إلى الحاضرين والحاضرات والسامعين والسامعات بشرى وهي اقتراب فتح الله، فإن فتح الله قريب، والدليل على ذلك قول الله تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ المُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ[يوسف:110-111].

    بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وتاب عليّ وعليكم إنه هو التواب الرحيم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767945379