إسلام ويب

تقويم الله لغزوة بدر [1]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يذكر الله سبحانه وتعالى قصص السابقين من الأمم بأسلوب مؤثر يجعل القارئ كأنه يشاهد الحدث ويعايشه وذلك لأخذ العبر والدروس منها. ولهذا كان لدراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أهداف وثمرات تبعث على الثبات على الحق وعدم الانهزام، ومن ذلك محبته صلى الله عليه وسلم ومحبة أصحابه رضي الله عنهم والتشبه بهم وبأفعالهم، وتقوية الهمم والعزائم، والاستفادة من أسلوبه صلى الله عليه وسلم في التربية والإعداد، حيث قسم أصحابه عليه الصلاة والسلام إلى فئات ووضع لكل فئة ما يناسب حالها ووضعها في المجتمع، وكل ذلك يعتمد على الربانية والإخاء والأخذ بالأسباب والتدرج والمرحلية والتخطيط حتى تحقق بذلك الهدف المنشود.

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فسنحاول بإذن الله تعالى أن نتحدث في تقويم الله تعالى في القرآن لغزوة بدر، وذلك في سلسلة من الحلقات إن شاء الله، ولابد بين يدي الحديث في ذلك من بيان أن أسلوب الله سبحانه وتعالى في القصص ليس أسلوب سرد يذكر الوقائع بأسمائها وأسماء أهلها وتواريخها، فليس ذلك نافعًا للناس، وإنما يأتي الله سبحانه وتعالى بالقصص على أسلوب مؤثر، حتى كأن السامع مشارك في القصة؛ ليستفيد منها الدروس والعبر.

    فأنتم بسماعكم لتقويم الله تعالى لغزوة بدر، وما يوجه الله به المؤمنين من الكلام الدائم الخالد، وما تصرف به المؤمنون من التصرفات الصالحة، وما وجههم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالنتائج التي وصلوا إليها، كأنما تشاركون في غزوة بدر، وكأنما تحضرونها بأنفسكم، وهذا هو المقصد؛ لأن المقصد هو السمو بالإنسان عن وحل هذه الحياة الدنيا وما فيها من الشواغل، فهي ضرة الآخرة، والإنسان محتاج إلى التطهر مما فيها من الأقذار والعيوب، ولا يمكن أن يتطهر من ذلك، ولا أن يسمو بنفسه إلى الدرجات العلى، إلا بالاتصال بالله، والاتصال برسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصالحين، الذين رضي الله عنهم وأرضاهم، وبتحقق الإنسان بحالهم وما هم فيه، وعمله بمثل ما عملوا.

    فإنه سيسمو عن هذه الدنيا ويزهد فيها، ويترفع عليها، حتى يتصف بما وصف الله به المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله أثنى عليهم أجمعين على سابقهم ولاحقهم بقوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا[الفتح:29].

    وأنتم لا شك محتاجون إلى أن تلحقوا بأولئك النفر الذين رضي الله عنهم وأرضاهم، وهم الأسوة الصالحة لكم، فلا ترضون أبدًا أن تنقطعوا عنهم، ولا أن يحال بينكم وبينهم، فأنتم ترجون مجاورة النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى من الجنة، وترجون أن تحشروا تحت لوائه، وأن تنادوا باسمه يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ[الإسراء:71].

    وتريدون أن تشربوا من حوضه بيده الشريفة، وكل ذلك يقتضي منكم أن تسلكوا ما سلكه، وما سلكه أصحابه، وأن تحققوا ما أمرهم الله به، فالأمر ليس متجهًا إليهم وحدهم، بل هو متجه إليكم أجمعين.

    والله تعالى إذا ذكرهم فأثنى عليهم ذكر من يلحق بهم ممن بعدهم، وتذكروا ما قال الله تعالى في سورة الجمعة، فإنه سبحانه وتعالى عندما امتن على المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم قال: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ[الجمعة:1-4].

    فهنا قال: وآخرين منهم؛ أي: من أصحابهم من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أهل ملته.

    لما يلحقوا بهم: ولما لنفي الماضي المنقطع، معناه: سيلحقون بهم لا محالة.

    وبين الله تعالى أن ذلك فضل من الله يخص به من شاء من عباده: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ[الجمعة:4]، جعلني الله وإياكم منهم.

    إن اللحاق بهم أمر شاق عسير يحتاج إلى كثير من الجد والتشمير، ولنتذكر قول زهير بن أبي سلمى:

    يكلف شأو امرأين قدما حسنًا نالا الملوك وبذا هذه السوقا

    هو الجواد فإن يلحق بشأوهما على تكاليفه فمثله لحقا

    أو يسبقاه على ما كان من مهل فمثل ما قدما من صالح سبقا

    فلا بد أن نحرص جميعًا على اللحاق بذلك الركب الذي قد سبق، وأن نعلم أن ذلك غير عسير على الله، فالناس جميعًا نسبتهم إلى الله واحدة، وهي العبودية، سابقهم ولاحقهم جميعًا عباد لله: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا[مريم:95].

    وإنما يتفاوتون بحسب تقواهم؛ ولذلك قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[الحجرات:13].

    ومن هنا، فإنه لا مانع أن يكون في بعض المتأخرين من يكون أدنى دارًا وجوارًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من كثير من المتقدمين، إذا أخلصوا لله وأتقنوا العمل وقدموا وضحوا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة يومًا، فأخذ عودًا فنكت به في الأرض، فقال: (وددت لو رأيت إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني قوم آمنوا بي ولم يروني، للواحد منهم أجر خمسين، قالوا: يا رسول الله، منا أو منهم؟ قال: بل منكم، إنكم تجدون على الحق أعوانًا، ولا يجدون على الحق أعوانًا).

    ومن هنا، فإن فضل الإنسان ينقسم إلى قسمين: فضل موهوب، وفضل مكتسب، فالفضل الموهوب: هو ما منحه الله تعالى للذين فضلهم بالسابقة في الإسلام، وصحبة النبي صلى الله عليه وسلم، والجهاد معه، والدفاع عنه، وهذا فضل من عند الله ليس مكتسبًا منهم، فإنهم لم يختاروا أنفسهم لصحبة النبي صلى الله عليه وسلم، إنما اختارهم الله لذلك فقدمهم، واختارهم لذلك العصر، ولنتذكر قول عائشة رضي الله عنها: ( كان يوم بعاث يومًا قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فاقتتل فيه أهل المدينة، فقتل أشرافهم وملوكهم، وبقي شبابهم الذين يقبلون الحق إذا سمعوه، فاستجابوا لنداء رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى الإسلام ).

    فلذلك هذا السبق الذي هو هبة من الله سبحانه وتعالى، وتفضيل خاص منه، لا تدركونه، لكنكم تدركون ما وراء ذلك، وهو المكتسب من العمل، فالعمل متاح مفتوح، وأنتم الآن تعيشون في زمان مثل الزمان الذي عاش فيه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الشعب بمكة، في وقت الاستضعاف، والذلة، والمسكنة، في الوقت الذي أنزل الله ذكراه في قوله: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[الأنفال:26].

    فإن سنن الله تعالى هي التي تدبر هذا الكون وتقلبه ظهرًا لبطن، وتعيد أحداث التاريخ وتكررها، وقد قال الله تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ[النمل:62].

    فالله سبحانه وتعالى في ذلك الوقت أجاب المضطر حين دعاه، وكشف السوء، وجعلهم خلفاء في الأرض، وأنتم الآن في حلقة من التاريخ هي مثل الحلقة التي دارت عليهم، فجدير بكم الآن أن ترفعوا أيدي الضراعة إلى الله؛ ليجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، ويجعلكم خلفاء الأرض، فهذا من صفة الله، وصفاته ثابتة لا يعتريها نقص ولا تبدل، وهو على ما عليه كان قبل خلق السموات والأرض سبحانه وتعالى جل جلاله وتقدست أسماؤه وصفاته.

    وبهذا يعلم أن ما كان مكتسبًا من التشريف والمقام الرفيع أنتم جميعًا أهل له إن شاء الله، وأنتم جميعًا كذلك قد اتخذتم القرار الإسلامي في أنفسكم، فآمنتم بالله ورضيتم به ربًّا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولًا، وبالإسلام دينًا، لم يكرهكم أحد على ذلك، ولم يغركم عليه بمال، ولا بمنصب، ولا بجاه؛ فلذلك لم يبقَ أمامكم إلا هذا المشوار الطويل الشاق، الذي هو غير محفوف بالورود، بل هو محفوف بالأشواك، ومن نجح فيه فإنه يصل إلى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ومن تردى فيه ورجع فإنه لا يضر الله ولا رسوله ولا المؤمنين، وإنما يضر نفسه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما صح عنه: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).

    فالذين يدعون إلى الله وينصرون رسوله صلى الله عليه وسلم لابد أن يبقى لهم خاذل، وأن يبقى لهم مخالف، ولكنه لا يضرهم؛ لأن الله تعالى ناصرهم لا محالة، فسينصرهم الله تعالى بعز عزيز أو بذل ذليل، وبكيد الله عز وجل، الذي لا يمكن أن ينقض، ولا أن يبدل.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088536937

    عدد مرات الحفظ

    777192449